السعــادة إنريكي نونيث رودريجيث *

السعــادة   إنريكي نونيث رودريجيث *

كان محله المتواضع الذي يبيع الفواكه يقع أمام بيتي الخشبي العتيق. لست أدري متى أبصرته عيناي للمرة الأولى، مع أنه كان دائماً هناك يستطلع صحيفة جلبها معه من بلده، ولعل ذلك كان قبل ميلادي بفترة طويلة. كم بدا لي ذلك ردحاً طويلاً من الزمن!
اسمه لويس، أو لويس الصيني، ولم نعرف له مطلقاً أي لقب. وكان يتندر على ذلك قائلاً بلغة إسبانية ركيكة:
- لقب... لماذا؟ إن الناس هنا لا يفهمون الألقاب الصينية. 
كان يجلس خلف الطاولة العالية مستنداً إلى كرسي عتيق لا ظهر له، مستطلعاً بعينيه اللوزيتين الصغيرتين جريدته المكتوبة بأحرف صينية كبيرة.
تفوح من محله رائحة النباتات الاستوائية والعصائر الصينية التي يتم إعدادها باستخدام المياه الجيرية التي كانت تبدو لي دائماً مياهاً سحرية، مع أن أمي كانت تقول إن تلك العصائر يتم إعدادها من غبار مواد البناء. أما بالنسبة لي كانت تلك العصائر تمثل سراً آسيوياً يستعصي على فهم أمي، تماما مثل تدخين نرجيلة مصنوعة من قصب السكر البري.
لم تقع عليه عيني مطلقاً واقفاً في محله. وعندما يأتي أي مشتر إلى المحل باحثاً عن أي نوع من الفاكهة، فإنه لم يكن يرفع عينيه عن الجريدة، وكان يقول بلغة لا تكاد تُفهم: 
- ضع النقود على الطاولة.
ثم يواصل القراءة. لم تكن عيناه تتحركان من اليسار إلى اليمين كما نفعل نحن، بل يقرأ من أعلى إلى أسفل كما يفعل الصينيون. وإبان حقبة الدكتاتورية في كوبا، لم يكد يدلف أحد إلى محله ليشتري شيئاً. ومع ذلك فلم أسمعه البتة شاكياً. والحق أني لم أسمعه أبداً يشتكي من شيء. كم كان يحلو لي أن أمضي الساعات تلو الساعات في محله. لكن والدي قرر أنه يجب علي أن أذهب للمدرسة، وعند ذلك قلت زياراتي لمحله.
أنهيت دراستي الابتدائية والمتوسطة والثانوية، ومع ذلك فعندما كنت أمر بمحله في أي وقت، كنت أجده يقرأ صحيفته الصينية بعينين ضيقتين منهكتين. حين كنت أعود من الجامعة في عطلة، كنت أجده جالساً على كرسيه كالعادة.
 وعندما ألقي عليه التحية، كانت ترتسم على محياه علامات الحبور.
وذات يوم بادرته بالسؤال عن حال عمله، فقال: 
- حسناً، لم يشتر أحد أي شيء، أمر جيد بالنسبة إلي، أليس كذلك؟
قال لي إني عندما كنت صغيراً سرقت من محله ثمره فاكهة، ولكنه تظاهر بأنه لا يراني. وكانت تلك هي المرة الأولى التي ينطق فيها اسمي:
إنريكي، أيها اللص. لقد سرقت الفاكهة.
وكانت المرة الأولى التي أراه فيها يبتسم ابتسامة عريضة. وعندها لاحظت للمرة الأولى أني أحبه.
في الثالث من سبتمبر 1951 بدا المحل فارغاً. لقد عثروا عليه ميتاً بين الفواكه الصينية محاطاً بالثوم والنباتات الاستوائية. كان نائماً على سرير خشبي متواضع مرتدياً أسمالاً بالية. 
وعلى صدره الصحيفة الكانتونية ذاتها التي يعود تاريخها إلى عام 1920. هي الجريدة الوحيدة التي تم العثور عليها بين مقتنياته. وهي ذاتها الصحيفة التي كان يقرأها يوماً بعد يوم منذ أن عرفته. بدأ الناس يتحدثون، ورويداً رويداً نمت الأسطورة ليصبح لويس حلماً يراود الجميع في قريته الصغيرة بمقاطعة كانتون بالصين، حيث كان الجميع ينتظر عودته ليتزوج من خطيبته التي تركها خلفه عند رحيله، خطيبته التي لم تعرفه مطلقاً. 
كان كل ذلك محض اختراع، لأن لويس لم يكن يحلم، إنه توفي نتيجة أزمة قلبية حادة على حد ما ذكر طبيب القرية. فكيف نعرف إذاً بماذا كان يحلم إن كان حقاً يحلم؟
لكن بمرور الوقت زاد اعتقادي بأن هذه الأسطورة هي أمر حقيقي، لأني لم أر في حياتي مطلقاً على وجه لويس تلك الابتسامة التي رأيتها على محياه عند موته. إنه لن يعرف ما يدور بخلدي مطلقاً. ولكني كم وددت أن أجلس في محله أثناء حياته لأقرأ الصحيفة الصغيرة التي حملت توقيعي على أول ما كتبت في قريتي. وهي صحيفة لم يأت أحد لشرائها.
أمر جيد بالنسبة إلي، أليس كذلك؟ ■

* إنريكي نونيث رودريجيث (1923-2002) كاتب كوبي شهير تلقى تعليمه بجامعة هافانا، وكرَّس حياته للأدب٠ من أهم أعماله المسرحية «شكراً أيها الطبيب»، ومن أهم أعماله الروائية «مطلوب شعب»، حصل على جائزة خوزيه مارتي عن مجمل أعماله الصحفية