زينات صدقي... زعيمة نجمات الضحك

زينات صدقي... زعيمة نجمات الضحك

شهدت الحياة الفنية في مصر خلال النصف الثاني من القرن الماضي ازدهاراً  واسعاً  في كل الفنون خاصة السينما  والمسرح، فانطلقت أسماء عديدة لا يتسع المجال لذكرها إلى سماء النجومية والمجد، فحظيت بالنصيب الأكبر  على ملصقات (أفيشات) الأفلام والمسرحيات، بينما ظلت أسماء أخرى تلعب أدواراً مساندة أو قصيرة نسبياً، لكنها أدوار مهمة وفاعلة لا يمكن فصلها عن  سياق العمل الفني، وكان من أبرز  وأهم النجوم الذين لم يحصلوا على حقهم الفني والأدبي الفنانة الكوميدية زينات صدقي، التي تستحق أن نطلق عليها زعيمة نجمات الضحك.

عشقت زينب محمد مسعد، التي اشتهرت باسم زينات صدقي الفن من طفولتها، فقد كانت حريصة على استغلال أي فرصة لمشاهدة العروض المسرحية التي كانت تعرض بالإسكندرية لنجوم المسرح آنذاك، مثل عزيز عيد والريحاني والكسار وجورج أبيض وروز اليوسف ودولت أبيض وسلامة حجازي وغيرهم، ما جعلها تتمرد على حياتها وتقرر أن تخوض تجربة العمل في المجال الفني، لكن والدها صاحب الشخصية القوية منعها من خوض هذه التجربة، وعندما جاءت الفرصة للفتاة ابنة حي الجمرك السكندري للانضمام إلى المعهد الذي أسسه زكي طليمات تحت اسم «أنصار التمثيل والخيالة»، حرمها والدها من استكمال الدراسة فيه وقرر أن يزوجها عقاباً لها في سن الخامسة عشرة من عمرها، لكن هذه الزيجة لم تستمر سوى 11 شهراً، حيث توفي والدها، فقررت أن تخطو خطوة جريئة وهي السفر إلى القاهرة والعمل في المسارح مطربة وراقصة، وبعد أن قدمت نفسها في بعض المسارح المغمورة انتشرت وعرفها الناس بخفة دمها، فعرض عليها العمل مع أكبر وأشهر كازينو في مصر (كازينو بديعة مصابني) الذي كان يرتاده أهم وأبرز الشخصيات، فكانت زينات صدقي واحدة من أهم الراقصات والمطربات مع تحية كاريوكا وسامية جمال.
وعندما قررت بنت الإسكندرية السفر إلى القاهرة بحثاً عن الشهرة كانت تعرف أن أسرتها لن توافق، خصوصاً عمها الذي طالبها بالابتعاد عن هذا المجال، لكنها أصرت على تحقيق حلمها، وساعدتها صديقتها خيرية صدقي التي سافرت معها إلى لبنان للعمل في كازينوهاتها الشهيرة، وهناك عرفت زينات الشهرة، خاصة بعد تألقها في إلقاء المونولوجات الفكاهية.
وتحكي زينات صدقي في أحد أحاديثها الفنية بمجلة الكواكب عام 1964 عن العلقة الساخنة التي تلقتها في لبنان، فتقول: «تعرفت على ملحن مصري لا داعي لذكر اسمه، فكان يأتي لي بالأغنيات ويقول لي إنه لحنها، بينما كانت هذه الأغنيات لمطربين ومطربات مغمورين أو راحلين، وذات يوم جاءني بأغنيات ثلاث وحفظتها جيداً وبدأت في أداء الأغنية الأولى وأعجب بها الجمهور، ثم الأغنية الثانية ونالت أيضاً إعجاب الجمهور، ثم كانت الأغنية الثالثة ولم أكملها، لأن صاحبة الأغنيات الثلاث كانت موجودة بالكازينو على بعد خطوات، دون أن أدري، وهي المطربة فتحية أحمد التي سعدت بأنني أغني أغنيتها، لكنها غضبت عندما غنيت الأغنية الثانية، ثم ثارت عندما بدأت في غناء «الثالثة» من دون أن أعلن أن هذه الأغنيات للمطربة المذكورة، فانهالت عليّ بالضرب بسبب سرقة أغانيها، بينما السبب في هذا الموقف هذا الشخص الذي ادعى أن هذه الأغنيات من تأليفه وألحانه». عادت زينات من لبنان، فعملت في بعض الفرق المسرحية مطربة وراقصة حتى شاهدها نجيب الريحاني، وعرض عليها العمل معه في مسرحية «الدنيا جرى فيها إيه» فكانت أول مرة تخوض مجال التمثيل مع الريحاني الذي طلب منها أن تغير اسمها إلى زينات صدقي، بدلاً من زينب محمد مسعد.

«كف» الريحاني
وتؤكد الفنانة زينات أنها حملت اسم صدقي حباً في صديقتها خيرية صدقي. المهم أن زينات لا تنسى أن الريحاني صفعها في أول تجربة مسرحية، بسبب عدم قدرتها على حفظ الدور بشكل جيد، لخوفها من مواجهة الجمهور، ورغم ذلك لم تغضب زينات، بسبب حبها للفن واحترامها للريحاني أستاذها الذي لا تنكر فضله، لتتعلم بعدها أن الفنان يجب أن يحفظ دوره جيداً.
قدمت بعد ذلك مسرحيات عدة مع الريحاني وغيره، حتى فتحت السينما لها أبوابها لتقدم أول أفلامها «وراء الستار» عام 1937، من إخراج كمال سليم، وبطولة كمال سرور ورجاء عبده وتحية كاريوكا وبديعة صادق وعمر وصفي وعبدالسلام النابلسي.

تاريخ من الفكاهة
ثم توالت أعمالها السينمائية لتقدم أروع أعمالها التي مازالت ذاكرة السينما المصرية والعربية تحتفظ بها، مثل «المجانين في نعيم – العتبة الخضراء – ابن حميدو – تمر حنة – أيامنا الحلوة – الآنسة حنفي – دهب – المليوني – تحيا الستات - أربع بنات وضابط -  إسماعيل يس في مستشفى المجانين – شارع الحب – حلاق السيدات – القلب له أحكام – لسانك حصانك – ياسمين »، وكان آخر أفلامها «بنت اسمها محمود » عام 1975. حيث لعبت زينات صدقي دور الفتاة العانس ببراعة، ونجحت في لفت الأنظار إليها في هذه المنطقة، إذ كانت تبحث دائماً عن ابن الحلال الذي لا يأتي بسبب جمالها المحدود.
ففي فيلم «ابن حميدو» الذي شاركت فيه زينات عام 1957 قدمت دور حميدة التي أحبت ابن حميدو (إسماعيل يس) الذي حضر إلى السويس مع حسن (أحمد رمزي) في مهمة رسمية، وهي القبض على عصابة يديرها الباز أفندي (توفيق الدقن)، الذي يحوم حول عزيزة (هند رستم) الشقيقة الصغرى لحميدة التي ترفض أمها أن تتزوج ابنتها الصغرى قبل الكبرى، بينما المعلم حنفي (عبدالفتاح القصري) لا يمانع في زواج ابنته الصغرى أولاً، وتدور الأحداث حتى تتحقق أمنية حميدة بالزواج من ابن حميدو وزواج عزيزة من حسن، الضابط المتنكر مع ابن حميدو بعد القبض على الباز أفندي وبقية أفراد العصابة.
وفي فيلم الآنسة حنفي الذي عرض عام 1954، وهو بطولة إسماعيل يس وماجدة وعبدالفتاح القصري وسليمان نجيب قدمت زينات هذه المرة دور أم حنفي (إسماعيل يس) الذي يتحول إلى الآنسة (فيفي) بعد أن أصيب بمغص حاد في ليلة زفافه، فيجري عملية جراحية يتحول بعدها إلى امرأة، وتتحول مشاعره فتحب «فيفي» المعلم أبوسريع (رياض القصبجي) العامل في محل الجزارة وتهرب فيفي معه، وتعود بعد فترة وهي حامل، وعندما تلد ترزق بأربعة أطفال توائم. وبرعت زينات صدقي في فيلم «إسماعيل يس في مستشفى المجانين»، الذي عرض عام 1958، وهي هذه المرة لعبت دور أم طعمة (هند رستم) التي كانت شقيقتها الصغرى في فيلم ابن حميدو، ولكن في هذا الفيلم قدمت زينات دور السيدة التي تسعى لكي تزوج ابنتها لمن يدفع أكثر ويسدد ديونها وزوجها المعلم حنفي (عبدالفتاح القصري) بينما طعمة الفتاة الجميلة التي يحلم بها كل رجال وتجار المنطقة تحب حسونة الفطاطري (إسماعيل يس)، وتحاول أم طعمة تدبير مؤامرة مع الممرض عليوة الذي يعمل في مستشفى المجانين (رياض القصبجي) لحبيب طعمة (حسونة) وتوريطه حتى يدخل مستشفى المجانين، وتحدث بالمستشفى مواقف كوميدية عدة خاصة لأم طعمة، حتى ينجح حسونة في الهروب ويرد على عليوة في يوم زفافه على طعمة بسرقة ملابسه بعد أن وضع «بودرة العفريت» فيها ليتزوج حسونة من طعمة. 

شارع الحب
وفي فيلم «شارع الحب» تقدم زينات صدقي دور «سنية ترتر» العالـِمة في شارع محمد علي، وتنجح في ترتيب الوفاق بين عبدالمنعم (عبدالحليم حافظ) وكريمة (صباح) بمساعدة زوجها حسب الله الثاني عشر (عبدالسلام النابلسي) الذي تزوجها بصعوبة، وتقدم سنية ترتر كل ما تملك من أموال وترهن ذهبها، لكي يتمكن عبدالمنعم من الغناء في الأوبرا. وفي فيلم «تمر حنة» الذي لعبت فيه دور «خالة بخاتة» برعت أيضاً في الوقوف بجانب بنت أختها تمر حنة (نعيمة عاكف)، كما برعت في أداء دور عديلة صاحبة اللوكاندة التي أحبت مبروك ابن أبومبروك (إسماعيل يس)، الذي أصرت على أن تكون شريكته في ملكية العتبة الخضراء في فيلم «العتبة الخضراء» مع صباح وأحمد مظهر الذي لعب دور يوسف، النصاب الذي استغل سذاجة مبروك وعديلة، حتى ينجح البوليس في استدراك الموقف وإعادة الأموال إلى أصحابها والقبض على يوسف.
وفي فيلم «دهب» لعبت زينات صدقي دور الست بلطية، متعهدة الأفراح التي تقوم بطرد أنور وجدي والطفلة دهب (فيروز) التي أصابت حرنكش ابن الست بلطية في وجهه. أما في فيلم «القلب له أحكام» لفاتن حمامة وأحمد رمزي فكانت الست زنوبة (زينات صدقي) هي المدبرة لكل تحركات الفتاة الفقيرة ابنة حي بولاق (كريمة) حتى تزوجت من أحمد الشاب الثري، وكانت المفاجأة أن تتزوج الست زنوبة من والد أحمد الذي ينتمي إلى حي بولاق، وتعرفت عليه زنوبة بعد معركة دارت بالقصر نجح خلالها رجال ونساء بولاق في طرد المنتفعين والمستغلين لثراء أحمد.

شهادة
لا يمكن أن نسرد كل أدوار هذه الفنانة القديرة التي تركت في كل عمل من أعمالها بصمة وعلامة وذكرى، وكان دور الخادمة في فيلم «بنت اسمها محمود» آخر أدوارها عام 1975 بطولة سهير رمزي وسمير صبري ومحمد رضا، وبرعت كالعادة في أداء دور الخادمة، فكانت دائماً هي المرشحة الأولى لكل المخرجين، وقد انحصرت في هذا الدور فترة طويلة، ورغم ذلك كانت تتألق في تقديمه، ثم قدمت بعد ذلك دور الفتاة التي تبحث عن عريس، وكذلك دور الأم أو زوجة الابن المتسلطة صاحبة الكلمة في البيت، أو صديقة البطلة التي تقع في غرام صديق البطل مثل النابلسي أو إسماعيل يس الذي كانت ترتبط معه بصداقة قوية.
كما تألقت مع عبدالفتاح القصري الذي لعبت دور زوجته في أفلام عدة، وعلى المستوى الشخصي كانت زينات صدقي قريبة من معظم الفنانين خاصة إسماعيل يس والقصري وحسن فايق والنابلسي وشكوكو.
وتقول عزة محمد مصطفى (حفيدة زينات صدقي) إنها كانت تجلس مع جدتها في محل جروبي بوسط البلد، وفجأة وجدنا الجمهور يزداد داخل المحل بسبب وجود جدتي، مما اضطر صاحب المحل إلى استدعاء البوليس خوفاً على المحل من الجماهير، وتؤكد عزة أن جدتها كانت وراء تركها معهد السينما بعد أن نجحت فيه من دون وساطة، بعد أن اختبرها الأستاذ سعد أردش، وكان خوفها عليها سبباً في تحويل أوراقها إلى كلية أخرى والابتعاد عن المجال الفني.
وتضيف إلى شهادتها: الفنانة زينات صدقي كانت طيبة للغاية وتحب كل الناس، وقد تزوجت مرتين، في الأولى كان عمرها 15 سنة ولم يستمر الزواج سوى شهور قليلة، ثم تزوجت مرة أخرى بشكل سري.

شائعات وتكريم
وأكدت عزة أن جدتها كانت حريصة للغاية على النظافة في كل مكان تذهب إليه، وفي بيتها لا يستطيع أي شخص أن يقترب من أدوات الطعام والشراب الخاصة بها. وقد تعرضت الفنانة الراحلة للإشاعات السخيفة التي حاولت النيل منها، حيث قيل إنها اعتنقت الديانة اليهودية قبل موتها بفترة قصيرة، هرباً من الفقر والجوع، ولكن شهادتي ميلادها ووفاتها تنفيان ذلك تماماً، كما أنها كانت ترغب في أداء فريضة الحج قبل وفاتها، لكن مرضها حال دون تحقيق أمنيتها. كما كان حزنها على تجاهلها وعدم إسناد أي أدوار سينمائية لها سبباً في إصابتها بالحزن والاكتئاب، حيث ظلت بلا عمل تقريباً بعد عام 1966، ولم تقدم سوى أفلام معدودة بعد ذلك، ومنها «معبودة الجماهير» (1967) و«السيرك» (1968) و«السراب» (1970) و«بنت اسمها محمود» (1975)، بينما كانت زينات صدقي صاحبة الرقم القياسي في المشاركة بالأفلام خلال عام واحد، ففي عام 1954 تمكنت من المشاركة في 19 فيلماً، وشاركت في 11 فيلماً في عام 1950 ثم في عام 1953.
وتؤكد السيدة نادرة (ابنة شقيقة الفنانة الراحلة) أن خالتها باعت بالفعل أثاث منزلها لكي تسدد الضرائب المستحقة عليها، واشترت أثاثاً بديلاً بأموال أقل، وليس كما أشيع بأنها باعت أثاث منزلها لكي تعيش وتنفق على نفسها، وهي التي رفضت العلاج على نفقة الدولة، وقد كرمها الرئيسان جمال عبدالناصر عام 1960، وأنور السادات عام 1976، وجاء التكريم بعد أن تذكرها السادات شخصياً، وطلب وضع اسمها ضمن قائمة المكرمين، ثم قرر منحها معاشاً شهرياً قيمته مائة جنيه ودعاها لحضور حفل زفاف كريمته.
وفي 2 مارس 1978 رحلت الفنانة الرائعة خفيفة الظل زينات صدقي التي ولدت بالإسكندرية بحي الجمرك في 4 مايو 1913، بعد أن تركت وراءها أعمالاً رائعة لا تنسى .