من القاهرة إلى بغداد الرحالة البريطانيون في شبه الجزيرة العربية
يتناول الكتاب بالتحليل والنقد عشرات النصوص من كتابات البريطانيين الذين تنقَّلوا بين أرجاء شبه الجزيرة العربية خلال حقبة زمنية تبدأ منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، مع بداية الاحتلال البريطاني لمصر في 1882م، وتمتد حتى الغزو الأمريكي - البريطاني للعراق في 2003م. الهدف، كما يقول المؤلف، هو فك التشابك القائم بين أدب الرحلات والتاريخ الاستعماري البريطاني، أي الكشف عن العلاقة الوثيقة بين الرحالة البريطانيين وكتـــاباتـــهم من جهة والإمبراطورية البريطانية من جهة أخرى، وبذلك، يتابع المؤلف عمل إدوارد سعيد الذي دشَّنه في «الاستشراق»؛ أي الكشف عن الروابط الخفية بين الثقافة والإمبريالية. ومن أجل فهم النصوص والفــروق الدقيــقـة بينـــها وعلاقـــتــها بالإمبريالية البريطانية.
يُميِّز كانتون بين خمسة موضوعات أساسية: الدين، والطبيعة المتغيرة لشبه الجزيرة العربية خلال القرن العشرين، والحروب الاستعمارية، ورحلات بعض السيدات البريطانيات داخل المنطقة العربية، وطبيعة كتب وأدب الرحلات بعد تقهقر الاستعمار البريطاني وانحساره.
ويُفرِّق المؤلف، داخل الحقبة الزمنية التي يدرسها، بين ثلاث مراحل، المرحلة الأولى تمتد من 1882م إلى 1917م، أي منذ الاحتلال البريطاني لمصر حتى أواخر الحرب العالمية الأولى، حيث بدأت أعداد متزايدة من الرحالة البريطانيين تفد إلى شبه الجزيرة العربية، ليس من أجل رؤية الناس والمشاهد الطبيعية الجديدة غير المألوفة فحسب، ولكن كذلك من أجل تكوين معرفة وثيقة عن المنطقة وطبيعة الأرض وتضاريسها وتفاصيلها، حيث كان الوجود البريطاني في شبه الجزيرة العربية مقصوراً على بعض المواقع الساحلية، مثل عدن في الجنوب، وتمتد المرحلة الثانية من 1917م إلى 1956م، وهي الفترة التي تغير فيها وجه شبه الجزيرة العربية إلى حد كبير مع عمليات التنقيب عن البترول وتحديث المنطقة ودخول وسائل المواصلات والانتقال الحديثة كالسيارات والقطارات، هذه الفترة تُمثِّل ذروة الحركة الاستعمارية البريطانية في المنطقة العربية، وشهدت دخول عدد هائل من رجال الأعمال والشخصيات العسكرية والدبلوماسية والبعثات التبشيرية والسياحية إلى شبه الجزيرة العربية، ما أدى إلى ظهور عدد كبير من كتابات الرحلات خلال تلك الفترة. أما المرحلة الثالثة فتبدأ من حرب السويس عام 1956م حتى الغزو الأمريكي- البريطاني للعراق في 2003م، وهي فترة انحسار المد الاستعماري وأفول الإمبراطورية البريطانية بعد انسحابها من السويس في 1956م، ثم من عدن في 1967م، ما أدى إلى تراجع في أعداد الرحالة وكتب الرحلات.
الربع الخالي وبغداد واليمن
يتناول المؤلف كتابات الرحالة الذين عبروا صحراء الربع الخالي، وكتبوا عن رحلاتهم وأسفارهم في شبه الجزيرة العربية، ومنهم برترام توماس وچون فيلبي وويلفريد ثيسجر. ففي عام 1930م دخل توماس وفيلبي في منافسة حول من يكون أول أوربي يعبر تلك الصحراء الشاسعة، الواقعة في جنوب الجزيرة العربية؛ صحراء الربع الخالي. لكن التحدي لم يكن مقصوراً على جانب المغامرات والاستكشاف فحسب، وإنما كان ذا بُعدٍ سياسي كذلك؛ فالحكومة البريطانية كانت بحاجة إلى جمع المعلومات حول جغرافيا تلك المنطقة والعلاقات بين القبائل من خلال كتابات هؤلاء الرحالة، ومن ثمَّ كانت هذه الحملات والمهام الاستكشافية بدعم من الحكومة البريطانية لأغراض استعمارية. وبالفعل، نجح توماس في عبور الربع الخالي في 1930م، ليكون أول أوربي يعبر تلك الصحراء، ودوَّن قصة هذه الرحلة في كتاب «بلاد العرب السعيدة»، ثم تبعه فيلبي في 1931م، وكتب قصة الرحلة في كتاب «الربع الخالي». وبعد ثلاثة عقود، جاء ويلفريد ثيسجر ليقوم برحلة جديدة لعبور الربع الخالي مستخدماً وسائل المواصلات الحديثة، وليستكشف مناطق مجهولة لم يصل إليها توماس أو فيلبي ويصف ما طرأ على المنطقة من تغيير وتحديث خلال تلك الفترة. عبر ثيسجر الربع الخالي مرتين بين عامي 1945م و1950م، وكتب عن رحلاته وتجاربه مع العرب وبدو الصحراء في كتاب «الرمال العربية» بأسلوب أدبي رفيع.
أما بغداد، فكانت تداعب خيال الرحالة والجنود البريطانيين من خلال حكايات ألف ليلة وليلة، ومن ثم يعرض المؤلف ويناقش انطباعات الرحالة والجنود والصحفيين الذين وصلوا إلى بغداد، مثل دونالد ماكسويل وإدموند كاندلر وألفريد ڤاولز وإيلي سوان ودافيد فرازر وغيلبرت هوبارد. ثم يتناول كانتون ما كتبه الرحالة حول منطقة الأهوار في جنوب العراق، عند ملتقى نهري دجلة والفرات، مثل كتابات ستيوارت هيجكوك وزوجته مونيكا عن عرب الأهوار، ثم يُلقي الضوء بالتفصيل على تجربة ويلفريد ثيسجر ورحلته إلى الأهوار بعد عبور الربع الخالي، وهي الرحلة التي كتب عنها ثيسجر كتاب «عرب الأهوار» عام 1963م.
ثم ينتقل كانتون ليستعرض مجموعة من الرحالة البريطانيين الذين غامروا وتخطوا حدود عدن وتوغَّلوا في جنوب الجزيرة العربية، بعضهم قام برحلاته تحت دعم كامل من السلطات البريطانية، وبعضهم رفضت السلطات مساعدته ودعمه، ولكن بمجرد عودة هؤلاء الرحالة إلى عدن، كانت السلطات البريطانية تلاحقهم من أجل المعلومات التي جمعوها. ويعرض كانتون لعدد من الحالات مثل والتر هاريس من خلال كتابه «رحلة عبر اليمن»، الذي كتبه في 1893م، ثم تيودور بنت وزوجته مابل من خلال كتابهما «جنوب الجزيرة العربية»، وكذلك آرثر واڤل الذي وصل إلى مكة والمدينة المنورة وكتب عن رحلاته واستكشافاته في كتاب «رحلة حاج معاصر إلى مكة... وحصار في صنعاء».
حروب استعمارية وطبيعة متغيرة
يناقش المؤلف صورة أخرى من صور الكتابة عن الجزيرة العربية؛ وهي كتابات من شاركوا في الحروب الاستعمارية في المنطقة العربية خلال القرن العشرين، حيث كانت الجزيرة العربية مسرحاً لكثير من المعارك والتوسعات والصراعات الإمبريالية خلال الحروب الثلاث: الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية وحرب السويس. خلال الحرب العالمية الأولى كانت معرفة البريطانيين بأرض الجزيرة العربية لاتزال ضئيلة وغير مضمونة، ومن ثمَّ كانوا يعتمدون على الرحالة والجنود والعملاء المتنقلين في جمع المعلومات عن طبيعة المكان والقبائل من خلال أسفارهم ورحلاتهم بصحبة مرافقين من رجال البدو، وهكذا ظهرت كتابات تؤرِّخ وتصف المغامرات والمؤامرات قبل وخلال وبعد الحرب العالمية الأولى لشخصيات مثل كابتن شكسبير ودوغلاس كاروثيرس وچيرارد ليتشمان، ويتوقف المؤلف بشكل خاص عند كتاب غيرترود بيل «من مراد إلى مراد»، وكتاب توماس إدوارد لورنس المعروف باسم لورنس العرب «أعمدة الحكمة السبعة»، وهو الشخصية التي لعبت دوراً محوريّاً في المنطقة العربية خلال تلك الفترة.
أما في الحرب العالمية الثانية وحرب السويس، فقد ظهرت صورة جديدة للحرب والصراع مختلفة تماماً عن الحرب العالمية الأولى؛ فبدلاً من الرحلات عبر الصحراء الشاسعة المجهولة برفقة البدو، كما كان الحال مع كابتن شكسبير ولورنس العرب، أصبحت الحرب الآن في صورة معارك كبرى تُستخدم فيها أسلحة متطورة ثقيلة وطائرات ودبابات ومدرعات. وبدلاً من الأجواء والمشاعر الرومانتيكية التي كانت تصاحب الرحالة خلال أسفارهم ومغامراتهم عبر الصحراء، أصبح هناك واقع بائس في صورة أساطيل وجيوش تتحرك من مكان إلى آخر، كما حدث مع آلاف القوات التي أُرسلت إلى الصحراء الغربية في مصر. ومن ثمَّ فليس غريباً أن تختلف صورة الكتابة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث اختفت مشاعر المغامرة والدهشة التي كانت تصاحب الرحالة خلال فترة الحرب العالمية الأولى، ولهذا لن نجد شخصية مثل لورنس العرب أو كتاباً مثل «أعمدة الحكمة السبعة»، وإنما سنجد وصفاً لصراعات وحروب طاحنة كما هي الحال لدى كيث دوغلاس في كتاب «من العلمين إلى زمزم»، وچيمس موريس في كتاب «سوق سلوقية».
ثم يتوقف كانتون عند عامل آخر أثَّر في طبيعة أدب الرحلات في تلك الفترة، ألا وهو نزعة التحديث وإدخال وسائل الانتقال الآلية السريعة كالقطار والسيارة. ويرصد كانتون بالتفصيل تأثير دخول القطار والسيارة إلى الصحراء وكيف غيرت وسائل المواصلات الجديدة هذه من ظروف سفر الرحالة وإدراكهم للمكان والمشاهد الطبيعية، ونجد في كتابات دونالد ماكسويل ومارك سايكس وصفاً لعملية التحديث الجارية في شبه الجزيرة العربية، وفي الوقت ذاته تظهر نزعة السخرية من اللقاء بين شبه الجزيرة العربية والعالم الحداثي القادم من الغرب، كذلك جعلت وسائل المواصلات الحديثة السفر أكثر أماناً وسهولة، ومكَّنت المسافرين والرحالة من قطع مسافات أكبر واكتشافها في وقت أقل، بل وفَّرت الفرصة لسيدات بريطانيات للسفر عبر الصحراء، سواء كُنَّ سائحات أو زوجات لدبلوماسيين وعسكريين بريطانيين من العاملين في المنطقة العربية. وهنا نجد لدينا كتابات في أدب الرحلات من منظور نسائي لسيدات تنقَّلن في أرض تغلب عليها النزعة الذكورية، وهذا ما يظهر من خلال أسفار وكتابات سيدات مثل غيرترود بيل ولويزا چب وڤيكتوريا بكستون ومارغريت فونتين ورزيتا فوربس وفريا ستارك. ويحلل المؤلف العلاقة بين رحلاتهن والإدارة البريطانية العسكرية الاستعمارية في المنطقة. ومن عوامل التحديث الأخرى التي غيَّرت من طبيعة المنطقة، ما انعكس بدوره على طبيعة أدب الرحلات، التنقيب عن البترول وإدراك أهميته وقيمته الحيوية للقوى الاستعمارية الغربية، وهنا يعرض المؤلف للدور الذي لعبه الرحالة في عمليات التنقيب هذه، كما يظهر بوضوح في حالة چوناثان رابان، ثم يناقش تأثير ذلك على كتابات أدب الرحلات، حيث يظهر فيها لون من الحنين للمشاهد الطبيعية البكر وأنماط الحياة البدوية القديمة التقليدية غير المشوبة بمنتجات الحضارة الحديثة، بينما يرفض البدو أنفسهم العودة إلى تلك الحياة الصعبة الشاقة.
ويختتم المؤلف الكتاب بتحليل كتابات الرحالة البريطانيين في مرحلة ما بعد زوال الاستعمار وأفول الإمبراطورية البريطانية. ويذكر أن الكتابات أخذت تقل وتتضاءل رغم أن السفر أصبح أسهل بكثير، فما السبب في ذلك؟ يكمن السبب في أن طبيعة المكان تغيّرت كثيراً، وكذلك طبيعة أدب الرحلات ذاته. فالصحراء لم تعد كما كانت من قبل، وإنما أصبحت تعج بالمدن وآبار البترول والمشاريع الصناعية والثروات الضخمة. كذلك هناك التأثير الهائل الذي تركه كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق»؛ حيث أخذت كلمة «مستشرق» أو تعبير دارس للشرق معنى جديداً وصورة مختلفة عمَّا كان سائداً من قبل.
وأخيراً يمكن القول إن هذا الكتاب يمثِّل خطوة جديدة في فهمنا للوجود البريطاني في المنطقة العربية ولطبيعة العلاقات المعقدة بين أدب الرحلات والحركة الاستعمارية، والأدب والسياسة، وكيف أثَّر كلٌّ منهما في الآخر ■