من القاهرة إلى بغداد الرحالة البريطانيون في شبه الجزيرة العربية

من القاهرة إلى بغداد الرحالة البريطانيون في شبه الجزيرة العربية

يتناول‭ ‬الكتاب‭ ‬بالتحليل‭ ‬والنقد‭ ‬عشرات‭ ‬النصوص‭ ‬من‭ ‬كتابات‭ ‬البريطانيين‭ ‬الذين‭ ‬تنقَّلوا‭ ‬بين‭ ‬أرجاء‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬خلال‭ ‬حقبة‭ ‬زمنية‭ ‬تبدأ‭ ‬منذ‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي،‭ ‬مع‭ ‬بداية‭ ‬الاحتلال‭ ‬البريطاني‭ ‬لمصر‭ ‬في‭ ‬1882م،‭ ‬وتمتد‭ ‬حتى‭ ‬الغزو‭ ‬الأمريكي‭ - ‬البريطاني‭ ‬للعراق‭ ‬في‭ ‬2003م‭. ‬الهدف،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬المؤلف،‭ ‬هو‭ ‬فك‭ ‬التشابك‭ ‬القائم‭ ‬بين‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات‭ ‬والتاريخ‭ ‬الاستعماري‭ ‬البريطاني،‭ ‬أي‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬العلاقة‭ ‬الوثيقة‭ ‬بين‭ ‬الرحالة‭ ‬البريطانيين‭ ‬وكتـــاباتـــهم‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬والإمبراطورية‭ ‬البريطانية‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬وبذلك،‭ ‬يتابع‭ ‬المؤلف‭ ‬عمل‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬الذي‭ ‬دشَّنه‭ ‬في‭ ‬‮«‬الاستشراق‮»‬؛‭ ‬أي‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬الروابط‭ ‬الخفية‭ ‬بين‭ ‬الثقافة‭ ‬والإمبريالية‭. ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬فهم‭ ‬النصوص‭ ‬والفــروق‭ ‬الدقيــقـة‭ ‬بينـــها‭ ‬وعلاقـــتــها‭ ‬بالإمبريالية‭ ‬البريطانية‭.‬

‭ ‬يُميِّز‭ ‬كانتون‭ ‬بين‭ ‬خمسة‭ ‬موضوعات‭ ‬أساسية‭: ‬الدين،‭ ‬والطبيعة‭ ‬المتغيرة‭ ‬لشبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬والحروب‭ ‬الاستعمارية،‭ ‬ورحلات‭ ‬بعض‭ ‬السيدات‭ ‬البريطانيات‭ ‬داخل‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية،‭ ‬وطبيعة‭ ‬كتب‭ ‬وأدب‭ ‬الرحلات‭ ‬بعد‭ ‬تقهقر‭ ‬الاستعمار‭ ‬البريطاني‭ ‬وانحساره‭.‬

ويُفرِّق‭ ‬المؤلف،‭ ‬داخل‭ ‬الحقبة‭ ‬الزمنية‭ ‬التي‭ ‬يدرسها،‭ ‬بين‭ ‬ثلاث‭ ‬مراحل،‭ ‬المرحلة‭ ‬الأولى‭ ‬تمتد‭ ‬من‭ ‬1882م‭ ‬إلى‭ ‬1917م،‭ ‬أي‭ ‬منذ‭ ‬الاحتلال‭ ‬البريطاني‭ ‬لمصر‭ ‬حتى‭ ‬أواخر‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى،‭ ‬حيث‭ ‬بدأت‭ ‬أعداد‭ ‬متزايدة‭ ‬من‭ ‬الرحالة‭ ‬البريطانيين‭ ‬تفد‭ ‬إلى‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية،‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬رؤية‭ ‬الناس‭ ‬والمشاهد‭ ‬الطبيعية‭ ‬الجديدة‭ ‬غير‭ ‬المألوفة‭ ‬فحسب،‭ ‬ولكن‭ ‬كذلك‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تكوين‭ ‬معرفة‭ ‬وثيقة‭ ‬عن‭ ‬المنطقة‭ ‬وطبيعة‭ ‬الأرض‭ ‬وتضاريسها‭ ‬وتفاصيلها،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬الوجود‭ ‬البريطاني‭ ‬في‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬مقصوراً‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬المواقع‭ ‬الساحلية،‭ ‬مثل‭ ‬عدن‭ ‬في‭ ‬الجنوب،‭ ‬وتمتد‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانية‭ ‬من‭ ‬1917م‭ ‬إلى‭ ‬1956م،‭ ‬وهي‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬تغير‭ ‬فيها‭ ‬وجه‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬مع‭ ‬عمليات‭ ‬التنقيب‭ ‬عن‭ ‬البترول‭ ‬وتحديث‭ ‬المنطقة‭ ‬ودخول‭ ‬وسائل‭ ‬المواصلات‭ ‬والانتقال‭ ‬الحديثة‭ ‬كالسيارات‭ ‬والقطارات،‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬تُمثِّل‭ ‬ذروة‭ ‬الحركة‭ ‬الاستعمارية‭ ‬البريطانية‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية،‭ ‬وشهدت‭ ‬دخول‭ ‬عدد‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬الأعمال‭ ‬والشخصيات‭ ‬العسكرية‭ ‬والدبلوماسية‭ ‬والبعثات‭ ‬التبشيرية‭ ‬والسياحية‭ ‬إلى‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية،‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬ظهور‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬كتابات‭ ‬الرحلات‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭. ‬أما‭ ‬المرحلة‭ ‬الثالثة‭ ‬فتبدأ‭ ‬من‭ ‬حرب‭ ‬السويس‭ ‬عام‭ ‬1956م‭ ‬حتى‭ ‬الغزو‭ ‬الأمريكي‭- ‬البريطاني‭ ‬للعراق‭ ‬في‭ ‬2003م،‭ ‬وهي‭ ‬فترة‭ ‬انحسار‭ ‬المد‭ ‬الاستعماري‭ ‬وأفول‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬البريطانية‭ ‬بعد‭ ‬انسحابها‭ ‬من‭ ‬السويس‭ ‬في‭ ‬1956م،‭ ‬ثم‭ ‬من‭ ‬عدن‭ ‬في‭ ‬1967م،‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تراجع‭ ‬في‭ ‬أعداد‭ ‬الرحالة‭ ‬وكتب‭ ‬الرحلات‭.‬

 

الربع‭ ‬الخالي‭ ‬وبغداد‭ ‬واليمن

يتناول‭ ‬المؤلف‭ ‬كتابات‭ ‬الرحالة‭ ‬الذين‭ ‬عبروا‭ ‬صحراء‭ ‬الربع‭ ‬الخالي،‭ ‬وكتبوا‭ ‬عن‭ ‬رحلاتهم‭ ‬وأسفارهم‭ ‬في‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية،‭ ‬ومنهم‭ ‬برترام‭ ‬توماس‭ ‬وچون‭ ‬فيلبي‭ ‬وويلفريد‭ ‬ثيسجر‭. ‬ففي‭ ‬عام‭ ‬1930م‭ ‬دخل‭ ‬توماس‭ ‬وفيلبي‭ ‬في‭ ‬منافسة‭ ‬حول‭ ‬من‭ ‬يكون‭ ‬أول‭ ‬أوربي‭ ‬يعبر‭ ‬تلك‭ ‬الصحراء‭ ‬الشاسعة،‭ ‬الواقعة‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية؛‭ ‬صحراء‭ ‬الربع‭ ‬الخالي‭. ‬لكن‭ ‬التحدي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مقصوراً‭ ‬على‭ ‬جانب‭ ‬المغامرات‭ ‬والاستكشاف‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬كان‭ ‬ذا‭ ‬بُعدٍ‭ ‬سياسي‭ ‬كذلك؛‭ ‬فالحكومة‭ ‬البريطانية‭ ‬كانت‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬جمع‭ ‬المعلومات‭ ‬حول‭ ‬جغرافيا‭ ‬تلك‭ ‬المنطقة‭ ‬والعلاقات‭ ‬بين‭ ‬القبائل‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كتابات‭ ‬هؤلاء‭ ‬الرحالة،‭ ‬ومن‭ ‬ثمَّ‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الحملات‭ ‬والمهام‭ ‬الاستكشافية‭ ‬بدعم‭ ‬من‭ ‬الحكومة‭ ‬البريطانية‭ ‬لأغراض‭ ‬استعمارية‭. ‬وبالفعل،‭ ‬نجح‭ ‬توماس‭ ‬في‭ ‬عبور‭ ‬الربع‭ ‬الخالي‭ ‬في‭ ‬1930م،‭ ‬ليكون‭ ‬أول‭ ‬أوربي‭ ‬يعبر‭ ‬تلك‭ ‬الصحراء،‭ ‬ودوَّن‭ ‬قصة‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬بلاد‭ ‬العرب‭ ‬السعيدة‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬تبعه‭ ‬فيلبي‭ ‬في‭ ‬1931م،‭ ‬وكتب‭ ‬قصة‭ ‬الرحلة‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الربع‭ ‬الخالي‮»‬‭. ‬وبعد‭ ‬ثلاثة‭ ‬عقود،‭ ‬جاء‭ ‬ويلفريد‭ ‬ثيسجر‭ ‬ليقوم‭ ‬برحلة‭ ‬جديدة‭ ‬لعبور‭ ‬الربع‭ ‬الخالي‭ ‬مستخدماً‭ ‬وسائل‭ ‬المواصلات‭ ‬الحديثة،‭ ‬وليستكشف‭ ‬مناطق‭ ‬مجهولة‭ ‬لم‭ ‬يصل‭ ‬إليها‭ ‬توماس‭ ‬أو‭ ‬فيلبي‭ ‬ويصف‭ ‬ما‭ ‬طرأ‭ ‬على‭ ‬المنطقة‭ ‬من‭ ‬تغيير‭ ‬وتحديث‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭. ‬عبر‭ ‬ثيسجر‭ ‬الربع‭ ‬الخالي‭ ‬مرتين‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬1945م‭ ‬و1950م،‭ ‬وكتب‭ ‬عن‭ ‬رحلاته‭ ‬وتجاربه‭ ‬مع‭ ‬العرب‭ ‬وبدو‭ ‬الصحراء‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الرمال‭ ‬العربية‮»‬‭ ‬بأسلوب‭ ‬أدبي‭ ‬رفيع‭.‬

أما‭ ‬بغداد،‭ ‬فكانت‭ ‬تداعب‭ ‬خيال‭ ‬الرحالة‭ ‬والجنود‭ ‬البريطانيين‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حكايات‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يعرض‭ ‬المؤلف‭ ‬ويناقش‭ ‬انطباعات‭ ‬الرحالة‭ ‬والجنود‭ ‬والصحفيين‭ ‬الذين‭ ‬وصلوا‭ ‬إلى‭ ‬بغداد،‭ ‬مثل‭ ‬دونالد‭ ‬ماكسويل‭ ‬وإدموند‭ ‬كاندلر‭ ‬وألفريد‭ ‬ڤاولز‭ ‬وإيلي‭ ‬سوان‭ ‬ودافيد‭ ‬فرازر‭ ‬وغيلبرت‭ ‬هوبارد‭. ‬ثم‭ ‬يتناول‭ ‬كانتون‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬الرحالة‭ ‬حول‭ ‬منطقة‭ ‬الأهوار‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬العراق،‭ ‬عند‭ ‬ملتقى‭ ‬نهري‭ ‬دجلة‭ ‬والفرات،‭ ‬مثل‭ ‬كتابات‭ ‬ستيوارت‭ ‬هيجكوك‭ ‬وزوجته‭ ‬مونيكا‭ ‬عن‭ ‬عرب‭ ‬الأهوار،‭ ‬ثم‭ ‬يُلقي‭ ‬الضوء‭ ‬بالتفصيل‭ ‬على‭ ‬تجربة‭ ‬ويلفريد‭ ‬ثيسجر‭ ‬ورحلته‭ ‬إلى‭ ‬الأهوار‭ ‬بعد‭ ‬عبور‭ ‬الربع‭ ‬الخالي،‭ ‬وهي‭ ‬الرحلة‭ ‬التي‭ ‬كتب‭ ‬عنها‭ ‬ثيسجر‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬عرب‭ ‬الأهوار‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1963م‭.‬

ثم‭ ‬ينتقل‭ ‬كانتون‭ ‬ليستعرض‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الرحالة‭ ‬البريطانيين‭ ‬الذين‭ ‬غامروا‭ ‬وتخطوا‭ ‬حدود‭ ‬عدن‭ ‬وتوغَّلوا‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية،‭ ‬بعضهم‭ ‬قام‭ ‬برحلاته‭ ‬تحت‭ ‬دعم‭ ‬كامل‭ ‬من‭ ‬السلطات‭ ‬البريطانية،‭ ‬وبعضهم‭ ‬رفضت‭ ‬السلطات‭ ‬مساعدته‭ ‬ودعمه،‭ ‬ولكن‭ ‬بمجرد‭ ‬عودة‭ ‬هؤلاء‭ ‬الرحالة‭ ‬إلى‭ ‬عدن،‭ ‬كانت‭ ‬السلطات‭ ‬البريطانية‭ ‬تلاحقهم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬المعلومات‭ ‬التي‭ ‬جمعوها‭. ‬ويعرض‭ ‬كانتون‭ ‬لعدد‭ ‬من‭ ‬الحالات‭ ‬مثل‭ ‬والتر‭ ‬هاريس‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬رحلة‭ ‬عبر‭ ‬اليمن‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬كتبه‭ ‬في‭ ‬1893م،‭ ‬ثم‭ ‬تيودور‭ ‬بنت‭ ‬وزوجته‭ ‬مابل‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كتابهما‭ ‬‮«‬جنوب‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‮»‬،‭ ‬وكذلك‭ ‬آرثر‭ ‬واڤل‭ ‬الذي‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬مكة‭ ‬والمدينة‭ ‬المنورة‭ ‬وكتب‭ ‬عن‭ ‬رحلاته‭ ‬واستكشافاته‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬رحلة‭ ‬حاج‭ ‬معاصر‭ ‬إلى‭ ‬مكة‭... ‬وحصار‭ ‬في‭ ‬صنعاء‮»‬‭.‬

 

حروب‭ ‬استعمارية‭ ‬وطبيعة‭ ‬متغيرة

يناقش‭ ‬المؤلف‭ ‬صورة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية؛‭ ‬وهي‭ ‬كتابات‭ ‬من‭ ‬شاركوا‭ ‬في‭ ‬الحروب‭ ‬الاستعمارية‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬مسرحاً‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬المعارك‭ ‬والتوسعات‭ ‬والصراعات‭ ‬الإمبريالية‭ ‬خلال‭ ‬الحروب‭ ‬الثلاث‭: ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬والحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬وحرب‭ ‬السويس‭. ‬خلال‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬كانت‭ ‬معرفة‭ ‬البريطانيين‭ ‬بأرض‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬لاتزال‭ ‬ضئيلة‭ ‬وغير‭ ‬مضمونة،‭ ‬ومن‭ ‬ثمَّ‭ ‬كانوا‭ ‬يعتمدون‭ ‬على‭ ‬الرحالة‭ ‬والجنود‭ ‬والعملاء‭ ‬المتنقلين‭ ‬في‭ ‬جمع‭ ‬المعلومات‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬المكان‭ ‬والقبائل‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أسفارهم‭ ‬ورحلاتهم‭ ‬بصحبة‭ ‬مرافقين‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬البدو،‭ ‬وهكذا‭ ‬ظهرت‭ ‬كتابات‭ ‬تؤرِّخ‭ ‬وتصف‭ ‬المغامرات‭ ‬والمؤامرات‭ ‬قبل‭ ‬وخلال‭ ‬وبعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬لشخصيات‭ ‬مثل‭ ‬كابتن‭ ‬شكسبير‭ ‬ودوغلاس‭ ‬كاروثيرس‭ ‬وچيرارد‭ ‬ليتشمان،‭ ‬ويتوقف‭ ‬المؤلف‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬عند‭ ‬كتاب‭ ‬غيرترود‭ ‬بيل‭ ‬‮«‬من‭ ‬مراد‭ ‬إلى‭ ‬مراد‮»‬،‭ ‬وكتاب‭ ‬توماس‭ ‬إدوارد‭ ‬لورنس‭ ‬المعروف‭ ‬باسم‭ ‬لورنس‭ ‬العرب‭ ‬‮«‬أعمدة‭ ‬الحكمة‭ ‬السبعة‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬الشخصية‭ ‬التي‭ ‬لعبت‭ ‬دوراً‭ ‬محوريّاً‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬وحرب‭ ‬السويس،‭ ‬فقد‭ ‬ظهرت‭ ‬صورة‭ ‬جديدة‭ ‬للحرب‭ ‬والصراع‭ ‬مختلفة‭ ‬تماماً‭ ‬عن‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى؛‭ ‬فبدلاً‭ ‬من‭ ‬الرحلات‭ ‬عبر‭ ‬الصحراء‭ ‬الشاسعة‭ ‬المجهولة‭ ‬برفقة‭ ‬البدو،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬الحال‭ ‬مع‭ ‬كابتن‭ ‬شكسبير‭ ‬ولورنس‭ ‬العرب،‭ ‬أصبحت‭ ‬الحرب‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬معارك‭ ‬كبرى‭ ‬تُستخدم‭ ‬فيها‭ ‬أسلحة‭ ‬متطورة‭ ‬ثقيلة‭ ‬وطائرات‭ ‬ودبابات‭ ‬ومدرعات‭. ‬وبدلاً‭ ‬من‭ ‬الأجواء‭ ‬والمشاعر‭ ‬الرومانتيكية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تصاحب‭ ‬الرحالة‭ ‬خلال‭ ‬أسفارهم‭ ‬ومغامراتهم‭ ‬عبر‭ ‬الصحراء،‭ ‬أصبح‭ ‬هناك‭ ‬واقع‭ ‬بائس‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬أساطيل‭ ‬وجيوش‭ ‬تتحرك‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬مع‭ ‬آلاف‭ ‬القوات‭ ‬التي‭ ‬أُرسلت‭ ‬إلى‭ ‬الصحراء‭ ‬الغربية‭ ‬في‭ ‬مصر‭. ‬ومن‭ ‬ثمَّ‭ ‬فليس‭ ‬غريباً‭ ‬أن‭ ‬تختلف‭ ‬صورة‭ ‬الكتابة‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬حيث‭ ‬اختفت‭ ‬مشاعر‭ ‬المغامرة‭ ‬والدهشة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تصاحب‭ ‬الرحالة‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى،‭ ‬ولهذا‭ ‬لن‭ ‬نجد‭ ‬شخصية‭ ‬مثل‭ ‬لورنس‭ ‬العرب‭ ‬أو‭ ‬كتاباً‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬أعمدة‭ ‬الحكمة‭ ‬السبعة‮»‬،‭ ‬وإنما‭ ‬سنجد‭ ‬وصفاً‭ ‬لصراعات‭ ‬وحروب‭ ‬طاحنة‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬الحال‭ ‬لدى‭ ‬كيث‭ ‬دوغلاس‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬من‭ ‬العلمين‭ ‬إلى‭ ‬زمزم‮»‬،‭ ‬وچيمس‭ ‬موريس‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬سوق‭ ‬سلوقية‮»‬‭.‬

ثم‭ ‬يتوقف‭ ‬كانتون‭ ‬عند‭ ‬عامل‭ ‬آخر‭ ‬أثَّر‭ ‬في‭ ‬طبيعة‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬نزعة‭ ‬التحديث‭ ‬وإدخال‭ ‬وسائل‭ ‬الانتقال‭ ‬الآلية‭ ‬السريعة‭ ‬كالقطار‭ ‬والسيارة‭. ‬ويرصد‭ ‬كانتون‭ ‬بالتفصيل‭ ‬تأثير‭ ‬دخول‭ ‬القطار‭ ‬والسيارة‭ ‬إلى‭ ‬الصحراء‭ ‬وكيف‭ ‬غيرت‭ ‬وسائل‭ ‬المواصلات‭ ‬الجديدة‭ ‬هذه‭ ‬من‭ ‬ظروف‭ ‬سفر‭ ‬الرحالة‭ ‬وإدراكهم‭ ‬للمكان‭ ‬والمشاهد‭ ‬الطبيعية،‭ ‬ونجد‭ ‬في‭ ‬كتابات‭ ‬دونالد‭ ‬ماكسويل‭ ‬ومارك‭ ‬سايكس‭ ‬وصفاً‭ ‬لعملية‭ ‬التحديث‭ ‬الجارية‭ ‬في‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬تظهر‭ ‬نزعة‭ ‬السخرية‭ ‬من‭ ‬اللقاء‭ ‬بين‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬والعالم‭ ‬الحداثي‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬الغرب،‭ ‬كذلك‭ ‬جعلت‭ ‬وسائل‭ ‬المواصلات‭ ‬الحديثة‭ ‬السفر‭ ‬أكثر‭ ‬أماناً‭ ‬وسهولة،‭ ‬ومكَّنت‭ ‬المسافرين‭ ‬والرحالة‭ ‬من‭ ‬قطع‭ ‬مسافات‭ ‬أكبر‭ ‬واكتشافها‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬أقل،‭ ‬بل‭ ‬وفَّرت‭ ‬الفرصة‭ ‬لسيدات‭ ‬بريطانيات‭ ‬للسفر‭ ‬عبر‭ ‬الصحراء،‭ ‬سواء‭ ‬كُنَّ‭ ‬سائحات‭ ‬أو‭ ‬زوجات‭ ‬لدبلوماسيين‭ ‬وعسكريين‭ ‬بريطانيين‭ ‬من‭ ‬العاملين‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭. ‬وهنا‭ ‬نجد‭ ‬لدينا‭ ‬كتابات‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬نسائي‭ ‬لسيدات‭ ‬تنقَّلن‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬تغلب‭ ‬عليها‭ ‬النزعة‭ ‬الذكورية،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يظهر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أسفار‭ ‬وكتابات‭ ‬سيدات‭ ‬مثل‭ ‬غيرترود‭ ‬بيل‭ ‬ولويزا‭ ‬چب‭ ‬وڤيكتوريا‭ ‬بكستون‭ ‬ومارغريت‭ ‬فونتين‭ ‬ورزيتا‭ ‬فوربس‭ ‬وفريا‭ ‬ستارك‭. ‬ويحلل‭ ‬المؤلف‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬رحلاتهن‭ ‬والإدارة‭ ‬البريطانية‭ ‬العسكرية‭ ‬الاستعمارية‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭. ‬ومن‭ ‬عوامل‭ ‬التحديث‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬غيَّرت‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬المنطقة،‭ ‬ما‭ ‬انعكس‭ ‬بدوره‭ ‬على‭ ‬طبيعة‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات،‭ ‬التنقيب‭ ‬عن‭ ‬البترول‭ ‬وإدراك‭ ‬أهميته‭ ‬وقيمته‭ ‬الحيوية‭ ‬للقوى‭ ‬الاستعمارية‭ ‬الغربية،‭ ‬وهنا‭ ‬يعرض‭ ‬المؤلف‭ ‬للدور‭ ‬الذي‭ ‬لعبه‭ ‬الرحالة‭ ‬في‭ ‬عمليات‭ ‬التنقيب‭ ‬هذه،‭ ‬كما‭ ‬يظهر‭ ‬بوضوح‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬چوناثان‭ ‬رابان،‭ ‬ثم‭ ‬يناقش‭ ‬تأثير‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬كتابات‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات،‭ ‬حيث‭ ‬يظهر‭ ‬فيها‭ ‬لون‭ ‬من‭ ‬الحنين‭ ‬للمشاهد‭ ‬الطبيعية‭ ‬البكر‭ ‬وأنماط‭ ‬الحياة‭ ‬البدوية‭ ‬القديمة‭ ‬التقليدية‭ ‬غير‭ ‬المشوبة‭ ‬بمنتجات‭ ‬الحضارة‭ ‬الحديثة،‭ ‬بينما‭ ‬يرفض‭ ‬البدو‭ ‬أنفسهم‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الحياة‭ ‬الصعبة‭ ‬الشاقة‭.‬

ويختتم‭ ‬المؤلف‭ ‬الكتاب‭ ‬بتحليل‭ ‬كتابات‭ ‬الرحالة‭ ‬البريطانيين‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬زوال‭ ‬الاستعمار‭ ‬وأفول‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬البريطانية‭. ‬ويذكر‭ ‬أن‭ ‬الكتابات‭ ‬أخذت‭ ‬تقل‭ ‬وتتضاءل‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬السفر‭ ‬أصبح‭ ‬أسهل‭ ‬بكثير،‭ ‬فما‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬ذلك؟‭ ‬يكمن‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬طبيعة‭ ‬المكان‭ ‬تغيّرت‭ ‬كثيراً،‭ ‬وكذلك‭ ‬طبيعة‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات‭ ‬ذاته‭. ‬فالصحراء‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬وإنما‭ ‬أصبحت‭ ‬تعج‭ ‬بالمدن‭ ‬وآبار‭ ‬البترول‭ ‬والمشاريع‭ ‬الصناعية‭ ‬والثروات‭ ‬الضخمة‭. ‬كذلك‭ ‬هناك‭ ‬التأثير‭ ‬الهائل‭ ‬الذي‭ ‬تركه‭ ‬كتاب‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬‮«‬الاستشراق»؛‭ ‬حيث‭ ‬أخذت‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬مستشرق‮»‬‭ ‬أو‭ ‬تعبير‭ ‬دارس‭ ‬للشرق‭ ‬معنى‭ ‬جديداً‭ ‬وصورة‭ ‬مختلفة‭ ‬عمَّا‭ ‬كان‭ ‬سائداً‭ ‬من‭ ‬قبل‭.‬

وأخيراً‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬يمثِّل‭ ‬خطوة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬فهمنا‭ ‬للوجود‭ ‬البريطاني‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬ولطبيعة‭ ‬العلاقات‭ ‬المعقدة‭ ‬بين‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات‭ ‬والحركة‭ ‬الاستعمارية،‭ ‬والأدب‭ ‬والسياسة،‭ ‬وكيف‭ ‬أثَّر‭ ‬كلٌّ‭ ‬منهما‭ ‬في‭ ‬الآخر‭ ‬