إنْ أبْكي

إنْ أبْكي

كانت هدية أبي الأولى لي، إن لم تخني الذاكرة هي اسْوداد عيني من الضرب الذي عاقبني به، يوم أن كان عمري ست سنين. أما الأخيرة، فكانت زيارةً إلى طبيب الأسنان، كي يخلع أسناني. كنتُ في السادسة عشرة يومها. أنتِ أفضل من دونها، يا ديمي، كما كان يقول. في ما بعد، سيُجنّبكِ هذا بعضَ المشكلات، حينما تصبحين مُسنّة. إنها مجزرة حقيقية. ظللتُ أنزف أسبوعاً. لقد كان غريباً أن يخرج من فمي هذا الصديد، وكل هذه الأشياء. سأوافيكم بالتفاصيل... بعد ذلك انسحب العجوز، وقضيت عاماً أدّخر من أجل طاقم أسناني. بعد ذلك، لم تكن الأسنان تؤدي وظيفتها. كنت فقط أستخدمها حين كان هناك من يتملقني. كان هذا قُرْب نهاية الحرب، ولم تكن المنافسة سهلة. فتيات حسناوات في كل مكان. لم يكنْ بعضهن يشبه شيئاً محدداً. غير أني قابلت هنري، انظروا، كيف كنا نبدو، لم يعد لهذا أهمية قصوى. كذلك لم يكن لديّ فائض من الوقت لأرى نفسي في المرآة. حسناً، لكن أي مصلحة لك سيدي الخفيّ؟ ستروْن. بعد أن عبرْت أنا وهنري المذبح، أنا بغطاء رأس صغير، وقبعة صغيرة تميل جهة عيني اليسرى، وبعد أن تلا الكاهن كل تلك الكلمات المباركة، وألا شيء ولا أحد ينقض رباط الزواج المقدس، فكرت في ذاتي، حسناً يا هنري يا فتايَ، هذا يتوقف عليك. فقط اكْتفِ بجعلي أنجب صغاراً، وسأكون سعيدة. كنت مدفونة. اثنا عشر في وقت قصير جدّاً. كلاري، ميكي، ليزي وماجي – بعد الأميرات الصغيرات – وﭼيمي، ﭼوي و... حسناً، أنتم لا تريدون أن تعرفوا الأسماء كلها، وهذا ليس أكثر سوءاً. أوافق، ليس هناك أسماء. كان الرب طيباً من أجلي. لم يبخل بالكَمّ. أنجبت آخر العنقود عام 1975.
نعم، واصلت لزمن طويل. ثلاثون عاماً. مقززة، مثلما يقولون, للأمومة. خنزير عجوز! كان عليَّ أن أجعل له عقدة وقت تفكيري في من سيقوم بتسليته.
الكاثوليك. يا لهم من أشخاص غريبي الأطوار! هذا ما كانوا يقولونه. كانوا ينادونني بالفم المخملي. كأنهم ينادونني من أسفل إحدى الحانات. بسبب أسناني، انظروا. هل تسمعون، لا؟ أؤكد أنكم تقولون الآن – شخص مثلكم – إن وصلتُ لفقْد واحدة أو اثنتين، فلن يصيبني هذا بالألم. حسناً، ضئيل هذا الذي تتصوره، يا سيدي الخفي، لكني أؤكد أنكم سترون اليوم الأشياء مثلي. لاحظوا، يحدث وأنا أعطي إحساساً بأن هذا سهل، ومن دون أي مشكلة، حب، احترام، خوف من الله، وكل هذه البهرجة... الحقيقة، أن هناك أياماً أعبرها بشكل جيد أيضاً، مثلما حدث بعد سقوط هنري من أعلى السقالة وتهشّم جمجمته. تجمّع الصبْية حول ضريحه يومذاك، هناك، في كامارا، على مقربة من البحر، المقبرة تتخللها تلال مغطاة بجنبات صفراء. كانوا يبكون، كانوا يجعلون منها أمراً يطول شرحه، معتقدين أن أحدهم لو قفز داخل الفتحة لكان بصحبة هنري. لكني أتراجع وأقول لهم، هذا النهار الكَدِر بسمائه التي تسترخي علينا، أقول لهم تحركوا. من منكم سيهتم بي مثلما كان أبوكم يفعل؟ تحركوا الآن. ليس هناك من له الحق في أن يصيح مثلي هكذا سواي أنا. عقِب هذا، أقابل نصف دستة صبْية يتمرغون في المنزل. نسكن في نيوتَوِنْ، في الأعلى، وراء الحدائق. نستطيع يوم الأحد أن نحصل على بعض الأسماك، لأنها ليست مكلفة، عندما يغتسلون خلف سوق السمك. من بين هؤلاء من يظل بالمنزل، لا يوجد أحد لديه طعام. ثمة من يُعيد الأطفال كي أهتم بهم. يعلم الله إلى أين يهربون. في حقول الكرنب، أؤكد. لا أقول لكم، في بعض الأيام، عندما تغادر كل من ليزي وماجي مع أحفادهما – نعم، أكون أمّاً للجدة أيضاً – يوجد عشرون، ثلاثون صبيّاً في هذا المنزل. ركام من الأشخاص والأشياء في كل مكان. أين تجدون كل هذا؟ أَسْأَلُهم. أثاث، صبْية يخدمون، بقايا خُرْدة، عُلب أطعمة فارغة. لا يستطيعون أن يتوقفوا. أيّاً ما كانت الملابس الرثة التي يرتدونها، يُقال إنها تصيبهم بالحكة. أنا يُقلقني هذا. أخيراً! ذاك الذي كان يغرز الجميع في كومة من المشكلات. الآن اسمعْ، أنتَ – لا يهم اسمه– أنتَ، أقول، لم أعد أريد أن أرى البوليس هنا. لقد رأيت منهم ما يكفيني في ما تبقّى من أيامي. كان الأجدر به أن يُصغي إليّ. لكن لا، كان يعرف دائماً أكثر من شخص، ذلك الصبيّ. أتساءل: ما سبب ذلك؟ حينذاك، ذات يوم يستيقظ ثم يقول، أنا أقلب الصفحة، المرأة العجوز. آه نعم؟ أقول، لقد سمعتها من قبل، تلك العجوز. كيف تبدو هذه الصفحة؟ يحمَرّ ثم يقول، ياه، حسناً... حسناً... لديها تلك الفتاة التي أحبها تماماً وسوف أصنع ثروتنا. موافقة، أقول، هل أنت متأكد أنك ستكون في موعد العَشاء. حينذاك، كان لديه سبعة عشر عاماً. كان سيكون لديه ثمانية عشر عاماً تقريباً، إن كان لايزال هناك. أنتم ترون أنه كان ينبغي عليّ أن أحميه. أوه اصْمتي، أيتها البَشْرة العجوز، كما كان يقول. وأنا أقسم لكم، أرد، كم كنت أفضل في بعض الأيام ألا تكون قد وُلدت أبداً. أنت شرك أكثر من خيرك. هو ذاك. لم يرجعْ. يُقبل رجال البوليس، فيما تدوّي صفارات الإنذار بامتداد الطريق. تعالي يا جدة، كما كانوا يقولون، لقد وجدنا صبيّك هناك في المستشفى. كان هذا في الجزء المنخفض من الشارع على وجه التحديد. حينذاك أسألهم هل هو في حالة سيئة، وإذا ما كنت أستطيع أن أذهب إليه بعد العَشاء؟ مع اثني عشر صبيّاً وصبية، لكم أن تتخيلوا جيداً نصيبي من تورمات الظهْر والخدوش. غير أنه يومذاك كان صمته غريباً، ذلك الصمت الذي نراه في التلفزيون. حينذاك أخطف غطاء رأسي وأقول لهم أن يقوموا بتوصيلي إليه. لحظة أن وصلت كان كل شيء قد انتهى. لقد سقط من أعلى بناية حينما كانوا يطاردونه. كانت البناية بنكاً كما كان يقول. لم يكن حتى قد وصل إلى الشباك حين ضغط الموظفون على أزرار الإنذار. دعوني أراه، أقول. بالتأكيد يا جدة، كما يردون عليّ، غير أنهم كان لديهم حقيقة شيء مُلح، أكثر إلحاحاً من الموت.
هناك طبيب يريد أن يراكِ، ثم يدخل رجل يرتدي معطفاً أبيض يصافحني. لقد كان هذا صغيري، رحت أبكي، شاكرة إياه على لطفه معي. لكن لا، ليس هذا هو الموضوع، إنه شيء آخر غير تلك المواساة التي كان يعنيها، وها أنا أتلقّى الصدمة، مُعلمة الحياة والموت. أنا، الفم المخملي، لديّ شيء ما لا ثمن له أريد أن أقدمه. نحن نريد إحدى كُلْيتيْ صبيك، كما يقولون. هل تستطيع أن تمنحني وقتاً للتفكير؟ أسأل، وأنا جالسة، الساقان في القطن. ليس هناك كثير من الوقت، يقول الطبيب ذو المعطف الأبيض. يجلس بجواري، فيما يُمرّر شخص آخر ذراعيه حول كتفيْ. فكّري في هذا الرجل المسكين الموضوع على آلة الفرز الغشائي، كما يقولون. تعمل الآلة أربعاً وعشرين ساعة في الأربع والعشرين ساعة. تدور بلا توقف كي تجدد دمه. ممدد هناك، ضعيف، ينتظر إما الموت وإما كُلية جديدة، أحد اثنين وصلا في البداية. كُلية صبيك مناسبة تماماً، بالضبط هي ما يلزم لإنقاذ حياته. أبقى جالسة هناك مستغرِقةً في التفكير. أتخيلهم يستطيعون قراءة أفكاري التي تتوالى في رأسي. أتخيل أن هذا ليس جديداً بالنسبة لهم. لماذا أمنحكم هذا؟ إن لم تكونوا قد لاحقتموه، ما كان سيسقط أرضاً. إنه حتى لم يكن معه أي نقود. ألمْ تستطيعوا أن تروا فيه مجرد صبي؟ ما الذي فعلتموه به من دون أن تخبروني؟ أنتم تعلمون أن رجال البوليس يفعلون أشياء لا نقرأ عنها في الجرائد. أهم الذين فعلوا هذا بصغيري؟
بعد ذلك، أتساءل عما يساويه هذا. أتساءل إن كان هذا الشخص لديه مال. أؤكد أنه يعطي كل النقود للناس فقط من أجل أن أقول نعم. وإن أَقُل لا، من أجل أن أنهض خارجة مباشرة، ليس لدي شيء لأقوله أو أفعله. لا أحد يستطيع أن يتصرف سواي. بالتأكيد، أنت تعلم ما فعلته أنا، يا سيدي الخفي، ولم أرِد أبداً أن أفعل خلاف هذا. لكني، يا الله، أفتقده. أفتقده كلَّ الأيام. ها أنا ذي، في جمعة الآلام، في أحد تلك النهارات الغائمة حين يبدو العالَم متوقفاً، جمعة تشبه جُمع الآلام يوم أن كنت صغيرة. إنها الأولى من دونه. لكنها جمعة مختلفة هذه المرة، لأنني الآن أعرف أن هذا يعني القيامة والحياة الأبدية، حتى بحيث كاثوليكية طيبة تُتم واجباتها الدينية مثلي لم تستطع أبداً أن تفهم. أنتم ترون، إنها أنا القيامة. نعم، أنا، الفم المخملي. خذوا هذا جسدي. أمه. حين صحوت ذاك الصباح، قلت لنفسي، إن كنت ستبكين، فتذكري أنه لايزال يعيش في مكان ما. إنه الرياح أسفل جناحيْكَ، كما يقولون يا سيدي الخفي، الأطفال الذين أنجبتَهم ربما ذات يوم، نبضات قلبك، الهواء الذي يصارع كي يصعد ثانيةً على السطح حيثما تكون أسفل الأمواج، الدم الذي يجري في أوردتك، إنه الناقوس وسط المدينة، الأصابع التي تجعل سيارتك تنطلق في الصباح، اليد التي تمسك بالقلم، إنه الصوت الذي يتحدث ويُغنّي، إنه الأب، الزوج، العاشق، الأخ، الابن، إنه الطِّيبة والرحمة، إنه تفتّح زهرة وهمْس مطر، إنه مِلْكُكَ، يا سيدي الخفي. إنه ملْكُنا. إنه الحياة ■
 
قصة  فيونا كيدمان... ولدت في عام 1940. نشرت ثماني روايات، إلى جانب كتابتها للشعر والقصة القصيرة.