استراتيجيّة العَوْلَمَة

يبدو عُنوانُ هذا الكتاب - الذي تقَاسم تأليفَه مجموعةٌ مِنْ الباحِثين الأمريكيين المُتخصِّصِين في الإدارةِ والاقتصادِ والسياسةِ الدوليِّةِ- مُراوِغاً إلى حدٍّ ما، وذلك مِن خلال انزياحِه على مستوى الاستقبالِ المفهومي لمصطلحِ العولمة عن السائد، والنجاةِ بنفسهِ من الانغماسِ في مُعطيات البنيتين الفكريةِ والفلسفيةِ للمصطلح، وتركيزِه جُل اهتمامِه على الجانب الاقتصادي للعولمة، مُقدمًا في سياق ذلك ما يمكن تحديده بموجِّهات ذات صيغ علمية ناجعة تساعد الشركات على تحقيق مكاسب مالية، لتغدو العولمة عبر هذه الرؤية المفهومية التي يتبناها الكتابُ مُعادِلةً للخريطة ذات الحدود المنفتحة التي تمكن الشركات من تأسيس قوتها الاقتصادية.
يحتوي الكتاب على مجموعة واسعة من وجهات النظر في استراتيجية العمل العالمي، مسلطاً الضوء على مجالين أساسيين: استراتيجية العمل العالمي، والإدارة الشاملة، ويستعرض في فصوله مجموعة تحليلات للاستراتيجية العالمية.
من دورة التغيير إلى الإدارة التحويلية
يفتتح الكتاب بدراسة بعنوان «الاستجابة للأزمات العالمية باستخدام دورة التغيير»، ويعني مفهوم دورة التغيير المطروح من قبل جون سي بك آلة لتنظيم التفكير في الأزمات واستجابات الشركات، حيث يرى «بك» أن أي شركة يمكن أن تجري تغييرات كبيرة أو صغيرة وتستجيب إلى الضغوط الداخلية والخارجية، حيث إن تكاليف الاستجابة لهذه الإشكالات الداخلية الصغيرة وما ينجم عنها من مخاطر تعد قليلة مُقارنة بالتكاليف والمخاطر الهائلة الناجمة عن الاستجابة للضغوط الخارجية ذات التغييرات الكبيرة، وهناك أوضاع عديدة تقع بين هذين البعدين، غاية الإدارة هي فهم الحاجة إلى التغيير، استجابة لكل أنواع الضغوط وتقييم الاستجابات المطروحة على طول بعدي دورة التغيير، حيث يقدم «بك» أدوات للاستجابة على الأزمة في كل مربع من مربعات مصفوفته، ويشرح بإسهاب كيفية استخدامها متخذًا من الأزمة الآسيوية (1994-1998) نموذجًا تطبيقيًا.
إذا كان مفهوم دورة التغيير يشكل العنصر المحوري في رؤية «بك»، فإن مفهوم «الإدارة التحويلية» يشكل محور اهتمام «روبرت آي غروس»، ويعني غروس بهذا المفهوم طرائق استجابة الشركات لتغيرات السوق الدرامية وتغيرات التكنولوجيا وغيرها من التحديات التنافسية، حيث يفترض غروس وجود نهج انحرافي مستهلك للزمن لا يتيح انتقالاً سهلاً لأي شركة ترغب في تبني عملية التحويل والتوسع، مؤكدًا أنه لابد للشركات من مواجهة هذا التحدي كلما نضجت الأسواق وتفرعت وأعادت تشكيل نفسها نتيجة للتغيرات التقنية والتنظيمية التي تحدث في عالم الاقتصاد، ويضرب غروس مثالين للنتائج السلبية والإيجابية لاتباع هذه التحويلات، حيث تمثل محاولة مؤسسة موتورولا في ما يتعلق بمشروع الايريديوم نموذجًا لضعف الاسترتيجية المستقبلية للمؤسسة والعواقب الوخيمة لذلك، وهذا في مقابل النموذج الإيجابي لمؤسسة مونساتو التي خاضت مسار التحويل بنجاح، منتقلة من كونها شركة للكيماويات إلى شركة لعلوم الحياة ذات أنشطة في مجال الأدوية والكيماويات الزراعية ومكونات الأغذية.
تتضمن فكرة الإدارة التحويلية عند غروس نمطًا رباعي الخطوات، يبدأ بالتعرف على الشروط التكنولوجية والتنافسية المستقبلية في صناعة ما، ثم جعل الشركة رائدة في هذا السياق، ثم إعلام الزبائن بالرؤية المستقبلية، وأخيرًا تطبيق الاستراتيجية لجعل هذا المستقبل حقيقة واقعة، وهو ما يجعل الإدارة التحويلية قاعدة للتعامل مع حقيقة التطورات والتغيرات النوعية في الأسواق وسياقاتها التنافسية.
المُنافسةُ المَبْنيَّة على المَعْرِفة ومِيثاق الإبداع
تتركز وجهة نظر «ألن آي موريه» في المنافسة المبنية على المعرفة، التي تعد الأساس المركزي للبقاء التنافسي في معظم الصناعات المستقبلية، حيث يكون إبداع المعرفة والإدارة مفاتيح التوجيه لتنافسية الشركة، محاولاً تحديد العوائق التي تواجه الشركات مثل التنافس والإمكانات والخيارات الاستراتيجية لهذه العوائق مثل تحديد المجال الذي ترغب الشركة في المنافسة فيه، والتصميم أو الشكل التنظيمي المحدد لمتابعة الاستراتيجية، ويحاول موريه تحديد الأسئلة الجوهرية التي ينبغي على إدارة الشركات طرحها في مثل هذا النوع من التنافس قبل أن يقدم هيكلاً تنظيميًا وتحليليًا مفصلاً للإجابة عن كل سؤال، بما يجعل من هذا النموذج مرشدًا رائعًا لصانعي القرار يزودهم بطريقة كاملة البنية لتحديد الأسئلة الحرجة التي تحتاج الشركة إلى إيجاد إجابات لها، بالإضافة إلى الأدوات التي تطور هذه الإجابات.
ويستكشف سونداريسان رام فكرة أن تنمية المنتجات المتزامنة للأسواق المضاعفة لم تعد خياراً، بل أصبحت ضرورة للبناء المشترك، إذاً على الشركات اليوم استخدام تنمية الإنتاج العالمي للحفاظ على تنافسيتها، بفضل تحقيق موفورات في كلفة التنمية الجوهرية، وبفضل الإفادة من الأفكار الجديدة التي تتولد في الأسواق المختلفة في جميع أنحاء العالم، فالأسواق لم تعد مقسمة زمانيًا بحيث يمكن تقديد المنتجات بصورة متتابعة عبر فترة زمنية طويلة، بل أصبح العمل اليوم مرتبطًا بالنقطة التي يتم فيها تحقيق وفورات في كلفة تنمية الإنتاج فقط من أجل المنافسة، ويضرب سونداريسان مثالاً بالإلحاح على منتجات الخياطة وعندما تسود المتطلبات المحلية عندئذ فلابد من المفاضلة، وعندما يكون اقتصاد الحجم ذو الإنتاج المركزي مهمًا جدًا، فإن هذا العامل ربما يهيمن عليه ويؤدي إلى تناقص قدرة تكييف الإنتاج والخدمات لمصلحة الأفضليات المحلية، هذه القضية مماثلة للحوار التسويقي بين النمذجة وتكييف المنتجات والأسعار، والترويج، وغير ذلك عبر الحدود الوطنية.
كما يقدم سونداريسان فكرة يمكن التعامل معها بوصفها أداة جيدة ومفيدة للشركات لكي تفكر في تنمية المنتجات وتحسينها في حقبة تتصف بالمنافسة الفائقة السرعة، تتمثل هذه الفكرة في ضرورة وضع الشركات ميثاق إبداع من أجل زيادة الأفكار الجيدة التي ستدخل في النهاية ميدان الإنتاج، ويحدد ميثاق الإبداع ببيان موجز واضح لفلسفة الشركة المتعلقة بتنمية المنتجات، وحينما يتم تحديد الميثاق وتعريفه بصورة واضحة، ويجري إيصاله إلى كل قائد فكري في الشركة واستيعابه له، حتى ترتفع نوعية الأفكار التي ستدخل الطور الأول في دورة تنمية المنتجات.
الاهتِماماتُ الجَوْهَريَّةُ للمُديرِ العَالميّ
يحاول الكتاب في جزئه الأخير استكشاف مجموعة من الأمور التي نشأت في العمل عبر الحدود، واكتسبت قيمة كبيرة في تسعينيات القرن المنصرم، فيحاول دي لانس ريفانو إلقاء نظرة على التحدي الضخم المتمثل في استخدام تكنولوجيا المعلومات لإدارة الشركات العالمية بصورة ناجحة. إن وجهة النظر الأساسية هي أن المصدر الجوهري للقيام بهذه المهمة هو الناس القابلون للتكيف، وليس أكثر الآلات تقدمًا ولا البرامج المتطورة، فبالاكتفاء بمواكبة مستحدثات الآلات والبرامج لن تنجح الشركة في الدخول إلى ميدان التنافس بنجاح، إلا بمساعدة مجموعة مميزة من الكادر البشري القادر على التعامل بنجاح مع هذه التكنولوجيا واستخدامها بما يحقق مصالح الشركة.
ويبرهن الكاتب على التأثيرات السلبية التي يمكن أن تصيب الشركات إذا لم تطور مستوى مواردها البشري ليغدو بالتوازي مع التطور في التحول التقني بنظام «ساب»، وغير ذلك من أنظمة تخطيط موارد المشروعات التي يمكن أن تغمر الشركات من دون أن تحقق أي نجاح يذكر ما لم يتم تأهيل الموظفين للتعامل معها ومع اقتراحاتها المتعددة، إذاً يمكن أن تضيع اقتصادات الحجم، وما يكتسب من معلومات إذا لم يكن العاملون في الشركة قادرين على الإفادة من النظام بنجاح، أو إذا لم يعترضوا على جمود أنظمة الشركة التي تخفض من إنتاجيتهم.
ولهذا يرى الكاتب أن المدير المتطلع إلى دور تكنولوجيا المعلومات يحتـــاج بالضرورة إلى احتواء قاعدة مدخلات أوسع، مع تأكيد أن تكنولوجيا المعلومات والموارد البشرية ستشكلان إسهامات جوهرية في عملية تطوير الاستراتيجية.
وهكذا يمكننا القول بثـــقة إن الدراسات التي يتضمنها هذا الكتاب تطرح مجموعة من وجهات النظر في استراتيجيات العمل العالمي، متوجهة إلى المديرين الأولين الذين تحتاج قراراتهم إلى نظرة شاملة سليمة، ودراسة متأنية لهذه المنظومة الواسعة من الشروط والاهتمامات ■