القصيدة التي لا نهاية لها

القصيدة التي لا نهاية لها

كان صديق طفولتي، مازال، السنوات مضت كعادتها مسرعة، أنا أشعر كل صباح أني كبرت، سنواتي صارت لا تُعد، عشرة عشرون ثلاثون أربعون وأكثر... علة صديقي أنه يريد منذ زمن أن يكون شاعراً، هو حساس جداً، وأنا أيضاً، لكنني لا أرغب بأن أكون شاعراً، لأني لست شاعراً.

كنت أنتظره... مازلت أنتظر مجيئه، موعدنا الساعة العاشرة صباحاً، سيمر عليّ ونخرج معاً وهذه عادة ألفناها منذ زمن.
مرّت دقائق بعد العاشرة، قلت لنفسي لابدّ أن يصل بعد هنيهة لكنه لم يصل ولم يدق الباب.
انتظرت حتى الساعة العاشرة والنصف... انتابتني وساوس... ماذا حصل له؟، أرجو... لم أكمّل رجائي حتى سمعت دقات الباب.
- لماذا تأخرت؟
- صباح الخير.
- لماذا تأخرت؟
- لا لشيء، سوى أني تأخرت، ولعلها المرة الأولى.
- لهذا أسألك لماذا تأخرت؟
- اسمع، كنت أكتب ومضى الوقت ولم أنتبه لمروره، فـ... عذراً، لكنك ستفرح عندما تسمع ما سألقيه عليك.
-  أرجو ذلك... قلت مازحاً.
-  لا، لا تمزح، اسمع أولاً وقل لي رأيك، وأرجو ألا يكون كما آرائك السابقة الدائمة.
طلبت منه أن يبدأ وأن يسمعني.
-  لا، ليس هنا، ما كتبته وما ستسمعه سيكون في مكان تحبه أنت وأحبه أنا أيضاً، وما كتبته سأقرأه عليك في مقهى الروضة.
- عال.
ركبنا سيارة أجرة ووصلنا إلى مقهى الروضة، اختار هو المكان الذي سنجلس فيه، تحت شجرة ومطل على البحر، نظر إلى البحر وقال: آه، ما أجمل السحاب وزرقة البحر وخضار الشجر.
قلت في نفسي: ها... لقد ابتدأ لكنه لم يفلش ورقته بعد، ولم يخرجها من جيبه، طلب فنجانين من القهوة دون أن يسألني ماذا أريد أن أطلب، قبلت... قلت هذا يوم ليس كالأيام.
ظهرت الورقة وقال: اسمع.
- أنا مستعد، مستعد للسماع.
بدأ، وأنا ابتدأت بالاستماع... قال... وأخذ يقرأ:
«أريد أن أكون... أتمنى أن أكون...
آه لو أكون طائراً لا تصل إليه أصداء الأرض.
أريد أن أكون طائراً.
أبحث عن نافذة بين السحاب...
أحلم بجدران وسقوف لا نهاية لها...
تلتصق بالسحاب... زرقاء... واسعة.
أسوح فيها.
أتنقَّل ما بين نهارها وليلها.
أبحث عن مكان فيه فراغ زمني...
فيه تذوب حدود الجسد والأمكنة.
وجود لا يوجد سوى في كل نسمة زرقاء.
أريد أن أكون طائراً لا يقف عن بسط جناحيه في الأزرق اللانهائي...
طائر يحط على سحب بيضاء في النهار وزرقاء في الليل.
طائر يطلع الفجر ويودّع الغروب.
طائر بجناح فجر وجناح تتساقط منه نقاط من عطر.
العطر نابع من زرقة الحرية واحمرار الحب».
هنا وقف عن القراءة وقلت له: كمّل...
- هل أعجبك ما سمعته؟ هي...
- من هي؟
- أقصد القصيدة لم تنتهِ بعد، سأكملها غداً، أو هذا الليل. لست أدري متى لكني سأكملها، وستسمع كيف سأنهيها.
- ولكن قل هل أعجبك ما سمعته؟
- لن أقول شيئاً الآن، بما أنها لم تكتمل بعد، ولكن.
- ولكن ماذا؟
- لا، لا شيء، سأنتظر عندما تنتهي منها.
مرّت أيام لم أسمع منه خبراً ولم يتصل بي، ذهبت إلى منزله... فتحت لي الباب شقيقته «لميا»... شابة جميلة جداً، أجمل من القصيدة.
- تفضّل، أهلاً وسهلاً.
- أين الشاعر؟
ضحكت وقالت هو مازال نائماً، أصبح يستيقظ متأخراً.
- هل هو بخير؟
- آه... بخير... عال... تفضّل... سأوقظه.
- لا... لا بأس.
لعله سمع صوتي لهذا فتح باب غرفة نومه وظهر.
- أهلاً... صباح الخير.
- قل مساء الخير، الساعة قاربت الواحدة ظهراً، ما بك، لماذا لا تتصل بي كعادتك؟ وهل أنهيت قصيدتك، كتبتها... أنهيتها؟
- لا... إني أكتب قصيدة جديدة.
- عن ماذا؟ أعني أي موضوع؟
- الموضوع... آه الموضوع الذي تحبّه أنت.
- قل... ماذا؟
- الموضوع عن الحب.
- هل ابتدأت بالكتابة؟
- لا... إني أعيش في هذا الموضوع... أحلم به.
- لهذا تستيقظ متأخراً... قلت ساخراً وتابعت:
- هل أنت عاشق الآن؟
- لا... نعم.
- لا... أو نعم؟
- لا أدري.
- لا تدري... يعني أنك عاشق، مَن هي؟
- هذا سر، سأكلمك عن هذا السر الجميل.
- هي إنسانة... أم قصيدة؟
- ابتدأت... وصلت.
- إلى أين أنا وصلت؟
- إلى العشيقة التي ستراها أو ستسمعها، أو ستسمع عنها .