أرتميسيــــا... أول فنانة مشهورة في تاريخ الرسم

أرتميسيــــا... أول فنانة مشهورة في تاريخ الرسم

يكاد تاريخ الفن في العالم يخلو من أسماء الفنانات المعروفات في مجال فن الرسم، قبل القرن السابع عشر، مع أن الإبداعات النسائية كانت بارزة في فنون الشعر والموسيقى والغناء والرقص والفنون الشعبية في الحضارات القديمة، وهي فنون ذات صلة بالأساطير والطقوس الروحية، ومع ازدهار فن الرسم في عصر النهضة في أوربا عامة، وفي المقاطعات الإيطالية خاصة، على أيدي كبار الفنانين الرواد، من أمثال غيوتو وروفائيل ودافنشي ومايكل أنجلو وجورجيوني، برز تيار الواقعية الدرامية في فن «الباروك» على يد الفنان العنيف المضطرب كارافاجيو، الذي ترك تأثيرات واضحة على عدد كبير من الفنانين، مع أنه توفي باكراً بمرض الملاريا عام 1610 وعمره سبعة وثلاثون عاماً، وكان قبل ذلك منفياً من روما، بعد أن قتل أحد رفاقه في إحدى مشاجراته المتواصلة، وامتدت تلك التأثيرات إلى البلدان الأوربية منذ نهايات القرن السادس عشر وبدايات القرن السابع عشر، وتسربت انعكاساتها إلى فن العمارة، ولم يكن عمل المرأة في الفن مألوفاً في تلك الحقبة، فالتيارات الدينية المتخلفة المتواصلة في القرون الوسطى كانت تقمع العلماء والمفكرين والنساء بالتكفير والترهيب الذي مارسته محاكم التفتيش، ومنهم الفلكي والفيلسوف وعالم الرياضيات والمهندس والفيزيائي جاليليو جاليلي - أبو العلم الحديث، كما قال عنه ألبرت أينشتاين.   

شهد النصف الأول من القرن السابع عشر صعود الفنانة الأولى في تاريخ الرسم أرتميسيا غنتليسكي (1653 -1593)، وهي أول امرأة تعترف بها الأوساط الفنية الإيطالية، من خلال قبولها في أكاديمية الفن والتصميم في فلورنسا، ووصفت بأنها أفضل فنانة ظهرت في عصر الباروك، ومنذ ذلك الحين وإلى اليوم لم تظهر في إيطاليا فنانة تنافس أرتميسيا في تجربتها وشهرتها، وقبل أرتميسيا بقليل ظهرت بعض الفنانات الهاويات اللواتي لم تسمح لهن الظروف بتطوير تجاربهن، ولم يجدن اعترافاً من الأوساط الفنية بأهمية أعمالهن، ومن أبرزهن: 
- كاترينا فان هيمسن التي عاشت في مدينة أنتويرب، التي كانت مركزاً للفن في أوربا، وتعلمت الرسم في مشغل أبيها الفنان يان فان هيمسن، ورسمت نفسها في لوحات عدة مختلفة.
- سوفينسبا أنغويسولا، التي دعاها فيليب الثاني ملك إسبانيا، وتركت لوحات متفرقة ومتوسطة الجودة. 
 - لافينيا فونتانا، التي عاشت في منطقة بولونيا الإيطالية، ودعاها إلى روما البابا كليمنت الثامن. 
- فيدي غاليزيا، التي عاشت في ميلانو، وكانت ترسم الطبيعة والموضوعات التاريخية.

البداية الصعبة
تلقت أرتميسيا دروسها الأولى في الفن مع إخوتها، في مشغل أبيها الفنان أورازيو غنتليسكي، في روما، وبرزت موهبتها في الرسم منذ البداية الصعبة، وقبل أن تتعلم القراءة والكتابة، واشتهرت أعمالها في الأوساط الفنية حينما كانت في عامها السابع عشر، بعد أن أنجزت رسم النسخة الأولى من لوحتها «سوزانا والرجلان العجوزان»، التي تشير إلى ظاهرة العنف لدى الرجال ضد المرأة، مما أثار اهتمام أبيها بتدريبها على معالجة الخطوط والألوان، وكان والدها رساماً محترفاً، متأثراً بأسلوب كارافاجيو الذي كان يعرفه عن قرب. 

الرحيل إلى فلورنسا
رأى أورازيو أن ابنته تحتاج إلى مزيد من التدريب لصقل موهبتها، فكلف أحد الفنانين المحترفين الذين يعرفهم، ويدعى أغوستينو تاسي، بهذه المهمة، في عام 1612، وتبين أن تاسي رجل محتال، تمكن من اغتصاب أرتميسيا، بعد أن وعدها بالزواج، مع أنه متزوج، وكان سجيناً سابقاً لمرتين، بتهمة محاولة قتل زوجته وقضايا أخلاقية مختلفة، وها هو يعود إلى السجن لمدة عام، بينما تزوجت أرتميسيا من الفنان بيترو ستياتيسي، وانتقلت معه إلى فلورنسا، وتابعت إنجاز لوحات جديدة، وانضمت إلى أكاديمية الفنون، وحظيت بصداقة العالم الشهير جاليليو جاليلي، الذي كان معجباً بأعمالها، وكانت حريصة على ملاحظاته الذكية حولها، وجرت بينهما مراسلات متواصلة حتى وفاته عام 1642، وكان جاليلي من أعضاء الأكاديمية، كما حظيت برعاية الدوق الكبير لمقاطعة توسكاني، كوزيمو دي مديتشي الثاني، الذي اشترى لوحتها الشهيرة «جوديت تذبح هولوفيرنس»، التي استوحتها من حكاية قديمة عن القائد البابلي الذي غزا فلسطين في طريقه إلى مصر، فتسللت إلى خيمته جوديت ووصيفتها، وكان مستلقياً على فراشه ثملاً وغافياً، فتمكنتا من قطع رأسه بسرعة وقوة بسيفين حادين، وحملتا الرأس المقطوع في سلة، وعادتا بصمت.
وعملت أرتميسيا وزوجها في أكاديمية الفنون، وفي تزيين دارة آل مديتشي برسوم ورموز مبتكرة، وفي عام 1620 اشترى ملك إسبانيا فيليب الرابع إحدى لوحاتها، وبعد وفاة الدوق في عام 1621 عادت إلى روما، لتعيش مع ابنتها بالميرا، بعد أن طلقت زوجها، وزارها الفنان الفرنسي بيير دومنستييه، وقدم لها لوحة تمثل يدها التي تمسك بريشة الرسم، وكتب لها: «إلى أرتميسيا المرأة النبيلة والحكيمة والراقية من روما»، كما رسمها الفنان الفرنسي جيروم ديفيد في لوحة بعنوان «الفنانة الشهيرة في روما».

 أضواء فينيسيا
 وفي عام 1627 انتقلت أرتميسيا إلى فينسيا، وأقامت فيها ثلاث سنوات غنية بالنشاط الفني، ووجدت في هذه المدينة أعداداً كبيرة من الفنانين الإيطاليين والأجانب المعجبين بأعمالها، إلى جانب النبلاء المولعين بالفن واقتناء اللوحات، وتزيين قصورهم بأفضل الرسوم الموزعة بين الجدران والسقوف، وتشير هذه الرحلات المتواصلة بين المدن الكبرى إلى حاجة أرتميسيا إلى مواكبة ما هو جديد في حركة الفن، والبحث عن الأمان لمواصلة تنويع أعمالها وتسويقها لطرد شبح الفقر الذي يعانيه بعض الفنانين. 
   
 الضوء والظلال  
برعت أرتميسيا في مزاوجة الألوان، والسيطرة على التضاد الحاد بين الأسود والأبيض والألوان الواضحة وتنويعاتها، في نسيج اللوحة وتفاصيل حركة الجسد البشري وظلاله، وانفعالاته وتموجاته، كما برعت في رسم تفاصيل حركة التفاف الألبسة وانسدالها وانثنائها حول الأجساد برشاقة ودقة متناهيتين، وأتقنت صوغ أسلوبها الخاص في تيار الواقعية الدرامية، بما في ذلك رسم الوجوه التي تشكل في حركاتها الرشيقة مرآة تعكس انفعالات الجسد في حالاته المتغيرة، وكان لها اهتمام واضح في رسم الموضوعات ذات الخلفية التاريخية، والاجتماعية والدينية، وتلك التي تشير إلى قسوة الرجل في التعامل مع المرأة، وهي أول من رسم كليوباترا في لوحتين، نرى في إحداهما كليوباترا في لحظاتها الأخيرة، تمسك برأس حية تلتف حول معصمها، كما رسمت شخصيات نساء من الأساطير والتاريخ، مثل منيرفا ربة الفنون والحكمة، وشمشون ودليلة، وفينوس النائمة، وسانتا شيشيليا تعزف على العود، ويوحنا المعمدان، ولاحظ عدد من الدارسين والنقاد تفوق أرتميسيا في رسم أجساد النساء والأطفال برشاقة نادرة، كما في لوحاتها عن العذراء والطفل، والمجدلية والطفل، وكانت حريصة على رسم نسخ من لوحاتها المبيعة، كما رسمت نفسها في لوحات عدة مختلفة، ومنها اللوحة التي تبدو فيها وهي تعزف على العود.
 في عام 1630 استقرت أرتميسيا في نابولي، وواصلت نشاطها الفني، ورتبت زواج ابنتها بالميرا، ووصلتها دعوة من الملك شارلز لزيارة لندن عام 1638، لتنضم إلى الفنانين الذين يعملون في تزيين القصر الملكي، ومنهم والدها الفنان العجوز أورازيو، الذي كان يعمل في تزيين منزل الملكة هنرييتا ماريا في جرينيش، وبعد وفاة والدها في لندن عام 1638 عادت إلى نابولي، لتستقر فيها، حتى وفاتها في عام 1653 تقريباً.
وبعد أن ظلت أرتميسيا شبه منسية على مدى أكثر من ثلاثة قرون، شهد النصف الثاني من القرن العشرين اهتماماً واسع النطاق بها، فصدرت عنها مجموعة من الكتب بلغات مختلفة، ومنها دراسات وروايات ومسرحيات عن حياتها وأعمالها، إلى جانب فيلم سينمائي طويل للمخرجة إينيس ميرليه عام 1997، وأفلام تلفزيونية، ومعارض لأعمالها الموزعة بين المتاحف الأوربية والأميركية، وفي عام 1915 نشر الناقد الفني جيسي م. لوكر كتاباً صدر عن جامعة ييل بعنوان «أرتميسيا غنتليسكي... لغة الرسم» ■