المخطوطات العربية والإسلامية في مكتبة مدينة ستراسبورغ
بداية تجب الإشارة إلى أنه لا يوجد في فرنسا إلا مكتبة وطنية وجامعية واحدة، وهي في مدينة ستراسبورغ التابعة لمحافظة الألزاس، وذلك تبعاً لمسيرتها التاريخية التي بدأت بتأسيسها في عام 1760، وجاء بعدها ضم هذه المحافظة للإمبراطورية الألمانية، وبقيت كمكتبة وطنية وجامعية وحيدة بعد عودتها لأحضان الجمهورية الفرنسية بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.
هذا الوضع الفريد والتاريخي للمكتبة جعل منها مقصداً للباحثين والأساتذة والطلبة. وكنت شخصياً - ولاأزال - من رواد هذه المكتبة ومن المواظبين على زيارتها وقضاء أوقات طويلة في مختلف أقسامها منذ عام 1979 حين كنت أحضر لشهادة الماجستير في القانون الدولي بجامعة ستراسبورغ ومن ثم دكتوراه الدولة في القانون العام، التي حصلت عليها من هذه الجامعة عام 1987، حيث تضع في متناول زوارها أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون مرجع بمختلف اللغات من بينها: الفرنسية، والألـمانية، والإنجليزية، والعربية، والفارسية، والألزاسية (اللغة التي تُكتب وتُقرأ في محافظة الألزاس الواقعة شرق الجمهورية الفرنسية والمحاذية لجمهورية ألمانيا الاتحادية، وسويسرا الكونفدرالية).
لمحة تاريخية
يعود تاريخ تأسيس مكتبة ستراسبورغ كمكتبة وطنية إلى القرن الثامن عشر، وبالتحديد عام 1760، وكانت تضم حتى عام 1870 نحو 200 ألف مرجع، ولكنها تعرضت، كبقية معالم محافظة الألزاس ومدنها، للقصف والتدمير نتيجة الحرب البروسية الفرنسية، التي أسفرت عن ضم محافظة الألزاس ومناطق فرنسية أخرى إلى الإمبراطورية الألمانية حسب اتفاقية فرانكفورت بتاريخ 10 مايو 1871.
وعادت الألزاس مع بقية هذه المناطق لأحضان الجمهورية الفرنسية، بعد هزيمة الإمبراطورية الألمانية في الحرب العالمية الأولى، وتوقيعها على الهدنة في 11 نوفمبر 1918.
ولكن لم ينعكس ضم الألزاس لهذه الإمبراطورية الألمانية في نهاية القرن التاسع عشر سلبا على مكتبة ستراسبورغ، بل على العكس، فقد حظيت المكتبة ومحتوياتها باهتمام السلطات الألمانية آنذاك، وتمثل ذلك بداية بحملة جمع التبرعات لبناء مكتبة مكان المكتبة التي دمرها القصف الألماني. ونجحت الحملة, وتم افتتاح المبنى الجديد للمكتبة في 19 أغسطس 1871، واحتوت المكتبة عام 1872 على زهاء 120 ألف مرجع، وازدادت محتوياتها مع مرور الزمن إلى أن احتلت المرتبة الرابعة بين مكتبات الإمبراطورية الألمانية آنذاك.
وتطورت أوضاع المكتبة خلال عقود القرن العشرين، وبالذات في عشرينيات ذلك القرن، حيث أصبحت المكتبة، في عام 1926، مكتبة ستراسبورغ الوطنية والجامعية، لتصل محتوياتها في عام 1935 إلى مليون ونصف المليون مرجع. وتم نقل مقرها مقتنياتها بين عامي 1939 و1941 إلى مدينة كليرمون فيرا بوسط فرنسا في أثناء الحرب العالمية الثانية، قبل أن تعود هذه المقتنيات إلى ستراسبورغ بناء على طلب السلطات الألمانية المحتلة. وبعد انتهاء هذه الحرب، وعودة السيادة الفرنسية إلى محافظة الألزاس، طرأت تطورات جديدة على هذه المكتبة بداية بين عامي 1952 و1960، حيث أدخلت تعديلات وتجديدات على بنائها، وتم لاحقا إضافة أبنية ملحقة بها تتعلق باختصاصات شتى: الطب (1964)، والعلوم والتقنية (1968)، والقانون واللغة الألزاسية (1976)، والصيدلة (1979). وجاء آخر التطورات من خلال عمليات التجديد والتطوير الأخيرة في مبنى المكتبة المطلة على ساحة الجمهورية في وسط مدينة ستراسبورغ. وقد استمرت هذه العمليات زهاء أربع سنوات إلى أن تم افتتاح المبنى للطلبة والأساتذة، والباحثين، والمهتمين بمحتوياتها في شهر نوفمبر من عام 2014. ومن اللافت للنظر أن كل عمليات التجديد والتطوير والتحسين التي أدخلت على مبنى المكتبة لم تؤثر على جمالية مظهرها، ولم تتضرر التماثيل واللوحات والمعالم التي تزين البناء الخارجي للمكتبة وتجعل له هيبة، وتعطيه طابعا جماليا وفنيا متميزا.
مقتنيات الحضارة العربية والإسلامية
تضم مكتبة ستراسبورغ الوطنية والجامعية كثيراً من المقتنيات المتنوعة ومن بينها المقتنيات ذات العلاقة بالحضارة العربية والإسلامية، التي قام برصدها ووصفها الزميل الدكتور نزيه كسيبي في كتابه المتميز: افهرس المخطوطات العربية في مكتبة ستراسبورغ الوطنية والجامعيةب (منشورات معهد المخطوطات العربية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، الكويت، الطبعة الأولى، 1985). وقد أحسن صنعا هذا المعهد وإدارته بنشر هذا الكتاب ووضع صفحات من التراث العربي بين يدي قراء العربية والمهتمين بالمخطوطات التاريخية والفقهية والعلمية المنشورة بلغة الضاد والموزعة في مكتبات مختلف بلدان العالم، التي تنتظر من يزيل عنها
الغبار ويطلع القراء على محتوياتها ويحدد مكانها.
والتقيت الدكتور كسيبي الذي حدثني عن مراحل إعداده لهذا الكتاب، وأوضح لي أنه قام بفهرسة المخطوطات العربية ليطلع على هذا التراث كل الباحثين والمهتمين، ويبقى لدى الأجيال القادمة ما يربطهم ويذكرهم بتراثهم العريق.
ويمكن أن نقسم المقتنيات العربية والإسلامية في مكتبة ستراسبورغ الوطنية والجامعية، تبعا لما جاء في الكتاب إلى:
1 - مجموعة ورق البردي.
2 - مجموعة النقود والمسكوكات.
3 - القطع الفخارية والعظمية.
4 - مجموعة الأختام والموازين الزجاجية الإسلامية.
5 - الخرائط.
6 - مجموعة الكتب المطبوعة النادرة.
7 - المخطوطات العربية.
المخطوطات العربية والإسلامية
استوفى الدكتور كسيبي في مؤلفه سالف الذكر وصف المخطوطات العربية وشرحها، الموجودة في مكتبة ستراسبورغ الوطنية والجامعية، وقسَّم عناوين المخطوطات على النحو التالي:
1 - الآداب والفنون.
2 - البلاغة والنحو والبحوث اللغوية.
3 - المخطوطات التاريخية والجغرافية والإدارية والعمرانية.
4 - العلوم والطب.
5 - المخطوطات الإسلامية (قرآن - حديث - فقه - مواعظ).
6 - المخطوطات الفلسفية (التنجيم - التصوف - المنطق).
7 - المخطوطات النصرانية.
سيكون من المطول الدخول في تفاصيل هذه المخطوطات ومحتوياتها، ولكنها غطت علوم ومعارف وفنون الحضارة العربية - الإسلامية حين كانت في قمة توهجها، وعكست مساهمتها في الإرث الإنساني والحضارة العالمية. ولعله من الضروري إصدار طبعة جديدة من هذا الكتاب من طرف معهد المخطوطات العربية في الكويت، والتعاون مع المؤلف، ليرصد المستجدات وليتم أيضا وضع فهرسة بالفرنسية والإنجليزية للمخطوطات، مما يتيح للقراء بهاتين اللغتين التعرف على عناوين هذه المخطوطات وأهميتها العلمية والتاريخية.
وكان لابد من لقاء أحد المسؤولين في مكتبة ستراسبورغ الوطنية والجامعية للحديث عن تاريخها ومقتنياتها ونشاطاتها، وبخاصة المخطوطات العربية والإسلامية. وطلبت لقاء المسؤول عن قسم المخطوطات والكتب القديمة والنادرة في المكتبة دانيل بورومان، للحصول منه على مزيد من المعلومات والتفاصيل عن هذا القسم ومحتوياته.
واستقبلني هذا المسؤول في مكتبه أكثر من مرة، وأوضح لي أنه يشغل منصبه منذ عام 1999، وأن المحتويات الشرقية في القسم مهمة جداً وبخاصة العربية منها، وهي موجودة منذ القرن التاسع عشر في المكتبة. وبيّن أن عدد المخطوطات العربية يبلغ 211 مخطوطة. وقال: بالعودة تاريخيا لأسباب وجود المخطوطات العربية، فإنه تم في أثناء الوجود الألماني بمنطقة الألزاس إحداث كراسي تدريس لغات وثقافات شرقية وعربية، مما استدعى شراء كتب بهذه اللغات (تم شراء 4700 مطبوعة بين عامي 1871 و1918 واستجلاب مخطوطات أيضا من كل من مصر وإفريقيا الشرقية). وَذَكَّرَ المسؤول بشخصيات لعبت دورها في تنمية المطبوعات والمخطوطات العربية، من بينهم: تيودور نوولديك، الذي كان يتحدث العربية وشغل منصب أستاذ في جامعة ستراسبورغ، وكارل رينهارت، وبالذات جوليوس يوتنغ الذي كان مديرا لمكتبة ستراسبورغ بين عامي 1871 و1913. وكان يوتنغ رحالة في الصحراء العربية ومتخصص باللغات ويعود له الفضل في جمع المخطوطات وتنظيمها ووصفها بالألمانية عام 1881، وتم لاحقا نشر هذا الوصف بالفرنسية في عام 1923. وللتعرف على المزيد عن هذا الرحالة التقيت البروفيسور رالف شتيلي المتخصص في الدراسات الإسلامية وبخاصة فقه السنة النبوية في جامعة ســـتراسبورغ، والذي شارك في عام 1999 في الاحتفال الذي أقامته جامعة توبنغن بألمانيا بمناسبة مرور 160 عاما على ولادة الرحالة، وركز البروفيسور شتيلي في حديثه على دور يوتنغ في التعريف بالمخطوطات العربية في مكتبة ستراسبورغ، حيث نشر كتابا في عام 1877 رصد فيه الموجودات الشرقية وبخاصة العربية في هذه المكتبة.
وفي لقاء جديد مع بورومان ولكن هذه المرة في قسم المخطوطات، قام بعرض بعض هذه المخطوطات وسمح لي أن أقلب صفحاتها ولكن بعدما لبست قفازات بيضاء حفاظا على المخطوطات إذا قمت بلمسها أو تقليب صفحاتها. وكم كانت رائعة وجميلة أغلفة بعض المخطوطات وهي لا تزال تحافظ على رونقها وألوانها وزخرفتها. ولفت نظري مخطوطة نصفها باللغة العربية ونصفها الآخر باللغة الفارسية، وتمت قراءتها من الأعلى للأسفل. ووقفت أمام الخزانات البلورية التي تعرض فيها مختلف المخطوطات، ولاحظت مقدار العناية بها ووضعها في غرف خاصة لا يمكن زيارتها إلا بالحصول على موافقة وإذن.
وأوضح المسؤول عن قسم المخطوطات في مكتبة ستراسبورغ الوطنية والجامعية أنه تم تصوير عدد كبير من هذه المخطوطات ووضعها على موقع المكتبة الإلكتروني، مما جعلها متاحة للطلبة والباحثين في العالم العربي. كما أشار إلى أن عدداً من الجهات والمكتبات في دول الخليج، مثل قطر وعمان والمملكة العربية السعودية، تواصلت مع المكتبة للحصول على نسخ اميكروفيلمب من بعض المخطوطات العربية. وبيّن أخيرا أن مكتبة ستراسبورغ لم تعد - مع الأسف - تشتري مخطوطات عربية، ولكن الاهتمام بهذه المخطوطات يتزايد في كل عام، من قبل الباحثين والدارسين، والموقع الإلكتروني للمكتبة يساعدهم على الاطلاع على ما تتضمنه المكتبة من نفيس الكتب وذخائر المخطوطات.
المعارض المؤقتة
تنظم إدارة المكتبةـ عديداً من المعارض المؤقتة على مدار العام، وتُفتح أبوابها للزائرين على اختلاف لغاتهم ومشاربهم واهتماماتهم، ومن بين المعارض التي تم تنظيمها:
1 - الموسيقي ريتشارد فاغنر وكيف تنظر له فرنسا.
2 - عام 1914، عام موت الشعراء.
3 - عندما استقبلت ستراسبورغ المصلح الديني جون كالفن (1538-1541).
4 - رياح التجديد، لوثر 1517.
5 - مسارح العالم: اكتشافات الملصقات في مكتبة ستراسبورغ الوطنية والجامعية.
مجلة نصف سنوية
تصدر المكتبة مجلة نصف سنوية ترصد فيها نشاطاتها ومعارضها ومقتنياتها في مختلف المجالات الثقافية والعلمية والفنية والحضارية.
صرح علمي وثقافي وفني وحضاري
كانت مختلف أنواع المكتبات: عامة، ووطنية، وجامعية، وستبقى مرآة لتقدم الأمم ورقيها، ودليلاً على اهتمامها بتشييد صرح يلتف حوله كل محبي العلوم والمعارف والفنون.
وتحرص بعض الدول على أن تجعل من المكتبات معلماً علمياً وثقافياً وفنياً وسياحياً أيضاً يقصده أهل هذه الدول من مختلف المشارب، وكذلك الزوار لمزيد من الاطلاع والتعرف على وجه حضاري متميز.
ويمكن النظر إلى مكتبة ستراسبورغ الوطنية والجامعية كصرح علمي وثقافي وفني وحضاري، ونعّدها في عداد المكتبات المهمة التي ما فتئ ينهل من معارفها ويستفيد من محتوياتها كل من يرتادها من المقيمين في ستراسبورغ ومن يأتي لزيارتها من دول شتى للاطلاع على مختلف مقتنياتها وثروتها العلمية والفكرية والثقافية والفنية .
يعود تاريخ تأسيس مكتبة ستراسبورغ كمكتبة وطنية إلى القرن الثامن عشر
عمليات التطوير والتجديد لم تؤثر على جمالية المكتبة ومظهرها العام
مخطوطات قديمة بجميع اللغات تملأ مكتبة ستراسبورغ
بهو المكتبة الوطنية من الداخل