فيلم «شحاذون ومعتزون» لأسماء البكري «أنموذجاً» السينما الروائية العربية وأسئلة مجتمع الهامش

فيلم «شحاذون ومعتزون» لأسماء البكري «أنموذجاً» السينما الروائية العربية  وأسئلة مجتمع الهامش

يثير فيلم «شحاذون ونبلاء» (1991) للمخرجة المصرية أسماء البكري (1945-2015) عديداً من الأسئلة الاجتماعية، المتعلقة بمجتمع الهامش، وذلك أنه يحيل إلى فئة مسكوت عنها، على الرغم من كثافتها، وكثيراً ما نُلمِّح إليها قائلين «الجماهير العريضة»، «الطبقة الفقيرة»، «البسطاء»، إلى غيرها من كلمات وتعبيرات نقصد من خلالها تلك الفئة التي في كثير من الأحيان تصنع تمثُّلنا للعالم ورؤيتنا له من خلال أحكامها، وبالتالي هي توجهنا من خلال كثافتها وعددها، ومن هنا فإن هذا الفيلم يشكل نافذة يمكننا من خلالها إدراك الكيفية التي عالجت بها السينما العربية أسئلة الهامش، وكيف صورت لنا عوالم المهمشين، وكيف ساهمت في إعادة طرح أسئلة المسكوت عنه Le non dit، واللامفكر فيه l’inpensable بتعبير ميشال فوكو، وذلك من خلال لجوء السينما إلى الرواية التي تنتج الاستفهامات ذاتها، وما هذه الرواية إلا أهم تلك الروايات، رواية لاتزال بعيدة عن التناول الإعلامي والأكاديمي المكثف.

لا يمكننا أن نكتب عن فيلم «شحاذون ونبلاء» للمخرجة أسماء البكري، من دون أن نتحدث - ولو باقتضاب - عن كاتب رواية «شحاذون ومعتزون» الروائي المصري ألبير قصيري، ومن دون أن نتحدث عن الرواية نفسها، تلك التي أسرت الكثيرين، بأسلوبها، وصوتها المختلف، وأسرت المخرجة نفسها، فدفعتها إلى إخراجها على شكل فيلم عام 1991، فمن هو ألبير قصيري، وما فلسفته، وما فحوى روايته؟
ولد ألبير قصيري في القاهرة يوم 3 نوفمبر 1913، متحدراً من عائلة غنية نسبياً، ذات أصل إغريقي أرثوذوكسي من قرية القصير بالقرب من حمص السورية، واستقرت عائلته في القاهرة في نهاية القرن الـ 19، لتتخذ لها لقباً جديداً مستوحى من بلدتها الأصل، فأصبحت تسمى عائلة قصيري.
تابع ألبير دراسته في مؤسسات مسيحية بالقاهرة، ومنذ سن العاشرة شرع في الكتابة، وحينما بلغ 17 سنة بدأ في نشر قصص قصيرة في مجلات قاهرية.
في سنة 1938 انضم ألبير إلى مجموعة «الفن والحرية»، التي كانت أول مجموعة سوريالية في العالم العربي، بيد أن لقاء قصيري بالكاتب العالمي هنري ميلر كان حاسماً بالنسبة إليه، حيث نشر مجموعته القصصية الأولى «الرجال الذين نسيهم الرب» عام 1940، التي ترجمها ميلر نفسه إلى الإنجليزية، مقدما الكاتب كاكتشاف مميز بالنسبة إليه، وإلى القارئ الأنجلوفوني، وقد لعب ألبير كامو أيضاً دوراً في حياة الكاتب، حيث نصح إدموند شارلو بقراءة هذا الكاتب، لينبهر شارلو ويسهم في التعريف بألبير، كما أن الصحفية والناشرة جويل لوسفيلد أعادت بعثه من النسيان مرة أخرى، بحوار طويل في ثمانينيات القرن الماضي، لتتبعه بإعادة طبع كل أعماله التي هي المجموعة القصصية التي سبق ذكرها، وسبع روايات هي: 
«منزل الموت الأكيد» (1942)، «كسالى الغابة المثمرة» (1948)، «شحاذون ومعتزون» (1955)، «العنف والسخرية» (1964)، «مؤامرة المشعوذين» (1975)، «رغبة في الصحراء» (1990)، «ألوان المجاعة» (1999)، وكانت سنة 1999 هي التي قرر فيها قصيري أن يتوقف عن الكتابة، لأنه وصل إلى اقتناع مفاده أنه قال كل شيء.
نال قصيري عام 2005 جائزة بونستون من شركة «ناس الأدب» على مجموع أعماله، وأيضاً على الجائزة الكبرى للفرانكفونية، كما تم اقتباس فيلم من روايته «شحاذون ومعتزون» من قِبل المخرجة أسماء البكري، وكان من بطولة صلاح السعدني ومحمود الجندي وأحمد آدم وآخرين.
توفي ألبير قصيري يوم 22 يونيو 2008، في غرفته في نزل «لا لويزيان» في سانت جرمان دي بري، الغرفة التي اتخذها مسكناً له مدة ستين عاماً.

فلسفة قصيري من خلال روايته «شحاذون ومعتزون»
يعدّ قصيري أحد الكتاب الكبار الذين يحترمون الكتابة، فكان لا يكتب إلا عندما تمسه حاجة إلى الكتابة، ولا يقول أكثر مما يحتاج إليه، بطيئاً يرى أن الرواية يجب أن تكون بطيئة، وأن تبنى بناء سميكاً يقويه الزمن، وإنه بالتالي يضم رأيه لرأي القائلين: إن «ما يدعو إلى الدهشة حقاً، أن يذهب الروائي إلى نصه، بعدة قديمة، متجاهلاً سطوة الآن، فهو ينظر إلى نفسه في المرآة كل يوم، ثم يكتب سيرة أخرى، يتلقى بريده الإلكتروني من قارة أخرى، ويكتفي بما يشاهده من نافذته المواربة وشارعه الضيق».
وبالتالي فقد كان قصيري يعتبر روايته «فكراً» لا دخل للخيال فيه، وكان يحرص على أن يوصف بالكاتب لا بالروائي، لأنه رجل يكتب ما يفكر فيه فعلاً، ولأنه أيضاً منسجم مع أفكاره، حيث نستطيع أن نتلمس بسهولة ملامح ألبير قصيري، بين ملامح أستاذ الفلسفة الذي ترك مهمته كمدرس في الجامعة ليصبح متسولاً في حارات القاهرة، ذائباً وسط البسطاء، مستطعماً سعادة العيش بينهم، فـ«ألبير» يشبه «جوهر» بطل «شحاذون ومعتزون»، إلى حد كبير، لأن «ألبير» نفسه ترك كل عمل، ليتفرغ للعيش، والاستمتاع بدقائقه ولحظاته حد النخاع، لم يكن يعمل، وكان يعيش من عائدات كتبه، وبعض اللوحات التي يهديها له أصدقاؤه، فيبيعها وقت الحاجة.
من ناحية أخرى، وبما أن قصيري يرى في الرواية وسيلته المثلى لتمرير أفكاره، فقد جعل من الست «أمينة» امرأة متمردة على الرجل، مديرة بيت مواعيد، تتحكم في أهواء الرجال وشهواتهم، على عكس نظيرتها الست «أمينة» عند نجيب محفوظ، التي هي امرأة خاضعة، تنفذ بلا احتجاج يذكر أوامر «سي السيد»، ومن هنا فإن قصيري أراد أن يمنح للمرأة حرية ما، ويعطيها دوراً وصوتاً، مثلما أراد أن يحرر «جوهر» من رق الوظيفة ووهم المكانة الاجتماعية، وإذا كانت كل رواية «تحكي من خلال حبكتها قصة إبداعها الخاص/ قصتها الخاصة»، فإن روايات ألبير قصيري تحكي قصة واحدة، هي قصة المهمشين، المنسيين، الذين ليس لهم صوت مسموع، والذين يهمسون في زوايا الحارات، تحاول كل رواياته أن تمدّ هؤلاء بصوت ما، وأن تحكي قصصهم، وتتنفس أجواءهم، وتتلمس مواطن ألمهم، بسخرية أقرب للألم، وبألم أقرب للسخرية، فكتابة قصيري الفذّة قادرة على ذلك، وهذا ما أثار دهشة كتَّاب كبار مثل هنري ميلر وألبير كامو، والشيء المدهش حقاً هو أن قصيري لا يكتب إلا ما يؤمن به ويعتقده بل ويعيشه، ولا ينفصل عن كتابته أبداً، ولا يستعجل نتائجها، ولا يلهث وراء جائزة أو اعتراف ما من أحد، يكفيه فقط اعتراف الحياة نفسها، ويا له من اعتراف!
وخلاصة فلسفة قصيري أن الذي لا يملك شيئاً هو السعيد، لأنه ليس لديه ما يضيعه، أو يفقده فيحزن عليه، فعدم الملكية هو الحكمة، لقد كان يكره أن يكون محاطاً بالأشياء، ولذا فإنه لم يسع إلى تملّك شيء ما، لا منزل، ولا سيارة، ولا غيرها، لقد عاش في غرفة فندق «لا لويزيان» ستين عاماً، ومات هناك، من دون تركة غير كتبه، ورواياته الرائعة التي تركها لنا.

عن أسماء البكري
ولدت المخرجة أسماء البكري عام 1941، نشأت في أسرة أرستقراطية نوعاً ما، فجدها هو السكاكيني باشا، حيث عاشت في قصره الشهير، وناضلت في الفترة الأخيرة من حياتها من أجل أن يتم ترميم هذا القصر الفني الرائع والتاريخي، نضالاً لم يسفر عن شيء سوى إحباط مستمر، بعد رفض فيلمها الذي لم تتمكن من إخراجه، وهو عن رواية «خالتي صفية والدير» لبهاء طاهر، تبرز فيه خصوصاً، ذلك التسامح والتعايش بين المسيحيين والمسلمين.
بدأت مشوارها الفني عام 1973، بالعمل مساعدة مخرج، وأهم من عملت معهم حينها يوسف شاهين الذي ترك بصمة ما على أعمالها، وكان أول فيلم أخرجته هو الفيلم القصير «قطرة ماء» عام 1979، بعدها اتجهت البكري إلى إخراج الأفلام الطويلة، بتشجيع من يوسف شاهين نفسه، فأخرجت ثلاثية مميزة «شحاذون ونبلاء» (1991) و«كونشيرتو درب السعادة» (1998) و«العنف والسخرية» الفيلمان الطويلان الأول والأخير أي الثالث، مأخوذان عن روايتي «شحاذون ومعتزون» و«العنف والسخرية» للروائي نفسه وهو الراحل ألبير قصيري الذي يلقبه البعض بـ«فولتير النيل».
أخرجت البكري عدداً من الأفلام التسجيلية، منها: «قطرة ماء»، الذي حصل على ثماني جوائز، و«بورتريه» والفيلمان من إنتاجها الخاص، أما فيلم «دهشة» فتحقق بدعم الأمريكية ماري دوجن ويتحدث عن صناعة المراكب الخشبية التي تُوشك على الانقراض في النيل، فالمراكب المصنوعة من الحديد، والتي تسير بـ «الجاز» حلت محلها. كما أخرجت أسماء للتلفزيون المصري ثلاثة أفلام: «الرخام»، عن تاريخ الرخام في مصر، و«الظاهر»، ثم «الفاطميون».
ورحلت البكري في هدوء، سيج رحيلها صمت مفجع، صمت كأنه «العنف والسخرية»، صمت كبير، ذلك ما نلاحظه من خلال فيديو على اليوتيوب يعرض لحظات الدفن في مدفن السادات البكرية، حيث يترجم الغياب التام للمثقفين يومها ذلك الصمت وكأنها غربة ثانية، انعزال ثان، إقصاء أخير.

الواقع المتعدد 
إن مساءلة مجتمع الهامش، هي في أحد أبعادها الفنية العملية «الخوض عميقاً في الواقع، اختراق قشرة سطحه الخادعة غالباً، للوصول إلى ما هو جوهري وأصيل فيه»، وأحياناً ما يقسم الواقع إلى ثنائية: المركز والهامش، الحقيقة والخيال، وإذا كانت زاوية الرؤية هي التي تحدد المركز والهامش، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، فإن الثنائية الثانية الحقيقة والخيال لا تبنى فقط على زاوية الرؤية، بل هي خاضعة لاعتبارات أخرى، يتداخل فيها الخيالي بالمخيالي بالرمزي، إذ إن ما نحاول فهمه هو غير مرئي، هو موجود في العلاقات بين المرئيات والتفاعل بينها، وبالتالي فنحن لا نقرأ الواقع كما هو، بل كما يبدو لنا، «ليه هو فيه أكثر من واقع؟» يسأل الضابط، فيجيبه جوهر: «أكيد، فيه واقع صنعه الدجل» والأحكام المسبقة، والهابيتوس Habitus بتعبير بيير بورديو، والتمثل الجمعي Représentation collectif بتعبير إميل دوركايم، وهناك واقع آخر سماه جاك بيرك «المعيش الجمعي» le vécu collectif، وسماه جوهر في الفيلم تسمية رائعة هي «واقع مبهج يعكس بساطة الحياة». 
ويبدو لي أنه من المستحيل على أي علم اجتماعي أو إنساني أن يقرأ الواقع كما هو ويفهمه كما هو، لأن ما نعتبره نتيجة بحث علمي، يظل مجرد وهم قابل للنقض في أي لحظة، فالواقع الفعلي قد يكون موجوداً بين الأشياء المرئية والخفية، وفي التفاعل بينها. أستحضر هنا مقولة الروائي الكوبي كابريرا أنفتي ميغال رييرا الذي جزم بأنه ليس بإمكانه التحدث «عن شيء اسمه الواقع الآن، الواقع قد تحول في عديد من المرات إلى شيء آخر، إلى حلم، إلى كابوس»، ومنه فإنه ليس بإمكان أي صرامة منهجية أن تدعي فهمها المطلق للواقع، ومنه أيضاً نعتقد أنه على العلوم الاجتماعية أن تغامر لتفهم تلك الأشياء الخفية، وأن تعدد مناهجها في سبيل ذلك، وأن تنوع في إجراءاتها، علها تقترب قليلاً من فهم الظاهرة المراد دراستها، والاستفهامات التي يكون ممكناً طرحها.
إذن في أي منطقة نحن الآن، هل نحن في الواقع أو في ما يتجلى لنا من الواقع؟ هل نحن في الجد أم في اللعب؟ ويبدو لي أن اللعب، والكسل، والهامش، ثمرات أجدى من أضدادها، ولا نبتعد كثيراً عن كتاب للفيلسوف الهولندي فزينجا Vezinja بعنوان «الرجل الذي يلعب» L’homme qui joue، الذي اعتبر فيه الأدب كأحد أشكال اللعب، إنه لعبة اجتماعية بامتياز.
وها هو بيير بورديو Pierre Bourdieu نفسه يبين لنا أن اشتغال حقل معين مشروط بوجود رهانات وأشخاص يلعبون اللعبة، مزودين في ذلك بالهابتوس Habitus الذي يقتضي المعرفة والاعتراف بالرهانات وبالقوانين الملازمة للعبة، إلخ.
من هنا فإن هذا اللعب يسعى إلى الإرباك، إرباك الحقائق التي تبدو نهائية وخلخلتها، تعرية زوايا المسكوت عنه، رمي حجر في بحيرة راكدة، إنه شغب السؤال، ووجوب الاستفهام، «السؤال كيان مكتمل، والجواب أيا كان ناقصاً» يقول جمال الغيطاني، إننا إذن في منطقة يقين بين شكين، أو شك يتولد عنه شك آخر، إننا نحفر، نحرك، نزعج، ننبش باحثين عما وراء الظاهر، عما وراء ما يتبدى لنا، إننا نتلصص عليها، أصوات «مكتومة تحت ستار من الصمت الكاذب».
ومنه فقد قررنا بداية، أن نلعب مع الواقع لعبة الشك، أن نسائل المجتمع العربي بصورة غير مباشرة، وننزل إلى واقعه الحين الفعلي، الذي لن نستطيع رصده مهما حاولنا، بل أن نلجأ إلى ديوان العصر: الرواية، فهي التي بإمكانها أن تقربنا منه، لأنها تحكي هذا المجتمع ولا تحكيه، لأنها تنطلق من بناء لتهدم وتعيد بناء جديداً، لأنها السؤال الاجتماعي المفتوح الذي علينا ألا نهمشه، ألا نقع أسرى للسطحي وأمامنا الرواية تحاول جاهدة التوغل إلى العمق. إن الرواية في مجتمعنا العربي اليوم هي ما يمكنني أن أسميه مستعيراً من تعبير عبدالكبير الخطيبي «الهامش اليقظ» سأسميه تبعاً لذلك بـ«الواقع اليقظ».
ومنه فإن هذا الواقع اليقظ سيمكننا من قراءة وفهم الممارسات التي تبدو للبعض «هامشية» و«منحرفة»، وتساهم في بناء رؤية سليمة وواقعية للمجتمع، معتبرة أن «المجتمع الذي لا يعمل سوى على اتهام أفعال مواطنيه، بدلاً من فهمها، هو مجتمع جامد ومتكلس». ومنه فإن الفن يحاول أن يقول الطقوس، ويرسم الموزاييك الشعبي بلمسة آسرة، وبلغة بسيطة لكنها مرتبة وهادفة.

سينما الرواية...  سينما التأويل
إذا عرفنا ما سبق، واستوعبناه جاز لنا أن نخطو قليلاً للأمام وبحذر أبستمولوجي، يجب ألا ننفصل عنه أو ينفصل عنا، لنحاول أن نسرد بعض التعريفات اللغوية والاصطلاحية، وهما لا تنفصلان، لكلمة التأويل، وعملية التأويل، وهما لا تنفصلان أيضاً، ذلك أن «استدعاء الممارسة التأويلية أمر ضروري، وضرورته نابعة من ملازمته الفكر الرمزي»، كما أن «الضرورة تعني البدء من الوجود لا من العدم»، فها هو ابن عربي في كتابه «الفتوحات المكية» يجعل من التأويل «عبارة عمّا يؤول إليه ذلك الحديث الذي حدث عنده في خياله (المتلقي)، فهو ينقله من خيال إلى خيال، لأن السامع يتخيله على قدر فهمه، فقد يطابق الخيالُ الخيالَ، خيال السامع مع خيال المتكلم، وقد لا يطابق. فإذا طابق سمي فهماً عنه وإن لم يطابق فليس بفهم» والتأويل عند نصر حامد أبوزيد هو: «العودة إلى أصل الشيء، سواء كان فعلاً، أو حديثاً، وذلك لاكتشاف دلالته ومغزاه».
ولكي نقترب أكثر من فهم العملية التأويلية، أي من فهم آليات الفهم، علينا أن ننتبه للمكون الأساسي للتأويل، الذي من دونه تنعدم العملية برمتها، ألا وهو النص «الذي يخبر المتلقي فيثير لديه مجموعة من ردود الفعل التي تعمل على انبثاق معطيات جديدة تسعف في عملية التأويل ومضاعفة الفهم».
ومن ناحية أخرى فإن عملية الفهم تحيل إلى «عالمية التجربة التأويلية تعني في الأساس مجاوزة الأورغانون» (الآلة) «المنهجي الصارم الذي لا يؤسس، بأي شكل من الأشكال، حقيقة العلوم الإنسانية والتاريخية بإقرار حقيقة متجذرة في التصور والممارسة والتواصل».
فإذا كان التأويل يرسم آفاقاً للنص تقربه من المعنى، أو تفتحه على المعاني، فإنه أيضاً قراءة تمنح تعدداً ما للنص، أو تحاول أن توجه تعدده إلى اتجاه ما، وبما أنه متعدد، فهو لا يستمد حياته من «التطابق ووحدة المعنى وحتمية الحضور، وإنما في تداخل الطبقات وتشابك المجازات»، وذلك أن للنص توجهاً ما نحو الواقع، وللواقع رغبة في التجلي من خلال نص، وكلتا العمليتين غير تامة، تمتح إحداهما حضورها من الأخرى، وبالتالي فإن النصوص مهما تعالت عن واقعها فإنها «لا تستغني عن البشر في فهمها وتأويلها، أي إنها لا تفصح بذاتها عن معناها ودلالتها، وإنما ينطق بها الرجال كما قال الإمام علي بن أبي طالب» (])، وبالتالي فإننا لا نبتعد عن الصواب كثيراً إذا أكدنا أن العملية التأويلية بما هي عملية فهم، فهي في الآن نفسه عملية تمحيصية نقدية، تعلو بالفكر الإنساني، وتمنحه متسعاً من الإدراك، وتخول له التساؤل والنحت داخل المناطق المعتمة التي قد يضمرها النص، ولا يفصح عنها بسهولة، ومنه فإننا نؤكد مع الأستاذ علي حرب أن «المهمة الأولى لعمل الفكر النقدي، هي تشكيل المفاهيم التي تسهم في مقاومة ما يتكشف عنه نظام العالم من الفوضى والعماء، أو في فضح ما يتستر عليه البشر في أقوالهم ومعارفهم وممارساتهم، على اختلاف هوياتهم، من التعمية والزيف، أو من الجهل والنسيان، أو من الإرهاب والطغيان». ومنه فإنّ تعدّد القراءة يحقق إمكاناً دلالياً لم يتحقق من قبل، و«كل قراءة هي اكتشاف جديد، لأنّ كل قراءة تستكشف بعداً مجهولاً من أبعاد النص، أو تكشف النقاط عن طبقة من طبقاته الدلالية»، فلا حياد إذن في القراءة، بل تصبح «كل قراءة لنص من النصوص هي قراءة فيه، أي قراءة فاعلة منتجة، تعيد تشكيل النص، وإنتاج المعنى، ولهذا نقول إنّ القراءة الحرفية هي خدعة، اللهم إلا إذا كانت تعني التكرار الأجوف أو الصمت، أي اللا قراءة».
ومنه فإن العملية التأويلية كما يقول محمد مفتاح: «لها رهان تريد أن تعززه وتسنده، أو أن تخلقه وتصطنعه اصطناعاً، وللفوز بالرهان لابد من الانتصار على المعوقات مهما اختلفت أصنافها وأنواعها، ولتحقيق النصر، فإنها تلتجئ إلى وضع مبادئ وصوغ قوانين لتضبط في ضوئها نفسها وتحاكم خصومها إذا تجاوزوا تلك القوانين وهتكوا حرمتها.
إن التعرض لمفهوم التأويل والتأويلية سيقود حتماً إلى مفاهيم مرافقة، لا يمكن التغاضي عنها، مثل: السياق Le contexte، وتعدد الأصوات La Polyphonie، وذلك أن استدعاء الممارسة التأويلية يتطلب الانتباه إلى ذلك، فالنصوص حينما تتأنسن تعتريها خصائص الأنسنة، ونستأنس هنا إلى ما قاله نصر حامد أبوزيد في هذا الصدد حين أشار إلى المستوى مرجعاً الانتباه أثناء عملية تأويل النصوص إلى كونها قد تغير مستوى النظر إليها، لأنها «تأنسنت» منذ تجسدت في التاريخ واللغة، وتوجهت بمنطوقها ومدلولها إلى البشر في واقع تاريخي محدد. إنها محكومة بجدلية الثبات والتغير، فالنصوص ثابتة في «المنطوق» متحركة متغيرة في «المفهوم».

«شحاذون ونبلاء»... صوت مجتمع الهامش
بماذا تعج تلك الهوامش؟ أو ما هو المسكوت عنه هنا؟ يمكننا أن نشير هنا إلى بعض صور ذلك الواقع الذي لا يتحدث عن نفسه كثيراً، والذي يحتاج إلى روائي عميق كي يحفر عنه، ويحتاج إلى سينمائي مجيد كي لا يخرجه في صوره الأكثر ابتذالاً، هنا وفق ألبير قصيري، لأنه روائي لا يسعى إلى الشهرة، ولا يدعي، ولا يحب الظهور، مثله تماماً مثل بطل روايته، أستاذ الفلسفة «جوهر»، وهنا أيضاً وفقت أسماء البكري في اختيارها لزوايا المشاهد، في الفضاء، في الألوان، في دقتها، المشاهد لا تقول الواقع مباشرة، بل توحي، وتستثير التأويل والقراءة الجادة.
التأويل هنا يحتاج إلى مُشاهد يتفاعل فعلاً مع المشاهد، لا مجرد مُشاهد فارغ، يبحث عن متعة سطحية، وأحداث فارغة.
أهم النقاط التي يمكن من خلالها رسم صورة «المسكوت عنه» الذي قالته المخرجة بطريقة «مسكوت عنها»، ويبدو أن كاتب السيناريو، الذي لم يكن شخصاً آخر غير الروائي قصيري نفسه، قد فهم فلسفة أسماء البكري مثلما فهمته هي تماماً، فجاءت معالجة المثلية عن طريق رسم شخصية ضابط الشرطة (عبدالعزيز مخيون) بطريقة رائعة، حيث نلمح غضب صديقه «سمير» منه، كاشفاً بذلك عن صراع حاد، يصل إلى درجة الفصام في شخصية الضابط، هذا الفصام الذي قد ينفتح على تأويلات متعددة في علاقة السلطة بالمجتمع أو الحاكم بالمحكوم.
هذا الفصام الذي استطاع «جوهر» تلخيصه في كلمات، حين سأله الضابط قائلاً:
«وإيه هي راحة البال»؟
فيجيبه جوهر في ثقة: «اللي انت بتدور عليها».
هذه الحيرة التي نشأت من طبيعة الضابط كإنسان، ومهنته القاضية بتتبع مجرمين، خدمة لسلطة هو غير مقتنع بها، تكشفها لقطات عدة من الفيلم، موضحة آليات الهيمنة، حين تبدأ في التفكك أمام الأبعاد الإنسانية العميقة، هي الأسئلة التي طرحها الفيلم في أكثر من لحظة من لحظاته، فها هو «الكردي» يعترف بأنه هو من «أرنبة»، ليس لأنه هو القاتل، بل لأسباب عدة من ضمنها إلى جانب أنه «إنسان حالم متأثر بالأدب الغربي»، كما يصفه «جوهر»، أنه يريد أن يقدم حلاً للضابط الذي استبدت به الحيرة، وذلك بعد أن عرف أن هذا الضابط يستحق الشفقة أيضاً، وتلك هي السلطة التي تحيد عن فهم العلاقات الإنسانية داخل الجماعة التي تتسلط عليها.
وهكذا نلاحظ أن الفيلم، انطلق من مسألة مسكوت عنها هي المثلية داخل المجتمع، إلى تفكيك علاقات الهيمنة والخضوع داخل المجتمع، ومختلف التمظهرات التي تبرز من خلالها الحيرة في كل طرف من طرفي المعادلة.
مسألة أخرى أراد الفيلم تمريرها هي «سلطة المرأة»، ففي الوقت الذي تظهر فيه المرأة مستضعفة تسعى إلى تطوير مكانتها لتساويها بالرجل، في ذلك المجتمع الشرقي، وهي الصورة التي كرستها «ست أمينة» عند نجيب محفوظ في «الثلاثية»، في مقابل صورة «سي السيد» المتسلط، نجد أن أسماء البكري، ومن ورائها الروائي قصيري، يقلب الطاولة على الجميع، حين يضع المرأة وبالاسم نفسه «ست أمينة» مديرة لبيت المتعة، الذي تمارس من خلاله سلطتها على الرجال، إنها تتحكم في مصائر، وتدير شؤوناً، حينما تنشئ علاقات مع رواد بيتها، الذين فيهم الموظف «المحصل قريب الوزير»، والمخبر «المتخفي على شكل تاجر محترم»، والكردي «الموظف عند الحكومة»، وجوهر «أستاذ الفلسفة المستقيل»، كل هؤلاء يدورون في فلك الست أمينة، ومن هنا من الطبيعي أن تكون بؤرة حدث الفيلم «اغتيال البنت أرنبة»، الغانية القادمة من «صندوق بريد شبين الطوب»، والتي لم تعرف المدرسة «تفتكر يعني المدرسة كانت حتوظفني هنا؟»، تكون بؤرة الفيلم في بيت «ست أمينة»، فاختيار هذا المكان لم يكن اعتباطاً، فجل أحداث الفيلم الرئيسة تدور فيه، هنا بإمكاننا أن نلجأ إلى بيير بورديو، لنعمق فهمنا لهذا المكان أكثر من خلال «الرمزيات»، السلطة الرمزية Autorité symbolique الممثلة في الست أمينة وجوهر، في مواجهة السلطة الرسمية الممثلة في ضابط الشرطة.
يحملنا الفيلم أيضاً إلى استفهام صريح ومباشر حول مفهوم «السعادة»، هل نعيش السعادة حينما نحاط بكل أسباب الرفاهية والأشياء المادية، أم عندما نكون خلواً من كل ذلك؟ وطبعاً الروائي قصيري ينتصر إلى الرأي الثاني، إلى لا جدوى المادة، ولا جدوى الكماليات التي تزيد على الحاجة، الحاجة التي تكاد تتطابق مع العدم، مثلما هي غرفة «جوهر» تماماً، غرفة خالية من فراش للنوم فقد كان يفترش الصحف، والمؤثثة بموقد نار وبضعة «مواعين» لإعداد الشاي وتناول طعام بسيط، «جوهر» الذي ترك الماديات بحثاً عن سعادة حقيقية بين الشحاذين، والعمال البسطاء، والمجاذيب الذين يتمتعون بدفء الشمس، دون أن يحملوا هماً لشيء، ذلك هو رأسمال الرمزي Le capital symbolique الذي سيسعى «جوهر» إلى الدفاع عنه، ويسعى ضابط الشرطة إلى فهمه من خلال أحداث الفيلم، هذا الضابط الذي ينتهي في الأخير إلى الاقتناع بوجهة نظر «جوهر»، فيترك وظيفته، ويمشي حافياً وسط الحفاة. 

خاتمة
كثيراً ما قرئ فيلم أسماء البكري على أنه دعوة إلى ثورة على السلطة السياسية، لكن يبدو لنا من خلال هذا المقال أنه دعوة إلى فهم «مجتمع الهامش» الذي يساء فهمه، حينما يتم الاقتراب له من عَلٍ، إن فهم الإنسان غاية كل فن، وخلود العمل الفني ليس له ضابط إلا مدى اقترابه من سبر غور الإنسان، فكلما كان العمل إنسانياً، كان مجيداً، وذلك ما باح به يكن في آخر الفيلم، قائلاً للضابط: «الإنسان هو محور اهتمامنا».
ولعل في الاقتراب من عوالم السينما الروائية العربية التي تجسد «مجتمع الهامش»، دعوة حقيقية إلى فهم هذا الأخير فنياً واجتماعياً، فيؤدي بذلك الفن السينمائي دوره الحقيقي تجاه المجتمع، ويتفاعل المجتمع معه لأنه لمس جوهره، وحرك دواخله، وزرع فيه الاستفهامات الحقيقية، التي ليست شيئاً آخر سوى أسئلة الوجود ■