اللحظات التي صنعت الأفلام

اللحظات التي صنعت الأفلام

ما‭ ‬إن‭ ‬نغادر‭ ‬قاعة‭ ‬السينما،‭ ‬بعد‭ ‬أي‭ ‬فيلم،‭ ‬عربي‭ ‬أو‭ ‬أجنبي،‭ ‬حتى‭ ‬يبدأ‭ ‬كل‭ ‬منا‭ ‬في‭ ‬تذكر‭ ‬المشهد‭ ‬الذي‭ ‬يحسبه‭ ‬قمة‭ ‬الدراما‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬السينمائي،‭ ‬أو‭ ‬اللقطة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنسى،‭ ‬أو‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬اكتشف‭ ‬فيها‭ ‬العقدة‭ ‬السينمائية،‭ ‬هذه‭ ‬كلها‭ ‬توجز‭ ‬لنا‭ ‬كيف‭ ‬أن‭ ‬الفيلم‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يمتد‭ ‬زمنه‭ ‬إلى‭ ‬الساعتين،‭ ‬ربما‭ ‬لا‭ ‬تخلد‭ ‬منه‭ ‬سوى‭ ‬مشاهد‭ ‬لا‭ ‬تتخطى‭ ‬ثواني،‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬الدقائق‭ ‬على‭ ‬أغلب‭ ‬التقدير‭. ‬لذلك‭ ‬كان‭ ‬كتاب‭ ‬الناقد‭ ‬السينمائي‭ ‬ديفيد‭ ‬تومسون‭ ‬‮«‬اللحظات‭ ‬التي‭ ‬صنعت‭ ‬الأفلام‭ ‬‮»‬‭ ‬محاولة‭ ‬لجعلنا‭ ‬ندرك‭ ‬الأسباب‭ ‬وراء‭ ‬اختياراتنا،‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬شك،‭ ‬هي‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬شخصيتنا‭ ‬وثقافتنا‭ ‬وتذوقنا‭ ‬للفيلم‭.‬

على‭ ‬غلاف‭ ‬الكتاب‭ ‬يظهر‭ ‬حمَّام‭ ‬سباحة‭ ‬مضاء‭ ‬من‭ ‬أسفل،‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬خارجي‭ ‬ليلي،‭ ‬تطفو‭ ‬على‭ ‬سطح‭ ‬المياه‭ ‬جثة،‭ ‬نتعرف‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬ظلها،‭ ‬وندرك‭ ‬أن‭ ‬صاحبها‭ ‬فارق‭ ‬الحياة‭. ‬إنه‭ ‬جو‭ ‬جيليس‭ ‬يطفو‭ ‬ووجهه‭ ‬للأسفل‭ ‬في‭ ‬حوض‭ ‬سباحة‭ ‬منزل‭ ‬نورما‭ ‬ديزموند،‭ ‬من‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬ميدان‭ ‬الغروب‮»‬،‭ ‬الصورة‭ ‬بالأسود‭ ‬والأبيض،‭ ‬وحين‭ ‬تحدق‭ ‬في‭ ‬الصورة‭ ‬بصمت،‭ ‬يأتيك‭ ‬صوت‭ ‬الراوي‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬البطل‭ ‬الذي‭ ‬انتهى‭ ‬في‭ ‬فيلا‭ ‬نجمة‭ ‬سينمائية‭ ‬بسبب‭ ‬طلقتين‭ ‬في‭ ‬ظهره‭ ‬وواحدة‭ ‬في‭ ‬بطنه،‭ ‬كما‭ ‬تقول‭ ‬الحكاية‭ ‬التي‭ ‬فاز‭ ‬فيلمها‭ ‬بأحد‭ ‬عشر‭ ‬ترشيحا‭ ‬لجوائز‭ ‬أوسكار‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1951‭.‬

هكذا‭ ‬يختار‭ ‬ديفيد‭ ‬تومسون‭ ‬أفلامه،‭ ‬وصور‭ ‬الكتاب‭ ‬التي‭ ‬بلغت‭ ‬71‭ ‬صورة‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬اختياراته‭ ‬المتنوعة،‭ ‬ويأخذ‭ ‬نمط‭ ‬التحليل‭ ‬لديه‭ ‬وقتا‭ ‬طويلا،‭ ‬حيث‭ ‬بلغ‭ ‬حجم‭ ‬الكتاب‭ ‬303‭ ‬صفحات‭ ‬للناقد‭ ‬السينمائي‭ ‬والمؤرخ‭ ‬البريطاني‭ ‬المولد‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬هوليوود‭ ‬على‭ ‬البر‭ ‬الأطلسي‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬عقود،‭ ‬زادتها‭ ‬خبرة‭ ‬سعة‭ ‬الاطلاع‭ ‬وقوة‭ ‬الرأي‭ ‬ووضوح‭ ‬الرؤية،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬حيوية‭ ‬الكتابة‭ ‬التي‭ ‬يبحث‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬سحر‭ ‬الشاشة‭ ‬بساحر‭ ‬الكلمات‭.‬

‭ ‬يأتي‭ ‬‮«‬اللحظات‭ ‬التي‭ ‬صنعت‭ ‬الأفلام‮»‬‭ ‬عكس‭ ‬كتب‭ ‬تومسون‭ ‬الأخرى،‭ ‬فهو‭ ‬كتاب‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يقدم‭ ‬مسحًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬لعدد‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬الأفلام،‭ ‬ليحدد‭ ‬لنا‭ ‬كيف‭ ‬اختار‭ ‬هذا‭ ‬المشهد،‭ ‬ويربطه‭ ‬زمنيا‭ ‬بسياقه‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وتاريخيا‭ ‬بشخصياته‭.‬

من‭ ‬خلال‭ ‬تصفح‭ ‬الصفحات،‭ ‬يركز‭ ‬تومسون‭ ‬على‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬Psycho‮»‬‭ ‬ويقول‭: ‬‮«‬إن‭ ‬مشهد‭ ‬الدش‭ ‬الشهير‭ ‬ليس‭ ‬هو‭ ‬الدليل‭ ‬الذي‭ ‬يريد‭ ‬التحدث‭ ‬عنه،‭ ‬ولكنه‭ ‬المشهد‭ ‬السابق‭ ‬عليه،‭  ‬حيث‭ ‬يتناول‭  ‬ماريون‭ ‬كرين‭ / ‬جانيت‭ ‬لي‭ ‬العشاء‭ ‬أثناء‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬مكتب‭ ‬بيتس‭ ‬موتيل‭ ‬مع‭ ‬نورمان‭ ‬بيتس‭ / ‬أنتوني‭ ‬بيركنز‮»‬‭. ‬يسمي‭ ‬تومسون‭ ‬هذا‭ ‬بالمشهد‭ ‬الرائع،‭ ‬الذي‭ ‬يؤثر‭ ‬في‭ ‬مجمل‭ ‬الفيلم‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يستمر‭ ‬مع‭ ‬أطروحة‭ ‬مثيرة‭ ‬للاهتمام‭ ‬حول‭ ‬طريقة‭ ‬هيتشكوك‭ ‬التي‭ ‬يحبها‭ ‬في‭ ‬التهيئة‭ ‬اللطيفة‭  ‬قبل‭ ‬لحظات‭ ‬الرعب،‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬الهدوء‭ ‬الذي‭ ‬يسبق‭ ‬العاصفة‭. ‬

هذه‭ ‬المشاهد‭ ‬السوابق‭ ‬للأحداث‭ ‬اللواحق‭ ‬تأتي‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬بوني‭ ‬وكلايد‮»‬‭. ‬يحدد‭ ‬تومسون‭ ‬توقعاته‭ ‬على‭ ‬الفور‭: ‬‮«‬أنت‭ ‬تعرف‭ ‬جيدا‭ ‬كيف‭ ‬كنت‭ ‬أعتقد‭ ‬أنني‭ ‬ذاهب‭ ‬بالتأكيد‭ ‬لاختيار‭ ‬مشهد‭ ‬لتبادل‭ ‬إطلاق‭ ‬النار،‭ ‬ولكن‭ ‬مع‭ ‬المتابعة‭ ‬حتى‭ ‬النهاية،‭ ‬نجده‭ ‬يفضل‭ ‬تحليل‭ ‬مشهد‭ ‬آخر‭ ‬حيث‭ ‬يأخذ‭ ‬الشاب‭ ‬كلايد‭ / ‬ارن‭ ‬بيتي،‭ ‬الفتاة‭ ‬بوني‭ / ‬فاي‭ ‬دوناواي‭ ‬إلى‭ ‬المقهى‭ ‬ليخبرها‭ ‬بوجوب‭ ‬تغيير‭ ‬طريقة‭ ‬تصفيف‭ ‬شعرها‭ ‬المجعد‮»‬‭. ‬إنه‭ ‬فيلم‭ ‬عن‭ ‬وارن‭ ‬وفاي،‭ ‬يصنع‭ ‬في‭ ‬هوليوود‭ ‬ولذلك‭ ‬يكتسب‭ ‬أهمية‭ ‬لأنه‭ ‬مشهد‭ ‬هوليوودي‭. ‬لحظة‭ ‬بلحظة،‭ ‬يأتي‭ ‬كل‭ ‬بيان‭ ‬يستحق‭ ‬النظر،‭ ‬لأن‭ ‬قائله‭ ‬ناقد‭ ‬يحظى‭ ‬باحترام‭ ‬كبير،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬هو‭ ‬محل‭ ‬تقدير،‭ ‬وهو‭ ‬هنا‭ ‬يتحدى‭ ‬اختياراتنا‭ ‬البسيطة‭ ‬التي‭ ‬تميل‭ ‬للمباشرة،‭ ‬كما‭ ‬يحدث‭ ‬حين‭ ‬نختار‭ ‬مشهد‭ ‬إطلاق‭ ‬النار‭ ‬الأقرب‭ ‬للإثارة‭ ‬من‭ ‬مشهد‭ ‬الحوار‭ ‬في‭ ‬المقهى،‭ ‬لكنه‭ ‬يعطي‭ ‬درسا‭ ‬للتأمل‭  ‬مع‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬أسلوب‭ ‬التخاطب‭ ‬وجها‭ ‬لوجه‭ ‬إلى‭ ‬قارئ‭ ‬وهمي‭.‬

يصبح‭ ‬الكتاب‭ ‬أكثر‭ ‬تعسفا‭ ‬حين‭ ‬يستعرض‭ ‬المؤلف‭ ‬بين‭ ‬عناوين‭ ‬القرن‭ ‬الـ21،‭ ‬وهنا‭ ‬تظهر‭ ‬اختيارات‭ ‬لعام‭ ‬2008‭ ‬الكوميدية‭ ‬​​‮«‬الحرق‭ ‬بعد‭ ‬القراءة‮»‬‭ ‬كواحد‭ ‬من‭ ‬أطرف‭ ‬الأفلام‭ ‬التي‭ ‬صنعت‭ ‬العالم‭ ‬السينمائي‭ ‬لهذا‭ ‬القرن‭.‬

ولد‭ ‬ديفيد‭ ‬تومسون‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬عام‭ ‬1941،‭ ‬وهو‭ ‬يقيم‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬منذ‭ ‬أوائل‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬ويعد‭ ‬أحد‭ ‬أكثر‭ ‬الكتَّاب‭ ‬حيوية،‭ ‬وإنتاجية،‭ ‬واستفزازية‭ ‬وجرأة،‭ ‬بين‭ ‬نقاد‭ ‬الفيلم‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬40‭ ‬عاما،‭ ‬كتبه‭ ‬بدءا‭ ‬من‭ ‬سيرة‭ ‬ديفيد‭ ‬أو‭ ‬سلزنيك‭ ‬إلى‭ ‬دراسته‭ ‬عن‭ ‬نيكول‭ ‬كيدمان،‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬كتابه‭ ‬الذي‭ ‬بين‭ ‬أيدينا‭ ‬عن‭ ‬اللحظات‭ ‬التي‭ ‬تصنع‭ ‬الأفلام‭. ‬في‭ ‬‮«‬اللحظات‭ ‬التي‭ ‬صنعت‭ ‬الأفلام‮»‬،‭ ‬تتناغم‭ ‬نظرة‭ ‬تومسون‭ ‬لرائعة‭ ‬جون‭ ‬بيكرسون‭  ‬Binx،‭ ‬وكذلك‭ ‬رواية‭ ‬مُشاهد‭ ‬الأفلام،‭ ‬The Moviegoer‭, ‬رواية‭ ‬ووكر‭ ‬بيرسي‭ ‬الفلسفية‭ ‬التي‭ ‬فازت‭ ‬بجائزة‭ ‬الكتاب‭ ‬الأمريكي‭ ‬للعام‭ ‬1962،‭ ‬ليحدد‭ ‬لنا‭ ‬مشهده‭ ‬المفضل‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬الرجل‭ ‬الثالث‮»‬،‭ ‬ذلك‭ ‬المشهد‭ ‬الذي‭ ‬يستغرق‭ ‬وقتا‭ ‬طويلا‭ ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬حيث‭ ‬ينتظر‭ ‬هولي‭ ‬مارتينز‭ ‬آنا،‭ ‬صديقته‭ ‬السابقة،‭ ‬بينما‭ ‬تمشي‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬مقبرة‭ ‬في‭ ‬فيينا‭ ‬بطقس‭ ‬شتوي‭. ‬من‭ ‬متع‭ ‬القراءة‭ ‬لهذا‭ ‬الكتاب‭ ‬أننا‭ ‬حين‭ ‬نقلب‭ ‬صفحات،‭ ‬نتساءل‭: ‬ما‭ ‬هو‭ ‬الفيلم‭ ‬القادم؟‭ ‬ونبدأ‭ ‬تخمين‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬لحظاتنا‭ ‬الأثيرة‭ ‬تتزامن‭ ‬وتتطابق‭ ‬مع‭ ‬اختيارات‭ ‬الناقد‭ ‬الكبير،‭ ‬كما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬كازبلانكا،‭ ‬أو‭ ‬سواه،‭ ‬ولكن‭ ‬يمكننا‭ ‬التنبؤ‭ ‬بالفكرة‭ ‬التي‭ ‬تكون‭ ‬لحظات‭ ‬الأفلام،‭ ‬وتقترب‭ ‬من‭ ‬حكمة‭ ‬الكتاب‭ ‬حول‭ ‬أنها‭ ‬اللحظة‭ ‬الأكثر‭ ‬تعبيرا‭ . ‬وما‭ ‬علينا‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬نتذكر‭ ‬تلك‭ ‬الدقائق‭ ‬أو‭ ‬الثواني‭ ‬القليلة‭ ‬السحرية‭ ‬التي‭ ‬تلتصق‭ ‬في‭ ‬ذهننا،‭ ‬بينما‭ ‬هناك‭ ‬سلسلة‭ ‬طويلة‭ ‬في‭ ‬طي‭ ‬النسيان‭.‬

ثلاثة‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬70‭ ‬فيلما‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬السينما‭ ‬الصامتة‭ (‬دراير‭ ‬في‭ ‬آلام‭ ‬جان‭ ‬دارك،‭ ‬مورناو‭ ‬في‭ ‬شروق‭ ‬الشمس،‭ ‬صندوق‭ ‬باندورا‭ ‬لبابست‭). ‬كما‭ ‬توجد‭ ‬لحظات‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬الجنس‭ ‬الفكاهي،‭ ‬لمثيرة،‭ ‬وماسوشية،‭ ‬والكوميديا‭ ‬​​الخشنة‭ ‬من‭ ‬النشوة‭ ‬الوهمية،‭ ‬حين‭ ‬تلتقي‭ ‬ميغ‭ ‬رايان‭ ‬مع‭ ‬هاري‭ ‬سالي‭. ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬أناقة‭ ‬الكتاب‭ ‬تجعلك‭ ‬تحس‭ ‬أنك‭ ‬في‭ ‬قاعة‭ ‬سينما‭ ‬وتأتي‭ ‬الاختيارات‭ ‬مثل‭ ‬أضواء‭ ‬على‭ ‬شاشة‭ ‬العرض‭ .