زريــاب المغنّي في الأندلس

زريــاب  المغنّي في الأندلس

الموسيقى فن جميل جداً، يعرّفنا بشخصيّة ومشاعر شعب، وهي في الثقافة الإسلاميّة العربيّة، تشكّل إلى جانب الآداب، واحدة من أهم صيغ التعبير عن رقي حضارة الأندلس، جسّدت فيها عظمة قرطبة الأمويّة، الروح الإسلاميّة التي ملأ سناها الكَون، وقد تحوّلت الأندلس مع وصول زرياب المغني إليها، حاملاً تراث بغداد، إلى جزيرة شرقيّة فريدة الشخصيّة والجمال، كما يشير المؤرّخ أنطونيو برييتو، الذي يعتبر أن الجد الثلاثين لكل إسباني شخص مسلم.

لا يمكن للباحث في الحـضــــارة الأندلسيّة، أن يغفل الكلام عن الدور البـــارز والحاسم، الذي لعبه زرياب في الحياة العامّة للأندلس، كان ظهيره القوي فيها عبدالرحمن الثاني، الذي كان مثل جدّه وأبيه، راعياً للآداب والفنون، تحوّلت قرطبة في زمنه، إلى جنّة أرضيّة، كما يكتب معاصره اللاهوتي المسيحي سان أولوخيو.
والواقع أن شخصيّة «الشحرور الأسود» الفريدة، أثرت بقوة وعمق في تاريخ عصر، وتركت بصماتها الخالـــــدة فوق حياتـــه، التي غيّرت كلّياً ملامحها، ودمغـــتــــها نهائيــــاً بالطابع الإسلامي الشرقي، حتــــى صار يمكنــــنا القول «الأندلس ما قبل زرياب، ومــــا بعـــده»، وذلك وفق رأي الباحث خيسوس غـــريوْس، الــــذي يعتبر في كتابه «زرياب واستحضار الأندلس» الصادر عام 2006م، أن وصول زريــــاب إلــــى قرطبة عام 822 م، يجسّد الطـــــور الأوّل للــــسنا الثقافي الأندلسي، حدثت فيه ثورة اجتماعيّة وفنّية، واكتســـب خلاله مفــــهوم الجماليــــة معنىً جديداً، لـــــم يكُن موجوداً، وبلغ خلاله التأثـــــير الموسيقي في حياة الجــــماعة وبشـــكــــل مدهش، أوجه.
 وتكاملت الجماعة بعفويّة مع الفنــــان العظيـــــم، لينسج هذا التكامل شفافية المــــشاعر الإنسانيّة، والـــــجمال الفريد للحياة اليوميّة، في قرطبة الأمويّة، جوهرة العالم الفريدة آنذاك.

في قرطبة
أكثر من معروفة في الثقافة العربيّة، هي قصّة حسد إسحاق الموصلي لزرياب، ودفعه لمغادرة البلاط العبّاسي في بغداد، لكن عنوان ما هو غير معروف كفاية، يبقى الثورة الاجتماعيّة والفنية، التي أشار إليها غريوْس، والتي مازالت موضوعاً لدراسات الباحثين الغربيين، المهتمّين بالتراث الإسلامي الأندلسي، ومن أبرزهم الفرنسي روجيه جارودي، الذي أضاف جديداً مهماً إلى ما نعرف.
في عام 813 م، يغادر زرياب المغني – هو أيضاً شاعر وأديب، فلكي وجغـــرافي، وكان يعرف كلمات وألحان عشرة آلاف أغنــــية– بغداد، وينتقل بين سورية، مصر، وشمال إفريقيا، حيث يمكث فترة في بلاط الأغالبة في القيروان، سبقته إليه شهرته العظيمة ويصل في عام 822م إلى قرطبة، التـــــي وجد فيها مكانه في الدنيا، بعد تــــسع ســـنوات مــــن الترحال إلى اللامكان، بقــــيت آنذاك وراء ظــــهره، لتبدأ في حياته مرحلة جديدة لعطاء ومجد، نادراً ما يعيشهما فنان أو أديب، في أرض صارت بالنسبة إليه وطناً، واختار ألا يغادرها أبداً.
في قرطبة، يستقر زرياب ثلاثين عاماً، وقد كرّمه عبدالرحمن الثاني أعظم تكريم، إذ خرج شخصياً للقائه، قدّم له قصراً، ومنحه مائتي دينار ذهبية شهرياً، وألف دينار هدية في مناسبة الأعياد الإسلاميّة، وخمسمائة أخرى كان يقدمها إليه في عيدَي المهرجان والنيروز، كل ذلك، إضافة إلى مائتي مكيال من الشعير، ومائة مكيال من القمح، كما وهبه أيضاً مزارع وقرى، قُدِّر ثمنها بأربعين ألف دينار. واتّخذه عبدالرحمن الثاني صديقاً حميماً، وكان أكيداً، أنه ليس في العالم كله، صوت يشبه صوته، وظلّ ظهيره القوي في كل عمل يقوم به، فكان للتقدير والدعم الرسميين له، وعلى أعلى المستويات، ثقلهما في المجتمعين الأرستقراطي والشعبي، اللذين كانا أرضاً صالحة لتبني التقليد الشرقي في الأندلس، ولتكوين شخصيّتها الأصيلة من خلاله، وقد بعث فيها زرياب روح الإبداع والتجديد، مبادلاً قرطبة عطاء بعطاء وحبّاً بحُبّ، منصرفاً مع أولاده الأربعة الذين هاجروا معه، والأربعة الآخرين الذين وُلدوا في العاصمة الأمويّة، إلى تعليم الموسيقى في مدارس قرطبة وإشبيلية، بالنسيا وغرناطة، وفــي مـــدن أخرى.

التأثير الاجتماعي
تعلّمنا بسطحيّة في كتـــبنا المدرسية، أن زرياباً (أبوالحسن علي بن نافع 173 ﻫ - 789م /243 هـ – 857م)، أثر في حياة الأندلس الفنيّة، وقد نقل إليها العود، الآلة الموســــيقيّة الإسلاميّة الطابع بشكل خاص. 
والواقع أنّ تأثير زرياب الاجتماعي مهم أيضاً، ويتكامل مع تأثيره الفني، لتكوين الشخصيّة الإسلاميّة والنهائيّة للأندلس، التي كانت حدودها حينذاك، تشمل جزءاً كبيراً من خريطة إسبانيا الحاليّة، مِمّا أتاح أن يتعرّف مسيحيّو الشمال، والشمال الشرقي كما الغربي، إلى عادات اجتماعية إسلاميّة جديدة، تبناها الملوك في قصورهم، وانتقلت بالتالي إلى أوربا، متجاوزة جبال البيرينه.
من بغداد العباسيّة، نقل زرياب إلى الأندلس الأمويّة، العادات الاجتماعيّة التي تشمل في ما تشمل، طريقة اللباس، وآداب المائدة، التي لم يتغيّر نمطها منذ عهد الإمــبراطوريّة الرومانيّة.
في الأندلس، اخترع زرياب معجون الأسنان، الذي لم تعرف مكوّناته في ما بعد، وأدخل إليها مزيل الرائحة من تحت الإبطَين، وعادة حلق الذقن المختصّة بالرجال، وصَمَّم تسريحات وأزياء نسائيّة، سحرت نساء البلاطات، وعلّم الأندلسيين الاعتناء بالخيول ولعبة الشطرنج.
ويستوقفنا من بين الأبحاث الكثيرة التي تناولت تأثير زرياب في اللباس الأندلسي، ما وقّعه ميغيل هرناندير في كتابه «إسلام الأندلس» (يقع في 645 صفحة، ختمها بعبارة الحمد لله). كما المؤرّخ الفرنسي تيرازا ديل هنريو.
يذكر الأوّل، أن الأندلسيين كانوا يلبسون عادة الصوف والكتّان، لكن الحرير أو النسيج المخلوط بالخيوط الحريريّة، لم يكُن معروفاً، وأصبح «موضة» نقلها زرياب من بغداد، ومذاك صار يُلبس في القصور، إضافة إلى نسيج التفتا والمخمل، الذي كان يحمل الدمغة الملكيّة.
ويضيف الباحث، أن هذا القماش الشرقي الإسلامي الطابع، كان يعجب ملوك ونُبلاء وأكليروس المسيحيين، وكانوا يلبسونه كما يرتدون الأزياء الأندلسيّة، وظلت هذه الأقمشة تصدر إلى الممالك المسيحيّة، حتى سقوط مملكة غرناطة، وبقي المدجنون والموريسكيون يلبسونها في ما بعد.
ويشير ديل هنريو إلى أن زرياباً أدخل الثياب الشرقيّة الفاخرة إلى إسبانيا، ومنها ثياب الشتاء والصيف ونصف الفصول، وحدّد الزمن الذي يجب أن تُرتدى فيه، ووفق المواقتة اليوميّة، أي صباحاً، بعد الظهر ومساء: كانت الثياب الشتوية سميكة وداكنة الألوان، أما الصيفيّة البيضاء، فكانت من القطن، الحرير والكتّان، وفاتحة الألوان. وبتأثير من زرياب، نشأت صناعة الأقمشة، وأُنتجت العباءات المقلّمة والملوّنة، التي مازالت تلبس في مراكش.
أما غريوْس، فيوضح أن الذوق المرهف في تحضير المائدة، كان من جملة المفاهيم الجمالية التي أدخلها زرياب إلى الأندلس، ولم تكن معروفة قبلاً.
تخلت الأندلس عن تقليد فظاظة موائد القصور الأوربية، التي كانت بلا تزيين، توضع صحونها فوق قماش سميك، وصار نُبلاء قرطبة والنافذون فيها، يجلسون إلى موائد مدّت عليها شراشف من الجلد الناعم، ويشربون بأقداح بلورية شفافة، أوحى جمالها قصائد إلى الشُعراء، وحلّت محل الأقداح الذهبية والقضية.
ويذكر أنطونيو مولينا، أن زرياباً ترك بصماته فوق آداب المائدة، وأوجد نظاماً جديداً، لكيفيّة تناول الطعام، يُلاحظ في ترتيب الموائد الأوربيّة: الأطباق أصبحت تُقدّم، واحداً بعد الآخر، وتشمل الحساء، المقبلات، السمك أو اللحوم، والفاكهة أو الحلويات.
وقد عرّف زرياب الأندلسيين بالهليون، وأورث قرطبة طبقاً يحمل اسمه «زريابي»، مصنوعاً من الفول المملح والمشوي.

التأثير الموسيقي
أثّر زرياب كثيراً في الحياة الاجتماعيّة الأندلسيّة، كما وضّحنا، لكنه كان قبل كل شيء، موسيقيّاً نابغة وعظيماً، نادراً ما نقع على فنان يشبهه في تاريخ الفنون العالميّة، ويؤثّر بقوّة في حياة مجتمعه، ليتجاوز تأثيره حدود المكان والزمان، ويستوطن أرض الخلود. 
في بغداد، كان زرياب تلميذاً مميّزاً للموسيقيين الكبار في بلاط هارون الرشيد، مثل إبراهيم الموصلّي وابنه إسحاق، وكان عارفاً بموسيقى المشرق العربيّة الكلاسيكيّة – السواط، ولذلك يعتبر رحيله إلى الأندلس ذا أهميّة أساسيّة في تاريخ الموسيقى الأندلسيّة، التي كانت تتجاذبها حينذاك نزعتان: الأولى يمثّلها اللون الأهلي، وطابعها الغنائية الشعبيّة، والغناء الكنسي - الغريغوري، والقوطي - المستعرب، ذو التأثير البيزنطي. وكانت النزعة الثانية، ذات منشأ إفريقي – شرقي، هي صدى أنماط موسيقيّة عدة، تعزف في بعض المراكز الثقافيّة المغربيّة والشرقيّة، كالمدينة، بغداد والقيروان، وتنشرها في الأندلس القيان هيفا، علّون وزركون، كما عباس بن النصاري، ومنصور المغني.
قبل استقرار زرياب في قرطبة، كان يغلب التقليد الشرقي، العربي كما المغربي، في عهد عبدالرحمن الثاني، الذي خصّص جناحاً خاصّاً للمغنّيـــات المدينيات (نظــــراً لتعلّمـــــهن في المدينة)، فضــــل، علم وقلـــم، لكن وصــــول زريــــاب إلى العاصمة الأمويّة شـــكل منعطفاً حاسماً في تاريخ وتطوّر فن الموسيقى الأندلسيّة.
لقد اغتنى هذا الفن بإدخال العود ومقطوعات النوبة، وصار مميزاً في ظل «الشحرور الأسود»، وطغى عليه الطابع الإسلامي الشرقي بعمق، وقد أسّس زرياب في قرطبة، أوّل أكاديميّة موسيقيّة في العالم الإسلامي والغربي، وأنشأ مدارس يتعلّم فيها فن العزف تلامذة من الجنسَين، توافدوا إلى قرطبة من كل أنحاء الأندلس، وحتى من المناطق المسيحيّة في شبه الجزيرة الإيبيرية، لكننا لم نقرأ في بحث واحد أن المرأة كانت فرداً من مجموعة الوافدين الشماليين إلى قرطبة، لتعلم فنون الموسيقى.
إلى هذا التأثير الموسيقي الأخّاذ، يشير جارودي في كتابه «الإسلام في الغرب» ويوضّح: لم يحمل زرياب معه تجربة الشرق الغنية، التي كانت في أوجها في بغداد العبّاسية وحسب، وإنما أوجد نبضاً جديداً في شرايين الفن الأندلسي، تحوّل من خلاله إلى رائد الموسيقى الدنيويّة، حينما كانت تغلب في الغرب الموسيقى الغريغوريّة، الموافقة للطقوس الكنسيّة الكاثوليكيّة، والمتآلفة مع إيقاعات اللغة اللاتينيّة.
يختصر العود كما مقطوعة النوبة، هذه التجربة الإبداعيّة الرائدة، التي قرّبت اللحن والأغنية إلى كل أفراد المجتمع، ورققت مشاعرهم الإنسانيّة، فتكاملوا مع نبوغ وعظمة زرياب.
في قرطبة، اخترع زرياب وتراً خامساً للعود، وطلا الأوتار بألوان مختلفة، ترمز إلى عناصر الحياة، وتشير إلى مطابقتها للطبيعة الإنسانيّة، الأصفر يرمز إلى الصفَراء (مادة يفرزها الكبد) والنار، الأحمر يمثل الهواء والدم، أما الوتر الذي أضافه زرياب، فهو قرمزي ولون الحياة والروح. والوتر الأبيض الذي لم يُطلَ، فيرمز إلى المياه وبرودة الطبع، ويبقى الوتر الأسود تجسيداً للأرض والكآبة.
كذلك استبدل بريشة العزف الخشبيّة، أخرى مصنوعة من ريش النسر، ليكون صدى العزف أرق وأجمل، وقد سهّلت له هذه البراعة، كما هذا التخيّل، تطوير فن النوبة (مقطوعة موسيقيّة مضمونها دنيوي أو صوفي، وتمجّد الحُبّ والجمال).
ألّف زرياب أربعاً وعشرين مقطوعة، لتتوافق مع ساعات النهار، ومع الحالة النفسيّة لكل وقت.
ينتقل هذا الإرث الفني المميّز إلى شمال إفريقيا مع الموريسكيين، وذلك بعد سقوط غرناطة عام 1492، وطرد الموريسكيين النهائي من الأندلس بين عامي 1609و1614.
أكثر من ذلك، تنتقل إيقاعات وألحان المدرسة الأندلسيّة التي نشأت في ظلّ زرياب، إلى أمريكا اللاتينيّة، نقلها الموريسكيون الذين رافقوا كولومبوس في رحلة اكتشاف العالم الجديد، وتذكرنا بها ألحان السامبا، والتشاكريرا في الأرجنتين والأوروجواي، وألحان الرقصات الشعبيّة في تشيلي، والسهول الكولومبية والفنزويلية، وألحان الرقصات الشعبية المكسيكية والكوبية، كما يشير الباحث توني إيغورا في كتابه «أصول الموسيقى الكوبيّة»، الصادر عام 1997.
ومختصر القول، أن زريــــاباً وتأثيره الاجتماعي وخاصة الفني، في الأندلس، وما وراء حدودها، والباقي أبعد من زمانها، مازال يثير اهتمام كل المهتمين بدراسة التراث الأندلسي، الذي يجسّد فيه زرياب علامة فارقة، لأنه يمثّل النموذج الأمثل للنابغة الموسيقي، وللمثقف الأشهر، الذي تتحول في ظله، اجتماعياً وفنياً، حياة مجتمع، في مرحلة كان سيّدها عبدالرحمن الثاني، ووصل فيها التأثر بالفكر والأدب للشرق الإسلامي ذروته، وأضاف إليه زرياب الفرد التأثير الاجتماعي والفني .