المعركة النقدية الأولى لطه حسين «نص مجهول»

المعركة النقدية الأولى لطه حسين «نص مجهول»

يعرف‭ ‬الجميع‭ ‬أن‭ ‬معارك‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬النقدية،‭ ‬خصوصاً‭ ‬معركة‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‮»‬،‭ ‬بدأت‭ ‬بعد‭ ‬عودته‭ ‬من‭ ‬فرنسا‭ ‬سنة‭ ‬1919،‭ ‬أما‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬وفي‭ ‬أثناء‭ ‬دراسته،‭ ‬فقد‭ ‬ظل‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬المعارك‭ ‬الأدبية،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬لا‭ ‬يذكره‭ ‬تاريخها،‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬نذكره‭ ‬أنه‭ ‬مع‭ ‬مطالع‭ ‬العشرينيات‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬عاد‭ ‬من‭ ‬فرنسا،‭ ‬وأصبح‭ ‬أستاذاً‭ ‬للأدب‭ ‬العربي‭ ‬بالجامعة‭ ‬الأهلية،‭ ‬وأخذ‭ ‬يكتب‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي؛‭ ‬معيداً‭ ‬اكتشاف‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬بنظرات‭ ‬جديدة‭ ‬ومناهج‭ ‬حديثة‭ ‬تعلمها‭ ‬في‭ ‬أوربا‭. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المعارك‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير؛‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فقد‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬غياهب‭ ‬النسيان‭ ‬المعارك‭ ‬التي‭ ‬خاضها‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬قبل‭ ‬ذهابه‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا‭. ‬

مع‭ ‬صدور‭ ‬طبعة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬جريدة‭ ‬االسفورب‭ ‬التي‭ ‬صدر‭ ‬عددها‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬21‭ ‬مايو‭ ‬1915‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الكتب‭ ‬والوثائق‭ ‬القومية‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬فقد‭ ‬ظهرت‭ ‬صفحة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬الصفحات‭ ‬المجهولة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬المعارك‭ ‬الأدبية‭ ‬لطه‭ ‬حسين‭. ‬وأولى‭ ‬هذه‭ ‬المعارك‭ ‬وأبرزها‭ ‬وأقصرها‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬كانت‭ ‬معركته‭ ‬مع‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬المهدي‭ ‬الذي‭ ‬عمل‭ ‬أستاذاً‭ ‬للأدب‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬القضاء‭ ‬الشرعي‭ ‬أعواماً‭ ‬طويلة،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬عمله‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬المصرية،‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬دار‭ ‬العلوم‭. ‬وكان‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬المهدي‭ ‬شخصية‭ ‬أزهرية‭ ‬التكوين،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬تلامذة‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬عبده،‭ ‬ولذلك‭ ‬كان‭ ‬يذهب‭ ‬مذهبه‭ ‬في‭ ‬التذوق‭ ‬الأدبي‭ ‬ونقده،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬منطوياً‭ ‬على‭ ‬نزعة‭ ‬محافظة،‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬فصاحة‭ ‬اللسان‭ ‬وجزالة‭ ‬اللغة‭ ‬وعدم‭ ‬التبذل‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬باللغة‭ ‬العامية‭. ‬وكان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يصطدم‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬المهدي‭ ‬بتلميذه‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬الذي‭ ‬تعلَّم‭ ‬على‭ ‬يديه،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ينتهي‭ ‬من‭ ‬أطروحة‭ ‬الدكتوراه‭. ‬ولكن‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬المهدي‭ ‬كان‭ ‬رجلاً‭ ‬طيب‭ ‬القلب،‭ ‬ففي‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬كان‭ ‬يصطدم‭ ‬بطه‭ ‬حسين‭ ‬خلال‭ ‬المناقشة‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الدرس،‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يصفح‭ ‬عنه‭ ‬ويهش‭ ‬له‭ ‬ويحتفي‭ ‬به‭ ‬مقدّراً‭ ‬الظرف‭ ‬الخاص‭ ‬لطه‭ ‬حسين،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعامله‭ ‬بقسوة‭ ‬أو‭ ‬بتحقير‭ ‬قط‭. ‬ولذلك‭ ‬يصف‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬العلاقة‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬أستاذه‭ ‬بقوله‭: ‬اولست‭ ‬أعرف‭ ‬تلميذاً‭ ‬كان‭ ‬أثقل‭ ‬على‭ ‬أستاذه‭ ‬وأقسى‭ ‬منه‭ ‬على‭ ‬الأستاذ‭ ‬الشيخ‭ ‬المهدي‭. ‬ولكني‭ ‬لا‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬تلاميذ‭ ‬الأستاذ‭ ‬من‭ ‬أحبه‭ ‬حبي‭ ‬إياه‭. ‬كنت‭ ‬قاسياً‭ ‬وكان‭ ‬قاسياً‭ ‬أيضاً‭. ‬وظهرت‭ ‬القسوة‭ ‬المتبادلة‭ ‬ذ‭ ‬إن‭ ‬صح‭ ‬هذا‭ ‬التعبير‭ - ‬عندما‭ ‬أضع‭ ‬كتاب‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬وأتقدم‭ ‬لامتحان‭ ‬الدكتوراه‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬المصرية،‭ ‬فقد‭ ‬سمعت‭ ‬له‭ ‬درساً‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬ووقع‭ ‬بيني‭ ‬وبينه‭ ‬خلاف‭ ‬في‭ ‬رأي‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬في‭ ‬البعث،‭ ‬زعمت‭ ‬شيئاً‭ ‬وأنكره،‭ ‬وطالبني‭ ‬بالدليل‭ ‬ولم‭ ‬يحضرني‭ ‬الدليل‭ ‬في‭ ‬الدرس،‭ ‬فظهرت‭ ‬مظهر‭ ‬المنهزم،‭ ‬وسره‭ ‬ذلك‭ ‬وظهر‭ ‬سروره،‭ ‬فحفظتها‭ ‬في‭ ‬نفسيب‭. ‬

ويبدو‭ ‬أن‭ ‬أثر‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬ينمحِ‭ ‬من‭ ‬ذاكرة‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬الذي‭ ‬حفظ‭ ‬أثر‭ ‬هزيمته‭ ‬وقرر‭ ‬أن‭ ‬ينتصر‭ ‬على‭ ‬أستاذه،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬قرأ‭ ‬اللزوميات‭ ‬كلها‭ ‬وتأكد‭ ‬من‭ ‬إشارات‭ ‬أبياتها،‭ ‬واستجمع‭ ‬من‭ ‬أبياتها‭ ‬ما‭ ‬ينتصر‭ ‬به‭ ‬لأفكاره‭ ‬عن‭ ‬رأي‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬في‭ ‬البعث،‭ ‬كتب‭ ‬نتيجة‭ ‬بحثه‭ ‬في‭ ‬أطروحته‭ ‬للدكتوراه‭. ‬وكان‭ ‬يعلم،‭ ‬وهو‭ ‬يكتب‭ ‬الأطروحة،‭ ‬أن‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬المهدي‭ ‬سوف‭ ‬يقرأها،‭ ‬وسيكون‭ ‬عضواً‭ ‬في‭ ‬لجنة‭ ‬الامتحان،‭ ‬وكان‭ ‬يعرف‭ ‬قسوته‭ ‬وغضبه‭. ‬ولكنه‭ ‬مضى‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬نوى‭ ‬عليه،‭ ‬وقدم‭ ‬الكتاب‭ ‬أو‭ ‬الأطروحة‭. ‬

 

جدل‭ ‬عنيف

وجاء‭ ‬يوم‭ ‬الامتحان،‭ ‬وكان‭ ‬يوماً‭ ‬مشهوداً،‭ ‬فقد‭ ‬استمر‭ ‬الامتحان‭ ‬ثلاث‭ ‬ساعات،‭ ‬ذهبت‭ ‬أكثرها‭ ‬في‭ ‬جدال‭ ‬عنيف‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬الأستاذ‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬المهدي،‭ ‬ثم‭ ‬خلت‭ ‬اللجنة‭ ‬للمداولة،‭ ‬وكان‭ ‬رأيها‭ ‬حسناً‭ ‬في‭ ‬الطالب،‭ ‬وكانت‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تمنحه‭ ‬أحسن‭ ‬ألقابها‭ ‬أو‭ ‬درجاتها،‭ ‬ولكن‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬المهدي‭ ‬أبى‭ ‬الإباء‭ ‬كله،‭ ‬ورفض‭ ‬رفضاً‭ ‬مطلقاً‭ ‬أن‭ ‬يحصل‭ ‬الطالب‭ ‬على‭ ‬لقب‭ ‬افائقب،‭ ‬وانتهى‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬وافق‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يحصل‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬الدكتوراه‭  ‬بتقدير‭ ‬اجيد‭ ‬جداًب‭ ‬بدل‭ ‬لقب‭ ‬افائقب‭. ‬وكان‭ ‬سرور‭ ‬الأستاذ‭ ‬بهذا‭ ‬الظفر‭ ‬عظيماً،‭ ‬حتى‭ ‬إنه‭ ‬تحدث‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬مجالسه‭. ‬ولكن‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يمنعه‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يتكلم‭ ‬في‭ ‬الحفلات‭ ‬التي‭ ‬أقيمت‭ ‬لطه‭ ‬حسين‭ ‬بعد‭ ‬هذا‭ ‬الامتحان،‭ ‬فأثنى‭ ‬عليه‭ ‬بما‭ ‬شاء‭ ‬له‭ ‬ظرفه‭ ‬وحبه‭ ‬لتلميذه‭ ‬العنيد‭. ‬وقد‭ ‬انتهت‭ ‬هذه‭ ‬الخصومة‭ ‬بسفر‭ ‬التلميذ‭ ‬إلى‭ ‬بعثة‭ ‬في‭ ‬أوربا،‭ ‬فذهب‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬إلى‭ ‬جامعة‭ ‬مونبلييه،‭ ‬وهناك‭ ‬حضر‭ ‬الطالب‭ ‬دروس‭ ‬أساتذة‭ ‬الآداب‭ ‬الفرنسية،‭ ‬وقارن‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الدروس‭ ‬ودروس‭ ‬الأساتذة‭ ‬عن‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬المصرية،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬المقارنة‭ ‬مرضية‭ ‬بالطبع‭.‬

ولكن‭ ‬قامت‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬سنة‭ ‬1914،‭ ‬وعاد‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬مع‭ ‬نهاية‭ ‬العام‭ ‬تقريبا،‭ ‬وذلك‭ ‬بسبب‭ ‬أزمة‭ ‬مالية‭ ‬عنيفة‭ ‬مرت‭ ‬بها‭ ‬الجامعة‭ ‬المصرية‭ ‬ودفعتها‭ ‬إلى‭ ‬استقدام‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬مبعوثيها‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬وصديقه‭ ‬أحمد‭ ‬ضيف‭ ‬اللذان‭ ‬عادا‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬فعلاً،‭ ‬واستقبلا‭ ‬عام‭ ‬1915‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭. ‬

وكان‭ ‬أصدقاء‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬قد‭ ‬قرروا‭ ‬أن‭ ‬يصدروا‭ ‬جريدة‭ ‬اجتماعية‭ ‬نقدية‭ ‬أدبية‭ ‬تصدر‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬الأسبوع،‭ ‬ودفعوا‭ ‬صديقهم‭ ‬عبدالحميد‭ ‬حمدي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يستخرج‭ ‬ترخيصاً‭ ‬باسمه‭. ‬وبالفعل‭ ‬صدرت‭ ‬جريدة‭ ‬االسفورب‭ ‬في‭ ‬السابع‭ ‬من‭ ‬رجب‭ ‬سنة‭ ‬1333هـ،‭ ‬الموافق‭ ‬21‭ ‬مايو‭ ‬1915‭. ‬وكان‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬المحررين‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الجريدة‭ ‬صديق‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬القديم‭ ‬محمد‭ ‬حسين‭ ‬هيكل،‭ ‬ومصطفى‭ ‬عبدالرازق‭ ‬وشقيقه‭ ‬علي‭ ‬عبدالرازق،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬منصور‭ ‬فهمي‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬المجموعة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحيط‭ ‬بطه‭ ‬حسين‭ ‬وتكمل‭ ‬معه‭ ‬حلقة‭ ‬الشباب‭ ‬الذي‭ ‬تتلمذ‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬أحمد‭ ‬لطفي‭ ‬السيد‭ ‬في‭ ‬االجريدةب،‭ ‬فتشربوا‭ ‬أفكاره‭ ‬الليبرالية‭ ‬ومزاجه‭ ‬الأدبي‭ ‬وكَلفِه‭ ‬بالأدب‭ ‬الفرنسي‭ ‬وباللغة‭ ‬الفرنسية‭ ‬ورفضه‭ ‬للقديم‭ ‬المتصلب‭ ‬وترحيبه‭ ‬بكل‭ ‬جديد‭ ‬عفوي‭. ‬

 

هيكل‭ ‬وطه‭ ‬حسين

عندما‭ ‬وصل‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬كانت‭ ‬جريدة‭ ‬االسفورب‭ ‬قد‭ ‬أحدثت‭ ‬أصداءً‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬الثقافي،‭ ‬وأصبح‭ ‬لها‭ ‬حضور‭ ‬بارز،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬رحب‭ ‬به‭ ‬كتابها‭ ‬ومحرروها،‭ ‬وكان‭ ‬هيكل‭ ‬صديق‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬قد‭ ‬أصدر‭ ‬روايته‭ ‬ازينب‭: ‬مناظر‭ ‬وأخلاق‭ ‬ريفيةب،‭ ‬ولم‭ ‬يكتب‭ ‬عليها‭ ‬اسمه‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معروف،‭ ‬وإنما‭ ‬ذكر‭ ‬ابقلم‭ ‬فلاح‭ ‬مصريب،‭ ‬وتولى‭ ‬الأستاذ‭ ‬عبدالحميد‭ ‬حمدي‭ ‬صاحب‭ ‬الترخيص‭ ‬نقد‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬باب‭ ‬النقد،‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬العدد‭ ‬الصادر‭ ‬في‭ ‬17‭ ‬سبتمبر‭ ‬1915‭. ‬وما‭ ‬إن‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬العدد‭ ‬التالي‭ (‬الموافق‭ ‬8‭ ‬أكتوبر‭ ‬1915‭) ‬حتى‭ ‬تعلن‭ ‬االسفورب‭ ‬في‭ ‬صفحتها‭ ‬الأولى‭ ‬عودة‭ ‬الدكتور‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬بسبب‭ ‬الأزمة‭ ‬المالية‭ ‬إلى‭ ‬الجامعة‭ ‬المصرية‭. ‬وتتحدث‭ ‬في‭ ‬العدد‭ ‬نفسه‭ ‬عن‭ ‬صدور‭ ‬كتابه‭ ‬اذكرى‭ ‬أبي‭ ‬العلاءب‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬رسالته‭ ‬للجامعة‭ ‬عام‭ ‬1914،‭ ‬وهي‭ ‬الرسالة‭ ‬التي‭ ‬نال‭ ‬بها‭ ‬لقب‭ ‬دكتور‭ ‬في‭ ‬الآداب‭. ‬وتؤكد‭ ‬الجريدة‭ ‬أنها‭ ‬تطبع‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬مطابعها‭ ‬الخاصة،‭ ‬وتعلن‭ ‬بدء‭ ‬الاشتراك‭ ‬فيه،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬سعره‭ ‬عشرة‭ ‬قروش‭ ‬مصرية‭ ‬قبل‭ ‬الطبع،‭ ‬وثمنه‭ ‬بعد‭ ‬الطبع‭ ‬خمسة‭ ‬عشر‭ ‬قرشاً‭ ‬تطلب‭ ‬من‭ ‬مطبعة‭ ‬الواعظ‭ ‬بشارع‭ ‬درب‭ ‬الجماميز‭.‬

ويأتي‭ ‬العدد‭ ‬التالي‭ ‬وفيه‭ ‬مشاركة‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬التي‭ ‬تبدأ‭ ‬بمناظرة‭ ‬مع‭ ‬صديقه‭ ‬هيكل‭ ‬عن‭ ‬الحرب‭ ‬والحضارة،‭ ‬وكانت‭ ‬بداية‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العدد‭ ‬ذ‭ ‬بعد‭ ‬المناظرة‭ - ‬بمقال‭ ‬مؤثر،‭ ‬أضعه‭ ‬ضمن‭ ‬أدب‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية،‭ ‬بعنوان‭ ‬ابعد‭ ‬الأوبةب،‭ ‬ويستهل‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬في‭ ‬العدد‭ ‬التالي‭ ‬مقالاته‭ ‬النقدية،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬العدد‭ ‬الصادر‭ ‬في‭ ‬3‭ ‬ديسمبر‭ ‬1915،‭ ‬فنجد‭ ‬للدكتور‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬مقالاً‭ ‬في‭ ‬باب‭ ‬الأدب‭ ‬بعنوان‭: ‬افي‭ ‬الجامعة‭ ‬المصريةب،‭ ‬وواضح‭  ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬قد‭ ‬كتبه‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الثلاثين‭ ‬من‭ ‬نوفمبر‭ ‬1915‭. ‬وكان‭ ‬المقال‭ ‬بمنزلة‭ ‬بداية‭ ‬معركة‭ ‬عنيفة‭ ‬وابتداء‭ ‬حرب‭ ‬على‭ ‬المدرسة‭ ‬التقليدية‭ ‬القديمة‭. ‬وقد‭ ‬استعان‭ ‬المقال‭ ‬بمناهج‭ ‬الدرس‭ ‬الأدبي‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬وتاريخه‭ ‬اللذين‭ ‬تعلمهما‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬طوال‭ ‬أشهر‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭. ‬

 

تأثره‭ ‬بالقدماء‭ ‬والمحدثين

يبدأ‭ ‬المقال‭ ‬مشيراً‭ ‬إلى‭ ‬يوم‭ ‬30‭ ‬نوفمبر‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬التالي‭: ‬افي‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬السنة‭ ‬الماضية‭ ‬سمعت‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬درس‭ ‬الآداب‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬مونبلييه‭ ‬وكان‭ ‬الأستاذ‭ ‬يدرس‭ ‬قصة‭ ‬وضعها‭ ‬ألفريد‭ ‬دي‭ ‬ڤـيني‭ ‬Alfred‭ ‬de Vigny‭ ‬على‭ ‬المثال‭ ‬الذي‭ ‬اخترعه‭ ‬الكاتب‭ ‬الإنجليزي‭ ‬وولتر‭ ‬سكوت‭  Walter Scott  ‬من‭ ‬القصص،‭ ‬يلم‭ ‬فيه‭ ‬الكاتب‭ ‬بحادثة‭ ‬من‭ ‬حوادث‭ ‬التاريخ‭. ‬لخص‭ ‬الأستاذ‭ ‬القصة‭ ‬وحلل‭ ‬موضوعها‭ ‬ونقد‭ ‬لفظها‭ ‬ومعناها‭ ‬وما‭ ‬تمثل‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬أشخاصها،‭ ‬وأبطالها‭ ‬وبين‭ ‬ما‭ ‬أثرت‭ ‬فيه‭ ‬وتأثرت‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬القدماء‭ ‬والمحدثين‭. ‬فلما‭ ‬خرجنا‭ ‬من‭ ‬الدرس‭ ‬سألت‭ ‬صاحبي‭ (‬ضيف‭) ‬كيف‭ ‬ترى‭ ‬هذه‭ ‬المحاضرة؟‭ ‬قال‭: ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬بها‭ ‬ولكنها‭ ‬شديدة‭ ‬الاختصار‭. ‬إنك‭ ‬لمسرف‭ ‬شديد‭ ‬الطمع‭ ‬يا‭ ‬ضيف،‭ ‬فلو‭ ‬سمعت‭ ‬درس‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬المصرية‭ ‬ورأيت‭ ‬الأستاذ،‭ ‬وقد‭ ‬مر‭ ‬في‭ ‬محاضرة‭ ‬واحدة‭ ‬بثمانية‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬المأمون،‭ ‬لعرفت‭ ‬أن‭ ‬صاحبنا‭ ‬في‭ ‬امونبلييهب‭ ‬قد‭ ‬بلغ‭ ‬الغاية‭ ‬القصوى‭ ‬من‭ ‬الإطالة‭ ‬والإسهاب‭.‬

رجعنا‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬مصر،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬السنة‭ ‬سمعت‭ ‬درس‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬المصرية،‭ ‬وأبى‭ ‬ضيف‭ ‬أن‭ ‬يحضر‭ ‬معي،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬شغل،‭ ‬ولو‭ ‬سمع‭ ‬الدرس‭ ‬الذي‭ ‬سمعته‭ ‬لذكر‭ ‬القصة‭ ‬التي‭ ‬أذكرها‭ ‬الآن‭ ‬ولشهد‭ ‬بنفسه‭ ‬البرهان‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الأستاذ‭ ‬المهدي‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬الأندلس‭ ‬أيام‭ ‬الحكم‭ ‬المستنصر‭ ‬والمنصور‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬عامر‭ ‬أشبه‭ ‬بمعرض‭ ‬الصور‭ ‬المتحركة‭ ‬تمر‭ ‬فيه‭ ‬ظلال‭ ‬الشعراء‭ ‬ولما‭ ‬يتبين‭ ‬منها‭ ‬الطلاب‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أسمائهم،‭ ‬وما‭ ‬عسى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬درس‭ ‬ذهب‭ ‬نصفه‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬مكتبة‭ ‬المستنصر‭ ‬ودهاء‭ ‬المنصور‭ ‬وألمَّ‭ ‬النصف‭ ‬الباقي‭ ‬بما‭ ‬يتجاوز‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬الشعراء؟‭ ‬مكتبة‭ ‬المستنصر‭! ‬إن‭ ‬أمرها‭ ‬لغريب‭ ‬هذه‭ ‬المكتبة،‭ ‬كان‭ ‬فيها‭ ‬أربعمائة‭ ‬ألف‭ ‬مجلد‭ ‬ولها‭ ‬فهرس‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬ثمانمائة‭ ‬ورقة،‭ ‬وليس‭ ‬فيها‭ ‬كتاب‭ ‬إلا‭ ‬قرأه‭ ‬الحكم‭ ‬وعلق‭ ‬عليه‭! ‬ووضع‭ ‬له‭ ‬مقدمة‭! ‬وهو‭ ‬لم‭ ‬يملك‭ ‬إلا‭ ‬بضعة‭ ‬عشر‭ ‬عاماً‭ ‬قد‭ ‬ملئت‭ ‬بالفتوح‭ ‬وألوان‭ ‬الجهاد‭! ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬قاله‭ ‬الرواة‭ ‬وكل‭ ‬ذلك‭ ‬قبله‭ ‬الأستاذ،‭ ‬فإن‭ ‬أوراق‭ ‬الفهرس‭ ‬في‭ ‬رأيه‭ ‬أقل‭ ‬جداً‭ ‬مما‭ ‬كان‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭! ‬شيء‭ ‬لطيف‭.‬

 

طائفة‭ ‬من‭ ‬الشعراء

مررنا‭ ‬بطائفة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الشعراء،‭ ‬يذكر‭ ‬الأستاذ‭ ‬اسم‭ ‬شاعر‭ ‬وشيئاً‭ ‬من‭ ‬شعره،‭ ‬ولكنه‭ ‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬يفرغ‭ ‬من‭ ‬إنشاد‭ ‬البيت‭ ‬حتى‭ ‬ننتقل‭ ‬من‭ ‬الجامعة‭ ‬إلى‭ ‬إحدى‭ ‬الحانات‭ ‬فنسمع‭ ‬دوي‭ ‬الشرب،‭ ‬وقد‭ ‬أطربتهم‭ ‬نغمة‭ ‬المغني‭ ‬وتوقيع‭ ‬العواد،‭ ‬فقالوا‭ ‬بصوت‭ ‬واحد‭: ‬الله،‭ ‬أعد‭ ‬يا‭ ‬أستاذ‭, ‬فيعيد‭ ‬الأستاذ،‭ ‬والظاهر‭ ‬أنه‭ ‬يحب‭ ‬الاستعادة،‭ ‬فقد‭ ‬أنشد‭ ‬بيتاً‭ ‬لم‭ ‬يستعده‭ ‬الطلبة‭ ‬فقال‭: ‬لم‭ ‬لا‭ ‬تستعيدون‭ ‬هذا‭ ‬البيت؟‭ ‬إنه‭ ‬جميل‭: ‬أعد‭ ‬يا‭ ‬أستاذ‭ ‬من‭ ‬فضلك‭ ‬فيعيد‭! ‬الله‭ ‬أكبر،‭ ‬جميل‭ ‬جداً‭ ‬صحيح‭! ‬وكذلك‭ ‬مضى‭ ‬الدرس‭. ‬إنك‭ ‬لسيئ‭ ‬الحظ‭ ‬يا‭ ‬ضيف،‭ ‬فلو‭ ‬سمعت‭ ‬معي‭ ‬درس‭ ‬الأمس‭ ‬لرأيت‭ ‬شعر‭ ‬ابن‭ ‬هانئ‭ ‬ينسب‭ ‬إلى‭ ‬ابن‭ ‬خفاجة،‭ ‬ثم‭ ‬يعتذر‭ ‬الأستاذ‭ ‬حين‭ ‬ينكر‭ ‬ذلك‭ ‬عليه‭ ‬بعض‭ ‬الطلبة‭.‬

إنك‭ ‬لتعس‭ ‬فلو‭ ‬سمعت‭ ‬معي‭ ‬درس‭ ‬الأمس‭ ‬لأعجبك‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭:‬

فكان‭ ‬الزجاج‭ ‬جامد‭ ‬ماء

وكأن‭ ‬المدام‭ ‬ذائب‭ ‬نار

لا‭ ‬بأس،‭ ‬وما‭ ‬عسى‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬النار‭ ‬الذائبة؟‭ ‬ألا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الرواية‭ ‬ذوب‭ ‬نضار؟‭ ‬لا‭ ‬يبعد‭.‬

ولكن‭ ‬ما‭ ‬لنا‭ ‬وللتحقيق؟‭ ‬فقد‭ ‬رأينا‭ ‬ابن‭ ‬خفاجة‭ ‬يعد‭ ‬من‭ ‬معاصري‭ ‬المنصور‭ ‬المتوفى‭ ‬سنة‭ ‬اثنتين‭ ‬وتسعين‭ ‬وثلاثمائة،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬خفاجة‭ ‬لم‭ ‬يولد‭ ‬إلا‭ ‬سنة‭ ‬خمسين‭ ‬وأربعمائة؛‭ ‬أي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬فرغ‭ ‬المنصور‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬وفرغت‭ ‬الحياة‭ ‬منه‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬اختلفت‭ ‬شؤون‭ ‬وحالت‭ ‬أحوال،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬تنكر‭ ‬الدهر‭ ‬لقرطبة‭ ‬وذهب‭ ‬منها‭ ‬ريح‭ ‬بني‭ ‬أمية‭ ‬وعبثت‭ ‬مطامع‭ ‬المتغلبين‭ ‬ببلاد‭ ‬الأندلس‭ ‬جملة‭. ‬فالمؤثرات‭ ‬التي‭ ‬كونت‭ ‬الشعراء‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬المنصور‭ ‬وحسبك‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬شاعر‭ ‬نشأ‭ ‬أيام‭ ‬الوحدة‭ ‬وآخر‭ ‬نشأ‭ ‬أيام‭ ‬الافتراق،‭ ‬وما‭ ‬لنا‭ ‬وللتحقيق؟‭ ‬فإن‭ ‬الأستاذ‭ ‬قد‭ ‬كان‭ ‬يعجبه‭ ‬حب‭ ‬الاختصار‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬إذا‭ ‬ذكر‭ ‬الشاعر‭ ‬نسي‭ ‬أن‭ ‬يذكر‭ ‬سنة‭ ‬ميلاده‭ ‬ووفاته‭. ‬ولعله‭ ‬لو‭ ‬عني‭ ‬بذلك‭ ‬أو‭ ‬فكر‭ ‬فيه‭ ‬لوضع‭ ‬ابن‭ ‬هانئ‭ ‬موضع‭ ‬ابن‭ ‬خفاجة،‭ ‬فقد‭ ‬عاش‭ ‬ابن‭ ‬هانئ‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬المستنصر‭ ‬وارتحل‭ ‬من‭ ‬الأندلس‭ ‬ومدح‭ ‬المعز‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الدرس‭ ‬شيء‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬درس‭ ‬في‭ ‬الجامعة،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الحديث‭ ‬يستفز‭ ‬سامعيه‭ ‬بما‭ ‬يعرض‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬الغزل‭ ‬والوصف‭ ‬ومن‭ ‬آيات‭ ‬البديهة‭ ‬والارتجال‭. ‬لا‭ ‬ألوم‭ ‬الجامعة‭ ‬فإنها‭ ‬لم‭ ‬تألُ‭ ‬جهداً‭ ‬في‭ ‬حسن‭ ‬الاختيار‭ ‬ولا‭ ‬ألوم‭ ‬الأستاذ،‭ ‬فإنه‭ ‬قد‭ ‬بذل‭ ‬ما‭ ‬يملك‭ ‬وجاد‭ ‬بما‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يجود‭ ‬به‭. ‬

ولكني‭ ‬أرثي‭ ‬لصاحبي‭ ‬ضيف،‭ ‬لأنه‭ ‬حرم‭ ‬نفسه‭ ‬لذة‭ ‬الاستماع‭ ‬لهذا‭ ‬الدرس‭ ‬الجميل‭. ‬أرثي‭ ‬له‭ ‬لأنه‭ ‬حرم‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬اللذة‭ ‬وحرم‭ ‬معها‭ ‬هذا‭ ‬الألم‭ ‬الذي‭ ‬يشعر‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬سمع‭ ‬العلم‭ ‬في‭ ‬جامعات‭ ‬فرنسا‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬مصر،‭ ‬وقارن‭ ‬بين‭ ‬الأساتذة‭ ‬والطلاب‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭.‬

حرم‭ ‬هذا‭ ‬الألم‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬الحق‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يشعر‭ ‬به‭ ‬ليعرف‭ ‬أن‭ ‬اختصار‭ ‬فرنسا‭ ‬إطالة،‭ ‬وأن‭ ‬إطالتنا‭ ‬اختصار،‭ ‬وأن‭ ‬هزل‭ ‬فرنسا‭ ‬جد،‭ ‬وأن‭ ‬جدنا‭ ‬لعب،‭ ‬وأن‭ ‬فرنسا‭ ‬حَرِية‭ ‬بالحب‭ ‬والإعجاب،‭ ‬وأن‭ ‬مصر‭ ‬خليقة‭ ‬بالرحمة‭ ‬والرثاء،‭ ‬زاد‭ ‬الله‭ ‬فرنسا‭ ‬رقياً‭ ‬ورفعة‭ ‬ووفى‭ ‬لمصر‭ ‬حاجتها‭ ‬من‭ ‬الإصلاحب‭.‬

هذ‭ ‬المقال‭ ‬هو‭ ‬وثيقة‭ ‬نادرة‭ ‬لم‭ ‬تنشر‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬الطبعات‭ ‬المعروفة‭ ‬لكتابات‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬فقد‭ ‬ظل‭ ‬دفيناً‭ ‬في‭ ‬صفحات‭ ‬االسفورب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أصدرت‭ ‬دار‭ ‬الكتب‭ ‬المصرية‭ ‬طبعة‭ ‬جديدة‭ ‬للمجلد‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الجريدة‭ ‬بالغة‭ ‬الأهمية،‭ ‬وقد‭ ‬تصفحت‭ ‬المجلد‭ ‬فرحاً،‭ ‬وازداد‭ ‬فرحي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قرأت‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬قد‭ ‬قرأته‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬وقررت‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬نفسي‭ ‬أن‭ ‬أشرك‭ ‬معي‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬هذا‭ ‬الكشف‭ ‬قراء‭ ‬مجلة‭ ‬االعربيب،‭ ‬كي‭ ‬يعرفوا‭ ‬كيف‭ ‬بدأ‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬نقده‭ ‬الثائر‭ ‬على‭ ‬القديم،‭ ‬وكيف‭ ‬كان‭ ‬يقسو‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النقد،‭ ‬غير‭ ‬هياب‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬أساتذته‭ ‬الذين‭ ‬تلقى‭ ‬العلم‭ ‬على‭ ‬أيديهم‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭. ‬

 

ثورة‭ ‬مكبوتة

لماذا‭ ‬آثر‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬المهدي‭ ‬بهذا‭ ‬الهجوم‭ ‬النقدي‭ ‬الذي‭ ‬أخذ‭ ‬شكل‭ ‬الثورة‭ ‬المكبوتة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يعوق‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬في‭ ‬تطلعه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬الدنيا‭ ‬الحديثة‭ ‬ويمارس‭ ‬المناهج‭ ‬الحديثة؟‭ ‬أغلب‭ ‬الظن‭ ‬أنه‭ ‬رأى‭ ‬في‭ ‬أستاذه‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬المهدي‭ ‬نموذجاً‭ ‬رمزياً‭ ‬لكل‭ ‬هذا‭ ‬القديم‭ ‬الذي‭ ‬يرفضه،‭ ‬وكل‭ ‬العوائق‭ ‬البيروقراطية‭ ‬التي‭ ‬أعادته‭ ‬من‭ ‬البعثة‭ ‬وأوقفته‭ ‬عن‭ ‬طلب‭ ‬العلم‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬فانكب‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬هجوم‭ ‬قاس‭ ‬نموذجه‭ ‬المقال‭ ‬الذي‭ ‬ذكرته،‭ ‬ولعله‭ ‬كان‭ ‬يثأرذ‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يدري‭- ‬من‭ ‬تدخل‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬المهدي‭ ‬في‭ ‬الدرجة‭ ‬التي‭ ‬حصل‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬أطروحة‭ ‬الدكتوراه،‭ ‬وكان‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬الشيخ‭ ‬المهدي‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬تسبب‭ ‬في‭ ‬إنزال‭ ‬التقدير‭ ‬من‭ ‬درجة‭ ‬افائقب‭ ‬إلى‭ ‬اجيد‭ ‬جداًب‭.‬

لكن‭ ‬الذي‭ ‬نعرفه‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬المهدي‭ ‬غضب‭ ‬غضباً‭ ‬عنيفاً‭ ‬جداً،‭ ‬وذهب‭ ‬إلى‭ ‬إدارة‭ ‬الجامعة‭ ‬واشتكى‭ ‬إلى‭ ‬مجلس‭ ‬إدارتها‭ ‬من‭ ‬تطاول‭ ‬تلميذه‭ ‬عليه‭ ‬ومن‭ ‬كتابته‭ ‬القاسية‭ ‬عنه،‭ ‬فغضب‭ ‬بعض‭ ‬أعضاء‭ ‬المجلس،‭ ‬ومنهم‭ ‬علوي‭ ‬باشا‭ ‬الذي‭ ‬استدعى‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬موبّخاً‭ ‬إياه،‭ ‬ومهدداً‭ ‬بأن‭ ‬عاقبة‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬ستكون‭ ‬وخيمة‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يعتذر‭ ‬لأستاذه‭. ‬ولكن‭ ‬محبة‭ ‬علوي‭ ‬باشا‭ ‬لطه‭ ‬حسين‭ ‬دفعته‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يوعز‭ ‬إلى‭ ‬علي‭ ‬بك‭ ‬بهجت‭ ‬عضو‭ ‬المجلس‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬التلميذ‭ ‬العنيد‭ ‬والشيخ‭ ‬محمد‭ ‬المهدي‭ ‬ويجتهد‭ ‬في‭ ‬الإصلاح‭ ‬بينهما‭. ‬وبالفعل‭ ‬جمعهما‭ ‬علي‭ ‬بك‭ ‬بهجت‭ ‬في‭ ‬دار‭ ‬الآثار‭ ‬العربية‭. ‬وما‭ ‬كان‭ ‬أيسر‭ ‬الصلح‭ ‬حين‭ ‬اجتمع‭ ‬الطالب‭ ‬والأستاذ،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬كلاهما‭ ‬لحسن‭ ‬الحظ‭ ‬يحب‭ ‬الآخر‭ ‬ويضمر‭ ‬له‭ ‬الاحترام‭ ‬والمودة‭. ‬ولم‭ ‬ينته‭ ‬المجلس‭ ‬إلا‭ ‬وقد‭ ‬انتهت‭ ‬الخصومة‭ ‬بين‭ ‬الاثنين،‭ ‬وقبَّل‭ ‬الفتى‭ ‬يد‭ ‬أستاذه‭ ‬الشيخ‭ ‬الذي‭ ‬دعاه‭ ‬بدوره‭ ‬إلى‭ ‬بيته‭ ‬للطعام‭. ‬

وكتب‭ ‬علي‭ ‬بك‭ ‬بهجت‭ ‬تقريراً‭ ‬بذلك‭ ‬إلى‭ ‬مجلس‭ ‬الجامعة،‭ ‬واعتبر‭ ‬المجلس‭ ‬الأمر‭ ‬كأنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭. ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬انصلح‭ ‬الموقف‭ ‬المالي‭ ‬للجامعة،‭ ‬فتمكنت‭ ‬من‭ ‬إعادة‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬إلى‭ ‬بعثته‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬وذهب‭ ‬إلى‭ ‬هناك‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬حيث‭ ‬أكمل‭ ‬درسه‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬وأصوله،‭ ‬وتعلم‭ ‬ما‭ ‬شاء‭ ‬له‭ ‬التعلم،‭ ‬طرائق‭ ‬تحليل‭ ‬النصوص‭ ‬الأدبية‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬دكتوراه‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬االسوربونب‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬هذه‭ ‬المرة،‭ ‬وتعرف‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬الفتاة‭ ‬التي‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬أصبحت‭ ‬زوجة‭ ‬له‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬أيام‭ ‬حياته،‭ ‬وهي‭ ‬السيدة‭ ‬سوزان‭. ‬ولم‭ ‬ينس‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬هذه‭ ‬الحكاية‭ ‬التي‭ ‬ذكرها‭ ‬لنا‭ ‬ضمن‭ ‬رثائه‭ ‬للشيخ‭ ‬محمد‭ ‬المهدي‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬احديث‭ ‬الأربعاءب‭. ‬

وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قرأت‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬عن‭ ‬أستاذه‭ ‬الشيخ،‭ ‬وددت‭ ‬أن‭ ‬أقرأ‭ ‬المقال‭ ‬الذي‭ ‬أغضب‭ ‬هذا‭ ‬الشيخ‭ ‬النبيل‭ ‬والمحب‭ ‬لتلامذته،‭ ‬ولكني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرف‭ ‬أن‭ ‬المقال‭ ‬الأصلي‭ ‬متاح‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬االسفورب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أصدرت‭ ‬دار‭ ‬الكتب‭ ‬والوثائق‭ ‬القومية‭ ‬طبعة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬المجلد‭ ‬الأول‭ ‬لهذه‭ ‬الجريدة‭ ‬المهمة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي،‭ ‬فاكتشفت‭ ‬فيها‭ ‬المقال‭ ‬الذي‭ ‬بحثت‭ ‬عنه‭ ‬طويلاً،‭ ‬والذي‭ ‬أراه‭ ‬بداية‭ ‬المعارك‭ ‬النقدية‭ ‬لطه‭ ‬حسين،‭ ‬وشأن‭ ‬كل‭ ‬بداية،‭ ‬فإن‭ ‬المقال‭ ‬يحمل‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬العنف‭ ‬والانفعالات‭ ‬المفرطة‭ ‬الملازمة‭ ‬دائماً‭ ‬لكل‭ ‬البدايات‭.‬

رحم‭ ‬الله‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬والشيخ‭ ‬محمد‭ ‬المهدي‭ ‬أستاذه‭ ‬الذي‭ ‬تتلمذ‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬عبده،‭ ‬وكان‭ ‬شخصية‭ ‬طريفة‭ ‬يندر‭ ‬أن‭ ‬نرى‭ ‬مثلها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الزمان‭ ‬الذي‭ ‬نعيشه‭ .