نصف قرن على رحيله محمد القصبجي... المجدد العبقري في الموسيقى العربية

نصف قرن على رحيله محمد القصبجي... المجدد العبقري  في الموسيقى العربية

إنه ضلع من مجموعة تتكون من خمسة من عباقرة الموسيقى العربية، تولوا إرساء قواعد مدرسة القرن العشرين في الموسيقى العربية خلال النصف الأول من القرن بشكل خاص، وإن كان العمر قد امتد ببعضهم حتى ثمانينيات القرن الماضي (السنباطي) أو تسعينياته (عبدالوهاب).

 إنهم حسب تسلسل تواريخ ميلادهم: سيد درويش (1892)، محمد القصبجي (1892)، زكريا أحمد (1896)، محمد عبدالوهاب (1898)، رياض السنباطي (1906).
ومع أن الأولين قد ولدا في العام نفسه، فقد كان سيد درويش هو السبَّاق إلى إعلان ثورة مبكرة على تراث القرن التاسع عشر الموسيقي، المرتكز على فلسفة الارتجال في الغناء، وعلى الاكتفاء بفرقة موسيقية محدودة العدد، هي التخت الموسيقي (عود، وكمان، وقانون، وناي، ورق)، يقتصر دورها على مرافقة المغني، وعلى ترديد اللحن من ورائه، الذي يعيد ارتجال اللحن الواحد مرات عديدة، في كل سهرة.
وكانت ثورة سيد درويش معتمدة على ولادة شخصية الملحن، بشكل منفصل عن شخصية المغني، كما سعى باتجاه اعتماد الأوركسترا الكبيرة، وإن كان العمر لم يمتد به حتى يوغل في استخدامها. ومع أن درويش لم يعش أكثر من 31 عاماً (1892 - 1923)، فإنه أنجز ثورته التجديدية من خلال إنتاج ثلاثين مسرحية، وردت فيها كل تجديداته في تأسيس مدرسة القرن العشرين في الموسيقى العربية، وذلك في غضون سبع سنوات فقط (1917-1923).
ومع أن محمد القصبجي (1892 - 1966)، كان قد بدأ قبل رحيل درويش يلحن بعض الأغنيات الخفيفة، لكنه لم يبدأ في تلحين مسرحياته الخمس، إلا بعد 3 سنوات من رحيل درويش، أي في عام 1926، فلحن «المظلومة» (1926) ثم «حرم المفتش» (1926)، ثم «كيد النسا» (1928)، ثم «حياة النفوس» (1928)، وكلها لمنيرة المهدية، وأخيراً «نجمة الصبح» (1929) لفرقة نجيب الريحاني. وهكذا فقد تأخرت عبقرية محمد القصبجي التلحينية في الظهور، حتى ما بعد رحيل زميله سيد درويش. وقد ثبت في ما بعد أن هذه العبقرية الموسيقية لم تنطلق تماماً من عقالها إلا بعدما تم اللقاء بين محمد القصبجي وأم كلثوم، بين 1927 و1928.

عصر «رق الحبيب»
قبل ذلك، كان القصبجي قد ساهم بألحان عادية، لا يذكر التاريخ منها شيئاً، لعصر كانت سيادة الغناء النسائي فيه لكل من فتحية أحمد، ومنيرة المهدية، اللتين فازتا في عام 1926 بالمرتبة الأولى في مسابقة وزارة الأشغال المصرية (المسؤولة عن المسارح يومها) لتحديد أجمل الأصوات النسائية في مصر.
وكأن هذه المحطة في عام 1926، كانت الأخيرة في الإعلان عن غروب عصر فتحية أحمد ومنيرة المهدية، وظهور عصر جديد، ظل ممتداً حتى يومنا هذا، هو عصر أم كلثوم.
لكن الذي لم يسجله التاريخ بالوضوح الذي يستحقه حتى يومنا هذا، هو أنه مع أن الشيخ أبوالعلا محمد، هو الذي حوَّل أم كلثوم بين 1923 و1927، من غناء التواشيح الدينية إلى غناء القصائد العاطفية، فإن محمد القصبجي هو مَن سجل له التاريخ أنه صانع شخصية صوت وأداء أم كلثوم في العصر الجديد الذي مثلته، انطلاقاً من مونولوج «إن كنت أسامح وأنسى الأسية» (1928) حتى مونولوج «رق الحبيب» (1942). وإنه بذلك كان سابقاً لظهور تأثير العبقريين الآخرين: زكريا أحمد ورياض السنباطي، على أداء أم كلثوم، وتاريخها الغنائي.
والحقيقة أن محمد القصبجي لعب بالتعاون مع أم كلثوم دوراً أوسع من ذلك. ففي الوقت الذي كانت أم كلثوم تعيش فيه بتردد كبير خطواتها الأولى في الانتقال من عصر الإنشاد الديني، إلى عصر الغناء الدنيوي، تحتاج إلى فرقة موسيقية مقتدرة، لم تكن أبداً بحاجة إليها في عصر الإنشاد الديني، فجاء محمد القصبجي، عازف العود العبقري والمجدد، ليكون لها هذه الفرقة الموسيقية الرائعة، ويظل يترأسها ويقودها حتى تقدم به العمر، ولاحظت أم كلثوم أن ذاكرته الموسيقية بدأت تضعف، فنقلت مهمة قيادة فرقتها الموسيقية إلى عازف القانون العبقري محمد عبده صالح.

أستاذ عبدالوهاب
ويمكن القول إن عبقرية القصبجي الموسيقية انطلقت بكل جموح وعظمة، في صوغ تجديدات الموسيقى العربية في عصر ما بعد درويش، من خلال صوت أم كلثوم العبقري، وبمنافسة شديدة مع تجديدات محمد عبدالوهاب، الذي كان هو الآخر قد افتتح العصر الجديد في عام 1927، وجلس على عرش الغناء الرجالي. لكنه في مجال التجديد الموسيقي كان يجلس على العرش إلى جانب أستاذه وزميله محمد القصبجي. والحقيقة أن العلاقة بين هذين العبقريين في مواصلة تجديد الموسيقى العربية بعد درويش، قد بدأت بدروس العزف على آلة العود، التي كان القصبجي (عبقري العود وأستاذه)، يلقنها لتلميذه في العزف، محمد عبدالوهاب.
لكن العبقرية الموسيقية الاستثنائية لهذين الموسيقيين المجددين، ما لبثت أن فتحت بينهما مجالاً أوسع للزمالة الموسيقية، فقد لاحظا أنهما يتشاركان في الافتتان بروائع الموسيقى الكلاسيكية الأوربية، فراحا (وفق مذكرات عبدالوهاب) يعقدان طوال خمس سنوات كاملة، جلسات استماع مشترك إلى روائع الموسيقى الكلاسيكية الأوربية، ويحللان، كل على عوده، الألحان الرئيسة والألحان الفرعية في هذه الروائع، وطريقة تشابكها وفقاً لقواعد الهارمونيا والبوليفونيا.
وفي رأيي الشخصي، فإن هذه الجلسات كانت المسؤول الأكبر عن توسيع آفاق التجديد الموسيقي أمام كل من القصبجي وعبدالوهاب.
لكن من المؤكد فإن عبدالوهاب ظل في مجال التجديد الموسيقي أكثر حرية من زميله وأستاذه القصبجي، لأنه كان ينفذ هذه التجديدات بوساطة الأوركسترا الكبيرة، وصوته الشخصي، أما القصبجي فقد كان مرتبطاً في تنفيذ تجديداته الموسيقية، إلى جانب الأوركسترا الكبيرة، بصوت أم كلثوم.
ومع عظمة هذا الصوت، ومع أنه لعب على مدار خمسة عشر عاماً كاملة، دور المؤدي العبقري للتجديدات الموسيقية العبقرية لمحمد القصبجي، إلا أن المزاج التقليدي في الغناء لدى أم كلثوم، الذي كان مؤسساً على مرحلة الإنشاد الديني التي نشأت عليها مطولاً، كان يعاودها بحنين كبير، خاصة في ألحان الشيخ زكريا أحمد، كما في ألحان رياض السنباطي منذ منتصف ثلاثينيات القرن الماضي.
وبرأيي أن ذروة التجديدات المتوازنة بين الطبيعة المقامية للموسيقى العربية، وتأثراته بفنون الموسيقى الكلاسيكية الأوربية، وصلت إلى ذروتها في مشاركته مع رياض السنباطي بتلحين أغنيات أم كلثوم في فيلمها الثاني «نشيد الأمل» (1937)، حيث كان السنباطي في بدايته متأثراً بأستاذه محمد القصبجي، الذي أبدع لأم كلثوم في هذا الفيلم، لحنين من أعظم ما في تـراث التجديد في الموسيقى العربية المعاصرة، هما مونولوج «منيت شبابي»، ومونولوج «يا مجد، ياما اشتهيتك».

الهروب إلى أسمهان
غير أن شهر العسل هذا بين عبقرية القصبجي الموسيقية، وعبقرية أم كلثوم الغنائية، كان يقف على أبواب مأساة تاريخية في العلاقة بين الاثنين، انفجرت مع فيلم «عايدة» (1942)، الذي جمح فيه تأثر القصبجي بالكلاسيك الأوربي، إلى حدود كانت سبباً في الفشل الجماهيري للفيلم، وفي إعراض أم كلثوم النهائي عن تكليف القصبجي بوضع ألحان جديدة لها.
وبما أن القصبجي كان يلمح قبل ذلك، تململ أم كلثوم من آفاقه التجديدية الجامحة، فقد كان يلجأ إلى الهرب لأصوات أخرى، خاصة صوتي أسمهان، وليلى مراد. وقد سجل لنا التاريخ لقاءات رائعة بين عبقرية القصبجي التلحينية، وعبقرية أسمهان الغنائية، في ألحان مثل «يا طيور» و«إمتى حتعرف» و«اسقنيها» وغيرها، ولحناً مثل «قلبي دليلي» لليلى مراد، وكلها ألحان كان القصبجي يعرف أنها لا تتطابق مع مزاج أم كلثوم الغنائي.
لقد وصلت المأساة التاريخية بين أم كلثوم المتمسكة بمزاجها التقليدي، والقصبجي المصر على تجديداته الجامحة، إلى حد تحول فيه العبقري محمد القصبجي من أحد أخطر المجددين في الموسيقى العربية بعد سيد درويش، بجانب محمد عبدالوهاب، إلى مجرد عازف للعود في الفرقة الموسيقية لأم كلثوم، بعد نزع قيادة الفرقة منه. ولا تفسير لذلك سوى التفسيرات النفسية التي تبحث في العلاقة التي كانت تربط القصبجي بتلميذته أم كلثوم. وفي إحدى حلقات لقاءات تلفزيونية مطولة بين الكاتب سعدالدين وهبة والموسيقار محمد عبدالوهاب، ورد ذكر محمد القصبجي في الحديث، فقال عنه عبدالوهاب بالحرف: «هذا واحد من أخطر المجددين في تاريخ الموسيقى العربية، لكن أم كلثوم وضعت له حدوداً» ■