المدقّقون اللغويّون والرسم المصحفيّ
قال لي: لِمَ تقول ما لا تفعل؟ فأجبته: أَبِالنفاق تتّهمني؟ قال: بل بالتناقض، فأنت تدعونا إلى أشياء وتفعل خلافها, تدعونا إلى كتابة كلمة مائة بلا ألِف لذهاب سبب زيادتها، وأنت تكتبها في مقالاتك بإثبات الألِف؛ وتقول بكتابة الهمزة المتطرّفة بعد ساكن في الفراغ (على السطر)، وتكتب كلمة شيء في مقالاتك على كرسيّ الياء؛ وتزعم اتّفاق الجمهور على كتابة «إِذَنْ» بالنون، وتكتبها بفتحتين (يعني بفتحة منوّنة)، فهل نتّبع أقوالك أم خطّك؟ فقلت له، وأنا أعلم أنّه لا يَقْصر اعتراضه على مقالاتي في «العربيّ»: سامح الله أصدقاءنا المدقّقين اللغويّين الذين تبلغ محبّتهم لنا أن يصحّحوا رسم كلماتنا لظنّهم أنّنا نسهو، ونحن أحياناً نسهو حقّاً، ويكون لتصحيحهم نفع جليل، لكنّهم يصحّحون أحياناً أخرى ما ليس سهواً، بل خِيار لغويّ، فيعرّضوننا للتهمة.
والحقيقة أنّ لهذا الأمر صلة بالرسم المصحفيّ، وبعض الذين يصحّحون تلك الكلمات على الصورة التي ذكرها المنتقِد يلتزمون ذلك الرسم في التصحيح حيث: مائة، وإذاً، وسَيِّئ. ولكنّ الرسم المصحفيّ لا يُتّبع في الخطّ، لأنّ لبعض صوره أسباباً تتّصل بأصول بعض الكلمات، ككلمة «حيوة» التي تكتب حتّى في المعجم المفهرس للقرآن الكريم هكذا: حياة؛ وتتّصل بتطوّر الخط، ككتابة الهمزة المتوسّطة المفتوحة بعد السكون في الفراغ في المصاحف، نحو: يَسْئَل، وعلى الألف في الخط الحديث: يسْأَل، وقد اضطر الناشرون إلى كتابتها بالرسم الحديث في بعض التفاسير والأبحاث، لعدم وجودها بين متّصلين بلا كرسيّ في حروف المطبعة؛ وأشياء كثيرة ذكرناها في مقالة سابقة وأُجمع على تركها في الخطّ الحديث، حتى إنّ بعض المؤلّفين القدماء والمعاصرين يكتبون الألفاظ، إذا كانت في نصّ لهم، على الصورة المتعارفة، وإذا كانت في نصّ قرآنيّ على صورة الرسم المصحفيّ، وذلك بضرب من التبرّك، وحفاظاً على دلالة بعض الرموز المصحفيّة؛ ومن ذلك تعليل المبرّد، في كتابه «المقتضب»، لحالة الرفع بعد «إذَنْ» في الآية الكريمة: {فإذاً لا يُؤْتُونَ الناسَ نَقِيراً} بقوله: «أي فهم إذنْ كذلك»، ومعروف أنّه يقول بكتابة «إذَنْ» بنون ظاهرة؛ لكنّه يُظهر النون حين يستشهد بقراءة ابن مَسعود لآية {وإذَنْ لا يَلْبَثون خِلافَكَ}، في الكلام على إعمال «إذَنْ»، وهي قراءة شاذّة. أمّا في كتابه «الكامل» فيراوح في كتابة «إذَنْ» بين إظهار النون والاكتفاء بتنوين الحركة. ومن العلماء من أجاز لنفسه، ولاسيّما في الكتب التعليميّة، كتابة النصوص القرآنيّة بالرسم الحديث، وذلك لأنّ من القرّاء من ليس مسلماً، وتتفاوت درجة المعرفة عند من يقرأون القرآن تفاوتاً كبيراً. وحسبك أنّ بعض المثقّفين، ولاسيّما غير المسلمين، يقرأ كلمة الرحمن، مثلاً، بميم مفتوحة غير ممدودة. ولا شكّ أنّ القدماء والمحْدثين الذين تجرّأوا فكتبوا الكلمة بألف: الرحمان، قد خدموا النصّ وتحاشوا اللبس. وقد كتبها ابن حَجَر العَسْقلانيّ في شرحه لصحيح البخاريّ بالألف فقال: «وسمَّى غيرَ الله رَحْماناً»، وأورد هذا الشعر: «وأنتَ غيثُ الوَرى لازِلْتَ رَحْمانا»، وذكر حديثاً للإمام عليّ يقول فيه: «يا ألله يا رحمان يا رحيم، اغفر ...»، والجميع يكتب الكلمة بالألف الظاهرة إذا لحقتها ياء النسبة أو الضمير: رحماني، ولا يجعلها على صورة رَحْمني أبداً. وقد أورد ابن حَجَر نفسه دعاء لأحد الصالحين يقول فيه: «أنت رحماني فارحمني يا رحمن»، وهناك عدد من الأسر في العالم العربيّ تُدعى برحمانيّ. وهذا يؤيّد دعوتنا إلى كتابة المصاحف بالرسم الإملائيّ الحديث، وشمول ذلك للكلمات الإشكاليّة، ككلمة الرحمن.
ونعود إلى «إذَنْ» التي أتعبت اللغويّين، وجعلت القرّاء يختلفون بين الوقوف عليها بالمدّ كإذا، أو بالنون تحاشياً لإلباسها بإذا! والحقيقة بسيطة جدّاً، وهي أنّ إحدى الفتحتين اللتين توضعان على الألف ترمز إلى حركة الفتحة القصيرة والثانية إلى النون الساكنة (اً=ـَنْ)، فاستعمل نسّاخ المصاحف، على ما يبدو، تينك الفتحتين، لتنوين الفتح العارض، نحو: سبيلاً، وللنون الأصليّة المبنيّة على السكون والمسبوقة بفتحة، في «إذاً» وفي نون التوكيد الخفيفة في عبارتي: لِيَكُوناً (لِيَكُونَنْ) ولَنَسْفَعاً = (لَنَسْفَعَنْ)، اللتين كتبوهما بفتحتين، مع أنّ الفعل لا ينوّن إلاّ في الترنّم بالقافية. فلمّا تطوّرت الكتابة مال الكتّاب إلى التفريق بين التنوينين، فاستعملوا لتنوين الحركة فتحتين، وأظهروا نون البناء الساكنة. لكنّ القراءة القرآنيّة بدأت قبل هذا التفريق، فالتزم القرّاء بالعرف القائل إنّ تنوين الفتح يبدل ألفاً عند الوقف، ولو لم تكتب الألِف، كما في «أشياءً»، ولذلك وقفوا على فعلي «لِيَكوناً» و«لَنَسْفَعاً» بالمدّ؛ لكنّهم اختلفوا في الوقف على «إذاً» فمدّها بعضهم ولفظ نونها آخرون للتفريق بينها وبين «إذا» كما سبق. فالموضوع اجتهاد لغويّ وليس عَقديّاً. ولا شكّ أنّ كتابة هذه النون، في غير المصحف، ولفظها عند الوقف، هو الاجتهاد الأفضل، لأنّه يؤدّي إلى رفع اللبس وإلى التمييز بين حرف النون والحركة المنوّنة. وحتّى إذا صحّ القول باسميّة «إذَنْ»، فإنّها مبنيّة في كلّ حال، والمبنيّ لا ينوَّن. والقول المنسوب إلى المبرّد، وهو أنّه يشتهي معاقبة من يكتب «إذَنْ» بالألف لحرفيّتها، والحرف لا ينوّن، يجري في هذا السياق. والدليل على صحّة تركهم لاجتهاد النسّاخ والقرّاء في هذا الشأن، هو أنّ أحداً، منذ العصر العباسيّ حتّى اليوم، لم يكتب نون التوكيد الخفيفة على صورة فتحتين، في ما نعلم؛ فهذا القُرطبيّ يقول مثلاً: «لَنَسْفَعاً أي لَنَأْخُذَنْ» فيكتب نون التوكيد الخفيفة في الآية على صورة فتحتين، ويكتبها في عبارته الخاصّة بالحرف.
يبقى موضوع مئة وشيء؛ ونكرّر أنّ الألِف زيدت في مئة لرفع اللبس بينها وبين منه، في غياب الإعجام، وفي زمن اضطرابه؛ أمّا وقد أصبح الإعجام واضحاً، فإن علّة الزيادة قد انتفت، ولاسيّما أنّنا نحذف الألِف في الجمع: مئات، وفي النسبة: مِئويّ، وأن من العباسيّين من كتب الكلمة بلا ألف كأبي الفرج الإصفهانيّ والقُرطبيّ، وأنّ المَجْمع اختار الحذف. أمّا شيء فغير سيِّئ، لأنّ همزتها تلي ساكناً، على حين أنّ همزة سيِّئ تلي كسرة، ولذلك كُتبت في المصحف وغيره في الفراغ: شيء، وكُتبت همزة سيئ على الياء، وقد كتبها بعضهم بياء واحدة: سيِّء، وهو الوجه، لأنّ العرب تتحاشى في الخطّ اجتماع المِثلين، ولو كان أحدهما مقعداً للهمزة، ولهذا كتبوا همزة «تَساءَل»، مثلاً، في الفراغ، وحقّها الألِف، تحاشياً لاجتماع ألِفين؛ وكتبوا همزة «أشياءً» في حالة النصب، في الفراغ للسبب نفسه، ولم يُتْبعوها بالألف، كما تقتضي القاعدة؛ وكتبوا الصفة المشبّهة مِن رَأَفَ هكذا: رءوف، وإن اختار بعضهم اليوم كتابتها على الواو: رؤوف .