حَمْلُ «الـحُبَّ» الكاذب

حَمْلُ «الـحُبَّ» الكاذب

لم‭ ‬أصادف‭ ‬في‭ ‬قريتي‭ ‬مفردة‭ ‬الحب،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬قرية‭ ‬‮«‬جادّة‮»‬،‭ ‬أكسبها‭ ‬وجودها‭ ‬بين‭ ‬جبلين،‭ ‬شرقي‭ ‬وغربي،‭ ‬طبيعة‭ ‬الصخر،‭ ‬فلم‭ ‬يلن‭ ‬قلبها‭ ‬ويسمح‭ ‬بمرور‭ ‬الحب‭ ‬في‭ ‬طرقاتها‭ ‬الترابية‭. ‬كنت‭ ‬حينها‭ ‬طفلا،‭ ‬يسير‭ ‬على‭ ‬جسر‭ ‬العبور‭ ‬بين‭ ‬ستينيات‭ ‬وسبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬لم‭ ‬أتذكر‭ ‬أن‭ ‬والدي‭ ‬قبَّلني،‭ ‬ربما‭ ‬حدث‭ ‬ذلك‭ ‬قبل‭ ‬تشكّل‭ ‬ذاكرتي،‭ ‬هذه‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تشفع‭ ‬لي‭ ‬حتى‭ ‬باسترجاع‭ ‬لمسة‭ ‬حنان‭ ‬أمومية،‭ ‬لأن‭ ‬قريتي‭ ‬‮«‬جادّة‮»‬‭ ‬جدا،‭ ‬ولا‭ ‬وقت‭ ‬فيها‭ ‬للمشاعر‭ ‬والعواطف،‭ ‬الكل‭ ‬يسعى‭ ‬لاكتساب‭ ‬ما‭ ‬يستطيع‭ ‬من‭ ‬لقمة‭ ‬عيشه،‭ ‬الأب‭ ‬حيث‭ ‬يتغرب‭ ‬أسبوعا‭ ‬كاملا‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬مطرح،‭ ‬ويأتي‭ ‬عصر‭ ‬الخميس،‭ ‬ننتظره،‭ ‬إذ‭ ‬تدخل‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬بيك‭ ‬أب‮»‬‭ ‬بمجموعة‭ ‬الموظفين‭ ‬والعمال‭ ‬الوادي‭ ‬الفاصل‭ ‬بين‭ ‬غربي‭ ‬القرية‭ ‬وجبلها‭ ‬العتيد‭. ‬

بدأت‭ ‬أقرأ‭ ‬المفردة‭ ‬عبر‭ ‬ما‭ ‬يأتي‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬صحف‭ ‬ومجلات‭ ‬تراكمت‭ ‬في‭ ‬مكتب‭ ‬رئيسه‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬واعتبرها‭ ‬والدي‭ ‬غنيمة‭ ‬جيّدة‭ ‬تُعلّم‭ ‬أبناءه‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة‭ ‬أكثر،‭ ‬وكنا‭ ‬نضع‭ ‬الورق‭ ‬الأبيض‭ ‬على‭ ‬خبر‭ ‬الصحيفة‭ ‬لنشفّ‭ ‬الكلام‭ ‬المكتوب‭ ‬بأناقة،‭ ‬أما‭ ‬إذا‭ ‬خلت‭ ‬أصابعنا‭ ‬إلى‭ ‬فوضاها،‭ ‬فستكتب‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬قراءته‭ ‬إلا‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الخبرة‭ ‬والذربة‭ ‬بمعرفة‭ ‬الطلاسم‭.‬

يومئذ‭ ‬‮«‬نسخت‮»‬‭ ‬قصيدة‭ ‬كتبت‭ ‬عن‭ ‬الحب،‭ ‬لا‭ ‬أتذكر‭ ‬شاعرها،‭ ‬ولم‭ ‬أعتن‭ ‬بأمر‭ ‬معناها‭ ‬كثيرا،‭ ‬انسقت‭ ‬وراء‭ ‬جرس‭ ‬الكلمة،‭ ‬وبدأت‭ ‬أعي‭ ‬أنها‭ ‬علاقة‭ ‬‮«‬ما‮»‬‭ ‬بين‭ ‬‮«‬قلبين‮»‬‭ ‬ثم‭ ‬أصبت‭ ‬لاحقا‭ ‬بفيروس‭ ‬الشعور‭ ‬بأنني‭.. ‬أحب‭.‬

لم‭ ‬ينقصني‭ ‬في‭ ‬شعوري‭ ‬‮«‬المباغت‮»‬‭ ‬ذلك‭ ‬سوى‭ ‬حبيبة،‭ ‬وهذا‭ ‬من‭ ‬أصعب‭ ‬الأشياء‭ ‬في‭ ‬محيطنا‭ ‬القروي،‭ ‬فلم‭ ‬أستو‭ ‬بعد‭ ‬على‭ ‬مهارة‭ ‬وفهم‭ ‬للدروس‭ ‬المطلوبة‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬الحب‭ ‬إلا‭ ‬ووجب‭ ‬عليّ‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬أنثى‭ ‬تقاسمني‭ ‬هذا‭ ‬الدور‭ ‬ليكون‭ ‬لما‭ ‬أقرأه‭ (‬ولاحقا‭ ‬أكتبه‭ ‬بسذاجة‭) ‬معنى‭ ‬واقعي،‭ ‬يرفرف‭ ‬بي‭ ‬فوق‭ ‬سعف‭ ‬النخيل‭ ‬كيمام‭ ‬جبلي‭ ‬جذلان‭ ‬يصدح‭ ‬بصوت‭ ‬هو‭ ‬الشعور‭ ‬بالشجن‭ ‬والحنين،‭ ‬وما‭ ‬أن‭ ‬أجد‭ ‬بيتا‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬فيه‭ ‬ذكر‭ ‬الحمام‭ ‬إلا‭ ‬توهّمت‭ ‬نفسي‭ ‬قريبا‭ ‬جدا‭ ‬من‭ ‬المعنى‭ ‬‮«‬أقول‭ ‬وقد‭ ‬ناحت‭ ‬بقربي‭ ‬حمامة‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬أبوفراس‭ ‬الحمداني،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬سمعتها‭ ‬لاحقا‭ ‬من‭ ‬هيام‭ ‬يونس‭ ‬‮«‬يا‭ ‬يمامة‭ ‬روحي‭ ‬للمحبوب‮»‬‭.‬

حتى‭ ‬إذا‭ ‬عثرت‭ ‬على‭ ‬مجنون‭ ‬ليلى‭ ‬أصابتني‭ ‬حمّى‭ ‬الحب‭ ‬في‭ ‬مقتل،‭ ‬وكأنني‭ ‬المجنون‭ ‬يسير‭ ‬بين‭ ‬أفلاج‭ ‬قريتي‭ ‬وواحات‭ ‬نخيلها،‭ ‬ولكن‭ ‬بقيت‭ ‬مشكلتي‭ ‬معقدة‭: ‬أين‭ ‬هي‭ ‬الحبيبة‭ ‬كي‭ ‬تكتمل‭ ‬القصيدة؟‭! ‬أين‭ ‬لي‭ ‬بليلى‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القرية،‭ ‬وكل‭ ‬بنات‭ ‬جيراننا‭ ‬أخوات‭ ‬لأصدقاء‭ ‬وزملاء‭ ‬وإخوة،‭ ‬وهنّ‭ ‬لا‭ ‬يعرفن‭ ‬في‭ ‬الحب‭ ‬سوى‭ ‬‮«‬فضيحة‮»‬‭ ‬إبلاغ‭ ‬أهلهن‭ ‬بتصرف‭ ‬هذا‭ ‬الولد‭ ‬‮«‬قليل‭ ‬الأدب‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬رفع‭ ‬عقيرته‭ ‬بالحب؟‭ ‬كنت‭ ‬أريد‭ ‬أنثى،‭ ‬أي‭ ‬أنثى،‭ ‬لأحبّها،‭ ‬وأكتب‭ ‬فيها‭ ‬قصيدة،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬أستطع‭ ‬فعلى‭ ‬الأقل‭ ‬تشاركني‭ ‬الشعور‭ ‬بعذوبة‭ ‬الشعر‭ ‬الذي‭ ‬أقرأه،‭ ‬وعلى‭ ‬استعداد‭ ‬أن‭ ‬أسمعها‭ ‬إياه،‭ ‬وقد‭ ‬حفظت‭ ‬منه‭ ‬الكثير،‭ ‬وخادعتني‭ ‬نفسي‭ ‬بأنني‭ ‬أقول‭ ‬لها‭ ‬إنه‭ ‬شعري،‭ ‬فمن‭ ‬أين‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تعرف؟‭!‬

في‭ ‬منتصف‭ ‬السبعينيات‭ ‬دخل‭ ‬بيتنا‭ ‬جهاز‭ ‬راديو،‭ ‬وكان‭ ‬مشتعلا‭ ‬بأغاني‭ ‬الغرام‭ ‬والهيام،‭ ‬حينئذ‭ ‬تعرفت‭ ‬على‭ ‬‮«‬رسالة‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬الماء‮»‬،‭ ‬وكلما‭ ‬قال‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ‭ ‬‮«‬إني‭ ‬أغرق‭.. ‬أغرق‮»‬،‭ ‬أشعر‭ ‬بأنني‭ ‬أحتاج‭ ‬إلى‭ ‬بحر‭ ‬من‭ ‬العشق‭ ‬لأغرق‭ ‬فيه‭. ‬وكانت‭ ‬الكارثة‭ ‬أنني‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الثانوية‭ - ‬أي‭ ‬المراهقة‭ - ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬المعهد‭ ‬الإسلامي‭ ‬بمسقط،‭ ‬وقعت‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬دواوين‭ ‬نزار‭ ‬قباني،‭ ‬حينها‭ ‬كنت‭ ‬أصحو‭ ‬كأنني‭ ‬عاشق‭ ‬‮«‬شفّه‭ ‬الغرام،‭ ‬وأنام‭ ‬على‭ ‬خيال‭ ‬حبيبة‭ ‬غدرت،‭ ‬وما‭ ‬وفت‭ ‬لكلف‭ ‬بها‮»‬‭.‬

اليوم‭ ‬تحوطني‭ ‬المدينة‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬قدرتي‭ ‬على‭ ‬الحب،‭ ‬وينثال‭ ‬كلام‭ ‬العشق‭ ‬من‭ ‬الهواتف‭ ‬النقالة‭ ‬والبريد‭ ‬الإلكتروني‭ ‬والفيسبوك‭ ‬كالرمل‭ ‬فوق‭ ‬حدود‭ ‬الكلام،‭ ‬لكن‭ ‬القلب‭ ‬لا‭ ‬يرتعش‭ ‬كما‭ ‬ارتعش‭ ‬لذلك‭ ‬الحب‭ ‬الذي‭ ‬بدا‭ ‬‮«‬حملا‭ ‬كاذبا‮»‬،‭ ‬لكنه‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬تحريك‭ ‬الروح‭ ‬لتغرد‭ ‬فوق‭ ‬أعلى‭ ‬سعفة‭ ‬لأعلى‭ ‬نخلة‭ .