الأجهزة الرقمية والتناظرية

الأجهزة الرقمية والتناظرية

تحتل الأجهزة الرقمية حيزاً كبيراً من عالم هذا اليوم، فلدينا أجهزة تلفزة رقمية وحواسيب وموبايلات وموسيقى وكاميرات وكتب وساعات ومحارير Thermometerرقمية، وكل ما يخطر على بال من أجهزة أخرى. وهذا الوضع الرقمي لم يكن كذلك في سبعينيات القرن الماضي، فأقصى ما كان موجوداً هو الساعات الرقمية التي ظهرت إلى جانب الساعات التناظرية أو التشابهية Analog. وكثير من الساعات التناظرية كانت سويسرية رائعة الجمال ذات عقارب معدنية تدور بدقة فائقة على تدريج ذي أرقام مختلفة التصاميم والألوان. فما الفرق بين الأجهزة الرقمية والأجهزة التناظرية؟ وأيهما أحسن أداءً وأفضل دقة؟

يَصْعُبُ تفسير هذه التقنيات على كثير من الناس. ففي حالة الساعات التناظرية يفهم الناس أنها تُعلنُ عن الوقت من خلال دوران ذراعين (عقربين) على واجهةٍ مُدرَّجةٍ تُمثل وجه الساعة. وعندما نرى حركة عقرب الساعات، مثلاً، بمقدار ثلاثة أرقام سنعرف أنَّ ثلاث ساعات من الوقت قد مرت. هذا شيء سهل ويبدو بديهياً جداً، لكن الأمر ليس كذلك، فحركة العقارب لا تمثل الوقت المار. فهذا ليس الوقت بمعناه العلمي أو الفلسفي، إنه قياس تشابهي أو تناظري Analogy للوقت. هذا مثل قياسنا لطول كتاب مثلاً بوساطة مسطرة خشبية، وهذا القياس لا يمثل الكتاب طبعاً. إنه تمثيل لطول الكتاب أو قياس يناظر طوله. هذا هو بالضبط معنى تناظري أو تشابهي.
 
القياسات التناظرية
كانت جميع القياسات التي جرت قبل ظهور الحاسبات الإلكترونية وسيطرتها على حياتنا عبارة عن قياسات تناظرية. فمثلاً لو كنا نريد معرفة مقدار فرق الجهد الكهربائي في دارة كهربائية، فسوف نربط على طرفي الدارة فولتميتر من النوع الموجود في ذلك الحين ذا نابض حلزوني (أي لولب)، ونلاحظ أو نسجل مقدار حركة المؤشر على التدريج الثابت على واجهة الفولتميتر. وكلما تحرك المؤشر مقداراً أكبر على التدريج كان فرق الجهد على طرفي الدارة أكبر. كذلك عندما تلتقط صورة لمنظر أمامك بوساطة كاميرا غير رقمية، أي من النوع الذي يستخدم أفلاماً فوتوغرافية، فتحصل على صورة على الفيلم الفوتوغرافي. فالصورة المُلتقطة على الفيلم تمثل التسجيل التناظري للمنظر الحقيقي الملتقط. وبالفكرة نفسها يكون الصوت الذي يتم تسجيله على شرائط التسجيل القديمة هو مجموعة من المساحات الممغنطة على الشريط البلاستيكي، تمثل التسجيل التناظري للصوت الحقيقي الذي سجلناه. وهكذا تعمل بقية أجهزة القياس الأخرى مثل الموازين ومقاييس الضغط والحرارة والرطوبة وأجهزة كثيرة أخرى. ويستعمل اليوم تعبير جهاز «تناظري» للدلالة على أنَّ الجهاز «ليس رقمياً»، أي إنَّ عمل ذلك الجهاز أو المعلومات التي يعطيها لا تكون رقمية ولم تتعرض لمُعالَجات إلكترونية تحوِّل القياس إلى أرقام. 

التقنيات والقياسات الرقمية
يختلف أساس التقنيات والقياسات الرقمية اختلافاً جذرياً عن التقنيات والقياسات التناظرية. فبدلاً من استعمال اللولب المغناطيسي ذي المؤشر أو استعمال فيلم فوتوغرافي أو شريط مغناطيسي لتمثيل القياس، يتم في التقنيات الرقمية تحويل المعلومات التي نريدها من ذلك القياس إلى أرقام ثنائية Binary Digits  قبل عرضها أو خزنها أو معالجتها.
وفي العقود الأخيرة تحول أغلب الأجهزة المعروفة إلى النظام الرقمي، مثل شاشات البلورات السائلة والمحارير ومقاييس ضغط الدم والمقاييس المتعددة لقياس التيارات والإجهادات الكهربائية والموازين وغيرها الكثير. وبصورة عامة تكون القياسات الرقمية أسرع وأسهل من القياسات التناظرية. أما من ناحية الدقة، فذلك يعتمد على طريقة تصنيعها وكيفية قياسها وطريقة عرضها للبيانات. 
لنستعرض الآن بعض الأمثلة عن مقارنة التقنيات التناظرية مع التقنيات الرقمية. لنبدأ مثلاً بأشرطة الكاسيت المغناطيسي التي كانت تستعمل لتسجيل الأغاني، ولنفترض أننا احتجنا إلى حوالي 400 شريط كاسيت لنسجل عليها عدداً معيناً من الأغاني، بينما يمكن تخزين المقدار نفسه من الأغاني التي احتاجت 400 كاسيت على مشغل MP3 player منفرد يمكن حمله في الجيب. كذلك نجد الشيء نفسه بالنسبة إلى الكتاب الإلكتروني، حيث يمكن تخزين آلاف عدة من الكتب الورقية على كتاب إلكتروني واحد يمكن حمله باليد أو وضعه في الجيب. والموبايلات مثال آخر على روعة التقنيات الرقمية، فهي ترسل أصوات الأشخاص بعد تحويل هذه الأصوات إلى أرقام، ومن ثم إرسال هذه الأرقام إلى موبايل آخر يحوّلها إلى أمواج راديوية فنسمع ما قال المتحدث. والتمثيل الرقمي يُسهِّل كثيراً من العمليات، فمثلاً يمكن بكل سهولة تأمين سلامة المكالمات عن طريق تشفيرها قبل إرسالها، لأنها مجرد أرقام يمكن التلاعب بها بسهولة ومن ثم إرجاعها إلى ما كانت عليه بسهولة أيضاً. وفي برامج الرسم الحاسوبي computer graphics يمكن تحوير أو تحسين الرسوم والرسوم المتحركة بشكل كبير من خلال التلاعب بالأرقام التي تمثل تلك الرسوم، وليس بالرسوم نفسها. وهذا التلاعب غير ممكن نهائياً مع الرسوم الفوتوغرافية، لأنها قياسات تناظرية. 

كيفية تحويل الإشارات التناظرية إلى رقمية
يسهل تحويل الإشارات التناظرية، سواء كانت ضوئية أو صوتية أو أي إشارة أخرى، إلى إشارات رقمية من خلال تقنية تسمى «تحويل تناظري - إلى - رقمي analog-to-digital conversion ADC». وتتم عملية تحويل التناظري إلى رقمي من خلال عملية تسمى «اختيار العينة» أو «التَعْينية Sampling»، وتعني القياس على فترات أو أبعاد منتظمة. وفي الواقع، تقوم موبايلاتنا بهذه العملية كلما أجرينا أو تسلمنا مكالمة. لتوضيح ذلك لنأخذ المثال التالي:
لنفترض أننا تسلمنا مكالمة هاتفية من صديق. الصوت الذي يصلنا من الصديق عبارة عن موجات صوتية تنتقل خلال الهواء إلى ميكروفون الهاتف، فيحول الميكروفون الصوت إلى إشارات كهربائية. والإشارات الصوتية والكهربائية كلاهما موجات تتغير كدالة للزمن، وهي معلومات تناظرية وستبدو بشكل موجة مستمرة غير متقطعة، كما في الرسم العلوي في الشكل المرفق. ولنفترض أنَّ سعة الموجة (أقصى ارتفاع لقيمة الموجة) كان 7 وحدات قياس تقريباً، وأقل ارتفاع كان 1 تقريباً. ومن خلال دارة إلكترونية داخل الهاتف يقتصر عملها على تحويل الموجة التناظرية إلى موجة رقمية، يتم قياس حجم الموجة مرات عدة خلال الثانية الواحدة ثم يتم تخزين كل قياس كرقم ثنائي.  لنفترض أنَّ هذه الموجة المبينة في الرسم قد استغرقت فترة زمنية مقدارها 9 ثوان. ولو تأملنا الرسم الأوسط  من الشكل في الصفحة السابقة لوجدنا أنَّ هذه الدارة قاست قيمة سعة الموجة كل ثانية واحدة، وقد بيَّنا ذلك بشكل تسعة أعمدة على الرسم. بذلك سَتَخْزِن هذه الدارة تسع قيم لارتفاعات الموجة، وتُقرأ القيمة دائماً من اليمين إلى اليسار  5 - 3 –3 - 1 - 1 - 5 - 7 - 7 - 5 . بذلك نكون قد حولنا الموجة التناظرية إلى معلومات رقمية. بعدها تُرسل هذه الأرقام من خلال الهواء بشكل موجات راديوية إلى هاتف آخر. وسيعكس الهاتف المتسلم للأرقام من خلال دارة مختلفة سير العملية فتحول الأرقام إلى موجة صوتية فنتمكن من سماعها. 
المشكلة هنا واضحة، فنحن فقدنا بعض المعلومات بتمثيل الموجة التناظرية بتسع قيم فقط. لذلك يجب أخذ قيم أكثر من ذلك، أي نزيد من سرعة أخذ العينات. ولنفترض أننا أخذنا القياس كل ½ ثانية، أي ضاعفنا من سرعة «التَعْينية Sampling». سنحصل هنا على 18 قياساً بدلاً من 9: -4 -3 -3 -2 -1 -1 -2 -5 -7 -7 -8 -8 -7 -7 6 . ستكون هذه الأرقام أفضل من سابقتها في تمثيل شكل الموجة التناظرية. وهكذا يمكن زيادة السرعة التعينية وأخذ قيم رقمية أكثر، مثلاً كل ¼ أو ⅛ ثانية، فنحصل على 36 أو 72 قيمة رقمية لتمثيل الموجة التناظرية التي استغرقت 9 ثوان زمنية. طبعاً هذه الزيادة في مقدار المعلومات الرقمية ستعني زيادة في حجم مكان الذاكرة اللازم لتخزينها.

السرعة العينية وسرعة البِتْ Sampling rate and bit rate
يقصد بسرعة البِتْ أنها كمية المعلومات التي تُلتَقط في أثناء قياسات العملية العينية التي تحوِّل الموجة التناظرية إلى رقمية. وكلما ازدادت السرعة العينية وسرعة البِتْ زادت كمية المعلومات الملتقطة، وكان الصوت الرقمي الذي نحصل عليه أفضل وأنقى، طبعاً هذا سيكون مصحوباً بزيادة في سعة الخزن وفي الوقت اللازم للتحميل. ويجب أن تكون قيم السرعة العينية المقبولة للحصول على صوت جيد لموسيقى الأقراص المرنة أو MP3 أكثر من 40 ألف عَيِّنة في الثانية. وسبب هذه القيمة المرتفعة للقياسات الرقمية المطلوبة هو أن الترددات الصوتية للإنسان تتراوح بين 20 و20000 ذبذبة في الثانية. لذلك يجب أنْ تكون سرعة أخذ العينات ضعف قيمة أكبر تردد في تلك الموجة (وهذا سبب تقني يعرفه علماء الاختصاص). والقيمة المستعملة حالياً هي بحدود 44 كيلوهيرتز (أي 44000 ذبذبة في الثانية). أما سرعة البِتْ المستعملة في تسجيلات MP3 فهي 128 kbps (أي 128000 يِتْ في الثانية). وتوجد قيم أعلى من ذلك وتصل إلى 256 kbps ■