فيزياء الكم... الكون من منظور آخر

فيزياء الكم... الكون من منظور آخر

جرى الاعتقاد مدة طويلة بأن النتائج التي حققتها العلوم التجريبية الكلاسيكية في ميدان الميكانيكا وعلم الفلك، كفيلة بأن تفسر كل ظواهر الكون، كبيرها وصغيرها. غير أن الميكانيكا النيوتونية سرعان ما ستستفيق من سباتها الدغمائي بفعل مجموعة من المعضلات التي لم تستطع حلها والمتعلقة أساساً بالعالم المتناهي في الصغر: عالم الذرة وما دون الذرة. وبات مؤكداً أن قوانين نيوتن لا تنطبق إلا على العالم الأعظمي أو الماكروسكوبي (العياني)، أما العالم الميكروسكوبي (الصُّغري) فلا تنطبق عليه تلك القوانين. وقد كان هذا إعلاناً عن ميلاد فيزياء الكم مع ماكس بلانك، الفيزياء التي غيرت كثيراً من تصوراتنا عن المادة والكون والحياة. 

تتبنى الفيزياء الكلاسيكية تصوراً خاصاً للكون، حيث تسود مفاهيم الحتمية، والسببية، واستقلالية الملاحظ، إذ تحول التصور الميكانيكي في القرن السابع عشر إلى نموذج (paradigme) للتفسير، فأصبحت معاييره ومقاييسه بمنزلة موجه لكل بحث في الطبيعة، وهكذا تكرس تصور معين للمادة مفاده أنها عاطلة تمام العطالة ولا تخفي بداخلها أيّ أسرار أو كيفيات سحرية. وحينما صرح ديكارت (1596-1650) في كتابه «مبادئ الفلسفة» قائلاً: «لا توجد بالأحجار والنباتات قوى خفية ومتوارية عنا، كما لا تخفي أسراراً، كالتجاذب والتنابذ، فلا شيء يوجد بالطبيعة إلا ويُرد إلى أسباب جسمية محضة، لا دخل للأرواح فيها»، فإنه كان بذلك ينوب عن الجميع وينطق باسم فلسفة العلم السائدة. فالفكرة الواضحة التي يمكن أن تكون لنا عن العالم المادي هي فكرة الامتداد ومعها فكرة الحركة، أما ما عداهما من صفات وخصائص سحرية باطنية كتلك التي كان يدّعيها أنصار النزعة الإحيائية، فهي جميعها تُرَّهات باطلة. من هنا تمحور اهتمام علماء الفيزياء حول المادة، محاولين الكشف عن القوانين المتحكمة فيها.
وتعد مساهمة إسحاق نيوتن من بين المساهمات الأساسية التي وضعت لبنات الفيزياء الكلاسيكية، إذ اكتشف قوانين الحركة وقانون الجاذبية. فوفق قانونه الأول للحركة؛ إذا تحرك جسم ما على خط مستقيم فإنه لن يستمر في التحرك على مساره إلى ما لا نهاية، إلى أن تتسلط عليه قوة خارجية تحد من حركته أو تحرفه عن مساره. ووفق قانونه الثاني، فإن كل فعل يقابله رد فعل مساوٍ له في الشدة ومعاكس في الاتجاه. أما قانونه في الجاذبية فمفاده أن الأجسام جميعها تتبادل ما دعاه نيوتن بالتأثير عن بعد وفق قوة تثاقل تُفعل بينهما. وهذه القوة هي التي تشد التفاحة الناضجة نحو الأرض، وهي التي تحفظ أيضاً القمر في مداره حول الأرض، والكواكب في مساراتها حول الشمس. 
وبمعرفتنا الوافية لقوانين الحركة، صار بإمكاننا أن نتنبأ بمستقبل الجسم المتحرك إن توافرت لدينا معطيات عن أحواله البدئية: سرعته البدئية واتجاهه... وكلما تزودنا بمعطيات أكثر دقة، كانت تنبؤاتنا لمساراته أكثر دقة. 
ولكي يبين نيوتن شمولية القوانين التي وضعها، وإمكان تطبيقها ليس فقط على الأجسام الأرضية، بل حتى على الأجسام السماوية، قام بحساب حركة القمر وبعض الأجرام الأخرى باستخدام معادلاته في الحركة العادية، ثم قارن الأرقام التي توصل إليها بالأرقام المتحصلة لدى علماء الفلك، فجاءت النتائج متطابقة. ليلغي بذلك التمييز التقليدي بين الأجسام السماوية والأجسام الأرضية، بين عالم الكون والفساد وعالم الثبات بلغة أرسطو؛ وينتهي به الأمر إلى توطيد الصلة بين الميكانيكا والديناميكا.
تقودنا هذه الرؤية النيوتونية إلى تصور حتمي جبري للكون، فكل ما جرى ويجري وسوف يجري، قد تم تقريره، وما الكون إلا آلة جبارة تعمل بدقة وفق العوامل الأولى التي أطلقت حركتها، ووفق قوانين دقيقة تنطبق على الأجسام الأرضية والأجسام السماوية. ومن ثم فالكون برمته خاضع لحتمية دقيقة يمكن التنبؤ بها، كما أن عمليات القياس التي يجريها العالم على الظواهر هي عمليات دقيقة وموضوعية لا علاقة لها بالذات المجربة التي تقوم بهذه القياسات. 
وفقاً لهذه المبادئ كانت الطمأنينة تخيم على المجتمع العلمي، إذ تم الاعتقاد بأن القوانين التي وضعها نيوتن ستكون لها الكلمة الأخيرة في حل كل المشكلات التي يمكن أن تعترضنا في المستقبل. لكن التطورات التي حدثت بينت قصور الفيزياء الكلاسيكية عن تفسير عالم الذرة وما دون الذرة. فهي صالحة لدراسة العالم الأعظمي أو الماكروسكوبي، لكنها تقف عاجزة أمام العالم المتناهي في الصغر، أو الميكروسكوبي، وهو ما أدى إلى ظهور ما يسمى بفيزياء الكم.

فيزياء الكم... ثورة ضد المألوف 
فرضت فيزياء الكم نفسها على المجتمع العلمي في بداية القرن العشرين، كنظرية قادرة على الإجابة عن المشكلات التي تبين قصور الفيزياء الكلاسيكية في معالجتها. والكم Quantum هو في الأصل اللغوي اليوناني كمية من شيء ما، ومعناها أن المادة تصدر طاقة متقطعة على شكل حزم، وبالتالي تكون الحركة هنا غير مستمرة، أي إنها قفزات، على عكس مفهوم الحركة النيوتونية التي هي شيء متصل في المكان. إن الإلكترون مثلا، وباعتباره جزيئاً متناهياً في الصغر، وبسبب ضآلة حجمه، فهو يتصرف بطريقة غير مألوفة. إذ لاحظ نيلز بور أن قوانين الحركة النيوتونية لا تنطبق على حركة الإلكترون، إذ إنه لا يقطع المسافة كما هو معهود، بل يقفز داخل الذرة من مدار إلى آخر بطريقة فجائية، بوساطة «كم» متقطع من الطاقة، وبتغييره المدار الذي يسير فيه يستطيع أن يغير طاقته ويضبطها على المدار الجديد. 
وحتى نتعرف على بعض خصائص العالم الكمومي، سنتوقف عند بعض مبادئ فيزياء الكم، وسنقتصر على:
 
مثنوية جسيم- موجي 
لمدة طويلة كان الصراع قائماً بين نظريتين متقابلتين في تفسير الضوء: النظرية الموجية لماكسويل والنظرية الموجية لنيوتن، ولم يُحسم هذا الصراع إلا مع لوي دوبرليDoberly سنة 1923، حين بين أن الجسيم والموجة وجهان لعملة واحدة، مشيراً إلى أن الضوء له خاصية جسيمية وله خاصية موجية؛ والعالم الكمومي يُخيرنا بين معرفة واحدة من الخاصيتين. والملاحظ المشارك هو الذي يختار الواحدة على حساب فقدان الأخرى، أي إن خيارنا لاكتشاف خاصية كمومية معينة هو الذي يعمل على خلق هذه الخاصية في حيز وعي الملاحظ. وبذلك تطلعنا نظرية الكم على الوحدة الضمنية للكون بإظهارها عدم تجزئة العالم إلى مكونات متناهية في الصغر تتمتع بوجود مستقل عن الكل. أما الوعي الإنساني الذي يراقب الطبيعة ويحاول فهمها بشكل تجزيئي، فليس إلا جزءاً من تلك العلائقية الشمولية؛ إنه النقطة التي تتمركز عندها أي حادثة وتتخذ معناها.
كما تطلعنا فيزياء الكم على أمر في غاية الغرابة، وهو أننا لا نستطيع رصد «شيء» في العالم المتناهي في الصغر، من دون أن نعمل بذلك على إحداث تغيير فيه، فالمراقب وموضوع مراقبته يتداخلان. وما نحصل عليه من خلال فعل المراقبة ليس معطيات موضوعية عن العالم ما دون الذري، بل معلومات عن تداخلنا وتفاعلنا مع هذا العالم. وهذا ما يُدعى بالتكاملية. والتكاملية مفهوم طوره نيلز بور من أجل تفسير الطبيعة المزدوجة للضوء، إذ رأى أن الخاصية الجسيمية والخاصية الموجية ضروريتان رغم تعارضهما من أجل فهم ظاهرة الضوء؛ لأن هاتين الخاصيتين ليستا في الواقع خاصيتين للضوء، بل إنهما خاصيتان لتداخلنا مع ظاهرة الضوء. فنحن من نستطيع أن ندفع الضوء إلى إظهار هذه الخاصية أو تلك بناء على اختياراتنا المسبقة. ولعل هذا ما حدا بهايزنبرغ Heisenberg إلى القول ذات مرة: «إن ما نرصده ليس الطبيعة، بل الطبيعة كما تتبدى لطرائقنا في استجوابها».

مبدأ الارتياب
إذا كان مبدأ الملاحظة والقياس هو أحد أهم المبادئ التي قامت عليها الفيزياء الكلاسيكية، فإنه في مجال فيزياء الكم يتعذر تحقيق هذا المبدأ. في عالمنا الماكروسكوبي يمكننا أن نعرف بدقة بالغة متى وأين سيكون القطار إذا عرفنا السرعة التي سينطلق بها من محطة «أ»، لكن من المستحيل معرفة المكان الذي سيكون فيه الإلكترون إذا عرفنا سرعته. إذ إن التجارب على الجسيمات الدقيقة برهنت على عجزنا عن معرفة سرعة جسيم ما وموضعه في آن واحد. ففي الوقت الذي نستطيع فيه ضبط سرعة الجسيم، فإننا نفقد تماماً موضعه، وعندما نستطيع تحديد موضعه نفقد سرعته، وهذا ما يُعرف بمبدأ الارتياب الذي وضعه هايزنبرغ. 
وبذلك فإنه عكس الفيزياء الكلاسيكية، نحن لا نستطيع في ميكانيكا الكم - من حيث المبدأ - أن نعرف ما يكفي عن الوضع الراهن لعناصر الحادثة الفيزيائية، لنستطيع التنبؤ بأوضاعها المستقبلية، حتى ولو توافرت لدينا أفضل معدات القياس. هذا الوضع لا ينشأ، كما يمكن أن يتبادر إلى الذهن، عن قصور في تقنيات القياس، بل هو وضع ناجم عن طبيعة العالم الكمومي. إن عدم قدرتنا على تقرير سرعة وموضع الجسيم، يعني أننا لا نستطيع التنبؤ بأحواله المقبلة كما هو الأمر مع الأجسام المتحركة في عالمنا الماكروسكوبي. ومن ثم، فإن فيزياء الكم لا تتنبأ بأحداث محددة، بل باحتمالات وقوع هذه الأحداث. وتستطيع ميكانيكا الكم حساب الاحتمالات بالدقة نفسها التي تتمتع بها الفيزياء الكلاسيكية في توقع الأحداث.
 
مبدأ التراكب
إن حركة الجسيم في العالم الكمومي لا تتحدد إلا بشكل احتمالي، ولذا فإن الصورة الاحتمالية هذه، وفق معادلة شرودنجر، تتضمن أن الجسيم يمكن أن يوجد في أكثر من موضع في آن واحد. 
وقد بيّن شرودنجر أنه إذا كانت أشياء العالم الصُّغري كالذرات وما دونها، تتراكب بهذا الشكل الغريب، فلابد أن تنهج الأشياء الماكروسكوبية النهج ذاته. لذلك حاول شرودنجر أن يقدم مثالاً واقعياً لتوضيح المسألة. فطرح تجربة القط المشهورة؛ وفي تلك التجربة يقتل جهاز ما القط الموضوع في صندوق مغلق عندما تتحلل ذرة ما إشعاعياً. ولأنه عند زمن نصف العمر تكون الذرة من وجهة نظر فيزياء الكم متحللة وغير متحللة في الوقت نفسه، فإنه بعد هذا الوقت يكون القط حياً وميتاً في الوقت نفسه.
 
قط شرودنجر
من بين التفسيرات التي قُدمت لهذه المسألة، نجد تفسير مدرسة كوبنهاجن، وهو الاتجاه الذي كونته مناقشات نيلز بور وهايزنبرغ. وهذا التفسير مبني على أساس أن الملاحظة تُؤدي تلقائياً إلى انهيار الدالة الموجية، فيرى المراقب الجسيم في حال محددة. وهذا التفسير يعني أن الواقع في حد ذاته متراكب، وأن القط في الحقيقة حي وميت في الوقت نفسه، وأن ملاحظة القط عند فتح الصندوق هي السبب في تحديد حالته، سواء كان حياً أو ميتاً. وبذلك ففي الحالة العادية تحكم الدالة الموجية (معادلة شرودنجر)، وفي حالة الملاحظة تصبح حالة الجسيم محددة، وتسمى بانهيار الدالة الموجية. 
لم يكن من نتائج تقدم العلم المعاصر، لاسيما الفيزياء، تطور معرفتنا بالمادة فقط، بل وأيضاً إعادة النظر في المطلقات؛ أي كل ما كان يُنظر إليه على أنه أولي وضروري، أو مسلمة لا حاجة إلى التساؤل حول صلاحيتها. إنها إعادة نظر شملت الأسس النظرية للفيزياء الكلاسيكية وطرحت ضرورة وراهنية اعتبارات نظرية جديدة قادرة على أن تستوعب الفكر العلمي الجديد في جدته ومرونته، وحتى في غرابته.
وقد أصبح الآن معروفاً طبيعة التحولات التي لامست مفاهيمنا للمادة والحياة والكون، حيث كان يُنظر إلى هذه الأشياء قديماً على أنها ثابتة لا تتغير، وأنها خاضعة لقوانين ميكانيكية جامدة. لكننا اليوم على يقين من أن هذه المفاهيم وإن كانت لم تفقد سحرها وغموضها، فهي مع ذلك ليست منيعة على المعرفة؛ والشيء الأهم أنها تتطور باستمرار.
هذا التطور الذي يمس المادة والكون يؤدي حتما إلى تطوير تصورنا لذاتنا وللعالم. بل إن القضايا الميتافيزيقية الكبرى التي ترسخت في تاريخ الفلسفة منذ اليونان، حول حقيقة الوجود والأنا والوعي واللاوعي، ينبغي أن يتم تناولها اليوم في ضوء معطيات الثورة الكمومية، هذا إذا استمر وجودها في ظل إرهاصات فيزياء المستقبل ■