محطات كهربائية تتحرك في الماء
هناك كثير من الظواهر الطبيعية التي يقف أمامها العقل البشري عاجزاً قاصراً عن إدراك كنهها ومعرفة أمرها. وفي تاريخ العلم ظاهرة توقّف الإنسان أمامها كثيراً، ولم يستطع أن يجد لها تفسيراً «مقبولاً» لفترة طويلة من الزمن، هذه الظاهرة هي الكهرباء، فقد ظل الإنسان ردحاً كبيراً من السنين على دراية بفوائد الكهرباء دون أن يعرف ماهيتها، وماهية القوى الخفية التي تحركها.
ومن الطريف أن الكهرباء قد استخدمها الأطباء قبل المهندسين والفيزيائيين، إذ شاع استخدامها في علاج المرضى قبل أن يتمكن توماس أديسون Thomas Edison (1847 ذ 1931م) من اختراع المصباح الكهربائي، وقبل أن يتمكن نيلز بور Neils Bohr (1885 ذ 1962م) وأرنست رزرفورد Ernest Rutherford
(1871 ذ 1937م) وغيرهما من كشف النقاب عن أسرار الذرة التي قادت العلماء إلى فهم ماهية الكهرباء وإدراك كنهها، وأنها ما هي إلا حركة الإلكترونات في أي مادة معدنية موصلة conductive metal (كالنحاس أو الألمنيوم)، مكونة ما يُعرف بالتيار الكهربائي.
قصة قديمة الجذور
علاقة الإنسان بالكهرباء ذ التي لم يعرف ماهيتها إلا في القرن العشرين ذ تعود في الواقع إلى زمن بعيد يوغل في القدم، وتحكي لنا كتب التاريخ أن عديداً من مشاهير الأطباء ذ إبان عصر الإمبراطورية الرومانية ذ كانوا يعالجون مرضاهم بالكهرباء التي تولدها محطات كهربائية تحت سطح الماء، تكمن في أجسام مخلوقات بحرية، هي الأسماك الكهربائية.
ومن أشهر الأسماك المولدة للكهرباء - التي عرفها قدامى الرومان ذ سمكة الورنك skate، وهي سمكة تعيش في مياه البحر الأبيض المتوسط. وقد لاحظ الرومان الكيفية التي تستطيع بها هذه السمكة أن تحصل على غذائها، فهي لا تطارد فريستها، ولا تنصب لها كميناً، ولكنها تعوم في مياه البحر بهدوء تام، حتى إذا ساق القدر إلى جوارها سمكة ذات حظ تعيس، حدث شيء مفاجئ، ترتعش له الفريسة، وما هي إلا ثوان معدودات حتى تصبح في عداد القتلى، وعندئذ تنقضّ سمكة الورنك على هذه الضحية المسكينة لتلتهمها هنيئاً مريئاً، ثم تمضي في طريقها والسكينة تغشاها، وكأن شيئاً لم يكن. وقد اعتقد الرومان أن هذه السمكة العجيبة تفرز مادة سامة بمجرد رؤيتها للفريسة، ولذلك راحوا يهتمون بتربية سمكة الورنك في أحواض خاصة، ويستخدمون «سمّها» في علاج مرضى الروماتيزم، إذ إنهم وجدوا أن هذا «السم» يؤثر في الإنسان حينما يلامس جسم هذه السمكة، ولكنه لا يسبب الموت له، وإنما يصيبه بصدمة ترتعش لها يداه، وتكون أشبه بالصدمة التي يستشعرها المرء حين يلامس سلكاً كهربائياً عارياً.
وفي واقع الأمر فإن السم الذي تحدث عنه الرومان لم يكن غير الكهرباء التي تولدها محطات الطاقة الكهربائية المتحركة في مياه البحر، أقصد أسماك الورنك.
مأساة دي سيكا
حينما وصل المغامرون الإسبان إلى أمريكا انتشرت أسطورة بينهم، مفادها أن ثمة مدينة في قارة أمريكا الجنوبية، اسمها: «الإلدورادو El Dorado»، جدرانها وأرصفة شوارعها من الذهب الإبريز الخالص، وقد تدافعت جماعات كبيرة من هؤلاء المغامرين إلى هذه القارة بحثاً عن هذه المدينة، ومن بين هذه الجماعات فريق كان يرأسه رجل شهير وقتذاك يدعى «دي سيكا»، وقد تمكَّن هذا الفريق من الوصول إلى أعالي نهر الأمازون، واضطر أفراده إلى قضاء أشهر عدة على متن قارب حتى وصلوا إلى مصبّ النهر، وهناك شاهدوا كيف تحوّل أحد روافد هذا النهر العظيم إلى جدول صغير، وكان على الفريق أن يترك القارب ويستكمل مسيرته سيراً على الأقدام في الأدغال، أملاً في العثور على ذهب الإلدورادو، وكان على فريق «دي سيكا» أن يتحدى عشرات الأخطار التي تواجهه، بدءاً من التماسيح والأفاعي السامة، وانتهاء بالهنود الحمر.
وحين وصل فريق «دي سيكا» إلى أحد المستنقعات الضحلة، كان من الصعب على أفراده أن يعبروه بالقارب، ولم يكن أمامهم من حلّ إلا أن يعبروه سيراً على الأقدام، وخاصة أن قاع المستنقع لم يكن عميقاً، وبالفعل واصل أفراد الفريق طريقهم في هدوء، غير أن ذلك الهدوء لم يدم طويلاً، فبمجرد وصول الفريق إلى وسط المستنقع، حيث انتشرت سلسلة من البرك الصغيرة التي يتصل بعضها ببعض، ظهرت علامات الهلع والفزع على وجوه الحمالين (الذين كانوا من الهنود الحمر). ورفض الحمالون الاستمرار في عبور هذه البرك، وعبثاً ضاعت محاولات فريق (دي سيكا) في إقناعهم بمواصلة السير والتقدم، وفجأة تقدم أحد الأوربيين فغرس رجليه في البركة، ومضى بخطوات جريئة، ليضرب للهنود الحمر مثالاً في البطولة والجرأة، ولكن ما إن مضت لحظات حتى صرخ هذا المغامر صرخة عالية، وكأنما هبطت عليه صاعقة من السماء، أو لدغته مجموعة من الأفاعي في وقت واحد، وأسرع إليه اثنان من رفاقه يمدان له يد المساعدة، فغشيهما أيضاً من العذاب ما غشي صاحبهما. وبدا الاثنان وكأنهما قد تعرّضا لضربة قاضية طمرتهما حتى ركبتي كل منهما في الوحل، ووقف باقي أفراد الفريق مكتوفي الأيدي، عاجزين عن إنقاذ زملائهم، وفي النهاية، تجرّأ بعضهم فدخل في الماء بحذر لانتشال المساكين الثلاثة، وعاد فريق «دي سيكا» بخُفّي حنين.
وفي واقع الأمر، فإن ما تعرض له هذا الفريق في تلك البرك كان مردّه إلى محطات كهربائية قوية متحركة تشبه تلك التي تحدثنا عنها من قبل، والتي تنتج من الأسماك الكهربائية، غير أن سمكة الورنك لم تكن المسؤولة في هذه المرة، وإنما «الأنقليس» eel، والسمكة من هذا النوع ضخمة جداً، وقد يصل طولها إلى زهاء مترين، أما وزنها فيصل إلى نحو عشرين كيلوجراماً.
وقد أطلق الهنود الحمر على سمكة الأنقليس اسم «أريما» أي: «أم الشلل» بلغتهم، لأن من يمسه هذا الثعبان السمكي بجسمه تُفرَّغ فيه شحنة من الكهرباء، تجعل الجزء العلوي الذي أصابه المس يصاب بالشلل جزئياً (أي لفترة من الزمن)، وسرعان ما يشفى بعد مرور أيام عدة.
وتصل شدة التيار الكهربائي الذي تولده سمكة الأنقليس إلى 600 فولت، وهي قوة تكفي لجعل أعظم تمساح يفقد مؤقتاً كل قواه، وينتفض جسده من هول الصدمة الكهربائية، أما أسماك الورنك التي تعيش في المياه المالحة، فإن التيار الكهربائي الذي تولده يكون صغيراً مقارنة بأسماك الأنقليس.
وتوجد محطات توليد التيار الكهربائي في عضلات خاصة بالأسماك التي ذكرناها وفي أنواع غيرها، كما توجد أيضا في أطرافها العصبية وفي خلايا خاصة تُعرف باسم «اللويحات العصبية».
وتتفاوت القدرات الكهربائية لكل طائفة من الأسماك الكهربائية عن غيرها. ومن بين مئات الأنواع من أسماك الرعّاد (الرعاش) التي تنتشر في العالم، لا توجد سمكتان متماثلتان تماماً، لكل منهما نفس القدرة الكهربائية لأختها، فمعدل إنتاج الكهرباء عند كل واحدة منهما مختلف، وتتفاوت شحنة الكهرباء لديها بحسب الجنس والنوع والعمر والحالة المزاجية للسمكة أيضاً.
وتحتوي كل سمكة من الأسماك الكهربائية على «صندوق أدوات» مناسب، يتكون من مورثات (جينات) خاصة، تمارس دورها المرسوم لتكوين العضو المولد للكهرباء من العضلات الهيكلية. وعلى الرغم من تعدد أنواع الرعّاد، فإنها تعتمد على نفس الجينات التي تضطلع بمهمة تكوين الأعضاء الكهربائية، مهما اختلفت أنواع الرعاد في أشكالها، وعند الشعور بالخطر، أو إذا اقتضت الحاجة، تقوم السمكة الكهربائية بتفريغ شحنتها في جسد فريستها في شكل اندفاعات أو طلقات كهربائية، ويولّد الأنقليس الرعاد عادة من ثلاث إلى خمس اندفاعات كهربائية في كل مرة يفرغ فيها شحنته، وهو يفعل ذلك بسرعة خارقة، إذ تستغرق كل اندفاعة نحو جزء واحد من خمسمائة جزء من الثانية. والجهاز الكهربائي الموجود في ثعابين الأنقليس السمكية ضخم، ويبلغ وزنه نحو ثلث وزن السمكة، أما طوله فيبلغ زهاء أربعة أخماس طول السمكة. وفي بعض الأسماك الكهربائية يصل طول الجهاز الكهربائي إلى قرابة طول جسم السمكة نفسها، كما هي الحال في القراميط البحرية catfish، وقبل أن يستخدم الإنسان الكهرباء في صيد الأسماك، وهي طريقة لها أضرارها البيئية، كانت ولاتزال بعض الأسماك الكهربائية تستخدم قوتها الكهربائية في صيد غيرها، وتقنيتها في ذلك بسيطة ورائعة، فلكل مصدر كهربائي مجاله الذي يحيط به، وإذا حدث أن مرت سمكة ضالة أو بلهاء عبر هذا المجال، فعندئذ تستشعرها أجهزة الإنذار المبكر الموجودة على جميع أنحاء جسد المحطة الكهربائية المغمورة في الماء، فتطلق المحطة قذيفتها الكهربائية تجاه الهدف، فتفقد السمكة الضالة رشدها، ولا تعرف للفرار سبيلاً، ومن صدمتها تتوقف عن الحركة، فتأكلها السمكة الكهربائية هنيئة بها مريئة، ولسان حالها يقول: أنا ابن جلا ومبتدع الكهارب للفنا، وفي الوقت نفسه، إذا مرت بسمكتنا الكهربائية سمكة أخرى مفترسة لا طاقة لها بها، فإن نظام إنذارها الكهربائي المبكر ينذرها بالخطر المقبل، وعندئذ تولي الأدبار، بحثاً عن ملجأ آمن تختبئ فيه، حتى تنطلق صفارة الأمان.
وثمة فائدة أخرى للكهرباء التي تولّدها بعض أنواع الأسماك الكهربائية، فهي وسيلة اتصال مع أبناء جلدتها، وبها تميز حبيبها من عدوها، وتعرف - من خلالها ذ كيف تشق طريقها في الظلام أو في غياهب البحر الدامس، وثمة ثلاث مجموعات من الأسماك الكهربائية التي تنتمي إلى العظميات teleost (وهي من طائفة شعاعيات الزعانف) وتعيش في المياه العذبة، تنتج إشارات كهربائية، وهي تستخدمها لغرض مزدوج، فمن خلالها تقوم بتحديد مواقع الأشياء التي تحيط بها، وبواسطتها تتواصل مع أبناء جلدتها إذا عسعس الليل، وتنتج هذه الإشارات مجالات إلكترواستاتيكية قصيرة المدى، والحكمة في ذلك هي ألا تلتقطها المفترسات من أعداء الأسماك الكهربائية، لاسيما تلك التي تتمتع بخاصية استقبال الإشارات الكهربائية. ومن الطريف أن الأسماك الكهربائية التي تتصف بكون إنتاجها من الكهرباء ضعيفاً لم تعدم وسيلة لتحمي نفسها وتؤمَّن اتصالاتها، فهي «تشفِّر» إرسالها من الإشارات الكهربائية حتى لا تلتقطه الأسماك المعادية التي تتسم بقدرتها على استقبال مثل هذه الإشارات. وتقوم الأسماك الكهربائية بتنظيم إرسالها لإشاراتها من خلال إفرازاتها لهرمونات الستيرويد steroid والببتيد peptide. ويتميز ثعبان الأنقليس عن غيره من الأسماك الكهربائية بقدرته العجيبة على توليد إشارات كهربائية ضعيفة وأخرى قوية صاعقة، وهو يستخدم الأولى في تحديد المواقع وفي الاتصال والتواصل الاجتماعي مع أقرانه. ويستخدم الأخرى ذات الجهد العالي ليفرغها في أجساد فرائسه وفي أبدان ما يريد به شراً، فلكل مقام إشارة، ولكل حادث سلاح، وسبحان الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ■