تعريب الكتب العلمية والعسكرية خلال القرن الـ 19 في مصر

تعريب الكتب العلمية والعسكرية خلال القرن الـ 19 في مصر

نلقي في هذا المقال بعض الضوء على جهود جيل القرن التاسع عشر في مصر، الرامية إلى نقل الكتب العلمية والعسكرية إلى اللغة العربية، برغم ضعف الإمكانات. وهو ما مهد الطريق لظهور جيل ثانٍ واصل المسيرة خلال القرن العشرين في بلدان عربية كثيرة. 

بعد انقضاء مرحلة سمّيت بعصر الانحطاط - وما هي في الواقع بالانحطاط الكامل - دامت قروناً, دخل القرن التاسع عشر، وتمخض عنه ما تمخض من جراء الاحتكاك بالأوربيين. وتواصل التفاعل بعد اجتياح الاستعمار للعالم العربي، وبوجه خاص في مصر والشام. لقد بدأت البعثات الطلابية من مصر إلى أوربا نحو عام 1813، فاتجه طلاب العلم إلى إيطاليا (الفنون العسكرية)، ثم فرنسا وبريطانيا والنمسا. وتوالت البعثات، حيث بلغ عدد الطلبة الموفدين إلى أوربا حتى عام 1847 نحو 320 طالباً.

رواد الترجمة العلمية
خلال تلك الفترة كانت مجموعة من الرواد قد انطلقت في الترجمة إلى العربية والتأليف، والقائمة طويلة، وتغطي كل فروع المعرفة العلمية.
ونشير إلى أن أحد الرواد وهو محمد بيومي أفندي ظل يدرس الرياضيات في باريس خلال عشر سنوات بعد أن أرسِل إليها عام 1826. ولما عاد إلى مصر كان من أفضل المدرسين، وترجم عديداً من الكتب عن «الفرنسية»، منها «الجبر والمقابلة»، و«ثمرة الاكتساب في علم الحساب»، و«الهندسة الوصفية»، و«جامع الثمرات في حساب المثلثات».
وكان رفاعة الطهطاوي من أبرز رجالات النهضة العلميـــة في مصر خلال القرن التاسع عشر، وكان طموحه يرمي إلى تكوين نخبة من المـــثقــــفين القادرين على ربط الصلة بين الثقافة العربية والثقافة الغربية عبر تعريب أمهات الكتب الأجنبية. 
وفي هذا السياق افتتح الطهطاوي مؤسسة تعليمية بالقاهرة سنة 1835 تُعنَى بإعداد المترجمين، سمّيت «مدرسة الألسن» مدة الدراسة فيها تتراوح بين خمس وست سنوات. 
وقد ضُمَّت المدرسة ســـنة 1973 إلى جامــــعة عين شمس، وصارت تسمى «كلية الألــــسن». وكـــــانت مدرسة الألسن في وقتها تدرّس اللغات الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والتركية والفارسية، إلى جانب الهندسة والجبر والتاريخ والجغرافيا والشريعة الإسلامية، فتخرجت فيها أول دفعة سنة 1839. 

إسهام صالح مجدي
ممن انتسبوا إلى هذه المدرسة نجد صالح مجدي (1827-1881). دعنا نقدم نبذة عن حياة هذا الرجل وعن نشاطه العلمي حتى يتضح لنا الدفع القوي الذي عرفته الترجمة العلمية آنذاك في مصر. لقد ترك صالح مجدي بصماته في مجال ترجمة كتب الرياضيات وغيرها، ونشر في الصحافة وتولّى القضاء في القاهرة. تفوّق مجدي في دراسته في مدرسة الألسن وأجاد «العربية» و«الفرنسية»، وتتلمذ على يد علي باشا مبارك (1823-1893) وأخذ منه علوم الهندسة والرياضيات. 
وكان الطهطاوي قد أنشأ أيضاً هيئة «قلم الترجمة» سنة 1842 لتعريب القوانين الفرنسية وغيرها. ولم يكن هناك من المترجمين سوى خريجي مدرسة الألسن. ونجد على رأسهم صالح مجدي. وبرغم أن مقرّ هذه الهيئة كان يتمثل في حجرة واحدة بـ«ديوان المدارس» الذي أسسه محمد علي باشا عام 1837، فإن ذلك لم يكن عائقاً في إنجاز أعمال جليلة في الترجمة تعدّ بمئات المؤلفات أسهم فيها صالح مجدي أيما إسهام. ومن تلك الإنجازات ترجمة القانون الفرنسي في مجلدات عدة. وبطبيعة الحال فهذه الترجمة لم تكن يسيرة لما فيها من عوائق في الربط بين القوانين الفرنسية وأحكام الشريعة الإسلامية، ووجه عنايته إلى مؤلفات تمس بوجه خاص الرياضيات والفنون العسكرية. 
وإذا نظرنا إلى بعض تفاصيل إسهام مجدي في مجال الترجمة، فإننا نلاحظ أنه قد غطى مواضيع كثيرة ومتنوّعة. وكان يبذل الجهد في تقريب المعنى للقارئ حتى ببعض الإضافات. ومن المعلوم أن مؤسسة «قلم الترجمة» قد شُكلت من ثلاثة أقسام: قسم ترجمة الرياضيات، وقسم ترجمة الطبيات، وقسم ترجمة التاريخ والأدبيات. فكان صالح مجدي وكيل قسم الرياضيات، وشرع هناك بترجمة كتاب «جداول المهندسين» وكتاب «تطبيق الهندسة على الميكانيكا والفنون المستظرفة».
كما ترجم كتاباً في حفر الآبار ومؤلفاً في الأرصاد الفلكية. وعندما انتقل إلى كلية المهندسين المعروفة باسم «المهندسخانة» ترجم كتباً عديدة في الرياضيات (الحساب، الجبر، تطبيق الجبر في الأعمال الهندسية، حساب المثلثات). كما عرّب كتاباً في وصف الأحجار والأخشاب، وهي كلها كتب مطبوعة. وظلت هذه المؤلفات متداولة في المدارس والمؤسسات التعليمية مدة طويلة حتى بعد وفاته. وكان مجدي يقوم خلال عشر سنوات في «المهندسخانة» بوظيفتي التدريس والترجمة وتصحيح المنشورات المختلفة. وعندما تحوّل عام 1855 إلى هيئة «آلاي المهندسين» (آلاي تعني بالتركية لواء المشاة) أصبح يترجم ويصحح المؤلفات العسكرية. ومن بين الكتب التي ترجمها خلال هذه الفترة كتاب «المطالب المنيفة في الاستحكامات الخفيفة»، وهي تعني «تهيئة مؤقتة لقطعة من الأرض يقيم بها الجند لمواجهة العدو»، وكتاب «طوالع الزهر المنيرات في استكشاف الترع والنهيرات»، وكتاب «ميادين الحصون والقلاع ورمي القنابر باليد والمقلاع»، (ولفظ قنابر يقصد به هنا القنابل)، وكتاب «استكشافات عمومية». كما عرّب كتاب «استحكامات قوية» (أي دائمة). وكانت هذه الكتب مبرمجة في مناهج التدريس العسكري، وتم تداولها بين الضباط المهندسين.
وعندما انتقل مجدي من هيئة «آلاي المهندسين» إلى «مأمورية أشغال الطوابي» بالقلعة في القاهرة، ظل مكلفاً بترجمة الكتب العسكرية. وفي هذه الفترة ربطت مجدي علاقة وطيدة مع علي باشا مبارك حين كان الأخير قائماً على تدريس الجنود ومنهمكًا في تأليف كتاب في الهندسة وفروع الرياضيات سماه «تقريب الهندسة»، وحينها تعاون مع مجدي في تحريره وتنقيحه، ونال الكتاب شهرة واسعة لدى المعنيين من الطلبة والمدرسين. وقد وصل عدد الكتب المترجمة والمؤلفة من قبل صالح مجدي إلى 65 مؤلفاً!

إسهام محمود باشا الفلكي
لمزيد من الضوء على تلك الحقبة نتعرف أيضاً إلى رجل ذائع الصيت، وهو محمود باشا الفلكي 
(1815-1885)، الذي انتقل من مسقط رأسه (دمنهور في مصر) إلى القاهرة سنة 1834، وذلك ليدرس بكلية «المهندسخانة» التي تخرج فيها سنة 1839 برتبة ملازم. وكانت هذه المؤسسة قد أعيد تنظيمها على منوال الكلية المتعددة التقنيات Polytechnique الباريسية الشهيرة.
وقد عيّن الفلكي أستاذاً مساعداً في مادة الرياضيات بالمدرسة نفسها، فدرّس الجبر، وحساب المثلثات، والهندسة التحليلية، وحساب التفاضل والتكامل. وبالموازاة مع ذلك تعلّم اللغة الفرنسية فترجم إلى «العربية» كتاباً في التحليل الرياضي، وهو كتاب للمؤلف الفرنسي جان لوي بوشارلا Boucharlat. والواقع أن عمل الفلكي لم يقتصر هنا على ترجمة الكتاب المذكور، بل قام بتبسيط بعض مصطلحاته ومفاهيمه التي رأى أنها قد تستعصي على الطلاب. كما أضاف إليها جزءاً من مبادئ علمي الميكانيكا والفيزياء.  كان الفلكي يقوم بعمليات رصدية في «الرصدخانة» لحركة النجوم والكواكب وقياس المغناطيسية الأرضية، حتى وجد نفسه مولعاً بعلم الفلك، وصار الموضوع الثاني الذي يشغل باله بعد الرياضيات. ولما رُقّي عام 1842 إلى رتبة «الصاغقول أغاسي» (النقيب) صار يدرّس علم الفلك ابتداء من ذلك العام إلى جانب تدريسه الرياضيات.
كل ذلك النشاط في موضوع الترجمة العلمية والعسكرية كان قبل نهاية القرن التاسع عشر! ومن ثمّ يتبيّن أن الاعتقاد السائد في ذلك الوقت بين الساسة ورجال الفكر هو أن التقدم العلمي لا يتأتّى إلا عبر نقل مختلف العلوم المعاصرة إلى «العربية». فجاء اهتمامهم ببعث الترجمة ونقل العلوم من لغات الغرب، خاصة اللغة الفرنسية. وفي هذا السياق كانوا يرون وجوب التدريس باللغة العربية، ما أدى إلى إنشاء عديد من المعاهد والمدارس والكليات في مصر وبلاد الشام. وكان من المفترض أن تلقى الدروس بـ «العربية»، لكن الأساتذة الفرنسيين لم يكن لهم مستوى في «لغة الضاد» يمكنهم من إلقاء دروسهم بها فأُتي بمترجمين كانوا يرافقون هؤلاء الأساتذة في الفصل. وهكذا كان الدرس يُلقى 
بـ «الفرنسية» أمام الطلبة ويقوم المترجمون بمهمة نقله إلى «العربية». وعلى سبيل المثال فإن كتب الطب التي تمت ترجمتها إلى العربية آنذاك تعدّ بالعشرات. ونحن لم نشر في هذا المقام إلا إلى عينة بسيطة من المترجمين العلميين في ذلك الوقت.  لكن هذه الحركة العلمية القوية في مصر كُسرت في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، بعد التشتت والتمزق اللذين عرفتهما بسبب الاحتلال البريطاني، وذلك بدءاً من عام 1882، إذ أدى الأمر إلى استبدال اللغة الإنجليزية بـ«العربية» في تدريس العلوم اعتبارًا من عام 1889. وهكذا أجهض المشروع العلمي النهضوي بعد التقدم الذي أحرزه على الأرض ■