الغناءُ وأعلامُه في العصر الأموي

الغناءُ وأعلامُه  في العصر الأموي

انتشر الغناء في العصر الأموي (41 - 132 هـ / 661 - 750 م) انتشاراً واسعاً وظهر عدد كبير من المغنين والمغنيات، ويعود ذلك إلى جملة من العوامل نذكر منها:

1 - استمرار التراث الغنائي الموروث من العصر الجاهلي حيَّاً وناشطاً كالحداء والنصب والهزج. فالخليفة عبدالملك بن مروان أعجب بغناء الركبان عندما سمعه من المغني ابن مِسْجَح في دمشق، كما كان طُويس أحسن الناس غناء للهزج.
2 – ارتفاع مستوى المعيشة في المجتمع العربي الإسلامي، حيث تدفقت غنائم الأمم نتيجة الفتوحات وانتشرت الرفاهية، ومال الناس إلى الترف وانتعشت الحياة في المدن، والغناء كما يقول ابن خلدون «يحدث في العمران إذا تجاوز الضروري إلى الكمالي».
3 - دخول أعداد كبيرة من المغنين الفرس والروم، ومعهم آلات الطرب، إلى المدن العربية، بعد الفتوحات، وبخاصة مدن الحجاز، وصاروا موالي للعرب وأخذوا يغنون بالألحان الفارسية والرومية، فسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم.
وبرز في هذه الفترة مغنيان متميزان، هما سعيد بن مِسْجَح ومُسْلم بن مُحْرز، حيث سافر كل منهما إلى بلاد الفرس والروم واطلعا على أغانيهم وألحانهم وتخيَّرا منها ما يناسب الشعر العربي وغنيا بها. وكان يقال لابن مُحْرز «صنَّاج العرب».
4– تشجيع الخلفاء الأمويين للغناء والمغنين، فكان الخليفة يزيد بن معاوية أول من استقدم المغنين، كما حظي هؤلاء بمكانة كبيرة لدى الخليفة الوليد بن عبد الملك وأخويه سليمان ويزيد. وبلغت مكانة أهل الغناء ذروتها في عهد الخليفة الوليد بن يزيد، الذي استقدم أحذق المغنين إلى دمشق أمثال ابن سُريج ومَعْبَد والغَرِيض. وهذه العوامل وغيرها هي التي صاغت طبيعة الغناء ولونه في العصر الأموي. وحيث «لا يوجد الفن إلا بوجود أهله»، فقد استهدف هذا المقال إلقاء الضوء على بعض من وضع أصولَه في ذلك العصر.  
 طُويس (ت 715 م): اسمه عيسى بن عبدالله، وطُويس (تصغير طاووس) هو لقب اشتهر به. عاش في المدينة المنورة ومات فيها. وكان من أوائل الذين احترفوا الغناء في صدر الإسلام، وأول من غنى بالعربية في المدينة الغناء المُتقن الذي يدخل في الإيقاع. وكان ينقر بالدف ولا يضرب بالعود. وشهد بمكانة طُويس في الغناء المغني المكي ابن سُريج الذي قَدِم المدينة، على قول الأصفهاني، وغنى أهلها الذين استظرفوا غناءَه وآثروه على كل من غنى. وسمع طُويس مديحهم بابن سُريج، فاستخرج دفاً ونقر به وغناهم من شعر خولة بنت ثابت في عمارة بن الوليد:
يا خليلي نابَني سُهدي
لم تنَمْ عيني ولم تَكَدِ
نظرتْ عيني ولا نَظرتْ
بعده عيني إلى أحَد
وعندما سمع ابن سُريج غناء طُويس قال «والله هذا أحسن الناس غناءً لا أنا».
وأشاد كثير من المؤرخين بكفاءة طويس، فهذا ابن خلكان يقول إنه كان من المبرزين في الغناء المجيدين فيه وممن تضرب به الأمثال. وقال صاحب «الوافي بالوفيات» إنه كان يُضرب به المثل في الحذق بالغناء، وهو أول من غنى في الإسلام بالمدينة وكان يسمع الغناء من أسرى فارس والروم فتعلم منهم. وقد غنى طُويس لأبان بن عثمان بن عفان  احتفالاً بتعيينه أميراً على المدينة:
ما بالُ أهلِكِ يا ربابُ
خُزْراً كأنهمُ غِضابُ 
فطرب أبان وأجلسه إلى جانبه، وكان يخاطبه باسم طاووس وليس طُويس احتراماً له. ويقول ابن عبدربه إن طُويس علَّم ابن سُريج، 
والدلال، ونومة الضحى. 
 ابن سُريج (726 م): اسمه عبيد بن سُريج. كان قبل أن يحترف الغناء نائحاً، فعندما ورد الخبرُ مكةَ بما فعله ابن عقبة المُرِّي بالمدينة، صعد جبل أبي قبيس وناح بشعر دخل في ما بعد في أغانيه ومنه: 
 يا عينُ جُودِي بالدُّمُوع السِّفَاح 
وابكي على قَتْلى قُرَيشْ البِطَاح
فاستحسن الناس ذلك منه. ثم ترك النوحَ وتحول إلى الغناء، فكان أول من غنى الغناء المتقن بالحجاز بعد طُويس، وأول من ضرب بالعود على الغناء العربي بمكة، حيث رآه مع الفرس الذين كانوا يأتون مكة ويعجب غناؤهم أهلها. وكان ابن سُريج قد أخذ الغناء عن ابن مِسْجَح المكي. واعترف المغنون المعاصرون بنبوغ ابن سُريج أمثال مَعْبَد الذي ما كاد يسمع بالمدينة بوفاة ابن سُريج، في مكة، حتى قال: أصبحت اليوم أحسن الناس غناءً. فقال له الحضور: أولم تكن كذلك؟ قال: لا حيث كان ابن سُريج حيّاً، أما الآن فقد أُخبرت أنه قد مات. وكان معبد إذا غنى صوتاً أعجبه غناؤه قال أصبحت اليوم سُريجياً. كما شهد إبراهيم الموصلي بتفوق ابن سُريج بقوله إنه «كان عالماً بالغناء فلا يبارى فيه، وما خلق الله صوتاً أحسن من ابن سُريج ولا صاغ لحناً أحذق منه بالغناء»، وقال إبراهيم بن المهدي «إن ابن سُريج كان يغني الناس ما يشتهون، فلا يغنيهم صوتاً مُدِح به أعداؤهم ولا صوتاً عليهم فيه عار».
 ومن الشعراء الذين غنى ابن سريج من شعرهم: عمر بن أبي ربيعة والأحوص وجرير وغيرهم. وكان المثل السائر في الحجاز آنذاك هو «إذا أعجزك أن تُطرب القرشي، فغنه غناء ابن سُريج في شعر عمر بن أبي ربيعة». وكان ابن سُريج نفسه عندما يغني من شعر عمر هذا يظن أنه قد ملك العالم، ولاسيما قصيدته التي يقول فيها:
 خَانَكَ من تَهْوَى فلا تَخُنْهُ
وكُنْ وَفياً إن سَلَوْتَ عنهُ
 واسلُكْ سَبيلَ وَصْلهِ وصُنْهُ
إن كَان غَدَّاراً فلا تَكُنْهُ
عسى تَبَاريجُ تَجِيء منه
فيرجِعَ الوَصْلُ ولم تَشِنْهُ
 وغنى ابن سُريج الخليفة الوليد بن عبدالملك وأخاه الخليفة يزيد، كما فاز بجائزة أخيهما الخليفة سليمان بوصفه أفضل المغنين. ترك ابن سريج ثمانية وستين لحناً وأفادت منه أجيال من المغنين.
 مَعْبَدْ بن وهب (ت 743م): هو من أهل المدينة المنورة. وقد ظهرت عليه علائم النبوغ في الغناء مبكراً، ويشهد على ذلك ابن سُريج الذي جاء المدينة فأسمعوه غناء معبد وهو غلام فقال: «إن عاش كان مغني بلاده». وكان معبد قد أخذ الغناء عن عدد من المغنين أمثال ابن مِسْجَح، حتى اشتهر بحسن الغناء وطيب الصوت وصنع الألحان. واعترف له بالتقدم أهلُ عصره، أمثال الغَرِيض الذي سمع غناء معبد وألحانه في مكة، وقال له «إنك يا معبد مليح الغناء»، وأثار هذا الكلام حفيظة معبد فجثا على ركبتيه وغنى عشرين لحناً من صنعه لم يُسمع بمثلها، فتغير لون الغَرِيض حسداً وخجلاً على قول الأصفهاني. ومن الذين أخذوا من ألحان معبد ابن سريج وحكيم الوادي ومحمد بن عائشة، الذي اعترف أنه أخذ منه أحد عشر لحناً. وأشاد إسحاق الموصلي بمعبد قائلاً: «كان معبد من أحسن الناس غناء وأجودهم صنعة وأحسنهم خلقاً، وهو فحل المغنين وإمام أهل المدينة في الغناء».
وقال أحد الشعراء في مدح معبد:
 تغنَّى طُوَيْسٌ والسُّرَيجيُّ بعده 
وما قَصَباتُ السبق إلا لمعبد
 غنى معبد الخليفة يزيد بن عبدالملك الذي طلب منه أن يعلم جاريتة «سلاَّمة» لحن قصيدة من شعر «الأحوص»، فعلمها إياه، فندبته به يوم وفاته:
 كلَّما أبصرتُ ربعاً خالياً 
فاضتْ دموعيِ 
قد خَلاَ من سَيّدٍ كا 
ن لنا غيرَ مُضيع
لا تَلُمْنا إن خَشَعْنا 
أو هَمَمْنا بخُشُوع
وكان الخليفة الوليد بن يزيد، على قول ابن عبدربه، من المعجبين بغناء معبد، وقال عنه إنه سيد من غنى، وكان يستدعيه من المدينة إلى دمشق على نفقته ويغنيه من قصائد عدة كالتي يقول فيها:
لَهفي على فتيةٍ ذلَّ الزمانُ لهم 
فما أصابهم إلا بما شاءوا
مازال يَعد عليهم ريب دهرهم 
حتى تفانوا وريب الدهر عدَّاءُ 
أَبكى فراقُهم عيني وأرَّقها
إن التفرقَ للأحباب بكَّاءُ
 الغَرِيض: اسمه عبدالملك. عاش في مكة. كان معاصراً لابن سُريج ومَعْبَد. أخذ الغناء في أول أمره عن ابن سُريج، فلما رأى الأخير مخايل التفوق فيه حسده وطرده، فأخذ الغريضُ يسمع المراثي فاحتذاها وخرَّجَ غناءً عليها، فَفُتن به كلُ من سمعه. وقال الأصفهاني إن الغريض أحذق أهل زمانه بمكة بالغناء بعد ابن سُريج، وكان يضرب بالعود وينقر بالدف ويوقع بالقضيب. ويروي إسحاق الموصلي واقعة تُظهر مكانة الغريض وابن سُريج ومَعْبَد في الغناء، مفادها أن أحد أمراء مكة أمر بإخراج المغنين من الحرم المكي، ولكن في الليلة التي كان سيُنفَّذ فيها القرار اجتمع على جبل أبي قبيس كلٌ من الغَريض وابن سُريج ومَعْبَد (حيث كان في مكة)، وبدأوا بالغناء تباعاً، فتأثر أهل مكة أيما تأثر واجتمعوا إلى الأمير فاستعفوه من نفيهم فأعفاهم. ومما غناه الغريض:
أَلاَ يا عينُ مَالَك تَدْمَعِينَا
أَمنْ رَمَدٍ بكيتِ فتُكْحَلِيناَ
أَم أنتِ مريضةَ تَبْكِين شَجْواً 
فَشجْوكِ مثلُهُ أبكَى العيونا
وغنى الغريض الخليفة الوليد بن عبدالملك حين قَدِم مكةَ، كما غنى أخاه يزيد بقصيدة جاء فيها: 
ولو حاربوا قومي لكنتُ لقومها 
صديقاً ولم أحمِلْ على قومها حِقْدي
فطرب الخليفة وأمر له بجائزة سنية.
 لقد شكَّلَ الغناء في العصر الأموي ركناً مهماً في صرح الغناء العربي، وكانت إنجازات أهله، وفقاً لظروفهم، إنجازات كبيرة. ولو توافر لهم ما توافر لزملائهم أيام العباسيين، من تعلم ورعاية وترجمات من التراث اليوناني والفارسي والهندي في ميدان الغناء والموسيقى، لقدموا ما لن يرى الناسُ مثله لأجيال. ويكفيهم فخراً اعتراف نوابغ الغناء والموسيقى في العصر العباسي بمكانتهم الفنية أمثال: إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وإبراهيم بن المهدي .