مي زيادة وأزمات المبدعة العربية

مي زيادة وأزمات المبدعة العربية

تقترن‭ ‬بعض‭ ‬الفنون‭ ‬الأدبية‭ ‬بنون‭ ‬النسوة،‭ ‬أو‭ ‬سيرة‭ ‬بعضهن،‭ ‬ويظل‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الفنون‭ ‬قاصراً‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يكتمل‭ ‬بإشراقة‭ ‬سيرة‭ ‬هذه‭ ‬المرأة‭ ‬أو‭ ‬تلك،‭ ‬وهل‭ ‬يمكنك‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الغزل‭ ‬العذري‭ ‬دون‭ ‬التطرق‭ ‬إلى‭ ‬بثينة‭ ‬تارة،‭ ‬وعزة‭ ‬تارة‭ ‬أخرى؟‭ ‬هكذا‭ ‬يبدو‭ ‬اقتران‭ ‬اللبنانية‭ ‬مي‭ ‬زيادة‭ (‬1886‭-‬1941‭) ‬بفن‭ ‬الرسائل‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث؛‭ ‬إذ‭ ‬يمتد‭ ‬الحديث‭ ‬بالضرورة‭ ‬إلى‭ ‬دورها‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬الرسائل‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬صاحبتنا‭ ‬لا‭ ‬تلتزم‭ ‬موقع‭ ‬رد‭ ‬الفعل‭ ‬كليلى‭ ‬وبثينة،‭ ‬بل‭ ‬تمتلك‭ ‬شجاعة‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬المواقف،‭ ‬سواء‭ ‬الأدبية‭ ‬أو‭ ‬السياسية‭ ‬أو‭ ‬الاجتماعية‭ ‬بصورة‭ ‬ربما‭ ‬لا‭ ‬تنافسها‭ ‬فيها‭ ‬سوى‭ ‬هدى‭ ‬شعراوي‭ ‬أو‭ ‬سيزا‭ ‬نبراوي،‭ ‬فهل‭ ‬كان‭ ‬لهذه‭ ‬الشجاعة‭ ‬أثر‭ ‬فيما‭ ‬نالته‭ ‬من‭ ‬هجوم؟

‭ ‬وكالعادة،‭ ‬تقتصر‭ ‬النظرة‭ ‬على‭ ‬زاوية‭ ‬واحدة،‭ ‬فتم‭ ‬اختزالها‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬الرسائل،‭ ‬فيتصورن‭ ‬رسائلها‭ ‬وكأنها‭ ‬النشاط‭ ‬الوحيد‭ ‬لتلك‭ ‬الأديبة‭ ‬الجادة،‭ ‬بل‭ ‬ويركزون‭ ‬على‭ ‬جانب‭ ‬العشق‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الرسائل‭ ‬دون‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الجوانب،‭ ‬وهي‭ - ‬مثلاً‭ - ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تلتق‭ ‬بجبران‭ ‬خليل‭ ‬جبران،‭ ‬بل‭ ‬بهرتها‭ ‬رومانسيته‭ ‬فتبادلا‭ ‬الرسائل‭ ‬والهدايا،‭ ‬فتطور‭ ‬الإعجاب‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬الأدبية‭ ‬لصاحبها،‭ ‬وظلت‭ ‬تراسله‭ ‬حتى‭ ‬توفي‭.‬

‭ ‬يختلف‭ ‬جبران‭ ‬عن‭ ‬غيره؛‭ ‬فالحال‭ ‬مع‭ ‬العقاد‭ ‬تزوره‭ ‬الجفوة‭ ‬أحياناً،‭ ‬أو‭ ‬لطفي‭ ‬السيد‭ ‬وإسماعيل‭ ‬صبري‭ ‬برغم‭ ‬فارق‭ ‬السن‭ ‬وروح‭ ‬الأبوة،‭ ‬أو‭ ‬الرافعي‭ ‬الذي‭ ‬كتب‭ ‬لها‭ ‬رسائل‭ ‬كثيرة،‭ ‬ملخصاً‭ ‬الوضع‭ ‬بقوله‭: ‬الم‭ ‬أتطفل‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬قبلك،‭ ‬ولن‭ ‬أتطفل‭ ‬عليك‭ ‬مرتينب‭.‬

‭ ‬ربما‭ ‬جنت‭ ‬الرسائل‭ ‬على‭ ‬صاحبتنا‭ ‬فنرى‭ ‬لها‭ ‬صوراً‭ ‬بعدد‭ ‬الذين‭ ‬تبادلوا‭ ‬معها‭ ‬الرسائل،‭ ‬وهي‭ ‬ليست‭ ‬صوراً‭ ‬على‭ ‬الحقيقة،‭ ‬وإنما‭ ‬ظلال‭ ‬لتصوراتهم‭ ‬عنها‭. ‬لقد‭ ‬صورها‭ ‬وكأنها‭ ‬كانت‭ ‬متفرغة‭ ‬للرسائل‭ ‬تماماً،‭ ‬برغم‭ ‬أن‭ ‬سيرتها‭ ‬تبدو‭ ‬ككرة‭ ‬من‭ ‬البللور‭ ‬تعكس‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يحصى‭ ‬من‭ ‬الألوان،‭ ‬أو‭ ‬كلوحة‭ ‬من‭ ‬الفسيفساء‭ ‬التي‭ ‬تضم‭ ‬الأدب‭ ‬والمجتمع‭ ‬واللغة‭ ‬والسياسة‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬من‭ ‬معدن‭ ‬لامع،‭ ‬يتسم‭ ‬بالأناقة‭ ‬والصلابة‭ ‬في‭ ‬آن‭.‬

‭ ‬هي‭ ‬شاعرة‭ ‬وأديبة‭ ‬وناقدة‭ ‬وباحثة‭ ‬اجتماعية،‭ ‬ألفت‭ ‬وترجمت‭ ‬16‭ ‬كتاباً،‭ ‬وأتقنت‭ ‬لغات‭ ‬عدة،‭ ‬وشاركت‭ ‬في‭ ‬المعارك‭ ‬الفكرية‭ ‬لزمانها،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬صاحبة‭ ‬منتدى‭ ‬أدبي‭. 

 

معارك‭ ‬فكرية‭ ‬وأدبية

امتد‭ ‬صالونها‭ ‬لربع‭ ‬قرن،‭ ‬كانت‭ ‬فيه‭ ‬محاورة‭ ‬جيدة‭ ‬لجمع‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬رواد‭ ‬التجديد‭ ‬في‭ ‬زمانها،‭ ‬ليختلف‭ ‬منتداها‭ ‬ويتفوق‭ - ‬برغم‭ ‬تجاوره‭ ‬زمانياً‭ - ‬عن‭ ‬لبيبة‭ ‬هاشم‭ ‬والأميرة‭ ‬نازلي‭. ‬أنضجتها‭ ‬سريعاً‭ ‬ملازمة‭ ‬الكبار،‭ ‬ولكنها‭ ‬أحرقت‭ ‬بعض‭ ‬أعصابها‭. ‬وللكثيرين‭ ‬حكايات‭ ‬مع‭ ‬صالون‭ ‬مي‭ ‬يذكرونه‭ ‬بالخير‭ ‬علناً،‭ ‬وينكصون‭ ‬عن‭ ‬ذكر‭ ‬محاسنه‭ ‬في‭ ‬الخفاء‭. ‬ازدواجية‭ ‬لعلها‭ ‬من‭ ‬متلازمة‭ ‬الوسط‭ ‬الثقافي‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬تاريخه‭.‬

وبرغم‭ ‬هدوء‭ ‬صالونها‭ ‬سياسياً،‭ ‬فقد‭ ‬شهد‭ ‬معارك‭ ‬فكرية‭ ‬كمعركة‭ ‬السفور‭ ‬الشهيرة‭ ‬بين‭ ‬الرافعي‭ ‬والعقاد،‭ ‬وشهدت‭ ‬جوانب‭ ‬صالونها‭ ‬ما‭ ‬ظنه‭ ‬بعضهم‭ ‬عاطفة‭ ‬خالصة،‭ ‬فإذا‭ ‬كتبت‭ ‬ظن‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬أنه‭ ‬المقصود‭ ‬بالحديث،‭ ‬وإذا‭ ‬التفتت‭ ‬فسروا‭ ‬نظرتها‭ ‬وفقاً‭ ‬للتمني،‭ ‬وكانت‭ ‬مي‭ ‬تستمتع‭ ‬بالغيرة‭ ‬وتتحدث‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬نصاً‭. ‬تلتقي‭ - ‬جهاراً‭ - ‬بكثيرين‭ ‬في‭ ‬صالونها‭ ‬الأدبي،‭ ‬ويتحدثون‭ - ‬سراً‭ - ‬عنها‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭. ‬ترسل‭ ‬لهم‭ ‬الرسائل‭... ‬وثائق‭ ‬مكتوبة،‭ ‬فيتحدثون‭ ‬عمّا‭ ‬فهموه‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬سطورها،‭ ‬ربما‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬التمني‭.‬

ولأنه‭ ‬من‭ ‬مأمنه‭ ‬قد‭ ‬يؤتى‭ ‬الحَذِر؛‭ ‬فربما‭ ‬لم‭ ‬يجن‭ ‬على‭ ‬مي‭ ‬زيادة‭ ‬شيء‭ ‬قدر‭ ‬انفتاحها‭ ‬على‭ ‬الآخرين،‭ ‬فتعددت‭ ‬صورها،‭ ‬حتى‭ ‬لم‭ ‬يبق‭ ‬إلا‭ ‬ظلال‭ ‬لا‭ ‬تعكس‭ ‬شيئاً‭ ‬قاطعاً؛‭ ‬فمي‭ ‬التي‭ ‬رسمها‭ ‬العقاد‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬التي‭ ‬رسمها‭ ‬شبلي‭ ‬شميل‭ ‬عن‭ ‬صورتها‭ ‬لدى‭ ‬الأب‭ ‬إنستاس‭ ‬الكرملي‭ ‬عنها‭ ‬لدى‭ ‬الرافعي‭ ‬وطه‭ ‬حسين‭ ‬وسلامة‭ ‬موسى‭ ‬ولطفي‭ ‬السيد‭ ‬وولي‭ ‬الدين‭ ‬يكن‭ ‬وأنطون‭ ‬الجميل،‭ ‬وغيرهم‭. ‬لقد‭ ‬اقتربوا‭ ‬جميعاً‭ ‬منها،‭ ‬وكلهم‭ ‬رآها‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظره‭  ‬هو،‭ ‬فظن‭ ‬أن‭ ‬روايته‭ ‬هي‭ ‬الزاوية‭ ‬الفاصلة‭ ‬الحقيقية‭ ‬الوحيدة،‭ ‬حتى‭ ‬كأن‭ ‬الإنسانة‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬وجود،‭ ‬وإنما‭ ‬هناك‭ ‬وجود‭ ‬لظلالها،‭ ‬وانعكاسات‭ ‬لرسمها،‭ ‬وأشكال‭ ‬لسطورها‭ ‬على‭ ‬الورق‭.‬

لقد‭ ‬أفلحت‭ ‬أن‭ ‬تنسى‭ ‬أنوثتها‭ ‬كثيراً،‭ ‬وتؤجل‭ ‬أحلام‭ ‬البنات،‭ ‬فصارت‭ ‬كبنات‭ ‬الأمازون‭ ‬التي‭ ‬تقطع‭ ‬ثدييها‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬أنثى،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تكون‭ ‬قوية،‭ ‬بريئة‭ ‬جداً،‭ ‬فلم‭ ‬تفلح‭ - ‬بتعبير‭ ‬أنيس‭ ‬منصور‭ - ‬في‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مثل‭ ‬سالومي‭ ‬والفيلسوف‭ ‬نيتشه‭ ‬والشاعر‭ ‬ريلكه‭ ‬وجعلتهم‭ ‬يتعلقون‭ ‬في‭ ‬عربة‭ ‬واحدة،‭ ‬وتلهب‭ ‬ظهورهم‭ ‬بالسياط،‭ ‬ولم‭ ‬ينلها‭ ‬أحدهم‭.‬

 

كشف‭ ‬جراح‭ ‬المجتمع

تتحيز‭ ‬لقضايا‭ ‬المرأة‭ ‬وترفــض‭ ‬أن‭ ‬تتخـــصص‭ ‬في‭ ‬تحرير‭ ‬القسم‭ ‬النسائـــي‭ ‬بالســـياسة‭ ‬الأسبوعية؛‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تنحصــر‭ ‬اهتماماتها‭ ‬في‭ ‬بنات‭ ‬جنسها‭. ‬الوطن‭ ‬أكثر‭ ‬أهمية،‭ ‬هكذا‭ ‬تفهــم‭ ‬اهتمامها‭ ‬الكبير‭ ‬بقضايا‭ ‬المرأة‭ ‬بوصفه‭ ‬فرعاً‭ ‬عن‭ ‬اهتمامها‭ ‬بكشف‭ ‬جراح‭ ‬المجتمع،‭ ‬ويظهر‭ ‬تأييدها‭ ‬لـاملك‭ ‬حفني‭ ‬ناصفب‭ ‬في‭ ‬مراجعاتها‭ ‬لشيوع‭ ‬الطلاق‭ ‬فرعاً‭ ‬عن‭ ‬إعلاء‭ ‬الرجل‭ ‬على‭ ‬المرأة،‭ ‬فترى‭ - ‬في‭ ‬كتابها‭ ‬اباحثة‭ ‬الباديةب‭ - ‬الطلاق‭ ‬أسهل‭ ‬وقعاً‭ ‬على‭ ‬المرأة‭ ‬وأخف‭ ‬ألماً‭ ‬من‭ ‬الضر،‭ ‬فالأول‭ ‬شقاء‭ ‬وحرية‭ ‬والثاني‭ ‬شقاء‭ ‬وتقييد‭. ‬تتصادم‭ ‬والمجتمع‭ ‬فترى‭ ‬في‭ ‬الرقص‭ ‬رياضة،‭ ‬وفي‭ ‬التمثيل‭ ‬إبرازاً‭ ‬لموهبة‭ ‬اجتماعية‭ ‬بالأساس؛‭ ‬فهي‭ ‬ضد‭ ‬المجتمع‭ ‬في‭ ‬أمور‭ ‬صدامية‭ ‬معه‭ ‬كالطلاق‭ ‬والزوجة‭ ‬الثانية‭.‬

تلتزم‭ ‬شجاعة‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬مواقفها‭ ‬بحرية،‭ ‬وكثيراً‭ ‬ما‭ ‬عبرت‭ ‬عن‭ ‬بغضها‭ ‬للشتاء‭ ‬وحبها‭ ‬للشمس،‭ ‬فكأنها‭ ‬كانت‭ ‬تستعير‭ ‬الشمس‭ ‬لتعبر‭ ‬عن‭ ‬حبها‭ ‬للوضوح‭ ‬وإيثارها‭ ‬المجاهرة‭. ‬وترى‭ ‬الذين‭ ‬يرفعون‭ ‬لافتات‭ ‬حقوق‭ ‬المرأة‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬يقصر‭ ‬الإبداع‭ ‬على‭ ‬الرجال‭ ‬في‭ ‬ذكورية‭ ‬فجة؛‭ ‬فالعقاد‭ ‬الذي‭ ‬أحب‭ ‬مي‭ ‬هو‭ ‬القائل‭ ‬عن‭ ‬شعر‭ ‬الخنساء‭ ‬إن‭ ‬شعرها‭ ‬ابايخب،‭ ‬هكذا‭ ‬حكم‭ ‬عام‭ ‬مطلق‭. ‬

وكان‭ ‬لصاحبتنا‭ ‬حس‭ ‬قومي؛‭ ‬فتغار‭ ‬على‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬برغم‭ ‬إتقانها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬لغة،‭ ‬وتغضب‭ ‬ممن‭ ‬يحادثها‭ ‬بغيرها‭ ‬وترد‭ ‬عليه‭ ‬بالعربية،‭ ‬برغم‭ ‬أنها‭ ‬كتبت‭ ‬بلغات‭ ‬متعددة،‭ ‬وتدافع‭ ‬عن‭ ‬مجمع‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬االإيجيبشان‭ ‬ميلب،‭ ‬وتعترض‭ ‬بشدة‭ ‬على‭ ‬تدريس‭ ‬العامية،‭ ‬وترى‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬سبيلاً‭ ‬لرفع‭ ‬العامة‭ ‬وتوسعة‭ ‬فهمهم،‭ ‬وتتحرر‭ ‬عقليتها‭ ‬وتظل‭ ‬متدينة،‭ ‬كما‭ ‬شهد‭ ‬لها‭ ‬العقاد‭ ‬بالتدين،‭ ‬ولكن‭ ‬دون‭ ‬تعصب،‭ ‬فتحاور‭ ‬شبلي‭ ‬شميل‭ ‬قائلة‭: ‬اعجبت‭ ‬أن‭ ‬رأيتك‭ ‬كافراً‭ ‬بالله،‭ ‬مؤمناً‭ ‬بداروينب‭. ‬وتحتفظ‭ ‬بعض‭ ‬كتب‭ ‬الأدب‭ ‬ببعض‭ ‬خطب‭ ‬لها‭ ‬تمدح‭ ‬فيها‭ ‬الإسلام‭ ‬برغم‭ ‬اختلاف‭ ‬ديانتها‭.‬

 

صفاء‭ ‬نفسي‭ ‬وأحلام‭ ‬وردية

وأغلب‭ ‬ظني‭ ‬أن‭ ‬مكانة‭ ‬مي‭ ‬زيادة‭ ‬مكتسبة،‭ ‬فهي‭ - ‬في‭ ‬نفسها‭ - ‬ليست‭ ‬بالقيمة‭ ‬الأدبية‭ ‬الكبرى،‭ ‬وإنما‭ ‬كان‭ ‬الحوار‭ ‬حولها‭ ‬أساس‭ ‬انتشار‭ ‬أعمالها‭ ‬محدودة‭ ‬القيمة،‭ ‬فصارت‭ ‬كتابتها‭ ‬ضوءاً‭ ‬يحوم‭ ‬حوله‭ ‬الفراش‭. ‬وحين‭ ‬يعطيك‭ ‬العصر‭ - ‬وفقاً‭ ‬لظروف‭ ‬ما‭ - ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬تستحق،‭ ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬يمنحك‭ ‬كثيراً‭ ‬وإنما‭ ‬وضعك‭ ‬وسط‭ ‬عمالقته،‭ ‬ومطلوب‭ ‬أن‭ ‬تجتاز‭ ‬البحر‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تبتل‭ ‬بالماء‭.‬

تحمل‭ ‬مي‭ ‬زيادة‭ ‬امتناناً‭ ‬لبعض‭ ‬ما‭ ‬مر‭ ‬بحياتها‭ ‬كنشأتها‭ ‬في‭ ‬مدارس‭ ‬الراهبات،‭ ‬فلا‭ ‬توافق‭ ‬باحثة‭ ‬البادية‭ ‬على‭ ‬رأيها‭ ‬السلبي‭ ‬فيها،‭ ‬بل‭ ‬تظل‭ ‬على‭ ‬حفظها‭ ‬لذكرياتها‭ ‬الطيبة‭ ‬فيها،‭ ‬فقد‭ ‬احتفظت‭ ‬من‭ ‬مدارس‭ ‬الراهبات‭ ‬بين‭ ‬الناصرة‭ ‬بفلسطين‭ ‬وعينطورة‭ ‬بلبنان‭ ‬بصفاء‭ ‬نفسي‭ ‬وأحلام‭ ‬وردية‭ (‬ديوانها‭ ‬الأول‭ - ‬بالفرنسية‭ - ‬أزاهير‭ ‬حلم‭) ‬وتسامح‭ ‬مع‭ ‬البشر‭ ‬وتأمل‭ ‬يفضي‭ ‬إلى‭ ‬الخيال‭. ‬تعلمت‭ ‬فيها‭ ‬الفرنسية‭ ‬والإيطــالية‭ ‬مبكراً،‭ ‬فتأثرت‭ ‬بلامارتين‭ ‬ودي‭ ‬موسيه‭ ‬وكردوتشي،‭ ‬ثم‭ ‬تعلمت‭ ‬الإنجليزية‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬وألمت‭ ‬بالألمانية‭ ‬والإسبانية‭. ‬وتذكر‭ ‬أمها‭ ‬التي‭ ‬زرعت‭ ‬فيها‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالشعر،‭ ‬ووالدها‭ ‬الذي‭ ‬فتح‭ ‬لها‭ ‬طريق‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬الوسط‭ ‬الأدبي‭ ‬والصحفي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬جريدة‭ ‬المحروسة‭ ‬التي‭ ‬ترأس‭ ‬تحريرها‭ ‬بعدما‭ ‬احترف‭ ‬الصحافة،‭ ‬فكتبت‭ ‬ايوميات‭ ‬فتاةب‭ ‬فوجدت‭ ‬احتفاء‭ ‬من‭ ‬كثيرين‭ ‬بها،‭ ‬وانطلقت‭ ‬منها‭ ‬للنشر‭ ‬في‭ ‬االمقتطفب‭ ‬واالهلالب‭ ‬واالزهورب‭. ‬وجبران‭ ‬الذي‭ ‬أوكل‭ ‬لها‭ ‬إلقاء‭ ‬كلمته‭ ‬عام‭ ‬1913‭ ‬في‭ ‬تكريم‭ ‬مطران‭.‬

وكذا‭ ‬أمين‭ ‬الريحاني‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬الفضل‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬خروجها‭ ‬من‭ ‬سجنها‭ ‬في‭ ‬مستشفى‭ ‬الأمراض‭ ‬العقلية‭. ‬قد‭ ‬تطيل‭ ‬المصادر‭ ‬اللغو‭ ‬حول‭ ‬أزمتها‭ ‬ومحنتها‭ ‬النفسية‭ ‬ومدى‭ ‬تأثرها‭ ‬بوفاة‭ ‬جبران،‭ ‬ثم‭ ‬انقضاض‭ ‬بنيانها‭ ‬بوفاة‭ ‬والدتها‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬التالي‭.‬

‭ ‬لقد‭ ‬أصيبت‭ ‬مي‭ ‬زيادة‭ ‬بنكبات‭ ‬عدة‭ ‬الواحدة‭ ‬تلو‭ ‬الأخرى،‭ ‬وحاول‭ ‬كثيرون‭ ‬استغلال‭ ‬فترة‭ ‬الأزمة‭ ‬النفسية‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬بها،‭ ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬شأناً‭ ‬عاماً‭ ‬لدينا؛‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬نجيد‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬المرض‭ ‬النفسي‭ ‬في‭ ‬حجمه‭ ‬الطبيعي‭ ‬فنروح‭ ‬نكون‭ ‬حوله‭ ‬أساطير‭ ‬لا‭ ‬معنى‭ ‬لها،‭ ‬وربما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الأجدى‭ ‬وضعها‭ ‬في‭ ‬حجمها‭ ‬المناسب‭ ‬كمأزق‭ ‬عارض‭ ‬يصيب‭ ‬ذوي‭ ‬النفوس‭ ‬الكبيرة،‭ ‬حين‭ ‬يأكل‭ ‬عقله‭ ‬من‭ ‬جسده،‭ ‬وبخاصة‭ ‬المجددين‭ ‬منهم‭.‬

صحبة‭ ‬الكبار‭ ‬قد‭ ‬تنضجك‭ ‬سريعاً،‭ ‬ولكنها‭ ‬تحمِّل‭ ‬عقلك‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬طاقة‭ ‬لك‭ ‬به،‭ ‬وربما‭ ‬تورث‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬الموت‭ .