دمج ذوي الاحتياجات الخاصة في المدارس مطلب أساسي

دمج ذوي الاحتياجات الخاصة  في المدارس مطلب أساسي

إن مشكلة التربية الخاصة هي مشكلة مجتمع بكامله وإن كانت كامنة في موقفه إزاء ذوي الاحتياجات الخاصة. فكان لزاماً على المثقفين والمسؤولين توعية المجتمع حيال هذا الأمر، ليزداد عدد المؤمنين بتقديم الخدمات وتعديل الآراء والاتجاهات والتعاون، لتشكيل جمعيات لدعم ذوي الاحتياجات الخاصة ومؤازرتهم وقبولهم بهدف التكامل معهم للنهوض بهذا المجتمع. فإذا تركت هذه الفئة من دون رعاية واهتمام فقد يتحول بعضها إلى وجهات انحرافية مدمرة، تفسد وتنغص على من حولها، فاستثمار  جهود هذه الفئة هو في حد ذاته استثمار  أمثل لطاقات إنتاجية معطاءة. 

تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية والمنظمة العالمية للتأهيل إلى أن 25 في المائة من أبناء المجتمع يتأثرون بشكل مباشر وغير مباشر بالإعاقة ونتائجها.
 
1- واقع ذوي الاحتياجات الخاصة في المجتمع
تؤكد دراسات في بلدان كثيرة «أن ما نسبته 10 إلى 15 طفلاً من بين كل 100 طفل يعتبرون من ذوي الاحتياجات الخاصة». وإن لم يكن من السهل الوصول إلى أرقام ونسب دقيقة في هذا المجال، إلا أن تقديرات المؤسسات والهيئات الرسمية تشير إلى نمو متزايد في عدد ذوي الاحتياجات الخاصة. ففي عام 2000م بلغ عددهم 600 مليون، منهم 200 مليون على الأقل من الأطفال، يتركز معظمهم في الدول النامية. 70 مليوناً مصابون بالصمم... ووفق تقديرات منظمة الصحة العالمية فإن 10-12 في المائة من سكان الدول النامية مصابون بإعاقات مختلفة. وقد أكّد تقرير الأمم المتحدة للّجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا لعام 2002، أن هنالك تبايناً في درجة انتشار الإعاقة في دول المنطقة العربية، حيث تتراوح النسبة بين 10 و16 لكل 1000 من الذكور، بينما جاءت نسب الإعاقات أقل إجمالاً عند الإناث.
فإذا كان عدد سكان العالم العربي 157 مليوناً، فإن مجموع ذوي الاحتياجات الخاصة يصل إلى أكثر من 15 مليوناً. 
فأي مجتمع متحضر هذا الذي يقوم على خدمة مواطنيه ورعاياه، يؤمن لهم جميع الخدمات مهمشاً نسبة كبيرة منهم، متغاضياً عن حقوقهم وحاجاتهم ومعطلاً نسبة 12 في المائة من قدراته، أي 12 في المائة من مردود وإنتاجية المجتمع وعطائه؟
فبتهميش ذوي الاحتياجات الخاصة يخسر المجتمع إنتاجية لا يستهان بها من ذوي العقول والكفاءة والإبداع، فكم من صاحب إعاقة اتسم بعقل مبدع راجح ولكن عزفت عنه يد المجتمع الحانية، فانزوى بعيداً في دياجير الظلام، لا لذنب ارتكبه ولكن لذنب حمّله إياه المجتمع! 
أي مجتمع هذا الذي ينأى عن صاحب الإعاقة ولم يَسلم بعد أن يصيبه مثل ما أصابه، وهل أحدٌ من البشر ضمن السلامة في حياته كلها؟ 
فليعرض كل مجتمع هذه المعضلة على أرض الدراسة والبحث: دينياً، وأخلاقياً وإنسانياً، فمن غير اللائق عدم مساواة أخينا بنا، وحرمانه من حقوق نتمتع نحن بها. 
ماذا ينتظر المجتمع العربي بعد ليهتم بهذه النسبة؟ وما الذي يعوق؟ فالمجتمع هو الذي يفتح لهم الأبواب مشرعة للتغلب على إعاقتهم، يساعدهم على التعلم، على العطاء... ومسؤولية المجتمع العربي أكبر منها في الدول الصناعية، فكل عشر إصابات عمى في الدول النامية تقابلها إصابة واحدة في الدول الصناعية. 
وبالتالي، فإن الاستعدادات لمواجهة هذه المعضلات لابد أن تكون أشمل وأكبر، ولا يخفى على أحد أنها لاتزال حديثة العهد، بدأت إطلالتها مع أوائل ثمانينيات القرن الماضي عند إعلان السنة الدولية للمعاقين، فكانت موجهة نحو المكفوفين ثم الصم، بينما تأخرت خدمات المتخلفين عقلياً، وهذه الاستعدادات على خجلها لا تغطي احتياجات 2 في المائة من المعاقين العرب على أكثر تقدير، ويؤخذ في الاعتبار أن الإناث أقل حظاً في تلقي الخدمات، وأن ذوي الإعاقة الشديدة أقل حظاً من ذوي الإعاقة البسيطة، في ظل ندرة الخدمات في المناطق الريفية، ووسط غياب برامج محدودية التدخل المبكر وخدمات التعليم التي أخذت في أحسن أحوالها نمط المؤسسات المنعزلة المختصة بذوي الإعاقة... كل ذلك ضمن إطار لا يتعدى نصوصاً وأحكاماً تفتقد المعايير والضوابط التي تكفل جديتها وتيسر تنفيذها. 
ويشار هنا إلى أن المعلمين المؤهلين للتربية الخاصة لا تعادل نسبتهم خُمس عدد معلمي التعليم العام رغم مبادرة بعض الجامعات لإنشاء أقسام للتربية الخاصة، إلا أن روّادها مازالوا قليلين، والبرامج التدريبية في هذا المجال تكاد تكون معدومة. 

بشائر أمل
إلا أن نظرة شمولية للعالم الحديث تتفاءل بالخير لمستقبل ذوي الاحتياجات الخاصة، فقد قدمت التقنيات الحديثة آفاقاً عظيمة لاستيعاب كل مستويات الإعاقة، وهيأت الوسائل المناسبة للتعليم والقراءة والكتابة ووسائل الحركة وأدوات التعويض. ويحدونا الأمل في استيراد المجتمع العربي هذه التقنيات والوسائل وتبنيها في مؤسساته الاجتماعية والتعليمية، ليعيد لذوي الاحتياجات ما غاب من إنسانيتهم وكرامتهم، فيتشاركون في المجتمع معتزين بذواتهم ومساهماتهم وإنتاجاتهم. 
إزاء ذلك وبفضل استخدام وسائل الاتصال والتكنولوجيا الحديثة في الدول المتقدمة، سهل دمج ذوي الاحتياجات الخاصة في الحقل التعليمي وتيسر استثمار قدراتهم في تحسين المردود الإنتاجي للمجتمع، فمثلاً استطاعت مجموعة من ذوي التأخر الذهني، بدعم من أحد الأشخاص، تسلّم إدارة فندق كان على وشك الإغلاق، وبعد عامين من العمل، نجحت المجموعة في تحقيق عائد ربحي وسمعة طيبة، إذ غدا من أعلى المستويات ويضم وسط جدرانه قاعة مشهورة خاصة للمؤتمرات. 
إن من الأولى احتذاء هذا المثل في المجتمع العربي، ففيه تفريغ لحجم كبير من الطاقات المشحونة المعطلة، وفيه على الأقل انتصار للآثار النفسية الناجمة عن الإعاقة المتسببة، على أقل مقدار، في قهر نسبة لا يستهان بها من المجتمع، فالدمار النفسي لذوي الإعاقة لا يطولهم فقط، وإنما يطول ذويهم، وخاصة الوالدة والوالد والإخوة، فهم دوماً في قلق عليهم... على واقعهم ومستقبلهم. 

آلام نفسية رهيبة
يقول رينيه (مصاب بشلل منذ طفولته) في معرض كلامه عن الآثار النفسية الناجمة عن الإعاقة: «إذا تألم ذوو الإعاقة من إعاقتهم، فإنهم حقيقة يتألمون من أسلوب تعامل غيرهم معهم». وتقول سوزان (من ذوي الاحتياجات الخاصة): «إن المجتمع هو الذي يصنع الإعاقة، يستطيع الإنسان التحمل إذا كان محبوباً». ويقول آخر: «الحياة ممكنة مع الإعاقة على أن يكون بقربك من يسندك ويدعمك». وتقول أخرى: «أفجعني قول أبي في أحد الأيام لرفاقه إنه فضَّل قيام والدتي بإجهاضي. كان قوله كارثة سببت لي آلاماً مبرحة، خاصة أنني أشعر بالسعادة...».
وتصف والدة ولدها ذا الإعاقة: هو قريب من ضيق محيطه، يشعر باللاعدالة، هو سعيد معنا نابض بالحياة ولكن يستصعب السعادة مع بيئته الواسعة، المدرسة، الأقارب، الرفاق، لم يُدعَ يوماً إلى حفل، أعتقد أن الناس يخشون التعامل معه، ربما يخشون من العدوى، من حصول ذلك مع أولادهم، تسألني الأمهات: كيف حصل ذلك؟ نحن في مجتمع قاسٍ لا نهتم بمآسي الغير». 
إن هذه الكلمات تهز المشاعر والأحاسيس لتحولها إلى مواقف إنسانية داعمة تسهم على أقل مقدار في تحمل نظرات الشفقة، العدائية، التجاهل وعدم التفهم.

تراكمات سلبية
لقد أثبتت التجارب التي عاشتها أمهات ذوي الاحتياجات الخاصة أنهن الفئة الأكثر تألماً، فهن يتحملن التراكمات الاجتماعية السلبية، فالبقاء في البيت مع أبنائهن ليس هو الحل الأمثل، هن يعين اللاتوازن هذا، ولكن لا يعلمن آلية للخروج من هذا القفص، فهو أفضل مساعد لتلبية حاجات أبنائهن... لابد من تضحية «نأي الولد عن الحياة الاجتماعية الطبيعية أو نأي أحد أعضاء الأسرة، وغالباً ما يكون الأم. لابد من تضحية... ليس بالاستطاعة التغيير»، ولكن في حال وجود إرادة سياسية تدعو المجتمع كافة, آباء ومؤسسات تربوية واجتماعية ومختصين، للعمل كفرقة متناغمة، يستوي الأمر ويستقيم، وهنا يتجلى دور المدرسة ويبرز كإحدى المؤسسات التربوية الداعمة للمجتمع ولجميع أبناء المجتمع على السواء، يتجلى في سمته الحضاري ليأخذ بيد ذوي الاحتياجات الخاصة ويعود بهم إلى مكانهم الطبيعي وسط المجتمع وفي مؤسساته التعليمية... إذن لابدّ من الدمج في المدارس.

2- الدمج في المدارس
بعد شعار عام 1981 (السنة الدولية للمعاقين)، سادت مفاهيم مثل «المساواة والمشاركة الكاملة» و«التربية للجميع» و«مجتمع للجميع»، التي تشير في مجملها إلى مسؤولية المجتمع حيال أفراده من ذوي الاحتياجات الخاصة وتهيئته ليتلاءم مع متطلباتهم. ثم جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تتويجاً لأبرز سمات هذه المرحلة، وقد نصّ على حق ذوي الاحتياجات الخاصة في التعليم ومسؤولية النظام التعليمي نحوهم. فكان الحل الأمثل في دمجهم بالمدارس العامة.
وقد سبق مفهوم الدمج مفهوم العادية La Normalization الذي يقصد به تأمين نوع من الحياة العادية ما أمكن ونأيهم عن الخدمات المؤسسية المنعزلة، ولا شك في أن «هذا المفهوم قد شكل ثورة ضد التقليد المعروف، وكان السبيل الأوحد لتحقيقه دمج هؤلاء الأفراد في الوسط المجتمعي». 
والخطوة الأولى في هذا المجال هي إعداد الأسرة والمدرسة والمجتمع لتقبل هذه الفكرة، فعدم التوعية الاجتماعية وعدم تأهيل الطلاب والأساتذة في المدارس للتعايش مع ذوي الاحتياجات الخاصة يؤديان بالدمج إلى دور معاكس يسيء إليهم بدلاً من الأخذ بيدهم، والنظرة السلبية التي يتلقاها الإنسان من غيره تترك بصماتها جلية على تقديره الذاتي ليصل به إلى أدنى المستويات.  وقد برز في هذا المجال مسمى «ذوي الاحتياجات التعليمية الخاصة» عوضاً عن مسمى «معاقين» الذي يعني الوصم بالإعاقة، وهذا في حد ذاته خدش لإنسانيتهم، فضلاً عن تكريسه لمبدأ فرض العزل على هذه الفئة.  فالنظرة الخاصة لهذه الفئة تلقي الضوء ساطعاً على إعاقتها مستبعدة نقاط التشابه وقدراتها السويّة بل والمبدعة أحياناً. 
فالأولى إذن التركيز على قدراته بتعزيزها وتطويرها لمنحه الثقة بالنفس والشعور بالنجاح والفرح، الاتسام بروح التسامح والإخاء مع الغير، تنمية الجانب الاجتماعي المعرفي، وتكوين صداقات جيدة ومستقرة تبعد عنه شبح الشعور بالقصور والعجز والدونية. إن التفاعل مع ذوي الاحتياجات الخاصة يلقي بظلاله أيضاً على الأصحاء، فيرفع من مستوى درجة التقبل الاجتماعي للغير لديهم، وينمي لديهم مهارات التواصل والوعي الاجتماعي، ويسهم في بناء شبكة أوسع وأنجح من العلاقات الإنسانية. 
إن سياسة الدمج ذات أثر إيجابي على الحقل الاقتصادي، إذ تستبعد الكلفة الاقتصادية الباهظة لإقامة الأبنية والمرافق الخاصة والطاقم الإداري الملائم.  فالدعوة إذن مفتوحة لإتاحة الفرص متكافئة لجميع الطلاب للتعلم، بغض النظر عن الاحتياجات التربوية، وعلى المدارس تأمين المشاركة الفاعلة لهم جميعاً في ظل وافر من الظروف الأكاديمية والاجتماعية ■