الخرطوم... شارع إفريقيا!

الخرطوم... شارع إفريقيا!

صباح‭ ‬الخير‭ ‬أيها‭ ‬الشارع‭ ‬النبيل‭!‬

مساء‭ ‬النور،‭ ‬يا‭ ‬أغرب‭ ‬شوارع‭ ‬المدينة‭ ‬السمراء،‭ ‬وأطولها‭.‬

تتلوى‭ ‬حيناً،‭ ‬مسالماً‭ ‬كخيط‭ ‬بخور،‭ ‬وحيناً‭ ‬كأفعى،‭ ‬أي‭ ‬سريرة‭ ‬وسيرة‭ ‬مطوية‭ ‬فيك‭ ‬أيها‭ ‬الماكر؟

هل‭ ‬نمت‭ ‬أيها‭ ‬الشارع‭ ‬العجوز،‭ ‬الشعبي،‭ ‬في‭ ‬عمرك‭ ‬المديد،‭ ‬ولو‭ ‬لحظة،‭ ‬حتى‭ ‬نصحيك؟‭ ‬أنت‭ ‬صاح‭ ‬دوما،‭ ‬تفتح‭ ‬قلبك‭ ‬لسرب‭ ‬سيارات‭ ‬قديمة،‭ ‬تعطس‭ ‬محركاتها‭ ‬من‭ ‬التعب،‭ ‬قادمة‭ ‬من‭ ‬الريف‭ ‬في‭ ‬نصف‭ ‬الليل،‭ ‬محملة‭ ‬بالخضار‭ ‬والفاكهة،‭ ‬والبيض،‭ ‬كي‭ ‬تغذي‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬الضخمة‭ ‬حد‭ ‬الاستحالة،‭ ‬وتودعها‭ ‬في‭ ‬الصبح،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬الذي‭ ‬تحج‭ ‬إلى‭ ‬قلب‭ ‬المدينة‭ ‬فيه‭ ‬أفواج‭ ‬من‭ ‬السيارات‭ ‬القديمة،‭ ‬والحديثة،‭ ‬للعمل‭ ‬والدراسة،‭ ‬والسرقة،‭ ‬والغنج،‭ ‬والحكم،‭ ‬واللهو‭ ‬والتجارة‭.‬

رغم‭ ‬تعرجك،‭ ‬وأنت‭ ‬تتلوى‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬القارة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نطلق‭ ‬عليك‭ ‬‮«‬على‭ ‬العموم‮»‬،‭ ‬أنك‭ ‬تمتد‭ ‬من‭ ‬الشمال‭ ‬لجنوب‭ ‬المدينة،‭ ‬موسم‭ ‬الهجرة‭ ‬من‭ ‬شمالك‭ ‬الراقي،‭ ‬حيث‭ ‬الأشجار‭ ‬وناطحات‭ ‬السحب‭ ‬للجنوب‭ ‬البسيط،‭ ‬الترابي،‭ ‬حيث‭ ‬النعاج‭ ‬تسير‭ ‬فوق‭ ‬ظهرك‭ ‬مع‭ ‬الرقشات‭ ‬والكارو،‭ ‬عند‭ ‬تخوم‭ ‬الخرطوم‭.‬

كيف‭ ‬حالك‭ ‬هذا‭ ‬الصباح؟،‭ ‬سلام‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يسعى‭ ‬فوقك،‭ ‬وكل‭ ‬من‭ ‬مر‭ ‬بك‭ ‬أو‭ ‬سيمر،‭ ‬أو‭ ‬سكن‭ ‬فيك‭ ‬‮«‬أيسكن‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬الشارع؟‮»‬‭ ‬نعم‭ ‬وأكثر‭ ‬وأعجب‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬يحدث‭ ‬فوق‭ ‬ظهرك‭ ‬الميمون‭.‬

كل‭ ‬شيء‭ ‬متاح،‭ ‬ومباح‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬إفريقيا،‭ ‬إنه‭ ‬شارع‭ ‬شاعر،‭ ‬وحكاء،‭ ‬وحاو،‭ ‬وغامض،‭ ‬وماكر،‭ ‬مثال‭ ‬نادر‭ ‬لجمع‭ ‬فتات‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬معبد،‭ ‬وترابي،‭ ‬معا،‭ ‬تمشي‭ ‬وتجري‭ ‬وتسير‭ ‬فوق‭ ‬ظهره‭ ‬الدواب‭ ‬والسيارات،‭ ‬والعجلات‭ ‬الهوائية،‭ ‬والأقدام‭ ‬البشرية،‭ ‬و«الرقشات‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬تحلق‭ ‬الطائرات‭ ‬قربه،‭ ‬كأنها‭ ‬تود‭ ‬أن‭ ‬تنزل‭ ‬فيه،‭ ‬لقربه‭ ‬من‭ ‬مهبط‭ ‬الطائرات،‭ ‬الموازي‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬مطار‭ ‬الخرطوم‭ ‬الدولي،‭ ‬حتى‭ ‬ضفتيه‭ ‬ملاذ‭ ‬لصغار‭ ‬الباعة،‭ ‬وأهل‭ ‬الأدعية‭ ‬الدينية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الصلاح‭ ‬والفلاح‭.‬

 

حكمة‭ ‬وأمومة

أنت‭ ‬من‭ ‬تغذي‭ ‬قلب‭ ‬العاصمة‭ ‬بالعمال‭ ‬والموظفين،‭ ‬واللصوص،‭ ‬والأدعياء‭ ‬والعشاق‭ ‬والباعة،‭ ‬والطلاب،‭ ‬والوعاظ،‭ ‬والأطباء،‭ ‬تحملهم‭ ‬على‭ ‬ظهرك‭ ‬الطويل،‭ ‬وتنزلهم‭ ‬برفق،‭ ‬كلاً‭ ‬عند‭ ‬مهنته،‭ ‬شحاذا‭ ‬كان‭ ‬أو‭ ‬مدعي‭ ‬شفاء،‭ ‬أو‭ ‬ضاربة‭ ‬ودع،‭ ‬أو‭ ‬مهندساً،‭ ‬ولا‭ ‬تبالي،‭ ‬وتنتظرهم‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬الليل،‭ ‬ثم‭ ‬ترجعهم‭ ‬لبيوتهم‭ ‬في‭ ‬أقاصي‭ ‬المدينة‭ ‬أو‭ ‬الريف‭ ‬القريب،‭ ‬أو‭ ‬البعيد،‭ ‬في‭ ‬ضواحي‭ ‬المدينة‭ ‬القارة،‭ ‬وأنت‭ ‬تعرف‭ ‬سر‭ ‬كل‭ ‬منهم،‭ ‬معرفة‭ ‬يقين،‭ ‬لا‭ ‬شك،‭ ‬وظنون،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬تسترهم‭ ‬بحكمة،‭ ‬وأمومة‭ ‬عجيبة‭.‬

هات‭ ‬ما‭ ‬عندك‭ ‬من‭ ‬أخبار‭ ‬لهذا‭ ‬الصباح‭ ‬ومساء‭ ‬الأمس،‭ ‬الجرائد‭ ‬تباع‭ ‬فيك،‭ ‬والكتب‭ ‬مفروشة‭ ‬على‭ ‬جنبيك،‭ ‬ماذا‭ ‬قرأت؟‭ ‬ومن‭ ‬توفي؟‭ ‬وآخر‭ ‬فيلم‭ ‬نال‭ ‬جائزة‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬ومن‭ ‬عشق،‭ ‬ومن‭ ‬غاب؟‭ ‬من‭ ‬أبطالك‭ ‬البسطاء،‭ ‬سائقو‭ ‬الرقشات‭ ‬والحافلات،‭ ‬والدراجات‭ ‬الهوائية‭.‬

وأنت‭ ‬تصغي‭ ‬لصوت‭ ‬وقع‭ ‬الأقدام‭ ‬عليك،‭ ‬تثير‭ ‬فيك‭ ‬كوامن‭ ‬من‭ ‬الصور‭ ‬الحية،‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬مر‭ ‬بك،‭ ‬المحجوب،‭ ‬وأجاثا‭ ‬كريستي،‭ ‬الميرغني،‭ ‬مانديلا،‭ ‬جكسا،‭ ‬العقاد،‭ ‬بيليه،‭ ‬كارلوس،‭ ‬السادات،‭ ‬نساء‭ ‬فلاحات،‭ ‬هوسا،‭ ‬عرب،‭ ‬حبش،‭ ‬باعة،‭ ‬دينكا،‭ ‬خواجات،‭ ‬متسولين،‭ ‬شعراء،‭ ‬وعوام‭ ‬الناس،‭ ‬كأنك‭ ‬تؤاخي‭ ‬بينهم،‭ ‬‮«‬كلكم‭ ‬يسعى‭ ‬على‭ ‬قدمين‮»‬،‭ ‬فما‭ ‬الفرق،‭ ‬وكلكم‭ ‬من‭ ‬رحم،‭ ‬ولقبر؟

 

الشارع‭ ‬الحكيم‭!‬

كل‭ ‬هذا‭ ‬يحدث‭ ‬على‭ ‬ظهرك‭ ‬الطويل،‭ ‬الصابر،‭ ‬أراك‭ ‬تتأملنا،‭ ‬أيها‭ ‬الشارع‭ ‬الحكيم،‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬سعى‭ ‬فوق‭ ‬ظهرك‭ ‬،‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬تحركه‭ ‬نزوة،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬تدفعه‭ ‬عاطفة،‭ ‬فيسعى‭ ‬لصلة‭ ‬رحم،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬يحركه‭ ‬حقد‭ ‬دفين،‭ ‬أو‭ ‬حيرة‭ ‬وملل،‭ ‬فيضرب‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬كيفما‭ ‬اتفق،‭ ‬أم‭ ‬تذكر‭ ‬ساخرا،‭ ‬ذلكم‭ ‬الهتاف‭ ‬الذي‭ ‬تردد‭ ‬بين‭ ‬جنبيك،‭ ‬عام‭ ‬سبعين‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الفائت،‭ ‬وأنت‭ ‬تصغي‭ ‬له،‭ ‬وقد‭ ‬شق‭ ‬عنان‭ ‬السماء‭ (‬نااااصر،‭ ‬نميري،‭ ‬قذافي‭)‬،‭ ‬جماهير‭ ‬تهتف‭ ‬حتى‭ ‬اهتزت‭ ‬الأرض‭ ‬وأغصان‭ ‬الأشجار‭ (‬وحدة،‭ ‬حرية،‭ ‬اشتراكية‭)‬،‭ ‬يقصدون‭ ‬الوحدة‭ ‬العربية،‭ ‬والاشتراكية‭ ‬التي‭ ‬تساوي‭ ‬الناس،‭ ‬في‭ ‬الرزق،‭ ‬والحكم،‭ ‬فما‭ ‬أوسع‭ ‬الفرقة‭ ‬بين‭ ‬الحلم‭ ‬والواقع،‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬مات‭ ‬من‭ ‬مرارة‭ ‬الهزيمة،‭ ‬والآخران‭ (‬نميري،‭ ‬قذافي‭)‬،‭ ‬أطاحت‭ ‬بهما‭ ‬الثورات‭ ‬الوطنية،‭ ‬كلاً‭ ‬في‭ ‬آن،‭ ‬فما‭ ‬أعجب‭ ‬حكمة‭ ‬الله،‭ ‬في‭ ‬نزع‭ ‬البشر،‭ ‬وبقى‭ ‬شارع‭ ‬إفريقيا‭ ‬كما‭ ‬هو،‭ ‬مستلقياً،‭ ‬تعبره‭ ‬قوافل‭ ‬الحياة،‭ ‬وتقلباتها،‭ ‬وهو‭ ‬يجتر‭ ‬غرابة‭ ‬التاريخ،‭ ‬ومرارته،‭ ‬وتقلبه‭. ‬

هذا‭ ‬المساء،‭ ‬على‭ ‬جنبك‭ ‬الأيسر،‭ ‬عملية‭ ‬قلب،‭ ‬في‭ ‬مستشفى‭ ‬القلب‭ ‬المفتوح،‭ ‬وعلى‭ ‬يمينك‭ ‬فتاة‭ ‬ترقص‭ ‬في‭ ‬زواج‭ ‬أخيها‭ ‬في‭ ‬النادي‭ ‬النوبي،‭ ‬وهناك‭ ‬عجوز‭ ‬سمراء‭ ‬تدعو‭ ‬في‭ ‬محراب‭ ‬الكنيسة‭ ‬الشرقية،‭ ‬وطفل‭ ‬نعس،‭ ‬يلعب‭ ‬بالتراب،‭ ‬وحمير‭ ‬تقرفصت‭ ‬في‭ ‬قلبك،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬غفا‭ ‬الطريق،‭ ‬أو‭ ‬بالأدق‭ ‬غفت‭ ‬مؤخرته‭ ‬الطويلة،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬صدره‭ ‬هناك‭ ‬سيارة‭ ‬تسعى‭ ‬الآن،‭ ‬وبها‭ ‬رجل‭ ‬عاد‭ ‬للوطن‭ ‬بعد‭ ‬عقد‭ ‬من‭ ‬الغياب،‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬السيارة‭ ‬هدايا‭ ‬وحقائب‭ ‬وكرة‭ ‬قدم،‭ ‬وقمصان،‭ ‬وأنت‭ ‬سعيد‭ ‬به،‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬تئن‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬حمل،‭ ‬ومشقة‭.‬

في‭ ‬تلك‭ ‬الإشارات‭ ‬الضوئية،‭ ‬وما‭ ‬أكثرها‭ ‬فيك،‭ ‬يقام‭ ‬سوق‭ ‬بين‭ ‬السيارات،‭ ‬صبيات‭ ‬صغيرات،‭ ‬يركضن‭ ‬هنا،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬تبيع‭ ‬المناديل‭ ‬الورقية،‭ ‬أو‭ ‬شباب‭ ‬يحمل‭ ‬كراتين‭ ‬محملة‭ ‬بصغار‭ ‬السلع،‭ ‬بل‭ ‬حتى‭ ‬غسل‭ ‬السيارات‭ ‬يتم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الهنيهة،‭ ‬حتى‭ ‬يضيء‭ ‬النور‭ ‬الأخضر،‭ ‬صبية‭ ‬صغار‭ ‬يحملون‭ ‬بأيديهم‭ ‬فوطاً‭ ‬رطبة،‭ ‬يمسحون‭ ‬زجاج‭ ‬السيارة،‭ ‬وأبوابها،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬جنيه،‭ ‬أو‭ ‬نصف‭ ‬جنيه،‭ ‬سيارة‭ ‬تغسل‭ ‬في‭ ‬ثوان،‭ ‬أو‭ ‬دقائق،‭ ‬على‭ ‬ظهر‭ ‬الشارع‭ ‬المتجدد‭ ‬قلبه‭ ‬في‭ ‬ثانية،‭ ‬تدخلك‭ ‬سيارات،‭ ‬وتخرج‭ ‬وتنعطف‭ ‬أخرى،‭ ‬وأنت‭ ‬ثابت،‭ ‬بل‭ ‬راقد‭ ‬على‭ ‬ظهرك‭ ‬سنوات‭ ‬وسنوات‭.‬

في‭ ‬ذيلك‭ ‬الجنوبي،‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬قرية‭ ‬عد‭ ‬حسين‭ ‬وعباد‭ ‬الرحمن،‭ ‬يتكئ‭ ‬ذيلك‭ ‬بين‭ ‬أكشاك‭ ‬وزرائب‭ ‬من‭ ‬حصير،‭ ‬ونسوة‭ ‬حبشيات‭ ‬يفوح‭ ‬الحبهان‭ ‬والقرفة‭ ‬من‭ ‬مواقدهن،‭ ‬وهن‭ ‬يجلسن‭ ‬صابرات‭ ‬طوال‭ ‬اليوم،‭ ‬بصبر‭ ‬غريب،‭ ‬كأنهن‭ ‬حفيدات‭ ‬النساك‭ ‬اليهود‭ ‬والمسيحيين‭ ‬والمسلمين‭ ‬في‭ ‬سالف‭ ‬الزمان‭ ‬في‭ ‬شعاب‭ ‬الحبشة‭ ‬القديمة،‭ ‬صبر‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬رتابة‭ ‬الحياة‭ ‬أغنية،‭ ‬كأنهن‭ ‬المعنيات‭ ‬بقول‭ ‬جماع‭ ‬‮«‬يستشفن‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬جمالاً‮»‬،‭ ‬للأنوثة‭ ‬سر‭ ‬غامض،‭ ‬تسقي‭ ‬العاطفة‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحياة‭ ‬روحا،‭ ‬ومددا‭ ‬شاعرياً،‭ ‬فيصير‭ ‬العمل‭ ‬اليومي‭ ‬هواية‭ ‬كالرسم،‭ ‬كسماع‭ ‬الموسيقى،‭ ‬من‭ ‬غسل‭ ‬الملابس،‭ ‬وصنع‭ ‬الشاي‭.‬

طبت‭ ‬أيها‭ ‬الشارع‭ ‬الصابر،‭ ‬أيها‭ ‬النهر‭ ‬الأسمر،‭ ‬الذي‭ ‬يضرب‭ ‬في‭ ‬الشمال‭ ‬والجنوب،‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬بلا‭ ‬ملل،‭ ‬أو‭ ‬كلل،‭ ‬في‭ ‬قضاء‭ ‬وطر‭ ‬بني‭ ‬آدم‭ ‬الأبدي،‭ ‬سلمت‭ ‬وسلمت‭ ‬الأقدام‭ ‬والإطارات‭ ‬التي‭ ‬تسعى‭ ‬فوق‭ ‬ظهرك‭ ‬الصابر،‭ ‬المصابر،‭ ‬وقضى‭ ‬الله‭ ‬وطرها،‭ ‬وحفظ‭ ‬نفوسها،‭ ‬وأسعد‭ ‬روحها،‭ ‬يا‭ ‬واسع‭ ‬الكرم‭ ‬‮«‬باسم‭ ‬الله،‭ ‬مجراها،‭ ‬ومرساها‮»‬،‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يدب‭ ‬فيك،‭ ‬من‭ ‬إنس،‭ ‬وجن،‭ ‬وحديد،‭ ‬وخشب‭.‬

أحن‭ ‬عليك،‭ ‬أتركك‭ ‬وشأنك،‭ ‬فهذه‭ ‬سويعات‭ ‬الغسق‭ ‬الهنيئة،‭ ‬حين‭ ‬توصد‭ ‬الأبواب،‭ ‬وتندر‭ ‬الحركة،‭ ‬يجتر‭ ‬ذكرياته،‭ ‬يستلقي‭ ‬كعادته‭ ‬على‭ ‬ظهره،‭ ‬ويضع‭ ‬صلبه‭ ‬في‭ ‬نفق‭ ‬عفراء،‭ ‬وركبته‭ ‬تعلو‭ ‬في‭ ‬جسر‭ ‬السوق‭ ‬المركزي،‭ ‬ويمدد‭ ‬ساقية‭ ‬طويلا،‭ ‬في‭ ‬خلاء‭ ‬مشروع‭ ‬سوبا‭ ‬الزراعي،‭ ‬ويتأمل‭ ‬حاله،‭ ‬وهو‭ ‬يصغي‭ ‬لصوت‭ ‬وقع‭ ‬الأقدام‭ ‬عليه،‭ ‬فتثير‭ ‬فيه‭ ‬كوامن‭ ‬من‭ ‬الصور‭ ‬الحية،‭ ‬التي‭ ‬تحتشد‭ ‬في‭ ‬سويداء‭ ‬فؤاده،‭ ‬فيسرح‭ ‬في‭ ‬المسيرات‭ ‬الكبرى،‭ ‬التي‭ ‬جرت‭ ‬منذ‭ ‬عقود‭ ‬خلت‭ ‬وحتى‭ ‬اليوم،‭ ‬آلاف‭ ‬الأقدام‭ ‬تضرب‭ ‬ظهره،‭ ‬وتهتف‭ ‬بالوعد‭ ‬والوعيد،‭ ‬لأعداء‭ ‬الوطن،‭ ‬والمارقين،‭ ‬في‭ ‬نواحي‭ ‬الجنوب‭ ‬والغرب،‭ ‬والشرق،‭ ‬وبعد‭ ‬حين،‭ ‬الأقدام‭ ‬ذاتها،‭ ‬تهتف‭ ‬حناجرها‭ ‬بجمال‭ ‬السلام،‭ ‬وسعة‭ ‬الوطن‭ ‬لأحلام‭ ‬الجميع،‭ ‬بل‭ ‬وطموحاتهم،‭ ‬فيعجب‭ ‬الطريق‭ ‬الصابر‭ ‬من‭ ‬بني‭ ‬آدم،‭ ‬ومن‭ ‬حناجرهم‭ ‬التي‭ ‬تملأ‭ ‬حينا‭ ‬بالبارود،‭ ‬فتصرخ‭ ‬وتعبس،‭ ‬وتتوعد،‭ ‬وحين‭ ‬تسقى‭ ‬الحناجر‭ ‬بخمر‭ ‬الحب،‭ ‬تتغنى‭ ‬وتنشد،‭ ‬وتلوح‭ ‬بأعلام‭ ‬السلام‭ ‬البيض،‭ ‬وتصدح‭ ‬بالفرح،‭ ‬لذات‭ ‬العدو‭ ‬القديم،‭ ‬التي‭ ‬استلت‭ ‬له‭ ‬السكين‭ ‬قبل‭ ‬حين،‭ ‬أهناك‭ ‬طفولة‭ ‬ساذحة‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬السياسة‭ ‬في‭ ‬بلادي‭ ‬رغم‭ ‬عمرها‭ ‬المديد؟«أليس‭ ‬بينكم‭ ‬رجل‭ ‬رشيد؟‮»‬،‭ ‬أم‭ ‬‮«‬النخبة‭ ‬وإدمان‭ ‬الفشل‮»‬‭.‬

‭ ‬وكما‭ ‬يتصارع‭ ‬الصبية‭ ‬في‭ ‬قضم‭ ‬تفاحة،‭ ‬أو‭ ‬امتلاك‭ ‬بلحة،‭ ‬يتصارع‭ ‬الكبار‭ ‬في‭ ‬ثمار‭ ‬إقليم،‭ ‬وبركات‭ ‬وهاد،‭ ‬وطيبات‭ ‬سهول‭ (‬هذا‭ ‬الإقليم‭ ‬لي،‭ ‬وتلك‭ ‬الوهاد‭ ‬لك،‭ ‬فيصرخ‭ ‬الآخر،‭ ‬بل‭ ‬لي‭ ‬أنا،‭ ‬فتحشد‭ ‬الجيوش،‭ ‬فتدوي‭ ‬المدافع،‭ ‬مثل‭ ‬الأطفال،‭ ‬بل‭ ‬أعنف،‭ ‬وتدمر‭ ‬النفوس،‭ ‬قبل‭ ‬السهول‭ ‬والحقول‭)‬،‭ ‬صورة‭ ‬طبق‭ ‬الأصل‭ ‬لصراع‭ ‬الأطفال،‭ ‬لو‭ ‬كانوا‭ ‬يعلمون‭.‬

ويتعجب‭ ‬الشارع‭ ‬بعد‭ ‬حين،‭ ‬حين‭ ‬تمتطيه‭ ‬عربات‭ ‬فارهة،‭ ‬عليها‭ ‬أعلام،‭ ‬وبداخلها‭ ‬خصوم‭ ‬الأمس،‭ ‬في‭ ‬ابتسامات‭ ‬مشرقة،‭ ‬في‭ ‬طريقهم‭ ‬لمؤتمر‭ ‬سلام،‭ ‬عادوا‭ ‬للتصالح،‭ ‬أما‭ ‬الشباب‭ ‬الذين‭ ‬دفعوا‭ ‬للحرب،‭ ‬فقد‭ ‬دفنوا‭ ‬في‭ ‬فجاج‭ ‬الغابات،‭ ‬والصحارى،‭ ‬في‭ ‬قبور‭ ‬كبيرة،‭ ‬ليتهم‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬عادوا،‭ ‬ليتهم‭.‬

عند‭ ‬الليل‭ ‬يسرح‭ ‬طرفك،‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬على‭ ‬ظهره‭ ‬الطويل،‭ ‬الصابر،‭ ‬في‭ ‬عمره‭ ‬المديد،‭ ‬فقد‭ ‬مر‭ ‬عبره‭ ‬أناس‭ ‬شتى،‭ ‬فيهم‭ ‬العظيم‭ ‬الشأن‭ ‬عند‭ ‬الله،‭ ‬وحقير‭ ‬عند‭ ‬البشر،‭ ‬وفيهم‭ ‬العظيم‭ ‬الشأن‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬الناس،‭ ‬صغير‭ ‬عند‭ ‬الله،‭ ‬فقد‭ ‬مر‭ ‬به‭ ‬أناس‭ ‬مختلفة‭ ‬مشاربهم،‭ ‬فمنهم‭ ‬شحاذ‭ ‬ضرير،‭ ‬وأرملة‭ ‬تقف‭ ‬طوال‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬إشارة‭ ‬الجريف،‭ ‬واللاعب‭ ‬بيليه،‭ ‬وجمال‭ ‬عبدالناصر،‭ ‬وكارتر،‭ ‬وأم‭ ‬كلثوم،‭ ‬ونميري،‭ ‬ونزار‭ ‬قباني،‭ ‬وتيتو،‭ ‬وفريق‭ ‬ليفربول،‭ ‬ونفر‭ ‬آخر،‭ ‬فهو‭ ‬طريق‭ ‬المطار‭ ‬الوحيد،‭ ‬وهو‭ ‬بمنزلة‭ ‬بوابة‭ ‬للوطن،‭ ‬للراحلين‭ ‬والعائدين،‭ ‬وعابري‭ ‬السبيل،‭ ‬كلهم‭ ‬مروا‭ ‬فوقه،‭ ‬ولم‭ ‬يصرخ‭ ‬الشارع‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬رجل‭ ‬فقير،‭ ‬أو‭ ‬يزجره،‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬يهتف‭ ‬لرجل‭ ‬عظيم،‭ ‬أو‭ ‬يتملقه،‭ ‬يعيش‭ ‬بكبرياء‭ ‬في‭ ‬صمت‭ ‬زاهد‭ ‬عظيم،‭ ‬وحياد‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الحكيم،‭ ‬فقد‭ ‬فتح‭ ‬صدره،‭ ‬وظهره‭ ‬لهم،‭ ‬وقال‭ ‬لهم،‭ ‬أجمعين،‭ ‬‮«‬حللتم‭ ‬أهلا،‭ ‬ونزلتم‭ ‬سهلا‮»‬،‭ ‬وكل‭ ‬العابرين‭ ‬تباينت‭ ‬نظراتهم‭ ‬له،‭ ‬فمنهم‭ ‬من‭ ‬تعجب‭ ‬من‭ ‬الشارع،‭ ‬وعوالمه،‭ ‬وظلاله،‭ ‬ودوره،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬سخر‭ ‬منه،‭ ‬وزحمته،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬قارنه‭ ‬ببلاده‭ ‬البعيدة‭ ‬الجميلة،‭ ‬وهو‭ ‬رغم‭ ‬تباينهم‭ ‬في‭ ‬شأنه،‭ ‬لم‭ ‬يشتك‭ ‬قدره،‭ ‬وينكر‭ ‬ملامحه،‭ ‬أو‭ ‬يزيفها‭ ‬بكريمات‭ ‬أو‭ ‬دهان،‭ ‬أو‭ ‬شطف‭ ‬تجاعيده،‭ ‬ولو‭ ‬بعبوس‭ ‬حزين،‭ ‬أو‭ ‬فرح‭ ‬ساذج،‭ ‬فأشجاره‭ ‬ترقص‭ ‬للجميع،‭ ‬وزهوره‭ ‬تسر‭ ‬الناظرين،‭ ‬أيا‭ ‬كانوا‭.‬

يتلفت‭ ‬الشارع‭ ‬حوله،‭ ‬على‭ ‬جنبيه،‭ ‬أسماء‭ ‬بالعربي،‭ ‬وبالإنجليزي،‭ ‬أجنبية‭ ‬وإفريقية،‭ ‬وعريبة،‭ ‬يتهجى‭ ‬بتأنٍ‭ ‬الدور،‭ ‬والبيوت‭ ‬والمكاتب‭ ‬التي‭ ‬تفتح‭ ‬عليه،‭ ‬‮«‬المعلم‭ ‬لصيانة‭ ‬الركشات‮»‬،‭ ‬‮«‬صيدلية‭ ‬الريان‮»‬،‭ ‬‮«‬خياط‭ ‬المقص‭ ‬الذهبي‮»‬،‭ ‬‮«‬مكتبة‭ ‬شندي‮»‬،‭ ‬‮«‬زريبة‭ ‬فحم‭ ‬وأزيار‮»‬،‭ ‬‮«‬محلات‭ ‬تجميل‮»‬،‭ ‬‮«‬بنشر‭ ‬لساتك‮»‬،‭ ‬ويسرح‭ ‬في‭ ‬وطر‭ ‬بني‭ ‬آدم،‭ ‬وغرائزه،‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬جميلا،‭ ‬وشبعا،‭ ‬‮«‬ويرثي‭ ‬له،‭ ‬ويعطف‭ ‬عليه‮»‬،‭ ‬أسير‭ ‬غموض‭ ‬غريب،‭ ‬‮«‬مدرسة‭ ‬جبل‭ ‬مرة‮»‬،‭ ‬يسمع‭ ‬الشارع‭ ‬أناشيد‭ ‬الأطفال،‭ ‬ويصغي‭ ‬لمدرسة‭ ‬عد‭ ‬حسين‭ ‬الابتدائية‭ ‬بنين،‭ ‬والمدرسة‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬أطفال‭ ‬بسطاء،‭ ‬خرجوا‭ ‬من‭ ‬أرحام‭ ‬دافئة،‭ ‬لعالم‭ ‬كعجبة‭ ‬الدرويش‭ ‬‮«‬منهم‭ ‬الذكي‭ ‬الفقير،‭ ‬ومنهم‭ ‬البليد‭ ‬الغني‮»‬،‭ ‬مثل‭ ‬لحية‭ ‬برناردشو،‭ ‬ورأسه‭ ‬الأصلع،‭ ‬‮«‬غزارة‭ ‬إنتاج‭ ‬وسوء‭ ‬توزيع‮»‬،‭ ‬يتأمل‭ ‬الشارع‭ ‬عالمه،‭ ‬وسكانه‭ ‬‮«‬هل‭ ‬خلقت‭ ‬المعضلات‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬العقل؟‭ ‬أم‭ ‬خلق‭ ‬العقل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬المعضلات‭ ‬وحلها‮»‬،‭ ‬ونظرية‭ ‬المعرفة،‭ ‬ما‭ ‬هي؟‭ ‬وحدها؟‭ ‬ففي‭ ‬خلاوي‭ ‬الشارع‭ ‬يسمع‭ ‬كرامات‭ ‬غريبة،‭ ‬تعاند‭ ‬طبيعة‭ ‬الطين‭ ‬والتراب‭ ‬التي‭ ‬منها‭ ‬جرم‭ ‬بني‭ ‬آدم،‭ ‬وتجعل‭ ‬من‭ ‬قدرات‭ ‬الإنسان‭ ‬جنة‭ ‬لا‭ ‬تحاط،‭ ‬وهناك‭ ‬نظريات‭ ‬معرفة‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬الحواس‭ ‬الخمس‭ ‬سيدة،‭ ‬في‭ ‬التقصي‭ ‬والتدبر‭ ‬والتحليل،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬تنصب‭ ‬القلب‭ ‬سيدا،‭ ‬وأميرا‭.‬

يتململ‭ ‬الشارع،‭ ‬هناك‭ ‬كيس‭ ‬قمامة‭ ‬مرمي‭ ‬عنده‭ ‬ساندويتش‭ ‬ساخن،‭ ‬رماه‭ ‬رجل‭ ‬ثري،‭ ‬عند‭ ‬مطعم‭ ‬أمواج‭ ‬الشهير،‭ ‬وهناك‭ ‬طفل‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬نفسه،‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬أربعة‭ ‬كيلومترات،‭ ‬جائع،‭ ‬من‭ ‬يفهم‭ ‬لغة‭ ‬الشارع؟

أيها‭ ‬الشارع‭ ‬طبت،‭ ‬دوما،‭ ‬رغم‭ ‬أحزانك،‭ ‬وفرحك،‭ ‬على‭ ‬حال‭ ‬البلاد،‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬