الخرطوم... شارع إفريقيا!
صباح الخير أيها الشارع النبيل!
مساء النور، يا أغرب شوارع المدينة السمراء، وأطولها.
تتلوى حيناً، مسالماً كخيط بخور، وحيناً كأفعى، أي سريرة وسيرة مطوية فيك أيها الماكر؟
هل نمت أيها الشارع العجوز، الشعبي، في عمرك المديد، ولو لحظة، حتى نصحيك؟ أنت صاح دوما، تفتح قلبك لسرب سيارات قديمة، تعطس محركاتها من التعب، قادمة من الريف في نصف الليل، محملة بالخضار والفاكهة، والبيض، كي تغذي هذه المدينة الضخمة حد الاستحالة، وتودعها في الصبح، في الوقت ذاته الذي تحج إلى قلب المدينة فيه أفواج من السيارات القديمة، والحديثة، للعمل والدراسة، والسرقة، والغنج، والحكم، واللهو والتجارة.
رغم تعرجك، وأنت تتلوى في المدينة القارة يمكن أن نطلق عليك «على العموم»، أنك تمتد من الشمال لجنوب المدينة، موسم الهجرة من شمالك الراقي، حيث الأشجار وناطحات السحب للجنوب البسيط، الترابي، حيث النعاج تسير فوق ظهرك مع الرقشات والكارو، عند تخوم الخرطوم.
كيف حالك هذا الصباح؟، سلام لكل من يسعى فوقك، وكل من مر بك أو سيمر، أو سكن فيك «أيسكن الناس في الشارع؟» نعم وأكثر وأعجب من ذلك، يحدث فوق ظهرك الميمون.
كل شيء متاح، ومباح في شارع إفريقيا، إنه شارع شاعر، وحكاء، وحاو، وغامض، وماكر، مثال نادر لجمع فتات الحياة في طريق معبد، وترابي، معا، تمشي وتجري وتسير فوق ظهره الدواب والسيارات، والعجلات الهوائية، والأقدام البشرية، و«الرقشات»، بل تحلق الطائرات قربه، كأنها تود أن تنزل فيه، لقربه من مهبط الطائرات، الموازي له في مطار الخرطوم الدولي، حتى ضفتيه ملاذ لصغار الباعة، وأهل الأدعية الدينية من أجل الصلاح والفلاح.
حكمة وأمومة
أنت من تغذي قلب العاصمة بالعمال والموظفين، واللصوص، والأدعياء والعشاق والباعة، والطلاب، والوعاظ، والأطباء، تحملهم على ظهرك الطويل، وتنزلهم برفق، كلاً عند مهنته، شحاذا كان أو مدعي شفاء، أو ضاربة ودع، أو مهندساً، ولا تبالي، وتنتظرهم حتى آخر الليل، ثم ترجعهم لبيوتهم في أقاصي المدينة أو الريف القريب، أو البعيد، في ضواحي المدينة القارة، وأنت تعرف سر كل منهم، معرفة يقين، لا شك، وظنون، ومع هذا تسترهم بحكمة، وأمومة عجيبة.
هات ما عندك من أخبار لهذا الصباح ومساء الأمس، الجرائد تباع فيك، والكتب مفروشة على جنبيك، ماذا قرأت؟ ومن توفي؟ وآخر فيلم نال جائزة في الغرب ومن عشق، ومن غاب؟ من أبطالك البسطاء، سائقو الرقشات والحافلات، والدراجات الهوائية.
وأنت تصغي لصوت وقع الأقدام عليك، تثير فيك كوامن من الصور الحية، لكل من مر بك، المحجوب، وأجاثا كريستي، الميرغني، مانديلا، جكسا، العقاد، بيليه، كارلوس، السادات، نساء فلاحات، هوسا، عرب، حبش، باعة، دينكا، خواجات، متسولين، شعراء، وعوام الناس، كأنك تؤاخي بينهم، «كلكم يسعى على قدمين»، فما الفرق، وكلكم من رحم، ولقبر؟
الشارع الحكيم!
كل هذا يحدث على ظهرك الطويل، الصابر، أراك تتأملنا، أيها الشارع الحكيم، كل من سعى فوق ظهرك ، هناك من تحركه نزوة، وهناك من تدفعه عاطفة، فيسعى لصلة رحم، وهناك من يحركه حقد دفين، أو حيرة وملل، فيضرب في الشارع كيفما اتفق، أم تذكر ساخرا، ذلكم الهتاف الذي تردد بين جنبيك، عام سبعين من القرن الفائت، وأنت تصغي له، وقد شق عنان السماء (نااااصر، نميري، قذافي)، جماهير تهتف حتى اهتزت الأرض وأغصان الأشجار (وحدة، حرية، اشتراكية)، يقصدون الوحدة العربية، والاشتراكية التي تساوي الناس، في الرزق، والحكم، فما أوسع الفرقة بين الحلم والواقع، جمال عبدالناصر مات من مرارة الهزيمة، والآخران (نميري، قذافي)، أطاحت بهما الثورات الوطنية، كلاً في آن، فما أعجب حكمة الله، في نزع البشر، وبقى شارع إفريقيا كما هو، مستلقياً، تعبره قوافل الحياة، وتقلباتها، وهو يجتر غرابة التاريخ، ومرارته، وتقلبه.
هذا المساء، على جنبك الأيسر، عملية قلب، في مستشفى القلب المفتوح، وعلى يمينك فتاة ترقص في زواج أخيها في النادي النوبي، وهناك عجوز سمراء تدعو في محراب الكنيسة الشرقية، وطفل نعس، يلعب بالتراب، وحمير تقرفصت في قلبك، بعد أن غفا الطريق، أو بالأدق غفت مؤخرته الطويلة، ولكن في صدره هناك سيارة تسعى الآن، وبها رجل عاد للوطن بعد عقد من الغياب، على رأس السيارة هدايا وحقائب وكرة قدم، وقمصان، وأنت سعيد به، رغم ما تئن به من حمل، ومشقة.
في تلك الإشارات الضوئية، وما أكثرها فيك، يقام سوق بين السيارات، صبيات صغيرات، يركضن هنا، وهناك من تبيع المناديل الورقية، أو شباب يحمل كراتين محملة بصغار السلع، بل حتى غسل السيارات يتم في هذه الهنيهة، حتى يضيء النور الأخضر، صبية صغار يحملون بأيديهم فوطاً رطبة، يمسحون زجاج السيارة، وأبوابها، من أجل جنيه، أو نصف جنيه، سيارة تغسل في ثوان، أو دقائق، على ظهر الشارع المتجدد قلبه في ثانية، تدخلك سيارات، وتخرج وتنعطف أخرى، وأنت ثابت، بل راقد على ظهرك سنوات وسنوات.
في ذيلك الجنوبي، ما بعد قرية عد حسين وعباد الرحمن، يتكئ ذيلك بين أكشاك وزرائب من حصير، ونسوة حبشيات يفوح الحبهان والقرفة من مواقدهن، وهن يجلسن صابرات طوال اليوم، بصبر غريب، كأنهن حفيدات النساك اليهود والمسيحيين والمسلمين في سالف الزمان في شعاب الحبشة القديمة، صبر يجعل من رتابة الحياة أغنية، كأنهن المعنيات بقول جماع «يستشفن من كل شيء جمالاً»، للأنوثة سر غامض، تسقي العاطفة تفاصيل الحياة روحا، ومددا شاعرياً، فيصير العمل اليومي هواية كالرسم، كسماع الموسيقى، من غسل الملابس، وصنع الشاي.
طبت أيها الشارع الصابر، أيها النهر الأسمر، الذي يضرب في الشمال والجنوب، كل يوم، بلا ملل، أو كلل، في قضاء وطر بني آدم الأبدي، سلمت وسلمت الأقدام والإطارات التي تسعى فوق ظهرك الصابر، المصابر، وقضى الله وطرها، وحفظ نفوسها، وأسعد روحها، يا واسع الكرم «باسم الله، مجراها، ومرساها»، لكل من يدب فيك، من إنس، وجن، وحديد، وخشب.
أحن عليك، أتركك وشأنك، فهذه سويعات الغسق الهنيئة، حين توصد الأبواب، وتندر الحركة، يجتر ذكرياته، يستلقي كعادته على ظهره، ويضع صلبه في نفق عفراء، وركبته تعلو في جسر السوق المركزي، ويمدد ساقية طويلا، في خلاء مشروع سوبا الزراعي، ويتأمل حاله، وهو يصغي لصوت وقع الأقدام عليه، فتثير فيه كوامن من الصور الحية، التي تحتشد في سويداء فؤاده، فيسرح في المسيرات الكبرى، التي جرت منذ عقود خلت وحتى اليوم، آلاف الأقدام تضرب ظهره، وتهتف بالوعد والوعيد، لأعداء الوطن، والمارقين، في نواحي الجنوب والغرب، والشرق، وبعد حين، الأقدام ذاتها، تهتف حناجرها بجمال السلام، وسعة الوطن لأحلام الجميع، بل وطموحاتهم، فيعجب الطريق الصابر من بني آدم، ومن حناجرهم التي تملأ حينا بالبارود، فتصرخ وتعبس، وتتوعد، وحين تسقى الحناجر بخمر الحب، تتغنى وتنشد، وتلوح بأعلام السلام البيض، وتصدح بالفرح، لذات العدو القديم، التي استلت له السكين قبل حين، أهناك طفولة ساذحة في عالم السياسة في بلادي رغم عمرها المديد؟«أليس بينكم رجل رشيد؟»، أم «النخبة وإدمان الفشل».
وكما يتصارع الصبية في قضم تفاحة، أو امتلاك بلحة، يتصارع الكبار في ثمار إقليم، وبركات وهاد، وطيبات سهول (هذا الإقليم لي، وتلك الوهاد لك، فيصرخ الآخر، بل لي أنا، فتحشد الجيوش، فتدوي المدافع، مثل الأطفال، بل أعنف، وتدمر النفوس، قبل السهول والحقول)، صورة طبق الأصل لصراع الأطفال، لو كانوا يعلمون.
ويتعجب الشارع بعد حين، حين تمتطيه عربات فارهة، عليها أعلام، وبداخلها خصوم الأمس، في ابتسامات مشرقة، في طريقهم لمؤتمر سلام، عادوا للتصالح، أما الشباب الذين دفعوا للحرب، فقد دفنوا في فجاج الغابات، والصحارى، في قبور كبيرة، ليتهم هم من عادوا، ليتهم.
عند الليل يسرح طرفك، في ما جرى على ظهره الطويل، الصابر، في عمره المديد، فقد مر عبره أناس شتى، فيهم العظيم الشأن عند الله، وحقير عند البشر، وفيهم العظيم الشأن في نظر الناس، صغير عند الله، فقد مر به أناس مختلفة مشاربهم، فمنهم شحاذ ضرير، وأرملة تقف طوال اليوم في إشارة الجريف، واللاعب بيليه، وجمال عبدالناصر، وكارتر، وأم كلثوم، ونميري، ونزار قباني، وتيتو، وفريق ليفربول، ونفر آخر، فهو طريق المطار الوحيد، وهو بمنزلة بوابة للوطن، للراحلين والعائدين، وعابري السبيل، كلهم مروا فوقه، ولم يصرخ الشارع في وجه رجل فقير، أو يزجره، كما لم يهتف لرجل عظيم، أو يتملقه، يعيش بكبرياء في صمت زاهد عظيم، وحياد الفيلسوف الحكيم، فقد فتح صدره، وظهره لهم، وقال لهم، أجمعين، «حللتم أهلا، ونزلتم سهلا»، وكل العابرين تباينت نظراتهم له، فمنهم من تعجب من الشارع، وعوالمه، وظلاله، ودوره، ومنهم من سخر منه، وزحمته، ومنهم من قارنه ببلاده البعيدة الجميلة، وهو رغم تباينهم في شأنه، لم يشتك قدره، وينكر ملامحه، أو يزيفها بكريمات أو دهان، أو شطف تجاعيده، ولو بعبوس حزين، أو فرح ساذج، فأشجاره ترقص للجميع، وزهوره تسر الناظرين، أيا كانوا.
يتلفت الشارع حوله، على جنبيه، أسماء بالعربي، وبالإنجليزي، أجنبية وإفريقية، وعريبة، يتهجى بتأنٍ الدور، والبيوت والمكاتب التي تفتح عليه، «المعلم لصيانة الركشات»، «صيدلية الريان»، «خياط المقص الذهبي»، «مكتبة شندي»، «زريبة فحم وأزيار»، «محلات تجميل»، «بنشر لساتك»، ويسرح في وطر بني آدم، وغرائزه، في أن يكون جميلا، وشبعا، «ويرثي له، ويعطف عليه»، أسير غموض غريب، «مدرسة جبل مرة»، يسمع الشارع أناشيد الأطفال، ويصغي لمدرسة عد حسين الابتدائية بنين، والمدرسة الإنجليزية، أطفال بسطاء، خرجوا من أرحام دافئة، لعالم كعجبة الدرويش «منهم الذكي الفقير، ومنهم البليد الغني»، مثل لحية برناردشو، ورأسه الأصلع، «غزارة إنتاج وسوء توزيع»، يتأمل الشارع عالمه، وسكانه «هل خلقت المعضلات من أجل العقل؟ أم خلق العقل من أجل المعضلات وحلها»، ونظرية المعرفة، ما هي؟ وحدها؟ ففي خلاوي الشارع يسمع كرامات غريبة، تعاند طبيعة الطين والتراب التي منها جرم بني آدم، وتجعل من قدرات الإنسان جنة لا تحاط، وهناك نظريات معرفة تجعل من الحواس الخمس سيدة، في التقصي والتدبر والتحليل، وهناك من تنصب القلب سيدا، وأميرا.
يتململ الشارع، هناك كيس قمامة مرمي عنده ساندويتش ساخن، رماه رجل ثري، عند مطعم أمواج الشهير، وهناك طفل آخر في الشارع نفسه، على بعد أربعة كيلومترات، جائع، من يفهم لغة الشارع؟
أيها الشارع طبت، دوما، رغم أحزانك، وفرحك، على حال البلاد، كل يوم ■