بعد أكثر من عشرين عاماً... «رشيدة» الجزائرية مازالت تبحث عن حريتها

بعد أكثر من عشرين عاماً...  «رشيدة» الجزائرية مازالت تبحث عن حريتها

مرّت المرأة الجزائرية في تاريخها المعاصر بعديد من المتغيرات التي أثرت على أوضاعها بشكل كبير. وبشكل عام كانت هناك مرحلتان تاريخيتان كبيرتا الأثر  على أوضاع المرأة في الجزائر، الأولى بلغت نحو 130 عاماً من الاستعمار  الفرنسي الذي احتل الأرض وحرم الفرد الجزائري من استقلاله، ووضع أثقاله على المرأة بطبيعة الحال وجعلها محرومة من التعبير  عن ذاتها وحريتها كمواطنة تنتمي لوطنها، أما المرحلة الثانية فقد امتدت عقداً  أسود خلال تسعينيات القرن الماضي، الذي شهدت فيه الجزائر  انتشار العنف ضد المجتمع بأكمله، من قبل القوى الظلامية المتشددة، وكانت المرأة الجزائرية الأكثر تطرّفاً، لأنها كانت تعامل باعتبار  وجودها كله حراماً. 

الحقيقة أن المرأة الجزائرية خلال الفترة التي أعقبت الاستقلال من المحتل الفرنسي جاهدت من أجل استعادة حريتها، ونجحت في تحقيق ذاتها وإثبات وجودها، واحتلت مكانة  أساسية في المجتمع، وقد بنت ذاتها بناء على ما قدمته أيضاً خلال فترة الاحتلال من دور مهم في الكفاح الوطني ضد الاستعمار. 
 وتغير بالتالي دورها في المجتمع، وتمكنت من تغيير النظرة لها، فلم يعد دورها مقتصراً على ذلك الدور التقليدي كزوجة تقليدية تتحمل وحدها عبء التنظيف والترتيب والطهي، فحسب، بل اقتحمت مجالات عديدة، ولعبت أدواراً مهمة، في مختلف المجالات في المجتمع، وانتزعت أدواراً برعت فيها بعدما كانت حكراً على الرجل فقط. 
بل إنها تفوقت وأصبحت ترأس الرجل في أكثر من مكان وفقاً لكفاءتها في العمل. فقد أثبتت أنها ند له وأكثر شجاعة منه أحياناً في بعض المواقف. ولاشك في أن هذا التغير الجديد الذي طرأ على أوضاع المرأة أثر بشكل كبير على  علاقتها بنفسها، فأصبحت أكثر تحرراً، لها حرية أن ترتدي ما تريد وتتنقل أينما شاءت من دون إزعاج، ومن دون أن تتعرض لأي تحرش جنسي، واستمرت الأوضاع على هذا النحو حتى بدأت تيارات الإسلام السياسي في الظهور. 
فمع انتشار العنف وظاهرة الإرهاب التي تسببت في أحداث دموية فاقت كل التصورات، وتجاوزت كل ما تُقره الأديان، عانت المرأة مآسي حقيقية، ومن الإكراه والإحباط، والخوف والقلق. وإذا كان المجتمع المدني الجزائري كله قد أصبح مستهدفاً من التيارات المتشددة، فإن المرأة قد تضاعف استهدافها، مرة كمواطنة مدنية والأخرى كامرأة. وفي ظل قسوة الظرف الذي مر على الجزائر عموماً، كان الخيار الذي خضع له عديد من نساء الجزائر هو الصمت. 
لكن بعض النساء لم يخضعن لمثل هذا الخيار، الذي وجدت فيه الكثيرات نوعاً من الإجحاف والظلم، واختارت بعض من امتلكن وسائل التعبير أن يتحدثن على لسان آلاف النساء الجزائريات الصامتات. 

يمينة شويخ
ومن بين هذه النماذج النسوية قررت الفنانة يمينة بشير شويخ، وهي مخرجة جزائرية من مواليد عام 1954، أن تتوسل صوت الفن والخيال، لكي تعبر به عن معاناة المرأة الجزائرية وترفع صوتها المقموع آنذاك عالياً.  أخرجت يمينة شويخ فيلماً منحته اسم «رشيدة». فكرة الفيلم استلهمتها الفنانة الجزائرية من واقعة حقيقية، ورصدت فيه أولاً مظاهر ما تعرضت له الجزائر من قتل، وما سال في شوارعها من دماء، بشكل أعطى وصفاً دقيقاً لبلاد لم تكن تتوقف عن مسح دموعها على شهدائها، ولا تتوقف عن تضميد جراحها بسبب ذلك الكابوس. 
كانت رشيدة واحدة من نساء الجزائر اللاتي قاومن ما أراده لهن المتشددون. ويحكي الفيلم قصتها، وهي معلمة في إحدى المدارس، ولا تقبل تهديدات المتشددين لها، بعد أن رفضت أن تساعدهم في وضع قنبلة في المدرسة التي تعمل بها، فيحاولون اغتيالها، لكنها تنجو من القتل، وتهرب من الإرهابيين. وقد شارك في تمثيل الفيلم مجموعة الفنانين: ابتسام جوادي التي لعبت دور رشيدة، وبهية راشدي، وحميد رماس، وزكي بولنافض،  ورشيدة ميساوي، وعبدالقادر بلمقدم، وأمل شوخ، وعز الدين بوقرة. وحصل الفيلم الذي أنتج عام 2002 على جوائز عالمية عدة. 

بين الفن والواقع
الفارق بين الفيلم والقصة التي استلهمتها المخرجة يعود إلى أن البطلة في الحقيقة قد تعرضت للقتل بالفعل، لكن في الفيلم تبقى البطلة حية لتعطينا المخرجة تناقضاً جميلاً في مرحلتين مختلفتين من حياة رشيدة التي عانت الإحباط واليأس، وحملت قيم الصبر والعمل والصمود التي جعلتها تواصل مهنتها وعطاءها للمجتمع. 
كانت المخرجة شويخ قد بدأت العمل في حقل السينما مساعدة في إنتاج الأفلام السينمائية عام 1973، وعملت في مونتاج الأفلام مع مخرجين جزائريين مثل عبدالقادر لقاط، وأحمد رشدي، ومع زوجها محمد شويخ، وإلى جانب عملها في ميدان المونتاج، كتبت سيناريوهات عدة.
ومن هذه الخبرة أقدمت على كتابة سيناريو «رشيدة»، الذي يصور لنا قصة حياة فتاة تدعى رشيدة، تعيش حياة بسيطة في حي شعبي في العاصمة مع والدتها، وتزاول عملها كمعلمة في مدرسة ابتدائية، وتعيش متحررة من تلك القيود التي فرضها الأصوليون، حيث أصرت ألا ترتدي الحجاب في زمن كان كشف شعر المرأة سبباً كافياً لإقامة الحد عليها، ولم يكن هذا هو التحدي الوحيد، بل إنها رفضت الخضوع للإرهابيين في كل ما طالبوها به، وصولاً لرفضها وضع قنبلة في مدرستها، وفي لحظة رفضها يطلق أحدهم عليها النار، ويتركونها لتموت ويتحول الشارع المليء بالضجيج إلى سكون عام، فالجميع أخذ موقف المتفرج، لتُنقل بعد ذلك على جناح السرعة إلى المستشفى، حيث يأتي لزيارتها أمها وخطيبها على وجه السرعة. 

درس اليوم!
ويتم إنقاذ رشيدة لتخرج من المستشفى، لكنها تعاني الشعور المرضي بالخوف، ولديها شعور يتملكها باستمرار بأن هناك من يطاردها. وتكتشف أن الحياة قد باتت مستحيلة في العاصمة، لذا تقرّر هي وأمها مغادرتها إلى الريف، لعلها تكون في منأى عن هؤلاء الإرهابيين. وتستعيد رشيدة وظيفتها كمدرسة في مدرسة ابتدائية في القرية التي أقامت بها، لتبدأ في استعادة تفاصيل حياتها في المدينة تدريجياً مع أمها، لتزداد الأحداث الدرامية تصعيداً وتبلغ ذروتها من جراء الأعمال الإرهابية، الاغتصاب، الاختطاف، القتل، العنف. وينتهي الفيلم بفاجعة ومجزرة، حيث يتحول عرس إحدى الفتيات في القرية، والتي زوجت غصباً عنها إلى مذبحة للقرية بأكملها، وتنجو رشيدة بأعجوبة، وتستعيد شجاعتها، وتظهر وسط الخراب والدمار تسير ببطء شديد وتضع جهاز الـ«ووكمان» على أذنيها، تنصت فيه إلى الموسيقى التي تحبها. وتتوجه إلى المدرسة ويجتمعُ حولها الأطفال لتستأنف درسها وتكتب على السبورة «درس اليوم».
اختارت السيناريست عنوان «رشيدة» لترسيخ فكرة أن موضوع الفيلم يخص فئة اجتماعية وهي النساء، ومع ذلك فهي لم تقصد القول إن الفيلم موجه فقط إلى هذه الفئة، بل يتناول واقعاً اجتماعياً وأمنياً مرتبطاً بالمرأة الجزائرية التي وجدت نفسها محرومة من أبسط حقوقها، ويمارس عليها القمع والتسلط يومياً من جماعات لا تنتمي لها فكرياً ولا عائلياً.
وقد استمر تأثير هذه السلوكيات في حياة الجزائريين بعد انتهاء العشرية السوداء لفترة، إذ ظل أغلب النساء يشعرن بالخوف. 
كما أن الرجل الجزائري بقي بسبب هذه الأوضاع التي سادت فترة طويلة، أيضاً، خائفاً من وجود المرأة بجواره. لكن يمينة شويخ أرادت أن تغير هذه المفاهيم عن المرأة، وجعل المجتمع يؤمن بأهمية دورها ومشاركتها في جميع القطاعات، الثقافية، السياسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية، من خلال الاعتماد على العنصر النسوي في المدرسة والمستشفى وغيرها من الأنشطة التي أظهرتها في الفيلم. عاشت المرأة واقعاً مريراً في تلك الفترة، وكان لها النصيب الأكبر من هذه المعاناة، فهي تشعر بالظلم والاضطهاد، ولكنها فضلت التضحية والصمود بارتباطها العميق بالرواسب الثقافية والتاريخية التي شكلت شخصيتها سنوات طويلة، لدرجة أن كثيراً من هذه القيم بقي راسخاً في فئة العنصر النسوي التي أصبحت تعاني مشكلات اجتماعية مع أسرتها الصغيرة، ومشكلاً آخر مع فئة اجتماعية اختارت العنف والإرهاب لتحقيق أهدافها.
واليوم بعد مرور أكثر من عشر سنوات على عرض فيلم يمينة شويخ الذي حاول زرع أمل جديد، وبعد مرور ما يزيد على أكثر من عشرين سنة على الحرب الأهلية، فإن المجتمع الجزائري مازال يعاني إرهاصات تلك الفترة.  ففي كل بيت جزائري توجد قصة تشبه قصة رشيدة، مع الأسف.  فالتشدّد الديني الذي عاشته الأسر الجزائرية في تلك الفترة أثر بشكل كبير على مفاهيم الرجل تجاه المرأة. إذ مازالت تنحصر بلباسها ويبقى تحررها في بيت زوجها، ويبقى تحرر المرأة نسبياً وحكراً على بعض المناطق.
سيتحدث الرجال وسيقولون إن كل الحقوق لمصلحة المرأة، والدستور أنصفها أكثر من الرجل، لكن الرجل لم ينصفها ومازال يراها أداة لرغباته وصورة قد تشوه شرفه... اليوم المرأة الجزائرية تبحث عن حريتها بعيداً عن دساتير الدولة، وتريد أن تجد الحرية في نظرة الرجل لها في الشارع ■