جمهوريـة شاعـر

نثر الشاعر سعيد عقل على مدى حياته الطويلة (توفي أخيراً عن مائة وسنتين) كلمات جميلة نظمها شعراً وأخـــرى طريفــة قالها نثراً.
وإذا كانت الأولى معروفة ومشهورة وقد تكفلت المطربة فيروز بنشر قسم منها في كل مكان وصلت إليه، فإن لسعيد عقل كلمات نثرية لم توهب هذا الحظ من الانتشار، من أطرفها ما ذكره مرة من أن عمارة لبنان الحالية فوضوية وتفتقر إلى الجمال، وبالتالي فهي مستوجبة الهدم. وبعد الهدم يُعاد بناء لبنان من جديد. ولكن كيف؟ أجاب بالحرف الواحد: «نبني لبنان الجديد على عشرين كيلومتراً مربعاً ونزرع الباقي زهوراً»!
الذين استمعوا إلى اقتراح الشاعر، أو على الأصح إلى قراره، ظنّوا أنه ربما أخطأ في التعبير عما يقصده بالفعل، فلعلّ هجوم الإسمنت على الطبيعة قد هاله، فطالب بحصة للزهور ولو في حدود عشرين كيلومتراً مربعاً يأوي إليها الإنسان في ساعات الهجير كما تأوي إليها الطيور.
ولكن عندما استوضحوه تبين لهم أنه لا يقصد سوى الكلام الحرفي الذي قاله، وبه يرسم «جمهوريته»، فوصفوا هذه الجمهورية بأنها «جمهورية شاعر»، على غرار «جمهورية الفيلسوف» أفلاطون، وعلقوا على ذلك بالقول إنه لا مانع من توسعة «الحديقة» أو «الجنينة» اللبنانية إلى أبعد حدّ ممكن، ولكن على ألا يتحول لبنان إلى مجرد جنينة ملحق بها «زنقة» أو «حارة» اسمها لبنان مساحتها 20 كيلومتراً مربعاً، لذلك اعتبروا أن على الشاعر أن يعيد النظر بتوزيع الحصص بين البشر والزهور والعصافير، والأسباب الموجبة كثيرة وأولها عدد اللبنانيين والأجانب المقيمين فيه، وهو عدد يتزايد بشكل مخيف مع الوقت، فاللبنانيون بين 4 و5 ملايين نسمة، واللاجئون الفلسطينيون فيه نصف مليون، والسوريون النازحون مليون ونصف المليون على الأقل، فهل يمكن حشر هؤلاء جميعاً في مساحة عشرين كيلومتراً مربعاً وإعطاء الباقي للزهور والعصافير، أم أن الحكمة تتطلب «الاعتداء» على حصة الأخيرين؟
أصرّ الشاعر على حرفية ما نطق به، كان يعتبر لبنان ملكية خاصة له، فهو الذي هندسه تاريخاً وأدباً ومن حقه أن يهندسه جغرافياً. وكان أكثر ما يهمه هو أن يبنيه على الجمال، وقد حمل كثيراً على البشاعة، وناشرها الأول في الفن بنظره هو الرسام العالمي بيكاسو. ولكن حذار إلحاق صفة التقليدية أو الكلاسيكية بالشاعر، فالباحث المصري الكبير الدكتور محمد فتوح أحمد، الأستاذ في كلية دار العلوم بالقاهرة، أصدر حديثاً كتاباً ضخماً عن تجليات الحداثة الشعرية عند العرب في العصر الحديث، ثلاثـــــة أرباعه تقريـــباً عن أمير الحداثة الأول في القرن العشرين سعيد عقل.
على أن كلمة سعيـــد عقل وإن وقعت في باب الطرافة، فإنهـــا تقع بوجه مــــن الوجـــــوه في باب الاحتجاج على ما أصاب الطبيعة من أذى على يد الإنــــسان، كما تتضامن مع أغنية فيروز: «لبنان يا أخضر حلو»، وتذكر بالخير أيام زمان عندما كانت القرية اللبنانية عبارة عن عطر وزهر، وعندما كان اللون الأخضر هو الآمر الناهي في بلد الأرز، قبل أن يزحف الإسمنت على النحو الذي يزحف الآن ولا يُبقي حتى على عشرين كيلومتراً مربعاً للزهور والعصافير! ■