قصص توفيق يوسف عواد هي الحياة التي عاشها... فرواها على مذهب جدّته
لم يظن توفيق يوسف عواد أنه سيصير صحفياً أو أديباً أو قاصاً مشهوراً، تنتشر كتبه وتترجم، ويكتب فيه الكثيرون مادحين، لأنه أمضى حياته متواضعاً يعيش مع الناس ويكتب عنهم.
يقول فيه فؤاد سليمان: «أبطال عوّاد ليسوا أشباحاً تتحرك من وراء ستار الحياة، بل هم أنا وأنت، هم كل ما فينا نحن من رغبات وأحاسيس، من ملائكة وشياطين». ويقول مارون عبود: «عوّاد يزجّ أبطاله في مآزق حرجة ويجعلهم شهداء ليستفز الضعفاء فينهضون، وهذا هو هدفه في رواياته وقصصه، وفي هذا يجري وراء غوركي».
في قرية صغيرة اسمها ابحر صافب في قضاء المتن من جبل لبنان، ولد توفيق في 13 فبراير 1911، وهو الولد الثاني في عائلة تاجر حبوب، درس في القرية ثم في بلدة ابكفياب القريبة من قريته، بين فلاحي المنطقة، قبل أن ينتقل إلى مدينة ازحلةب في البقاع، في المقلب الداخلي لجبل لبنان، حيث عاش االمجاعةب التي عمّت البلاد. في عام 1924 نزل إلى بيروت العاصمة ليتابع المرحلة الثانوية، فتعرّف إلى الأدب العربي والأدب الفرنسي، لكنه فضّل دراسة الحقوق في جامعة دمشق وهو يراسل صحف االنداءب االمشرقب واالبرقب، يكتب فيها القصص القصيرة، صوراً من حياته. وبعد تخرّجه أسس مع صديقه جبران تويني صحيفة االنهارب، مثابراً على الكتابة فيها بتوقيع احمادب. كما أصدر في عام 1941 مجلة االجديدب ورأس تحريرها، ثم حوّلها إلى صحيفة يومية.
يقول: اخلق الله الإنسان في قصّة، وهل رأيت أجمل من قصة الخليقة، القصة عندي هي التعبير الأمثل عن الحياة مصدراً، وهي أكمل مظهر للأدبب.
وقد كانت أول قصة سمعها توفيق، ما رواه والده له ولإخوته على مذهب جدّته، فكان يبدأ بــاكان يا ما كانب، ثم تركت كتابته في االنداءب أثراً كبيراً دفعه إلى خوض كتابة القصّة ونشرها، فحشد لهذا االفنب طاقته غير مقلد، يصف ما يراه في الشارع والبيت ويتذكر حكايات الفلاحين في الريف، ويستوحي ممن عرفهم.
فقصة االصبي الأعرجب كتبها في ساعتين، وهو ينتظر زوجته أن تنهي تحضير الغداء. بينما رواية االرغيفب كتبها على دفعات، يومياً، فكتابة صفحتين في اليوم، كان يعتبرها عملاً عادياً يعيش فيهما مع أبطاله، بلا تصميم للقصة أو للرواية، يقول: اقد أصل إلى كلمة عن البطل تنير لي طريقه كلهاب، لذلك قيل فيه، اإنه غير مقلّدب، أو اهو ناشئ هاوٍ طلع من أعماق الشعب، يستمد مواضيعه منهم، فما ذنبه إذا كانت الفواجع تسود حياته؟ب.
أصدر توفيق عواد من الأقاصيص: الصبي الأعرج، قميص الصوف، العذارى، ورواية الرغيف.
أبطاله
أبطال قصصه أغنياء وفقراء، نساء ورجال وصغار، اختار من هؤلاء الأبطال ممثلين للصور الفاقعة المتطرّفة، فكانت صفات البطل عنده اكاريكاتوريةب: فالغني أرستقراطي جبّار، مثل اإبراهيم فاخرب في رواية الرغيف، أو مستبيح لأعراض الضعفاء، مثل احنونب في قصة الصبي الأعرج، أو المختار الخبيث والمجرم في االمقبرة المدنسةب.
أثرياء الحرب هؤلاء لم تكن الشفقة تلامس قلوبهم، مثل ما ورد في مشهد االفقراء الثائرين عند بوابة قصر البك، وقد تعالت أصواتهم: أنا أحقّ من الجميع، بيتنا مرهون لديه بخمسين ورقة فقط، وأنا اشترى مني التوتات كلها بكيس قمح نصفه زوان وتراب، أنا طُرد أخي من بيتنا فمات في الطريق، وأختي ماتت تحت شباكه هنا ولم يعطها رغيفاً، أراد أبي أن يسترحمه فدفعه وأوقعه عشر درجاتب (الرغيف ص 228).
وحين اشتد الجوع على عائلة احنونب وتورّم الصغير إلياس وانتفخ بطنه مقارباً الموت اسأل أمه (وكانت سيدة جميلة: لماذا لا تقبلين الخبز من جارنا الغني، أتريدين أن تميتيني؟ ويجري عند ذاك حوار داخلي طويل في نفس الأم، يتجاذبها الكفر والإيمان، فكرت بالأمانة الزوجية، بالله، بالآخرة، بحق الحياة، بابنها الذي سيموت، بتفاهة جسدها، بتفاهة الدنيا، وخرجت إلى القصر، بعد أن وعدت ابنها بغياب خمس دقائق قائلة له: أنت للحياة، ستحياب (الصبي الأعرج، ص 169).
كثيرون هم أبطال قصصه من الفقراء، من الشحاذين، من بائعي القهوة المتجولين، وماسحي الأحذية، صور ناطقة، لم يكن عواد يحسّنها أو يصقلها، بل يتركها تحكي لغتها، كما تشاء.
يقول رئيف خوري في هؤلاء: اتماثيل منصوبة منذ زمن، يتشخص فيها لحماً ودماً إجرام الغني والفقير والحربب.
الأحداث الصادقة
ذات يوم من أيام المجاعة، وتوفيق الصبي يمشي هائماً خارج بيته، افإذا بامرأة مطروحة على ظهرها يسرح عليها القمل ويعلق على صدرها العاري طفل له عينان هائلتان، تقدّم منها أحد أصحاب المحمل فرفسها على خصرها وانتظر، فقال له الثاني: لقد شبعت موتاً، ثم انحنى على الطفل فأزاحه وقلب الجثة على الخشبة وتهيأ مع صاحبه للسير، ثم استدار وأشار برأسه: نأخذه الآن، فرد صاحبه: معك حق، سيموت فنوفّر على نفسنا نقلهب (الرغيف، ص 183).
كان توفيق يراقب المشهد، وعندما رُمي بالطفل وهو يزعق فوق جثة أمه، أسرع بالفرار وهو يصيح: أنا ما مت، أنا ما مت... هي حادثة حقيقية، رواها توفيق (ملحق جريدة النهار 18 فبراير 1973)، وجعلها مشهداً في روايته، نعم كانت قصصه صوراً صادقة، شاهدها أو سمعها، في مجتمع الحرب الذي تجلّى بأقسى مظاهره، حيث اختلط التاريخ بالرواية، فكانت قصصه متحفاً للمجتمع اللبناني ولأهل ذاك الزمان.
وفي تصويره الأبطال، التفت توفيق إلى اللباس والحركات والسلوك، فوصف أنواع ثياب الأفندي والبك والشحاذ، وأشكال الطربوش، بل وأشكال الشوارب، وحين وصف البيوت وعادات أهلها، كان ينقل بأمانة المصوّر تفاصيل لو أعيد رسمها لظهرت لنا مشاهد من القرية والمدينة وبيوتهما، وتجسدت لنا عادات الجلوس والطعام وتعليق صور القدّيسين، ورفع تماثيل الملائكة، والتحلّق حول بركة الحديقة لتناول قهوة الصباح.
مجتمع المدينة ومجتمع القرية
كان مجتمع القرية مجتمعه المفضّل، نشأ فيه وغرف منه الكثير، وجعله الإطار الأوسع لمعظم قصصه، فالريف في طبيعته الفرحة والحزينة، والأرض بعبيرها المخدّر، وبيوت القرية القرميدية، مسارح حوادثه. بطل االصبي الأعرجب قروي متمسك بأرض جدوده، وموسم الحرير هو الأهم عند اطنوسب بطل االكمبيالة الأولىب، وبرغم ذلك يبيعه ويأخذ ثمنه قبل شراء مؤونة البيت وعلف البقرات، ليدفع اقيمة الدَّينب الذي عليه، وللقرية امعلمب له منهجيته في التعليم.
في اقصة معلم القريةب، يُهيمن جباراً على تلاميذه واأهلهمب، وللموت في القرية امهرجانهب يشترك فيه الغرباء مع أهل الفقيد، وهو في قصة انخب الموتىب صورة خاصّة للقاء الفلاحين ووجهاء القرية حسب منهج معيّن، يحترمه الجميع.
ولم ينسَ عوّاد مجتمع المدينة، لكنه جال في أحيائها الفقيرة، ودخل أكواخها المرمية تحت القصور، كما دخل قلوب ساكنيها، يدقق في مشاعرهم ويحلّل أفكارهم، فيرسم بعضَ حياة الشاعر، والنزيلة الحسناء في الفندق، والسكارى في محلّة االزيتونةب، وبائع القهوة المتجوّل، والصائغ الذي يركض وراء االحراميب، واصفاً الشوارع والمحلاّت التي تعرض الحلي والأزياء الفاخرة، والترامواي على خطوطه الحديدية.
كان مجتمع المدينة عند عوّاد مجتمعاً أسود، يبصق دماً، مجتمعاً فيه الإنسان المحروم والكافر، وهو ما رآه أكثر من غيره.
صور ومواقف
تمتاز قصص عواد بالحركة التي تكسبها الحياة، تعتمد التصوير بحيث توحي للقارئ بمميزات أشخاصها وأخلاقهم (مجلة المكشوف 17 أغسطس 1939)، وفي هذا السياق، يقول الناقد الكبير مارون عبود: اإن عيني توفيق عوّاد قويتان، يدوّرهما ساعة يشاء، فظهارة بطله أشدّ بدواً من بطانته، وهذا دليل على أنه قوي الملاحظة شديدهاب (مجلة المكشوف, 11 مايو 1939).
ولا يدل هذا على أن عواد لم ايفتش في زوايا النفس البشرية يتحسّس بلباقة ما يهتدي إليه في زواياهاب، كما يقول ميخائيل نعيمة، فهو مصوّر للداخل والخارج معاً.
يقول عواد في اقميص الصوفب: االبنت عندنا مصيبة في بيت أهلها، ومصيبة عند زوجها، ومصيبة إذا تزوجت ومصيبتان إذا لم تتزوجب (ص62). وفي االصبي الأعرجب يقول عن كوخ الفقير: اوللتنكات قهقهة ساخرة تحت المطرب (ص13)، أمّا رذاد الماء الموحل الذي تلقيه السيارة على الشحاذ وهي مسرعة فهو: اشتائم الغني إلى الفقيرب (ص 24).
باللغة الفصحى يصوّر، وباللغة العامية على ألسنة الفلاحين يصوّر أيضاً، فتأتي مشاهده أكثر صدقاً: اأخته واحدة بنت حرامب, ايأتي إلى القداس مثل أولاد الأوادمب, اعائلته فلاحون بفلاحينب, الم ترزق بولد يبلّ قلبها وقلب أبي حسون اللذين يحترقان على ولد يملأ وحشة البيتب.
خاتمة
أشرت إلى أن توفيق يوسف عواد لم يكن يظن أنه سيصير يوماً صحافياً أو أديباً أو قاصاً... لكنه بعد اشتهاره كتب ناظماً:
غداً أصير كتاباً يا لسعد غدي
مقلّباً بين أنفاس وأبصار
محبة سمحة الأكناف تطعمني
في كل ثانية آلاف أعمار
وهكذا مازالت قصصه، إلى اليوم، مادّة للتحليل والنقد، كُتبت فيها عشرات الرسائل الأكاديمية والأطروحات في جامعات العالم العربي. وفي 16 أبريل 1989، استشهد توفيق يوسف عواد بقذيفة مجرمة في بيروت، بعد أن أصدر اأعماله الكاملةب معاً .