قصص توفيق يوسف عواد هي الحياة التي عاشها... فرواها على مذهب جدّته

قصص توفيق يوسف عواد هي الحياة التي عاشها... فرواها على مذهب جدّته

لم‭ ‬يظن‭ ‬توفيق‭ ‬يوسف‭ ‬عواد‭ ‬أنه‭ ‬سيصير‭ ‬صحفياً‭ ‬أو‭ ‬أديباً‭ ‬أو‭ ‬قاصاً‭ ‬مشهوراً،‭ ‬تنتشر‭ ‬كتبه‭ ‬وتترجم،‭ ‬ويكتب‭ ‬فيه‭ ‬الكثيرون‭ ‬مادحين،‭ ‬لأنه‭ ‬أمضى‭ ‬حياته‭ ‬متواضعاً‭ ‬يعيش‭ ‬مع‭ ‬الناس‭ ‬ويكتب‭ ‬عنهم‭.‬

‭ ‬يقول‭ ‬فيه‭ ‬فؤاد‭ ‬سليمان‭: ‬‮«‬أبطال‭ ‬عوّاد‭ ‬ليسوا‭ ‬أشباحاً‭ ‬تتحرك‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬ستار‭ ‬الحياة،‭ ‬بل‭ ‬هم‭ ‬أنا‭ ‬وأنت،‭ ‬هم‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬فينا‭ ‬نحن‭ ‬من‭ ‬رغبات‭ ‬وأحاسيس،‭ ‬من‭ ‬ملائكة‭ ‬وشياطين‮»‬‭. ‬ويقول‭ ‬مارون‭ ‬عبود‭: ‬‮«‬عوّاد‭ ‬يزجّ‭ ‬أبطاله‭ ‬في‭ ‬مآزق‭ ‬حرجة‭ ‬ويجعلهم‭ ‬شهداء‭ ‬ليستفز‭ ‬الضعفاء‭ ‬فينهضون،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬هدفه‭ ‬في‭ ‬رواياته‭ ‬وقصصه،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬يجري‭ ‬وراء‭ ‬غوركي‮»‬‭.‬

في‭ ‬قرية‭ ‬صغيرة‭ ‬اسمها‭ ‬ابحر‭ ‬صافب‭ ‬في‭ ‬قضاء‭ ‬المتن‭ ‬من‭ ‬جبل‭ ‬لبنان،‭ ‬ولد‭ ‬توفيق‭ ‬في‭ ‬13‭ ‬فبراير‭ ‬1911،‭ ‬وهو‭ ‬الولد‭ ‬الثاني‭ ‬في‭ ‬عائلة‭ ‬تاجر‭ ‬حبوب،‭ ‬درس‭ ‬في‭ ‬القرية‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬بلدة‭ ‬ابكفياب‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬قريته،‭ ‬بين‭ ‬فلاحي‭ ‬المنطقة،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ينتقل‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬ازحلةب‭ ‬في‭ ‬البقاع،‭ ‬في‭ ‬المقلب‭ ‬الداخلي‭ ‬لجبل‭ ‬لبنان،‭ ‬حيث‭ ‬عاش‭ ‬االمجاعةب‭ ‬التي‭ ‬عمّت‭ ‬البلاد‭. ‬في‭ ‬عام‭ ‬1924‭ ‬نزل‭ ‬إلى‭ ‬بيروت‭ ‬العاصمة‭ ‬ليتابع‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية،‭ ‬فتعرّف‭ ‬إلى‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬والأدب‭ ‬الفرنسي،‭ ‬لكنه‭ ‬فضّل‭ ‬دراسة‭ ‬الحقوق‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬دمشق‭ ‬وهو‭ ‬يراسل‭ ‬صحف‭ ‬االنداءب‭ ‬االمشرقب‭ ‬واالبرقب،‭ ‬يكتب‭ ‬فيها‭ ‬القصص‭ ‬القصيرة،‭ ‬صوراً‭ ‬من‭ ‬حياته‭. ‬وبعد‭ ‬تخرّجه‭ ‬أسس‭ ‬مع‭ ‬صديقه‭ ‬جبران‭ ‬تويني‭ ‬صحيفة‭ ‬االنهارب،‭ ‬مثابراً‭ ‬على‭ ‬الكتابة‭ ‬فيها‭ ‬بتوقيع‭ ‬احمادب‭. ‬كما‭ ‬أصدر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1941‭ ‬مجلة‭ ‬االجديدب‭ ‬ورأس‭ ‬تحريرها،‭ ‬ثم‭ ‬حوّلها‭ ‬إلى‭ ‬صحيفة‭ ‬يومية‭. ‬

يقول‭: ‬اخلق‭ ‬الله‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬قصّة،‭ ‬وهل‭ ‬رأيت‭ ‬أجمل‭ ‬من‭ ‬قصة‭ ‬الخليقة،‭ ‬القصة‭ ‬عندي‭ ‬هي‭ ‬التعبير‭ ‬الأمثل‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬مصدراً،‭ ‬وهي‭ ‬أكمل‭ ‬مظهر‭ ‬للأدبب‭.‬

‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬أول‭ ‬قصة‭ ‬سمعها‭ ‬توفيق،‭ ‬ما‭ ‬رواه‭ ‬والده‭ ‬له‭ ‬ولإخوته‭ ‬على‭ ‬مذهب‭ ‬جدّته،‭ ‬فكان‭ ‬يبدأ‭ ‬بــاكان‭ ‬يا‭ ‬ما‭ ‬كانب،‭ ‬ثم‭ ‬تركت‭ ‬كتابته‭ ‬في‭ ‬االنداءب‭ ‬أثراً‭ ‬كبيراً‭ ‬دفعه‭ ‬إلى‭ ‬خوض‭ ‬كتابة‭ ‬القصّة‭ ‬ونشرها،‭ ‬فحشد‭ ‬لهذا‭ ‬االفنب‭ ‬طاقته‭ ‬غير‭ ‬مقلد،‭ ‬يصف‭ ‬ما‭ ‬يراه‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬والبيت‭ ‬ويتذكر‭ ‬حكايات‭ ‬الفلاحين‭ ‬في‭ ‬الريف،‭ ‬ويستوحي‭ ‬ممن‭ ‬عرفهم‭.‬

فقصة‭ ‬االصبي‭ ‬الأعرجب‭ ‬كتبها‭ ‬في‭ ‬ساعتين،‭ ‬وهو‭ ‬ينتظر‭ ‬زوجته‭ ‬أن‭ ‬تنهي‭ ‬تحضير‭ ‬الغداء‭. ‬بينما‭ ‬رواية‭ ‬االرغيفب‭ ‬كتبها‭ ‬على‭ ‬دفعات،‭ ‬يومياً،‭ ‬فكتابة‭ ‬صفحتين‭ ‬في‭ ‬اليوم،‭ ‬كان‭ ‬يعتبرها‭ ‬عملاً‭ ‬عادياً‭ ‬يعيش‭ ‬فيهما‭ ‬مع‭ ‬أبطاله،‭ ‬بلا‭ ‬تصميم‭ ‬للقصة‭ ‬أو‭ ‬للرواية،‭ ‬يقول‭: ‬اقد‭ ‬أصل‭ ‬إلى‭ ‬كلمة‭ ‬عن‭ ‬البطل‭ ‬تنير‭ ‬لي‭ ‬طريقه‭ ‬كلهاب،‭ ‬لذلك‭ ‬قيل‭ ‬فيه،‭ ‬اإنه‭ ‬غير‭ ‬مقلّدب،‭ ‬أو‭ ‬اهو‭ ‬ناشئ‭ ‬هاوٍ‭ ‬طلع‭ ‬من‭ ‬أعماق‭ ‬الشعب،‭ ‬يستمد‭ ‬مواضيعه‭ ‬منهم،‭ ‬فما‭ ‬ذنبه‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬الفواجع‭ ‬تسود‭ ‬حياته؟ب‭.‬

أصدر‭ ‬توفيق‭ ‬عواد‭ ‬من‭ ‬الأقاصيص‭: ‬الصبي‭ ‬الأعرج،‭ ‬قميص‭ ‬الصوف،‭ ‬العذارى،‭ ‬ورواية‭ ‬الرغيف‭.‬

 

أبطاله

أبطال‭ ‬قصصه‭ ‬أغنياء‭ ‬وفقراء،‭ ‬نساء‭ ‬ورجال‭ ‬وصغار،‭ ‬اختار‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأبطال‭ ‬ممثلين‭ ‬للصور‭ ‬الفاقعة‭ ‬المتطرّفة،‭ ‬فكانت‭ ‬صفات‭ ‬البطل‭ ‬عنده‭ ‬اكاريكاتوريةب‭: ‬فالغني‭ ‬أرستقراطي‭ ‬جبّار،‭ ‬مثل‭ ‬اإبراهيم‭ ‬فاخرب‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬الرغيف،‭ ‬أو‭ ‬مستبيح‭ ‬لأعراض‭ ‬الضعفاء،‭ ‬مثل‭ ‬احنونب‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬الصبي‭ ‬الأعرج،‭ ‬أو‭ ‬المختار‭ ‬الخبيث‭ ‬والمجرم‭ ‬في‭ ‬االمقبرة‭ ‬المدنسةب‭.‬

‭ ‬أثرياء‭ ‬الحرب‭ ‬هؤلاء‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الشفقة‭ ‬تلامس‭ ‬قلوبهم،‭ ‬مثل‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬االفقراء‭ ‬الثائرين‭ ‬عند‭ ‬بوابة‭ ‬قصر‭ ‬البك،‭ ‬وقد‭ ‬تعالت‭ ‬أصواتهم‭: ‬أنا‭ ‬أحقّ‭ ‬من‭ ‬الجميع،‭ ‬بيتنا‭ ‬مرهون‭ ‬لديه‭ ‬بخمسين‭ ‬ورقة‭ ‬فقط،‭ ‬وأنا‭ ‬اشترى‭ ‬مني‭ ‬التوتات‭ ‬كلها‭ ‬بكيس‭ ‬قمح‭ ‬نصفه‭ ‬زوان‭ ‬وتراب،‭ ‬أنا‭ ‬طُرد‭ ‬أخي‭ ‬من‭ ‬بيتنا‭ ‬فمات‭ ‬في‭ ‬الطريق،‭ ‬وأختي‭ ‬ماتت‭ ‬تحت‭ ‬شباكه‭ ‬هنا‭ ‬ولم‭ ‬يعطها‭ ‬رغيفاً،‭ ‬أراد‭ ‬أبي‭ ‬أن‭ ‬يسترحمه‭ ‬فدفعه‭ ‬وأوقعه‭ ‬عشر‭ ‬درجاتب‭ (‬الرغيف‭ ‬ص‭ ‬228‭).‬

وحين‭ ‬اشتد‭ ‬الجوع‭ ‬على‭ ‬عائلة‭ ‬احنونب‭ ‬وتورّم‭ ‬الصغير‭ ‬إلياس‭ ‬وانتفخ‭ ‬بطنه‭ ‬مقارباً‭ ‬الموت‭ ‬اسأل‭ ‬أمه‭ (‬وكانت‭ ‬سيدة‭ ‬جميلة‭: ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬تقبلين‭ ‬الخبز‭ ‬من‭ ‬جارنا‭ ‬الغني،‭ ‬أتريدين‭ ‬أن‭ ‬تميتيني؟‭ ‬ويجري‭ ‬عند‭ ‬ذاك‭ ‬حوار‭ ‬داخلي‭ ‬طويل‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الأم،‭ ‬يتجاذبها‭ ‬الكفر‭ ‬والإيمان،‭ ‬فكرت‭ ‬بالأمانة‭ ‬الزوجية،‭ ‬بالله،‭ ‬بالآخرة،‭ ‬بحق‭ ‬الحياة،‭ ‬بابنها‭ ‬الذي‭ ‬سيموت،‭ ‬بتفاهة‭ ‬جسدها،‭ ‬بتفاهة‭ ‬الدنيا،‭ ‬وخرجت‭ ‬إلى‭ ‬القصر،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬وعدت‭ ‬ابنها‭ ‬بغياب‭ ‬خمس‭ ‬دقائق‭ ‬قائلة‭ ‬له‭: ‬أنت‭ ‬للحياة،‭ ‬ستحياب‭ (‬الصبي‭ ‬الأعرج،‭ ‬ص‭ ‬169‭).‬

كثيرون‭ ‬هم‭ ‬أبطال‭ ‬قصصه‭ ‬من‭ ‬الفقراء،‭ ‬من‭ ‬الشحاذين،‭ ‬من‭ ‬بائعي‭ ‬القهوة‭ ‬المتجولين،‭ ‬وماسحي‭ ‬الأحذية،‭ ‬صور‭ ‬ناطقة،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬عواد‭ ‬يحسّنها‭ ‬أو‭ ‬يصقلها،‭ ‬بل‭ ‬يتركها‭ ‬تحكي‭ ‬لغتها،‭ ‬كما‭ ‬تشاء‭.‬

يقول‭ ‬رئيف‭ ‬خوري‭ ‬في‭ ‬هؤلاء‭: ‬اتماثيل‭ ‬منصوبة‭ ‬منذ‭ ‬زمن،‭ ‬يتشخص‭ ‬فيها‭ ‬لحماً‭ ‬ودماً‭ ‬إجرام‭ ‬الغني‭ ‬والفقير‭ ‬والحربب‭.‬

 

الأحداث‭ ‬الصادقة

ذات‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬أيام‭ ‬المجاعة،‭ ‬وتوفيق‭ ‬الصبي‭ ‬يمشي‭ ‬هائماً‭ ‬خارج‭ ‬بيته،‭ ‬افإذا‭ ‬بامرأة‭ ‬مطروحة‭ ‬على‭ ‬ظهرها‭ ‬يسرح‭ ‬عليها‭ ‬القمل‭ ‬ويعلق‭ ‬على‭ ‬صدرها‭ ‬العاري‭ ‬طفل‭ ‬له‭ ‬عينان‭ ‬هائلتان،‭ ‬تقدّم‭ ‬منها‭ ‬أحد‭ ‬أصحاب‭ ‬المحمل‭ ‬فرفسها‭ ‬على‭ ‬خصرها‭ ‬وانتظر،‭ ‬فقال‭ ‬له‭ ‬الثاني‭:  ‬لقد‭ ‬شبعت‭ ‬موتاً،‭ ‬ثم‭ ‬انحنى‭ ‬على‭ ‬الطفل‭ ‬فأزاحه‭ ‬وقلب‭ ‬الجثة‭ ‬على‭ ‬الخشبة‭ ‬وتهيأ‭ ‬مع‭ ‬صاحبه‭ ‬للسير،‭ ‬ثم‭ ‬استدار‭ ‬وأشار‭ ‬برأسه‭: ‬نأخذه‭ ‬الآن،‭ ‬فرد‭ ‬صاحبه‭: ‬معك‭ ‬حق،‭ ‬سيموت‭ ‬فنوفّر‭ ‬على‭ ‬نفسنا‭ ‬نقلهب‭ (‬الرغيف،‭ ‬ص‭ ‬183‭).‬

كان‭ ‬توفيق‭ ‬يراقب‭ ‬المشهد،‭ ‬وعندما‭ ‬رُمي‭ ‬بالطفل‭ ‬وهو‭ ‬يزعق‭ ‬فوق‭ ‬جثة‭ ‬أمه،‭ ‬أسرع‭ ‬بالفرار‭ ‬وهو‭ ‬يصيح‭: ‬أنا‭ ‬ما‭ ‬مت،‭ ‬أنا‭ ‬ما‭ ‬مت‭... ‬هي‭ ‬حادثة‭ ‬حقيقية،‭ ‬رواها‭ ‬توفيق‭ (‬ملحق‭ ‬جريدة‭ ‬النهار‭ ‬18‭ ‬فبراير‭ ‬1973‭)‬،‭ ‬وجعلها‭ ‬مشهداً‭ ‬في‭ ‬روايته،‭ ‬نعم‭ ‬كانت‭ ‬قصصه‭ ‬صوراً‭ ‬صادقة،‭ ‬شاهدها‭ ‬أو‭ ‬سمعها،‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬الحرب‭ ‬الذي‭ ‬تجلّى‭ ‬بأقسى‭ ‬مظاهره،‭ ‬حيث‭ ‬اختلط‭ ‬التاريخ‭ ‬بالرواية،‭ ‬فكانت‭ ‬قصصه‭ ‬متحفاً‭ ‬للمجتمع‭ ‬اللبناني‭ ‬ولأهل‭ ‬ذاك‭ ‬الزمان‭.‬

وفي‭ ‬تصويره‭ ‬الأبطال،‭ ‬التفت‭ ‬توفيق‭ ‬إلى‭ ‬اللباس‭ ‬والحركات‭ ‬والسلوك،‭ ‬فوصف‭ ‬أنواع‭ ‬ثياب‭ ‬الأفندي‭ ‬والبك‭ ‬والشحاذ،‭ ‬وأشكال‭ ‬الطربوش،‭ ‬بل‭ ‬وأشكال‭ ‬الشوارب،‭ ‬وحين‭ ‬وصف‭ ‬البيوت‭ ‬وعادات‭ ‬أهلها،‭ ‬كان‭ ‬ينقل‭ ‬بأمانة‭ ‬المصوّر‭ ‬تفاصيل‭ ‬لو‭ ‬أعيد‭ ‬رسمها‭ ‬لظهرت‭ ‬لنا‭ ‬مشاهد‭ ‬من‭ ‬القرية‭ ‬والمدينة‭ ‬وبيوتهما،‭ ‬وتجسدت‭ ‬لنا‭ ‬عادات‭ ‬الجلوس‭ ‬والطعام‭ ‬وتعليق‭ ‬صور‭ ‬القدّيسين،‭ ‬ورفع‭ ‬تماثيل‭ ‬الملائكة،‭ ‬والتحلّق‭ ‬حول‭ ‬بركة‭ ‬الحديقة‭ ‬لتناول‭ ‬قهوة‭ ‬الصباح‭.‬

 

مجتمع‭ ‬المدينة‭ ‬ومجتمع‭ ‬القرية

‭ ‬كان‭ ‬مجتمع‭ ‬القرية‭ ‬مجتمعه‭ ‬المفضّل،‭ ‬نشأ‭ ‬فيه‭ ‬وغرف‭ ‬منه‭ ‬الكثير،‭ ‬وجعله‭ ‬الإطار‭ ‬الأوسع‭ ‬لمعظم‭ ‬قصصه،‭ ‬فالريف‭ ‬في‭ ‬طبيعته‭ ‬الفرحة‭ ‬والحزينة،‭ ‬والأرض‭ ‬بعبيرها‭ ‬المخدّر،‭ ‬وبيوت‭ ‬القرية‭ ‬القرميدية،‭ ‬مسارح‭ ‬حوادثه‭. ‬بطل‭ ‬االصبي‭ ‬الأعرجب‭ ‬قروي‭ ‬متمسك‭ ‬بأرض‭ ‬جدوده،‭ ‬وموسم‭ ‬الحرير‭ ‬هو‭ ‬الأهم‭ ‬عند‭ ‬اطنوسب‭ ‬بطل‭ ‬االكمبيالة‭ ‬الأولىب،‭ ‬وبرغم‭ ‬ذلك‭ ‬يبيعه‭ ‬ويأخذ‭ ‬ثمنه‭ ‬قبل‭ ‬شراء‭ ‬مؤونة‭ ‬البيت‭ ‬وعلف‭ ‬البقرات،‭ ‬ليدفع‭ ‬اقيمة‭ ‬الدَّينب‭ ‬الذي‭ ‬عليه،‭ ‬وللقرية‭ ‬امعلمب‭ ‬له‭ ‬منهجيته‭ ‬في‭ ‬التعليم‭.‬

‭ ‬في‭ ‬اقصة‭ ‬معلم‭ ‬القريةب،‭ ‬يُهيمن‭ ‬جباراً‭ ‬على‭ ‬تلاميذه‭ ‬واأهلهمب،‭ ‬وللموت‭ ‬في‭ ‬القرية‭ ‬امهرجانهب‭ ‬يشترك‭ ‬فيه‭ ‬الغرباء‭ ‬مع‭ ‬أهل‭ ‬الفقيد،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬انخب‭ ‬الموتىب‭ ‬صورة‭ ‬خاصّة‭ ‬للقاء‭ ‬الفلاحين‭ ‬ووجهاء‭ ‬القرية‭ ‬حسب‭ ‬منهج‭ ‬معيّن،‭ ‬يحترمه‭ ‬الجميع‭.‬

ولم‭ ‬ينسَ‭ ‬عوّاد‭ ‬مجتمع‭ ‬المدينة،‭ ‬لكنه‭ ‬جال‭ ‬في‭ ‬أحيائها‭ ‬الفقيرة،‭ ‬ودخل‭ ‬أكواخها‭ ‬المرمية‭ ‬تحت‭ ‬القصور،‭ ‬كما‭ ‬دخل‭ ‬قلوب‭ ‬ساكنيها،‭ ‬يدقق‭ ‬في‭ ‬مشاعرهم‭ ‬ويحلّل‭ ‬أفكارهم،‭ ‬فيرسم‭ ‬بعضَ‭ ‬حياة‭ ‬الشاعر،‭ ‬والنزيلة‭ ‬الحسناء‭ ‬في‭ ‬الفندق،‭ ‬والسكارى‭ ‬في‭ ‬محلّة‭ ‬االزيتونةب،‭ ‬وبائع‭ ‬القهوة‭ ‬المتجوّل،‭ ‬والصائغ‭ ‬الذي‭ ‬يركض‭ ‬وراء‭ ‬االحراميب،‭ ‬واصفاً‭ ‬الشوارع‭ ‬والمحلاّت‭ ‬التي‭ ‬تعرض‭ ‬الحلي‭ ‬والأزياء‭ ‬الفاخرة،‭ ‬والترامواي‭ ‬على‭ ‬خطوطه‭ ‬الحديدية‭.‬

كان‭ ‬مجتمع‭ ‬المدينة‭ ‬عند‭ ‬عوّاد‭ ‬مجتمعاً‭ ‬أسود،‭ ‬يبصق‭ ‬دماً،‭ ‬مجتمعاً‭ ‬فيه‭ ‬الإنسان‭ ‬المحروم‭ ‬والكافر،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬رآه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬غيره‭.‬

 

صور‭ ‬ومواقف

تمتاز‭ ‬قصص‭ ‬عواد‭ ‬بالحركة‭ ‬التي‭ ‬تكسبها‭ ‬الحياة،‭ ‬تعتمد‭ ‬التصوير‭ ‬بحيث‭ ‬توحي‭ ‬للقارئ‭ ‬بمميزات‭ ‬أشخاصها‭ ‬وأخلاقهم‭ (‬مجلة‭ ‬المكشوف‭ ‬17‭ ‬أغسطس‭ ‬1939‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬يقول‭ ‬الناقد‭ ‬الكبير‭ ‬مارون‭ ‬عبود‭: ‬اإن‭ ‬عيني‭ ‬توفيق‭ ‬عوّاد‭ ‬قويتان،‭ ‬يدوّرهما‭ ‬ساعة‭ ‬يشاء،‭ ‬فظهارة‭ ‬بطله‭ ‬أشدّ‭ ‬بدواً‭ ‬من‭ ‬بطانته،‭ ‬وهذا‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬قوي‭ ‬الملاحظة‭ ‬شديدهاب‭ (‬مجلة‭ ‬المكشوف‭, ‬11‭ ‬مايو‭ ‬1939‭).‬

ولا‭ ‬يدل‭ ‬هذا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬عواد‭ ‬لم‭ ‬ايفتش‭ ‬في‭ ‬زوايا‭ ‬النفس‭ ‬البشرية‭ ‬يتحسّس‭ ‬بلباقة‭ ‬ما‭ ‬يهتدي‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬زواياهاب،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬ميخائيل‭ ‬نعيمة،‭ ‬فهو‭ ‬مصوّر‭ ‬للداخل‭ ‬والخارج‭ ‬معاً‭.‬

يقول‭ ‬عواد‭ ‬في‭ ‬اقميص‭ ‬الصوفب‭: ‬االبنت‭ ‬عندنا‭ ‬مصيبة‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬أهلها،‭ ‬ومصيبة‭ ‬عند‭ ‬زوجها،‭ ‬ومصيبة‭ ‬إذا‭ ‬تزوجت‭ ‬ومصيبتان‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تتزوجب‭ (‬ص62‭). ‬وفي‭ ‬االصبي‭ ‬الأعرجب‭ ‬يقول‭ ‬عن‭ ‬كوخ‭ ‬الفقير‭: ‬اوللتنكات‭ ‬قهقهة‭ ‬ساخرة‭ ‬تحت‭ ‬المطرب‭ (‬ص13‭)‬،‭ ‬أمّا‭ ‬رذاد‭ ‬الماء‭ ‬الموحل‭ ‬الذي‭ ‬تلقيه‭ ‬السيارة‭ ‬على‭ ‬الشحاذ‭ ‬وهي‭ ‬مسرعة‭ ‬فهو‭: ‬اشتائم‭ ‬الغني‭ ‬إلى‭ ‬الفقيرب‭ (‬ص‭ ‬24‭).‬

باللغة‭ ‬الفصحى‭ ‬يصوّر،‭ ‬وباللغة‭ ‬العامية‭ ‬على‭ ‬ألسنة‭ ‬الفلاحين‭ ‬يصوّر‭ ‬أيضاً،‭ ‬فتأتي‭ ‬مشاهده‭ ‬أكثر‭ ‬صدقاً‭: ‬اأخته‭ ‬واحدة‭ ‬بنت‭ ‬حرامب‭, ‬ايأتي‭ ‬إلى‭ ‬القداس‭ ‬مثل‭ ‬أولاد‭ ‬الأوادمب‭, ‬اعائلته‭ ‬فلاحون‭ ‬بفلاحينب‭, ‬الم‭ ‬ترزق‭ ‬بولد‭ ‬يبلّ‭ ‬قلبها‭ ‬وقلب‭ ‬أبي‭ ‬حسون‭ ‬اللذين‭ ‬يحترقان‭ ‬على‭ ‬ولد‭ ‬يملأ‭ ‬وحشة‭ ‬البيتب‭.‬

 

خاتمة

‭ ‬أشرت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬توفيق‭ ‬يوسف‭ ‬عواد‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يظن‭ ‬أنه‭ ‬سيصير‭ ‬يوماً‭ ‬صحافياً‭ ‬أو‭ ‬أديباً‭ ‬أو‭ ‬قاصاً‭... ‬لكنه‭ ‬بعد‭ ‬اشتهاره‭ ‬كتب‭ ‬ناظماً‭:‬

غداً‭ ‬أصير‭ ‬كتاباً‭ ‬يا‭ ‬لسعد‭ ‬غدي‭ ‬

مقلّباً‭ ‬بين‭ ‬أنفاس‭ ‬وأبصار

محبة‭ ‬سمحة‭ ‬الأكناف‭ ‬تطعمني

في‭ ‬كل‭ ‬ثانية‭ ‬آلاف‭ ‬أعمار

‭ ‬وهكذا‭ ‬مازالت‭ ‬قصصه،‭ ‬إلى‭ ‬اليوم،‭ ‬مادّة‭ ‬للتحليل‭ ‬والنقد،‭ ‬كُتبت‭ ‬فيها‭ ‬عشرات‭ ‬الرسائل‭ ‬الأكاديمية‭ ‬والأطروحات‭ ‬في‭ ‬جامعات‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭. ‬وفي‭ ‬16‭ ‬أبريل‭ ‬1989،‭ ‬استشهد‭ ‬توفيق‭ ‬يوسف‭ ‬عواد‭ ‬بقذيفة‭ ‬مجرمة‭ ‬في‭ ‬بيروت،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أصدر‭ ‬اأعماله‭ ‬الكاملةب‭ ‬معاً‭ .