الكتابة والكُتَّاب والملك
قال الفضل بن أحمد: «الكتابة أُس الملك، وعماد المملكة... وبالكتابة والكُتَّاب قامت السياسة والرئاسة، ولو أن فضلاً ونبلاً تصّورا جميعاً تصورت الكتابة، ولو أن في الصناعات صناعة مربُوبة لكانت الكتابة ربّاً لكل صنعة». (صبح الأعشى، القلقشندي - 821هـ).\
شكلت الكتابة، بوصفها إثباتاً للمنطوق، أداة سياسية مهمة لتوثيق الأحكام التي تنتظم بها العلاقات بين الأفراد والجماعات والدول، ولم تكن الكتابة السياسية حدثاً طارئاً على الحضارة العربية في العصور الإسلامية، إذ عرفت العرب كتابة الرسائل والمواثيق في الجاهلية، كما استعمل النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) والصحابة من بعده عدداً من الكتّاب لكتابة الرسائل والمعاهدات الرسمية بين المسلمين وغيرهم، وبين الخلفاء وولاتهم في أنحاء الجزيرة العربية ومصر والشام؛ غير أن هذه الكتابة انتعشت إبان تكون الدولة الإسلامية في العصر الأموي وما بعده، فقد ظهر ما عُرف بـاطبقة الكتّابب التي احترفت الكتابة صنعة طوعتها الدولة لخدمتها، فكيف تشكلت هذه الطبقة؟ وأي شأو بلغت حتى قامت بها االسياسة والرئاسةب كما يذكر الفضل بن أحمد؟
الكُتَّاب في الدولة الأموية
اقترن ظهور الكاتب الديواني بإنشاء ديوان الرسائل إبان الدولة الأموية، وكان هذا الديوان يعنى بشؤون المكاتبات التي تصدر عن الخليفة إلى ولاته، وأمرائه، وقادة جنده، وملوك الدول الأخرى، ما جعل الكاتب يتمركز في موقع مهم وحيوي في الدولة لنشأته قريباً من الحاكم والسلطة، إذ كانت مهمة الكاتب الأساسية تتحدد في تحرير كل ما يحتاج إليه السلطان، وما يقتضيه ويتطلبه التدبير السياسي اليومي.
انحصرت اوظيفةب الكاتب في البدء في تدوين ما يمليه عليه السلطان أو نائبه أو واليه أو من يقوم في مقامهم، يعمل على تجويد الخط، وترتيب السطور، ولا شأن له بكتابة إنشائية، ومع ذلك فقد مثَّل الكاتب بمحدودية وظيفته هذه أداة إعلامية مهمة توثق نص أي قرار أو أمر يصدر من السلطان وتتيح لخطابه أن ينتشر في أرجاء الدولة ليقرأً على مسامع الرعية في المساجد والساحات العامة.
وبمجيء سالم بن عبدالله وتلميذه عبدالحميد الكاتب وتقلدهما ديوان الرسائل، تغيرت تقاليد الكتابة، ولم يعد نصُّ الرسائل يُلقى أو يُملى على الكاتب، بل غدا الكاتب هو صاحب النص، يظهر فيه براعته اللغوية ومقدرته الإنشائية وكفايته التعبيرية لتبليغ مراد الخلفاء والحكّام، فارتفعت منزلة الكتَّاب وعلا شأنهم في الدولة؛ إذ غدوا أداة فاعلة وجوهرية استطاعت تطويع اللغة لخدمة السلطة الحاكمة.
برع عبدالحميد الكاتب في الكتابة حتى ضُرب به المثل في فن الترسل، إذ عمد إلى تطويل الرسائل، وتوظيف مقدرته اللغوية والبلاغية بما يخدم الخليفة ويؤثر على المخاطب من الرعايا وموظفي الدولة، حتى غدا الترسل نمطاً من الكتابة يحتذي به الكُتَّاب من بعده. وتكمن أهمية الترسل كما يذكر محمد الجابري (العقل الأخلاقي، 134) في أنه اكان وسيلة لإذاعة القيم التي تريد السلطة نشرها وتكريسها في نفوس العامة بالمساجد، حيث تقرأ الرسائل نيابة عن االأميرب إذا كانت موجهة للرعايا، وفي نفوس الموظفين ورجال الدولة إذا كانت خاصة بهمب.
لقد أدرك الكُتَّاب حجم المهمة الواقعة على عاتقهم، وأدركوا أنهم ليسوا موظفين إداريين عاديين في الدولة، بل هم جزء من مشروع السلطة يرتفعون بارتفاعه وينخفضون بانخفاضه؛ فكاتب السلطان من خاصته، بل قد يكون من أقرب الناس إليه وأعلمهم بأمور دولته، لذا ظلت مكانته، مع رفعتها وأهميتها، مرهونة دوماً برضا الحاكم/الخليفة عنه بوصفه قمة الهرم الإداري في الدولة وبيده توزيع الجاه والمراتب والمناصب والخيرات.
وقد استطاع بعض ممن كانوا يمتهنون الكتابة في الدواوين أن يظفروا ابرضا الحاكمب ويصلوا إلى مقاليد السلطة ويصبحوا ولاة وعُمالاً يمثلون الخليفة كالحجاج بن يوسف وأبي العلاء سالم بن عبدالرحمن.
الكُتَّاب في الدولة العباسية
لم يتراجع دور اطبقة الكتّابب في إرساء الملك بعد زوال الدولة الأموية، فبعد سقوطها في موقعة الزاب عام 123هـ، قامت دولة جديدة لم تكن تملك جهازاً إداريّاً جاهزاً، مما اضطرها للاستعانة بكُتَّاب الدولة الأموية الزائلة، بل أخذ أمراء الدولة العباسية يولون كتابة الرسائل عناية أكثر من سابقيهم، فكثر الكتَّاب، ونبغ كثير منهم في فن الترسل، مستندين في تدبير رسائلهم وأمورهم إلى تقاليد من سبقهم من كتّاب الدولة الأموية، الذين مثَّلوا مرحلة اتكوينيةب في مجال نشأة كاتب الديوان في الدولة الإسلامية.
وكان الكُتَّاب من أنشط النخب في الدولة العباسية، يحضرون مجلس الخلافة، ويُعهد إليهم بصياغة أوامر الخليفة والرد على الرسائل الواردة إلى مركز الخلافة من أقاليم الدولة، والرسائل الرسمية التي تحدد علاقات الدولة العباسية مع الشعوب المجاورة، وكل ما يتعلق بالأمور الإدارية اليومية في الدولة.
ومما ضاعف من مهام كاتب الديوان وزاد من مسؤولياته وواجباته، اتساع رقعة الدولة العباسية وتعدد المناطق المنضوية تحت لوائها؛ لذا دعت الحاجة إلى أن يستعين كاتب الديوان بكتَّاب آخرين يعينونه في التعامل مع ذلك الكمِّ من المراسلات والمكاتبات. ويذكر الصيرفي في كتابه اتاج الرئاسةب أنه كان يشترط فيهم الكفاية والذكاء والفطنة والقدرة على تلخيص الألفاظ وجعلها أكثر سهولة، ليسهل على رئيس ديوان الرسائل فهمها قبل عرضها على الخليفة.
كما يشير الصيرفي في اقانون ديوان الرسائلب إلى أن لكل كاتب من أولئك الكتّاب وظيفة معينة، فمنهم من تولى مكاتبة الملوك، وكان عليه أن يكون مُلماً بلغة المَلك المراد مراسلته، ومنهم من كان يُعنى بكتابة الأحداث المهمة التي تتلى على المنابر، وكانت هذه الفئة تتسم بقوة الجدل وإقامة الحجج وشدة المعارضة، ومنهم من كان يقوم بالكتابة للرجال المهمين في الدولة من قادة الجند وولاة الأقاليم.
أما عن المناصب التي تولاها الكُتَّاب في الدولة العباسية، فقد تعددت، وتذكر المصادر أن بعضهم اكتسب ثقة الخليفة حتى كلَّفه بمهام أخرى كالسفارة، مثل عمارة بن حمزة، الذي قام بالسفارة إلى ملك الروم، حاملاً كتاب المنصور إليه، الذي يتوعد فيه ملك الروم بالخيل والرجال. وقد أوكل بعض الخلفاء مهمة قيادة الجيوش إلى من وجدوا فيه المقدرة من كتّابهم، كما فعل المأمون بأحمد بن خالد، حين وضعه على رأس جيش لتأديب الخارجين عن سلطان الدولة العباسية.
كذلك أسهم الكُتَّاب إداريّاً في تطبيق أمر الخليفة في العقوبات التي يفرضها، كما فعل سليمان بن وهب الكاتب، عندما صادر أموال الأفشين وأحصاها في عهد المعتصم.
لقد كان للكتّاب والكتابة دور فاعل في إدارة الحكم وإقامة السلطة واستمرار الملك، إذ اتكأت الدولة على ابلاغةب رسائل الكُتَّاب لبثِّ قيمها ومبادئها وتدبير أمورها، وما كان للدولة أن تستمر لولا براعة كتّابها، لذا كان القول بأن االكتابة أس الملك، وعماد المملكةب؛ لأن أصحابها أحكموا الكلمة فأحكموا الملك .