قراءة في كتاب «علميـة العِـلْم»

قراءة في كتاب «علميـة العِـلْم»

انطلقت مقاربة الدكتور  حسين دياب النقدية في كتابه «علمية العلم»، من فرضية قوامها أن التفكير عملية محكومة بأطر مرجعية – ذهنية، لا سبيل إلى فهم منتوجها كعملية تفكير إلا بتحليل تلك الأطر الذهنية والبنى المعرفية الحاكمة. وتكمن نظرته في ازدواجية عمل تلك المقاربة، إذ ينضح الأول بمحاولته إخراج المادة من محيطها التاريخي المغلق، أما بلورة الثاني فتكمن في محاولته طرح المادة تلك حاضراً، والسؤال عن مدى تحليلها ايبستيمولوجياً أو معرفياً. فباتت فلسفة العلم، في تطوراتها الراهنة، تلقي هماً مضاعفاً على المعنيين بأمرها، فضلاً عن أمر توظيفها وتفعيلها في الواقع الحضاري لتوطين الحضارة وبيئة البحث العلمي.

لم يعد كافياً البتة التنقيب في تاريخ الفلسفة القديمة عن مسوح عقلانية وممارسات تجريبية كانت في زمانها. فلابد من تجاوز هذا الماضي (بعد أخذ الأكثر صلاحية منه) وتفعيل ممكنات أعمق وأشمل تتجه نحو المستقبل، لأن فلسفة العلوم تجاوزت الطرح الوضعي البسيط والاقتصار على فحص الأسس المنطقية والميتودولوجية لعدم الكفاية. والعلم الرياضي لا يهبط من السماء، ولا يمكن قطف المنهجيات من الشجرة، بل بتهيئة السُبل وطرح التساؤلات، لأن طريق العلم شاق وطويل، ومن الأقل إلى الأكثر تعقيداً. وهذا ما يحاوله الكاتب شارحاً أن الفلسفة لم تولد في يوم واحد، كما أنها لم تولد من لا شيء (فهي ليست إسقاطاً وليست من عدم).
ويسأل دياب إذا كان تاريخ الفلسفة معطى بديهياً، فكيف لها أن تملك تاريخاً؟ فمن المؤكد أن أي فلسفة ليست الحقيقة، وأن تاريخها يمنحها أو يمنع دعمها، وأي علم ليس الحقيقة. لذا فإن تاريخ العلوم ليس تاريخاً للحقيقة، بل إنه تاريخ المعارف (الجزئية والنسبية والمؤقتة) وتاريخ تطور هذه المعارف. بهذا يوضح الكاتب صورة التاريخ العلمي على أنه تاريخ معياري ومتواتر.
فكل عصر - وفق الكاتب - سيكون حكماً رسمياً على العصور السابقة عليه، كما أنه سيُحاكم من وجهة النظر العلمية للعلوم اللاحقة بعده. وهذا لا يكون ممكناً إلا لأن التطور العلمي قابل للبرهنة (مستنداً إلى ما أوضحه كارل بوبر). ففكرة التطور أساسية في تاريخ العلوم، وهي التي تمنع علماً ما من امتلاك حقيقة مطلقة، مع العلم بأن تاريخ العلم هو الضمان على علميته بفضل التطور الذي يشهد عليه.
فإذا كان تاريخ العلوم ينظر إلى الماضي، فإننا نجد أن تاريخ الفلسفة ينظر نحو الحاضر والمستقبل، لأن تاريخ الفلسفة ليس نهراً طويلاً هادئاً، إنه تاريخ متحرك وحلبة صراع (استناد الكاتب هنا إلى ما يصفه كانط) وحاضره مكان للمعركة، ويجب أن تُعد فيه النقاط ونختار معسكرنا، فلا حيادية فيه. فتاريخ الفلسفة جزء من الفلسفة (أي من ذاته) وتاريخ صراعات وإبداعات تلك الفلسفة. إذن فهو ليس تاريخاً بسيطاً يركن لسمّو الحاضر على الماضي، بل إنه جد متداخل جداً ، فالعلم بالحاضر يُبنى على الماضي، كما أن المعرفة بالماضي يكشفها الحاضر. لذا فإن التاريخ هو جزء من نفسه.
ولا يكتفي د. دياب بهذا العرض، بل يطرح مقولة تتساءل: طالما أنه ليس هناك حضارة بل تشكّل حضارات، وليس هناك ثقافة بل تعدد ثقافات، وليس هناك حداثة بل بناء حداثات، وليس هناك علم بل تنوع علوم، وتكمن قوة اللغة في العبور بين كل ما ذكر، وقوة الفكر في استيعاب التعدد والتنوع، وقوة العلم في الأخذ من المعارف وبناء الصلة والترميم، فإن قراءة الكاتب الايبستيمولوجية لعلمية العلم، تدفعه بعيداً عن عملية التحقيب والتمرحل للعلم وتأخذه إلى البحث في مصدرية العلم وعلميته. لذا كان تناوله للعلميين من زوايا النظر إلى: مصدر العلم، وعملية تشكّل العلم، وعلمية العلم ومشروعيته، سائلاً عن موجّه العلم، وعن مرجعية المعرفة، ووجهة العلم.
وكان له مرتكز آخر بُني على عملية تطور العلم ومحايثة المعارف التي تمت (بطريقة البناء على، أو الدحض، أو النقد) غير ملتفت للدقة في التواريخ (وإن حصلت) وتفضيلها على أي حدث علمي، يعني أن هناك إقصاء لأهمية التأريخ يقابله الإضاءة على أهمية الحدث العلمي والثورات العلمية التي تجعل من التاريخ رقماً يدلّ على زمن لنقطة التحوّل ليس أكثر. وكذلك الميل للحديث عن فلسفة العصور لا عن تاريخ العصور (أي فلسفة التاريخ لا تاريخ الفلسفة). ويعطي مثالاً على ذلك بأن أهمية أثينا تكمن في بناء الدولة والقانون والإلزام، وأهمية العصر الإسلامي فيما أنتج من علميين، وأهمية ابن رشد فيما أسس للفيزياء، وأهمية الثورة الكوبرنيكية وبلورتها مع جاليلو فيما توصّلت إليه من معارف، وبعد الشك الديكارتي أهمية كانط في فلسفته النقدية، (فإن استبدال اسم  آخر بالقرن الحادي عشر في سيرة ابن رشد، لا يقلل من علميته، لا بل إن قلة علميته تلغي تاريخه، وكذا بالنسبة لغيره من العلميين).
وفي وضعه حداً لهذا الالتباس، يقول إن فيلسوف العصور السابقة ليس الأقلّ علمية، وإن التاريخ هو بمنزلة «رأسمال عقلي» للعقلية الجديدة، وعليه تنمو الحضارة، إذ ليس هناك من طفرة حضارية. كما أن الربط المتوازي بين تاريخ الفلسفة وتاريخ الحضارة، يقابله ما هو بين فلسفة التاريخ ونموّ الحضارة، لإمكان تمتع الأول بالمَرحَلة (التحقيب)، واستحالة هذا على الثاني لاعتباره رأسمال عقلي وفلسفي لا يمكن تسخيفه ورميه في أقبية التاريخ.   
خَبُر الكاتب الإحاطة الشاملة للأصول الفلسفية وإحراك العملية النقدية عليها، ومن ثم العرض الواضح لعلمية العلم بالنظرة النقدية للسياق الفكري (العلمي) الأوربي، وقبله العربي، والسابق عليه الإسلامي والمسيحي، بعد اليوناني، من دون تهميش للمشارب العلمية الرئيسة القبسقراطية. باعتباره أن النقد ليس (مطرقة) يستبدل بها حامل القلم قلمه، وصاحب العقل لسانه، وحامل الفكر باعتباره النقد (مشحذة) لإعادة صوغ لبنة نزعها من سابق عليه، فهدم وأسس من جديد فبنى. إنما هو نتاج اجتهادات لها تاريخها وأولوياتها ومناهجها العلمية والموضوعية. واستطاع دياب بلورة الصراع بين القديم والجديد وبين الخطأ والصواب وبين العقل واللاعقل، ومن ثم إخضاع العقل للنقد والمساءلة وكذا إخضاع الزمن العلمي لإعادة بنائه. وأشار أيضاً إلى أن للفكر النقدي مهمة الكشف عن مكر التاريخ وسطوة التراث وفهم العالم والوجود، وإنتاج المعنى والمعرفة، كما يمارس هذا الفكر صلاحيته وإصلاح نفسه بتعرّضه للمساءلة (المساءلة هي آلية لحكمه وأداة لمحاكمته). لذلك لا يسلم الفكر النقدي من النقد، ولكن بتفاوت نمط وحضور وطرق وممارسة النقد بالعودة إلى السياق الثقافي والزماني والمكاني. إن حصر موضوع العلم على النحو المرحلي هو مدعاة التباس، لذا نجد الكاتب في حديثه عن علمية العلم ايبستيمولوجياً وتناوله العلم من مشارب عدة، في النظر إلى الأصول بداية واعتبار مجالات العلم الوضعي تالياً ومن ثم الالتفات إلى منجزات العلم، حررته أمور من السقوط في عدم الموضوعية. 
أربكت الكاتب مواضيع الزمان والتاريخ لمنظِّري الفلاسفة الحاليين والسابقين عليهم. والذين دخلوا في متاهات «الأمر الماضي» من التاريخ الذين يحاولون دوماً التفلّت منه، و«الراهن الآني» من الزمن الذين صاروا إليه، ويكاد يتفلّت منهم وفيه ينظرون وينتظرون، و«الشأن الآتي» وهو الغد الذي لا يدرون له مخرجاً. لهذا كان له التمييز بين فلسفة التاريخ وتاريخ الفلسفة. هذا الأمر غير السهل لا يتم عن طريق التفريق بتقديم اسم على آخر، إنما الفرق في الجوهر والمعنى وتحديد وجهة الفلسفة. وكانت له تحديدات:

فلسفة التاريخ
هي أحد اتجاهات النظر لعلميي عهد الحداثة، وهي مفهوم تعاقبي أقرب إلى العرضية منه إلى الضرورة، مرتبط بالنظر الفلسفي الميتافيزيقي. وهذا المدخل النظري إلى التاريخ  يبدأ بداهة بافتراض أن للتاريخ نواميس تحكمه.
فالسير قديماً يعني باتجاه، من الحاضر إلى المستقبل، والسير قديماً يعني الاتجاه من القديم إلى الحاضر. وعند لفظ كلمة تاريخ يُوحى لنا بتاريخ المومأ إليه بما قبل التاريخ، ونجد دلائله الأولى في الشرق القديم (الصين والهند)، حيث ساد الطغيان التام، فكان الطاغية وكانوا العبيد. أما وسط التاريخ فقد تمثّل في بلاد اليونان والرومان، فكان العبد (القن) والحر والسيد. ومنتهى التاريخ الذي هو عهد المسيحية، فكان الفرد (حراً) وسيده الماورائي (والعلاقة ميتافيزيقية)، فالعبد هو عبدالله. تلك هي فلسفة التاريخ، التي تدرس التاريخ بمراحله وخصائصه وحكمه ومحكوميته.

تاريخ الفلسفة
لا يمكن الخلط موضوعياً بين فلسفة التاريخ (التاريخ محدد) وتاريخ الفلسفة (أولوية الفلسفة)، إذ تأخذنا الأولى إلى الماضي وتأتي بنا الثانية من الماضي لتأخذنا إلى المستقبل (فالماء يخرج من النافورة وهو سببٌ لوجودها). ولا يمكن منطقياً، جعل مسافة بين العلم وتاريخ العلم (إنه الفصل بين الجسد والروح)، فلا يمكن قطف العلم والمعرفة كصيغة جاهزة عن شجرة علمية أو معرفية. فهذه الشجرة لها أصولها وجذورها العلمية، إذ يتغذّى آخر برعم علمي في رأسها (ليطرد برعماً جديداً) من أبعد جذر من جذورها.
وأُنهي بما أثاره الكاتب من أن هذا ليس عرضاً لمنظومة فلسفية جديدة، ولا عرضاً لمحددات أو حتى توصيات، إنما وجهة علمية بالطريقة الايبستيمولوجية تخدم العلم وتنقّي الفلسفة، لأن علمية العلم تزكو بالتدخل عليها، وبالطريقة المنطقية العقلانية، فلابد من عرض ما يمكننا التمني والانتباه إليه في محاولة تقليص المسافة بين العلم وتاريخ العلم، فما هو علمي اليوم، ما كان ليوجد لو لم يكن له أسس من السابق، وبطريقة أدقّ: ليس من الممكن ومن غير المحبب إعطاء وزن وصفة السمّو لعلمية آينشتاين وإغفال ما قام به «طاليس وأرخميدس»، لا بل إن السياق يوضح أن ما وصل إليه الأول هو نتيجة تراكمات علمية بدءاً من هؤلاء القدامى.
ووجهة النظر (وليس الحكم) عند د. دياب تقول: من مبدأ خدمة وتحقيق علمية العلم، فإن مبدأ القطع المعرفي بمفهومه البدء من الصفر وأقلها البدء من جديد، محكوم بأوهام. وهل بُنيت الثورات العلمية على احتمال البداية الصفرية أو من دون قاعدة علمية وأسس معرفية؟ فالعلم لا يأتي من فراغ، وإذا كان كذلك فسيصبح فيما بعد عدماً عند مواجهته أو حدوث أول ثورة علمية جديدة. فمن المألوف إعطاء أهمية لتاريخ العلم، وتقديمها على إنتاجيته، أوليس مكتشف الإسطرلاب أكثر أهمية من مطوره، ومركزية الشمس لم تحضر لو لم تأتِ لتدحض مركزية سابقة عليها لا يمكن إغفال دوام وصلابة علميتها لأكثر من ألفي سنة؟ ■