إبراهيم بن المهدي وأخته عُليَّة

إبراهيم بن المهدي وأخته عُليَّة

شَغَفَ‭ ‬البيتُ‭ ‬العباسي‭ ‬بالآداب‭ ‬والفنون‭ ‬والعلوم،‭ ‬ولم‭ ‬يتجَلَّ‭ ‬هذا‭ ‬الشغفُ‭ ‬في‭ ‬رعاية‭ ‬هذه‭ ‬الميادين‭ ‬ورجالها‭ ‬وعقد‭ ‬المجالس‭ ‬العلمية‭ ‬وإنشاء‭ ‬المكتبات‭ ‬وجلب‭ ‬المخطوطات‭ ‬وتشجيع‭ ‬الترجمة‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬تجلَّى‭ ‬ذلك‭ ‬أيضاً‭ ‬في‭ ‬نبوغ‭ ‬عددٍ‭ ‬كبيرٍ‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬البيت‭ ‬العباسي‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬الشعر‭ ‬والغناء‭ ‬والموسيقى،‭ ‬فبعض‭ ‬الخلفاء‭ ‬قالوا‭ ‬شعراً،‭ ‬مثل‭ ‬هارون‭ ‬الرشيد‭ (‬ت193هـ‭) ‬وولديه‭ ‬الأمين‭ (‬ت‭ ‬198هـ‭) ‬والمأمون‭ (‬ت218هـ‭) ‬وغيرهم،‭ ‬كما‭ ‬اشتهر‭ ‬عددٌ‭ ‬من‭ ‬الخلفاء‭ ‬بحسن‭ ‬أصواتهم‭ ‬وألحانهم‭ ‬والعزف‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬آلات‭ ‬الطرب،‭ ‬فالخليفة‭ ‬الواثق‭ ‬بن‭ ‬المعتصم‭ (‬ت232هـ‭) ‬كان‭ ‬يضرب‭ ‬بالعود‭ ‬ويصنع‭ ‬الألحان‭ ‬ويتقن‭ ‬الغناء‭ ‬إتقاناً‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬إليه‭ ‬خليفة،‭ ‬وكان‭ ‬الخليفة‭ ‬المنتصر‭ ‬بن‭ ‬المتوكل‭ (‬ت247هـ‭) ‬حسن‭ ‬العلم‭ ‬بالغناء‭ ‬والنغم‭ ‬ويقول‭ ‬الشعر،‭ ‬كما‭ ‬وضع‭ ‬الخليفتان‭ ‬المعتمد‭ (‬ت‭ ‬256هـ‭) ‬والمعتضد‭ (‬ت‭ ‬279هـ‭) ‬بعض‭ ‬الألحان،‭ ‬وكان‭ ‬الخليفة‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬المعتز‭ (‬ت‭ ‬295هـ‭) ‬شاعراً‭ ‬ومغنياً‭ ‬ومؤلفاً‭ ‬لكتاب‭ ‬‮«‬الجامع‭ ‬في‭ ‬الغناء‮»‬‭. ‬

لم‭ ‬يتوقف‭ ‬النبوغ‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬العباسي‭ ‬على‭ ‬الخلفاء‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬امتد‭ ‬ليشمل‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬أبنائهم‭ ‬وأحفادهم،‭ ‬أمثال‭: ‬إبراهيم‭ ‬ابن‭ ‬الخليفة‭ ‬المهدي‭ ‬وأخته‭ ‬عُليَّة‭ ‬وعبدالله‭ ‬بن‭ ‬الهادي‭ ‬وأحمد‭ ‬بن‭ ‬الرشيد‭ ‬وعبدالله‭ ‬بن‭ ‬الأمين‭ ‬وعبدالله‭ ‬بن‭ ‬المتوكل‭ ‬وغيرهم‭. ‬ومقالنا‭ ‬هذا‭ ‬يستهدف‭ ‬الحديث‭ ‬بإيجاز‭ ‬عن‭ ‬اثنين‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأبناء‭ ‬لمكانتهما‭ ‬المتميزة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الفن‭ ‬العربي،‭ ‬وهما‭ ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬المهدي‭ ‬وأخته‭ ‬عُليَّة‭.‬

 

إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬المهدي

يُكنَّى‭ ‬بأبي‭ ‬إسحق،‭ ‬وهو‭ ‬أخ‭ ‬غير‭ ‬شقيق‭ ‬للخليفة‭ ‬هارون‭ ‬الرشيد،‭ ‬ويُعَدُّ‭ ‬أول‭ ‬أبناء‭ ‬الخلفاء‭ ‬العباسيين‭ ‬الذين‭ ‬ذاع‭ ‬صيتهم‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬الشعر‭ ‬والغناء‭ ‬والموسيقى،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬عام‭ ‬162هـ‭ - ‬779م،‭ ‬وأمه‭ ‬جارية‭ ‬سوداء،‭ ‬اسمها‭ ‬شَكلة،‭ ‬فجاء‭ ‬إبراهيم‭ ‬أسود‭ ‬اللون‭ ‬وضخم‭ ‬الجثة،‭ ‬حتى‭ ‬إنه‭ ‬لُقِّبَ‭ ‬بالتنين‭. ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬نتناول‭ ‬تاريخه‭ ‬الفني،‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬إبراهيم‭ ‬خاض‭ ‬تجربة‭ ‬سياسية‭ ‬كادت‭ ‬تودي‭ ‬بحياته،‭ ‬وذلك‭ ‬عندما‭ ‬اختاره‭ ‬العباسيون‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬خليفةً‭ ‬سنة‭ ‬201هـ،‭ ‬ولقبوه‭ ‬‮«‬المبارك‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬رداً‭ ‬على‭ ‬تعيين‭ ‬الخليفة‭ ‬المأمون‭ - ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬لايزال‭ ‬مقيماً‭ ‬في‭ ‬خراسان‭- ‬علي‭ ‬الرضا‭ ‬ولياً‭ ‬للعهد‭. ‬وظل‭ ‬إبراهيم‭ ‬خليفة‭ ‬حتى‭ ‬وصل‭ ‬المأمون‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ ‬سنة‭ ‬204هـ،‭ ‬وانتهى‭ ‬الأمر‭ ‬بأن‭ ‬عفا‭ ‬الخليفة‭ ‬عن‭ ‬عمه‭ ‬إبراهيم،‭ ‬الذي‭ ‬غدا‭ ‬من‭ ‬أعز‭ ‬ندماء‭ ‬مجلسه‭.‬

كان‭ ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬المهدي‭ ‬موهوباً‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬والغناء‭ ‬والموسيقى،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬الصعوبة‭ ‬تنمية‭ ‬هذه‭ ‬المواهب‭ ‬وتطويرها‭ ‬آنذاك،‭ ‬لأن‭ ‬العصر‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬فيه‭ ‬كان‭ ‬يشجِّع‭ ‬هذه‭ ‬الفنون،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬نشأ‭ ‬فيها،‭ ‬وهي‭ ‬بغداد،‭ ‬كانت‭ ‬تغني‭ ‬في‭ ‬أيامه‭ ‬على‭ ‬أنغام‭ ‬كبار‭ ‬الفنانين،‭ ‬أمثال‭ ‬إبراهيم‭ ‬الموصلي‭ ‬وابنه‭ ‬إسحق،‭ ‬وكانت،‭ ‬أيضاً،‭ ‬ساحة‭ ‬لتفاعل‭ ‬الثقافات‭ ‬العربية‭ - ‬الإسلامية‭ ‬والفارسية‭ ‬والهندية‭ ‬واليونانية‭. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬إبراهيم‭ ‬قد‭ ‬أفاد‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬العوامل‭ ‬ليغدو‭ - ‬كما‭ ‬قال‭ ‬الأصفهاني‭ (‬ت356هـ‭ - ‬976م‭) ‬في‭ ‬‮«‬الأغاني‮»‬‭ - ‬‮«‬أديباً،‭ ‬شاعراً،‭ ‬راويةً‭ ‬للشعر‭ ‬وأيام‭ ‬العرب،‭ ‬وأعلم‭ ‬الناس‭ ‬بالنغم‭ ‬والوتر‭ ‬والإيقاعات،‭ ‬وأطبَعهم‭ ‬في‭ ‬الغناء‭ ‬وأحسنهم‭ ‬صوتاً‮»‬‭. ‬وأكَّد‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬ابن‭ ‬خلكان‭ ‬في‭ ‬‮«‬الوفيات‮»‬‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬كان‭ ‬لإبراهيم‭ ‬بن‭ ‬المهدي‭ ‬اليد‭ ‬الطولى‭ ‬في‭ ‬الغناء‭ ‬والضرب‭ ‬على‭ ‬العود‭ ‬وحسن‭ ‬المنادمة‭ ‬ولم‭ ‬يُرَ‭ ‬في‭ ‬أولاد‭ ‬الخلفاء‭ ‬قبله‭ ‬أفصح‭ ‬منه‭ ‬لِسَاناً‭ ‬ولا‭ ‬أحسن‭ ‬منه‭ ‬شِعراً‮»‬‭.‬

كان‭ ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬المهدي‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬أمره،‭ ‬وهو‭ ‬ابن‭ ‬الأسرة‭ ‬الحاكمة،‭ ‬يغني‭ ‬وراء‭ ‬ستار‭ ‬‮«‬تصوُّناً‭ ‬وترفُّعاً‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬إذا‭ ‬صنع‭ ‬شيئاً،‭ ‬في‭ ‬الغناء‭ ‬أو‭ ‬التلحين،‭ ‬نسبه‭ ‬إلى‭ ‬مغنِّين‭ ‬آخرين‭ ‬‮«‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يناله‭ ‬شيءٌ‭ ‬من‭ ‬الطعن‭ ‬أوالتقريع‮»‬،‭ ‬ولهذا‭ ‬قلَّت،‭ ‬في‭ ‬البدايات،‭ ‬أغانيه‭ ‬وألحانه‭ ‬في‭ ‬أيدي‭ ‬الناس‭ (‬على‭ ‬كثرتها‭). ‬ولكن‭ ‬موقفه‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬ثقته‭ ‬بنفسه،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬لولا‭ ‬أني‭ ‬أُرَفِّع‭ ‬نفسي‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الصناعة‭ (‬أي‭ ‬الغناء‭) ‬لأظهرت‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬يعلمُ‭ ‬الناسُ‭ ‬أنَّهم‭ ‬لم‭ ‬يروا‭ ‬قبلي‭ ‬مثلي‮»‬‭. ‬

ومن‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬إبراهيم‭ ‬يغنّي‭ ‬في‭ ‬الأماكن‭ ‬العامة‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬المكاسب‭ ‬المادية،‭ ‬وإنما‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬دائماً‭: ‬‮«‬إنما‭ ‬أصنعُ‭ ‬ذلك‭ ‬تَطَرباً‭ ‬لا‭ ‬تكسباً‭ ‬وأغني‭ ‬لنفسي‭ ‬لا‭ ‬للناس،‭ ‬فأعمل‭ ‬ما‭ ‬أشتهي‮»‬‭. ‬ولهذا‭ ‬كله‭ ‬فقد‭ ‬اقتصر‭ ‬غناؤه،‭ ‬غالباً،‭ ‬على‭ ‬مجالس‭ ‬أخيه‭ ‬الرشيد‭ ‬وأولاد‭ ‬أخيه‭ ‬وأخته‭ ‬عُليَّة‭. ‬وكان‭ ‬يتم‭ ‬ذلك‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬طلبهم،‭ ‬بل‭ ‬وإلحاحهم‭ ‬أحياناً‭. ‬

يُعَدُّ‭ ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬المهدي‭ ‬رائد‭ ‬حركة‭ ‬التجديد‭ ‬في‭ ‬الأغنية‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬العباسي،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬يتقيد‭ ‬بكل‭ ‬القواعد‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تُراعى‭ ‬في‭ ‬الغناء‭ ‬القديم،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يحذف‭ ‬أنغام‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأغاني‭ ‬ويخففها‭ ‬بما‭ ‬يتفق‭ ‬مع‭ ‬أدائه‭. ‬وكان‭  ‬يقول‭ ‬إذا‭ ‬نقده‭ ‬أحد‭ ‬على‭ ‬ذلك‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬ملك‭ ‬وابن‭ ‬ملك،‭ ‬أغنّي‭ ‬كما‭ ‬أشتهي‮»‬‭. ‬وسار‭ ‬على‭ ‬نهجه‭ ‬عددٌ‭ ‬كبيرٌ‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬آنذاك‭ ‬أمثال‭ ‬مُخارق‭ ‬والمغنية‭ ‬زرياب‭ ‬الواثقية‭ ‬وشارِية‭ ‬ورَيِّق‭ ‬وغيرهم‭. ‬

في‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬يرأس‭ ‬التيار‭ ‬التقليدي‭ ‬إسحق‭ ‬الموصلي،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يرفض‭ ‬أي‭ ‬تغيير‭ ‬في‭ ‬الغناء‭ ‬القديم،‭ ‬بل‭ ‬و‮«‬يعظِّم‭ ‬الإقدامَ‭ ‬على‭ ‬ذلك‮»‬‭. ‬وسار‭ ‬على‭ ‬نهجه‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬المغنَّين‭. ‬وقد‭ ‬أفنى‭ ‬إبراهيم‭ ‬وإسحق‭ ‬عمريهما‭ ‬وهما‭ ‬يتجادلان‭ ‬في‭ ‬مسألة‭ ‬التجديد‭ ‬والتقليد‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يحسم‭ ‬أحدهما‭ ‬الأمر‭ ‬لمصلحته‭.  

 

قالوا‭ ‬في‭ ‬إبراهيم

وقد‭ ‬شهِدَ‭ ‬على‭ ‬نبوغ‭ ‬إبراهيم‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬الفن‭ ‬كبار‭ ‬معاصريه،‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتهم‭ ‬منافسه‭ ‬إسحق‭ ‬الموصلي،‭ ‬حيث‭ ‬قال‭: ‬‮«‬ليس‭ ‬فيمن‭ ‬يدَّعي‭ ‬العلم‭ ‬بالغناء‭ ‬مثل‭ ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬المهدي‮»‬‭. ‬وتروي‭ ‬المصادر‭ ‬أن‭ ‬النَّاس‭ ‬كانوا‭ ‬إذا‭ ‬سمعوا‭ ‬إبراهيم‭ ‬يتنحنح‭ ‬‮«‬يطربون‮»‬‭. ‬بل‭ ‬لم‭ ‬يُطرب‭ ‬إبراهيم‭ ‬البشر‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬أطرب‭ ‬الحيواناتِ‭ ‬أيضاً،‭ ‬فيروي‭ ‬الأصفهاني‭ ‬واقعةً،‭ ‬فحواها‭ ‬أن‭ ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬المهدي‭ ‬اصطحب‭ ‬أخاه‭ ‬المنصور‭ ‬لزيارة‭ ‬الخليفة‭ ‬الأمين،‭ ‬وتصادف‭ ‬أن‭ ‬الأخير‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬حظيرة‭ ‬حيواناته،‭ ‬وعندما‭ ‬أبصر‭ ‬إبراهيمُ‭ ‬الخليفةَ‭ ‬من‭ ‬بعيد،‭ ‬أخرجَ‭ ‬عوداً‭ ‬واندفع‭ ‬يغني،‭ ‬وطَرِبَ‭ ‬الأمين‭ ‬طرباً‭ ‬شديداً،‭ ‬وقال‭ ‬له‭: ‬‮«‬أحسنتَ‭ ‬والله‭ ‬يا‭ ‬عم‮»‬‭. ‬أما‭ ‬أخوه‭ ‬المنصور‭ ‬فقال‭: ‬‮«‬لقد‭ ‬رأيتُ‭ ‬وقتذاك‭ ‬شيئاً‭ ‬عجيباً‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬أحداً‭ ‬حدَّثني‭ ‬به‭ ‬لما‭ ‬صدَّقت،‭ ‬وهو‭ ‬أنه‭ ‬عندما‭ ‬بدأ‭ ‬إبراهيم‭ ‬يغني‭ ‬أصغت‭ ‬الحيواناتُ‭ ‬جميعاً‭ ‬إليه‭ ‬ومدَّت‭ ‬أعناقها‭ ‬وأخذت‭ ‬تدنو‭ ‬منَّا‭ ‬حتى‭ ‬كادت‭ ‬تضع‭ ‬رؤوسها‭ ‬على‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬كنا‭ ‬نجلس‭ ‬عليه،‭ ‬وعندما‭ ‬توقَّف‭ ‬إبراهيم‭ ‬عن‭ ‬الغناء‭ ‬نفَرَت‭ ‬وبَعُدت‭ ‬عنا‮»‬‭.‬

ويشيد‭ ‬قاضي‭ ‬بغداد‭ ‬آنذاك،‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬دواد،‭ ‬بنبوغ‭ ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬المهدي،‭ ‬فيقول‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬يهاجم‭ ‬الغناء‭ ‬ويعدُّه‭ ‬عيباً‭ ‬ويطعن‭ ‬على‭ ‬أهله،‭ ‬ولكنه‭ ‬عندما‭ ‬سمع‭ ‬إبراهيم‭ ‬يغني‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬الخليفة‭ ‬المعتصم‭ (‬ت‭ ‬227هـ‭)‬،‭ ‬ذُهل‭ ‬مما‭ ‬سمعه،‭ ‬وقال‭: ‬‮«‬بلغ‭ ‬بي‭ ‬الطربُ‭ ‬مما‭ ‬يبلغني‭ ‬عن‭ ‬غيري‭ ‬فأنكره‮»‬‭. ‬وتوقَّف‭ ‬عن‭ ‬مهاجمة‭ ‬الغناء‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭. ‬كما‭ ‬يشهد‭ ‬العالم‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬موسى‭ ‬بن‭ ‬شاكر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬المهدي‭ ‬أحسن‭ ‬الناس‭ ‬كلهم‭ ‬غناءً،‭ ‬ويدلِّل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬شاهد‭ ‬عيان‭ ‬في‭ ‬مجالس‭ ‬الخلفاء‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يغني‭ ‬فيها‭ ‬إبراهيم،‭ ‬ويقول‭ ‬إنه‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬صوت‭ ‬إبراهيم‭ ‬يدوِّي‭ ‬في‭ ‬المجلس‭ ‬لا‭ ‬يبقى‭ ‬أحدٌ‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬الخليفة‭ ‬من‭ ‬الغلمان‭ ‬والقائمين‭ ‬بالخدمة‭ ‬وأصحاب‭ ‬الصناعات‭ ‬والمهن،‭ ‬الصغار‭ ‬والكبار،‭ ‬إلا‭ ‬وتركَ‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬يده‭ ‬واقترب‭ ‬إلى‭ ‬أقرب‭ ‬موضعٍ‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يسمعه‭. ‬فلا‭ ‬يزال‭ ‬مصغياً‭ ‬ولاهياً‭ ‬عمَّا‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬يغني،‭ ‬فإذا‭ ‬توقَّف‭ ‬إبراهيم‭ ‬عن‭ ‬الغناء‭ ‬وأخذ‭ ‬غيره‭ ‬يغني،‭ ‬رجع‭ ‬كلٌّ‭ ‬منهم‭ ‬إلى‭ ‬عمله‭ ‬ولا‭ ‬يلتفت‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يسمعه‭. ‬وهل‭ ‬هناك‭ ‬برهانٌ‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الشهادة‭ ‬على‭ ‬مكانة‭ ‬إبراهيم‭ ‬الفنية؟

 

من‭ ‬أغاني‭ ‬إبراهيم

لقد‭ ‬غنّى‭ ‬إبراهيم‭ ‬من‭ ‬شعره‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬المأمون‭ ‬عندما‭ ‬عفا‭ ‬عنه،‭ ‬قائلاً‭:‬

ذهَبتُ‭ ‬من‭ ‬الدُّنيا‭ ‬كما‭ ‬ذهَبَتْ‭ ‬مني

هوى‭ ‬الدهرُ‭ ‬بي‭ ‬عنها‭ ‬وأهوى‭ ‬بها‭ ‬عني

فإن‭ ‬أبْكِ‭ ‬نفسي‭ ‬أبْك‭ ‬نفساً‭ ‬عزيزةً

وإن‭ ‬أحتسِبْها‭ ‬أَحتسِبْها‭ ‬على‭ ‬ضَنِّ

فقال‭ ‬له‭ ‬المأمون‭: ‬‮«‬أحسنتَ‭ ‬والله‭ ‬يا‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين‮»‬،‭ ‬فقام‭ ‬إبراهيم‭ ‬رهبةً‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬وقال‭: ‬‮«‬قتلتني‭ ‬واللهِ‭ ‬يا‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين،‭ ‬لا‭ ‬والله‭ ‬لن‭ ‬أجلسَ‭ ‬حتى‭ ‬تسميني‭ ‬باسمي‮»‬‭. ‬قال‭ ‬المأمون‭: ‬‮«‬اجلس‭ ‬يا‭ ‬إبراهيم‮»‬‭. ‬

وغنّى‭ ‬إبراهيم،‭ ‬وهو‭ ‬يعزف‭ ‬على‭ ‬العود‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬الرشيد،‭ ‬من‭ ‬قصيدةٍ‭ ‬للشاعر‭ ‬جرير،‭ ‬التي‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭:‬

أهواكِ‭ ‬فوقَ‭ ‬هوى‭ ‬النفوس‭ ‬ولم‭ ‬يزل

مذ‭ ‬بِنْتِ‭ ‬قلبي‭ ‬كالجناحِ‭ ‬الخافق

كما‭ ‬غنّى‭ ‬إبراهيم‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬طلب‭ ‬أخيه‭ ‬الرشيد،‭ ‬وبحضور‭ ‬الوزير‭ ‬جعفر‭ ‬البرمكي،‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬للدارمي،‭ ‬التي‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭:‬

كأن‭ ‬صورتَها‭ ‬في‭ ‬الوصف‭ ‬إذا‭ ‬وُصِفَتْ

دينارُ‭ ‬عَيْنٍ‭ (‬أي‭ ‬ذهب‭) ‬من‭ ‬المصريَّةِ‭ ‬العُتُقِ

أو‭ ‬دُرَّةٌ‭ ‬أعيت‭ ‬الغوَّاصَ‭ ‬في‭ ‬صَدَفٍ‭ ‬أو

ذَهَبٌ‭ ‬صاغه‭ ‬الصَّواغُ‭ ‬في‭ ‬وَرِقِ‭ (‬أي‭ ‬الفضة‭)‬

وغنّى‭ ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬المهدي‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬إسحق‭ ‬الموصلي‭ ‬وألحانه،‭ ‬ومما‭ ‬جاء‭ ‬من‭ ‬ذلك‭:‬

قل‭ ‬لَمِنْ‭ ‬صَدَّ‭ ‬عاتِبا

ونأى‭ ‬عنك‭ ‬جانبا

قد‭ ‬بَلغتَ‭ ‬الذي‭ ‬أرَدْ

تَ‭ ‬إن‭ ‬كنتَ‭ ‬لاعبا

واعترفنا‭ ‬بما‭ ‬ادعيـ

ـتَ‭ ‬وإن‭ ‬كنت‭ ‬كاذبا

فافعل‭ ‬الآن‭ ‬ما‭ ‬أرد

تَ‭ ‬فقد‭ ‬جئت‭ ‬تائبا

لم‭ ‬يكن‭ ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬المهدي‭ - ‬كما‭ ‬أشرنا‭ - ‬مغنياً‭ ‬وملحناً‭ ‬وضارباً‭ ‬على‭ ‬العود‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬كان‭ ‬شاعراً‭ ‬مجيداً،‭ ‬فقد‭ ‬بَعث‭ ‬بقصيدةٍ‭ ‬إلى‭ ‬الخليفة‭ ‬المأمون‭ ‬يشكره‭ ‬على‭ ‬العفو‭ ‬عنه،‭ ‬ومما‭ ‬جاء‭ ‬فيها‭:‬

ما‭ ‬إن‭ ‬عصيتُك‭ ‬والغواةُ‭ ‬تَمـدُّني

أسبابها‭ ‬إلا‭ ‬بنيّة‭ ‬طائــــــــــــــِعِ

لم‭ ‬أدرِ‭ ‬أن‭ ‬لمثل‭ ‬ذنبي‭ ‬غافــــراً

فأقمت‭ ‬أرقب‭ ‬أي‭ ‬حتفٍ‭ ‬صارعي

رد‭ ‬الحياةَ‭ ‬إليَّ‭ ‬بعد‭ ‬ذهابــــــــها

وَرَعُ‭ ‬الإمام‭ ‬القاهر‭ ‬المتواضـــعِ

إن‭ ‬الذي‭ ‬قَسَمَ‭ ‬الفضائل‭ ‬حازهـا

في‭ ‬صلب‭ ‬آدم‭ ‬للإمام‭ ‬السابــــــعِ‭ (‬أي‭ ‬المأمون‭)‬ٍ

وعفوتَ‭ ‬عمن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬عن‭ ‬مِثْلِه

عَفْوٌ‭ ‬ولَمْ‭ ‬يَشْفَعْ‭ ‬بشافعِ‭ ‬

حقيقةً‭ ‬لقد‭ ‬فَقَدَ‭ ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬المهدي‭ ‬منصب‭ ‬الخلافة،‭ ‬ولكنه‭ ‬غدا‭ ‬علماً‭ ‬من‭ ‬أعلام‭ ‬الفن‭ ‬العربي،‭ ‬ومثله‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬مثل‭ ‬الأمير‭ ‬خالد‭ ‬بن‭ ‬يزيد‭ ‬الذي‭ ‬حُرمَ‭ ‬من‭ ‬الخلافة‭ ‬الأموية،‭ ‬لكنَّه‭ ‬أصبح‭ ‬مؤسِّساً‭ ‬لعلم‭ ‬الكيمياء‭ ‬في‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭.‬

 

عُلَيَّة‭ ‬بنت‭ ‬المهدي

ما‭ ‬اجتمع‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭ ‬والإسلام‭ ‬أخ‭ ‬وأخت‭ ‬أحسنُ‭ ‬غناء‭ ‬من‭ ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬المهدي‭ ‬وعُلَيَّة‭ ‬أخته‭. ‬

وهي‭ ‬ابنة‭ ‬الخليفة‭ ‬المهدي،‭ ‬وأمها‭ ‬جارية‭ ‬اسمها‭ ‬مكنونة‭. ‬ولدت‭ ‬عُلَيَّة‭ ‬عام‭ ‬160هـ‭ - ‬775م‭. ‬وكان‭ ‬زوجها‭ ‬من‭ ‬البيت‭ ‬العباسي،‭ ‬وهو‭ ‬موسى‭ ‬بن‭ ‬عيسى‭. ‬وتوفيت‭ ‬سنة‭ ‬210هـ‭ - ‬825م‭. ‬

تُجمِع‭ ‬المصادر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬عُلَيَّة‭ ‬كانت‭ ‬بارعة‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬والغناء‭ ‬واختراع‭ ‬الألحان‭. ‬ويقول‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬الأغاني‮»‬‭: ‬‮«‬كانت‭ ‬عُلَيَّة‭ ‬من‭ ‬أحسن‭ ‬الناس‭ ‬وأظرفهم،‭ ‬تقول‭ ‬الشعر‭ ‬الجيد‭ ‬وتصوغ‭ ‬فيه‭ ‬الألحان‭ ‬الحسنة‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬بلغت‭ ‬ألحانُها‭ ‬نحو‭ ‬ثلاثة‭ ‬وسبعين‭ ‬لحناً‭. ‬وغنَّت‭ ‬عُلَيَّة‭ ‬من‭ ‬شعرها‭ ‬وشعر‭ ‬أخيها‭ ‬الرشيد‭ ‬وشعر‭ ‬أبي‭ ‬العتاهية‭ ‬وغيرهما‭. ‬ولم‭ ‬تُغنِّ‭ ‬عُلَيَّة‭ ‬إلا‭ ‬بحضرة‭ ‬إخوتها‭ ‬وأبنائهم‭. ‬

 

عُلَيَّة‭ ‬والرشيد

كانت‭ ‬عُلَيَّة‭ ‬تحب‭ ‬أخاها‭ ‬الرشيد‭ ‬حباً‭ ‬عميقاً،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬الرشيد‭ ‬يبادلها‭ ‬المحبة‭ ‬نفسها،‭ ‬ويبدو‭ ‬أنَّ‭ ‬عُلَيَّة‭ ‬توقفت‭ ‬فترةً‭ ‬عن‭ ‬الغناء‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬الرشيد‭ ‬حزناً‭ ‬عليه‭. ‬ويروي‭ ‬الأصفهاني‭ ‬أنَّ‭ ‬الرشيد‭ ‬زارها‭ ‬في‭ ‬منزلها‭ ‬ذاتَ‭ ‬يوم،‭ ‬وقال‭ ‬لها‭: ‬‮«‬بالله‭ ‬يا‭ ‬أختي‭ ‬غنيني‮»‬‭. ‬فقالت‭: ‬‮«‬وحياتك‭ ‬لأعملنَّ‭ ‬فيكَ‭ ‬شعراً‭ ‬ولأعملنَّ‭ ‬فيه‭ ‬لحناً‮»‬‭. ‬فقالت‭:‬

تفديك‭ ‬أُختُك‭ ‬قد‭ ‬حَبَوْت‭ ‬بنعمة

لسنا‭ ‬نَعُدُّ‭ ‬لها‭ ‬الزمان‭ ‬عديــلا

إلا‭ ‬الخلودَ،‭ ‬وذاك‭ ‬قُربُك‭ ‬سيِّدي

لازال‭ ‬قربُك‭ ‬والبقاءُ‭ ‬طويــلا

وحَمِدتُ‭ ‬ربي‭ ‬في‭ ‬إجابة‭ ‬دعوتي

فرأيتُ‭ ‬حمدي‭ ‬عند‭ ‬ذاك‭ ‬قليلا

وكانت‭ ‬عُليَّة‭ ‬تستخدم‭ ‬مواهبها‭ ‬الفنية‭ ‬لاسترضاء‭ ‬أخيها‭ ‬الرشيد‭ ‬إذا‭ ‬غضب‭ ‬منها‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬الوئام‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬زوجته‭ ‬زبيدة‭. ‬فقد‭ ‬شَكَت‭ ‬زُبيدة‭ ‬إلى‭ ‬عُلَيَّة‭ ‬من‭ ‬فعل‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬الرشيد،‭ ‬فوضعت‭ ‬عُلَيَّة‭ ‬شعراً،‭ ‬وصاغت‭ ‬فيه‭ ‬لحناً‭ ‬جميلاً‭ ‬ودرَّبت‭ ‬جواريها‭ ‬عليه،‭ ‬ثم‭ ‬خرجت‭ ‬جواري‭ ‬القصر‭ ‬جميعاً،‭ ‬ومعهن‭ ‬عُلَيَّة‭ ‬وزُبيدة،‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬يجلس‭ ‬الرشيد،‭ ‬وهن‭ ‬يغنّينَ‭ ‬بصوتٍ‭ ‬ولحنٍ‭ ‬واحد‭ ‬صنعته‭ ‬عُلَيَّة‭ ‬من‭ ‬شعرها‭ ‬لهذا‭ ‬الغرض‭:‬

منفصــلٌ‭ ‬عني‭ ‬ومـا

قلبــي‭ ‬عنه‭ ‬منفصـــلْ

يا‭ ‬قاطعي‭ ‬اليومَ‭ ‬لمنْ

نويتَ‭ ‬بعدي‭ ‬أن‭ ‬تَصِلْ

فطرب‭ ‬الرشيد‭ ‬ووقف‭ ‬مستقبلاً‭ ‬زبيدة‭ ‬وعُلَيَّة‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬السرور‭.‬

 

عُليَّة‭ ‬وإبراهيم‭ ‬

كان‭ ‬إبراهيم‭ ‬يتردد‭ ‬كثيراً‭ ‬على‭ ‬منزل‭ ‬أخته‭ ‬عُلَيَّة،‭ ‬وتروي‭ ‬المغنية‭ ‬عَرِيب‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬أحسن‭ ‬أيامها‭ ‬يومَ‭ ‬اجتمعت‭ ‬مع‭ ‬إبراهيم‭ ‬عند‭ ‬أخته‭ ‬عُليّة،‭ ‬وبحضور‭ ‬أخيهما‭ ‬يعقوب‭ ‬بن‭ ‬المهدي،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬أحذق‭ ‬الناس‭ ‬بالزمر‭. ‬فبدأت‭ ‬عُلَيَّة‭ ‬تغني‭ ‬من‭ ‬ألحانها‭ ‬وأخوها‭ ‬يعقوب‭ ‬يزمر‭. ‬ومما‭ ‬غنته‭ ‬آنذاك‭: ‬

تحبَّبْ‭ ‬فإن‭ ‬الحبَّ‭ ‬داعيةُ‭ ‬الحبِّ

وكم‭ ‬من‭ ‬بعيدِ‭ ‬الدار‭ ‬مستوجبُ‭ ‬القرب

ويروي‭ ‬الأصفهاني‭ ‬أن‭ ‬عُليَّة‭ ‬كانت‭ ‬تطارح‭ ‬أخاها‭ ‬إبراهيم‭ ‬الغناء،‭ ‬يوماً،‭ ‬خلف‭ ‬الستار،‭ ‬فسمعها‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬المأمون،‭ ‬ومنهم‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬الرشيد،‭ ‬الذي‭ ‬أخذ‭ ‬يميل‭ ‬طرباً‭. ‬فسأله‭ ‬المأمون‭: ‬‮«‬ما‭ ‬لكَ‭ ‬تميل؟‮»‬،‭ ‬فقال‭: ‬‮«‬إني‭ ‬سمعت‭ ‬شيئاً‭ ‬ما‭ ‬سمعت‭ ‬بمثله‮»‬،‭ ‬فقال‭ ‬له‭ ‬المأمون‭: ‬‮«‬هذه‭ ‬عمتك‭ ‬عُليَّة‭ ‬تطارح‭ ‬عمك‭ ‬إبراهيم‮»‬‭. ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬لأبي‭ ‬العتاهية،‭ ‬ولكن‭ ‬اللحن‭ ‬لحنها،‭ ‬ومما‭ ‬غنَّته‭:‬

مالي‭ ‬أرى‭ ‬الأبصارَ‭ ‬بي‭ ‬جافيةْ

لم‭ ‬تلتفت‭ ‬منِّي‭ ‬إلى‭ ‬ناحيةْ

لا‭ ‬ينظر‭ ‬الناسُ‭ ‬إلى‭ ‬المُبْتَلَى

وإنما‭ ‬الناس‭ ‬مع‭ ‬العافيةْ

صَحْبي‭ ‬سَلُوا‭ ‬ربَّكم‭ ‬العافية

فقد‭ ‬دهتني‭ ‬بعدَكم‭ ‬داهيةْ

لم‭ ‬تترك‭ ‬عُليَّة‭ ‬تـــــراثاً‭ ‬ثريــــاً‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬الشعر‭ ‬والغناء‭ ‬والموســيقى‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنــــما‭ ‬تركت‭ ‬أثراً‭ ‬مازال‭ ‬يُذكر‭ ‬لها‭ ‬إلى‭ ‬يوم‭ ‬الناس‭ ‬هذا،‭ ‬وهو‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬عُلــــيَّة‭ ‬عيبٌ،‭ ‬وهـــــو‭ ‬أن‭ ‬فــــي‭ ‬جبيــنها‭ ‬سعةً،‭ ‬فاتخذت‭ ‬العصائب‭ ‬المرصَّعة‭ ‬بالجواهر‭ ‬لتستر‭ ‬جبينها،‭ ‬فأحدثت‭ ‬بذلك‭ ‬شيئاً‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬ابتدعته‭ ‬النساء‭ ‬وأحدثته‭ ‬أحسن‭ ‬منه‭.‬

 

الخاتمة

كان‭ ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬المهدي‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬نبغ‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬الخلفاء‭ ‬العباسيين‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬الفن،‭ ‬وكان‭ ‬رائد‭ ‬حركة‭ ‬التجديد‭ ‬في‭ ‬الأغنية‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‭. ‬وترك‭ ‬تراثاً‭ ‬فنياً‭ ‬ثراً،‭ ‬أفادت‭ ‬منه‭ ‬أجيالٌ‭ ‬بعد‭ ‬أجيال‭. ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬أخته‭ ‬عُليَّة‭ ‬أول‭ ‬امرأة‭ ‬عربية‭ ‬بلغت‭ ‬هذا‭ ‬المستوى‭ ‬الرفيع‭ ‬في‭ ‬ميادين‭ ‬الفن‭. ‬وشكَّل‭ ‬تراث‭ ‬إبراهيم‭ ‬وعُليَّة‭ ‬صفحةً‭ ‬مشرقة،‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الفن‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الفن‭ ‬العربي‭ ‬عامةً‭ ‬