إبراهيم بن المهدي وأخته عُليَّة

شَغَفَ البيتُ العباسي بالآداب والفنون والعلوم، ولم يتجَلَّ هذا الشغفُ في رعاية هذه الميادين ورجالها وعقد المجالس العلمية وإنشاء المكتبات وجلب المخطوطات وتشجيع الترجمة فحسب، وإنما تجلَّى ذلك أيضاً في نبوغ عددٍ كبيرٍ من أبناء البيت العباسي نفسه في ميدان الشعر والغناء والموسيقى، فبعض الخلفاء قالوا شعراً، مثل هارون الرشيد (ت193هـ) وولديه الأمين (ت 198هـ) والمأمون (ت218هـ) وغيرهم، كما اشتهر عددٌ من الخلفاء بحسن أصواتهم وألحانهم والعزف على بعض آلات الطرب، فالخليفة الواثق بن المعتصم (ت232هـ) كان يضرب بالعود ويصنع الألحان ويتقن الغناء إتقاناً لم يسبق إليه خليفة، وكان الخليفة المنتصر بن المتوكل (ت247هـ) حسن العلم بالغناء والنغم ويقول الشعر، كما وضع الخليفتان المعتمد (ت 256هـ) والمعتضد (ت 279هـ) بعض الألحان، وكان الخليفة عبدالله بن المعتز (ت 295هـ) شاعراً ومغنياً ومؤلفاً لكتاب «الجامع في الغناء».
لم يتوقف النبوغ في البيت العباسي على الخلفاء فحسب، وإنما امتد ليشمل عدداً من أبنائهم وأحفادهم، أمثال: إبراهيم ابن الخليفة المهدي وأخته عُليَّة وعبدالله بن الهادي وأحمد بن الرشيد وعبدالله بن الأمين وعبدالله بن المتوكل وغيرهم. ومقالنا هذا يستهدف الحديث بإيجاز عن اثنين من هؤلاء الأبناء لمكانتهما المتميزة في تاريخ الفن العربي، وهما إبراهيم بن المهدي وأخته عُليَّة.
إبراهيم بن المهدي
يُكنَّى بأبي إسحق، وهو أخ غير شقيق للخليفة هارون الرشيد، ويُعَدُّ أول أبناء الخلفاء العباسيين الذين ذاع صيتهم في ميدان الشعر والغناء والموسيقى، وكان قد ولد في بغداد عام 162هـ - 779م، وأمه جارية سوداء، اسمها شَكلة، فجاء إبراهيم أسود اللون وضخم الجثة، حتى إنه لُقِّبَ بالتنين. وقبل أن نتناول تاريخه الفني، ينبغي أن نشير إلى أن إبراهيم خاض تجربة سياسية كادت تودي بحياته، وذلك عندما اختاره العباسيون في بغداد خليفةً سنة 201هـ، ولقبوه «المبارك»، وكان ذلك رداً على تعيين الخليفة المأمون - الذي كان لايزال مقيماً في خراسان- علي الرضا ولياً للعهد. وظل إبراهيم خليفة حتى وصل المأمون إلى بغداد سنة 204هـ، وانتهى الأمر بأن عفا الخليفة عن عمه إبراهيم، الذي غدا من أعز ندماء مجلسه.
كان إبراهيم بن المهدي موهوباً في الشعر والغناء والموسيقى، ولم يكن من الصعوبة تنمية هذه المواهب وتطويرها آنذاك، لأن العصر الذي عاش فيه كان يشجِّع هذه الفنون، كما أن المدينة التي نشأ فيها، وهي بغداد، كانت تغني في أيامه على أنغام كبار الفنانين، أمثال إبراهيم الموصلي وابنه إسحق، وكانت، أيضاً، ساحة لتفاعل الثقافات العربية - الإسلامية والفارسية والهندية واليونانية. ولا شك في أن إبراهيم قد أفاد من كل هذه العوامل ليغدو - كما قال الأصفهاني (ت356هـ - 976م) في «الأغاني» - «أديباً، شاعراً، راويةً للشعر وأيام العرب، وأعلم الناس بالنغم والوتر والإيقاعات، وأطبَعهم في الغناء وأحسنهم صوتاً». وأكَّد هذه الحقيقة ابن خلكان في «الوفيات» بقوله: «كان لإبراهيم بن المهدي اليد الطولى في الغناء والضرب على العود وحسن المنادمة ولم يُرَ في أولاد الخلفاء قبله أفصح منه لِسَاناً ولا أحسن منه شِعراً».
كان إبراهيم بن المهدي في أول أمره، وهو ابن الأسرة الحاكمة، يغني وراء ستار «تصوُّناً وترفُّعاً»، وكان إذا صنع شيئاً، في الغناء أو التلحين، نسبه إلى مغنِّين آخرين «حتى لا يناله شيءٌ من الطعن أوالتقريع»، ولهذا قلَّت، في البدايات، أغانيه وألحانه في أيدي الناس (على كثرتها). ولكن موقفه هذا لا يدل على عدم ثقته بنفسه، بل كان يقول: «لولا أني أُرَفِّع نفسي عن هذه الصناعة (أي الغناء) لأظهرت فيها ما يعلمُ الناسُ أنَّهم لم يروا قبلي مثلي».
ومن ناحية أخرى، لم يكن إبراهيم يغنّي في الأماكن العامة للحصول على المكاسب المادية، وإنما كان يقول دائماً: «إنما أصنعُ ذلك تَطَرباً لا تكسباً وأغني لنفسي لا للناس، فأعمل ما أشتهي». ولهذا كله فقد اقتصر غناؤه، غالباً، على مجالس أخيه الرشيد وأولاد أخيه وأخته عُليَّة. وكان يتم ذلك بناءً على طلبهم، بل وإلحاحهم أحياناً.
يُعَدُّ إبراهيم بن المهدي رائد حركة التجديد في الأغنية العربية في العصر العباسي، حيث لم يتقيد بكل القواعد التي كانت تُراعى في الغناء القديم، بل كان يحذف أنغام الكثير من الأغاني ويخففها بما يتفق مع أدائه. وكان يقول إذا نقده أحد على ذلك: «أنا ملك وابن ملك، أغنّي كما أشتهي». وسار على نهجه عددٌ كبيرٌ من الفنانين آنذاك أمثال مُخارق والمغنية زرياب الواثقية وشارِية ورَيِّق وغيرهم.
في حين كان يرأس التيار التقليدي إسحق الموصلي، الذي كان يرفض أي تغيير في الغناء القديم، بل و«يعظِّم الإقدامَ على ذلك». وسار على نهجه عديد من المغنَّين. وقد أفنى إبراهيم وإسحق عمريهما وهما يتجادلان في مسألة التجديد والتقليد دون أن يحسم أحدهما الأمر لمصلحته.
قالوا في إبراهيم
وقد شهِدَ على نبوغ إبراهيم في ميدان الفن كبار معاصريه، وفي مقدمتهم منافسه إسحق الموصلي، حيث قال: «ليس فيمن يدَّعي العلم بالغناء مثل إبراهيم بن المهدي». وتروي المصادر أن النَّاس كانوا إذا سمعوا إبراهيم يتنحنح «يطربون». بل لم يُطرب إبراهيم البشر فحسب، وإنما أطرب الحيواناتِ أيضاً، فيروي الأصفهاني واقعةً، فحواها أن إبراهيم بن المهدي اصطحب أخاه المنصور لزيارة الخليفة الأمين، وتصادف أن الأخير كان في حظيرة حيواناته، وعندما أبصر إبراهيمُ الخليفةَ من بعيد، أخرجَ عوداً واندفع يغني، وطَرِبَ الأمين طرباً شديداً، وقال له: «أحسنتَ والله يا عم». أما أخوه المنصور فقال: «لقد رأيتُ وقتذاك شيئاً عجيباً لو أن أحداً حدَّثني به لما صدَّقت، وهو أنه عندما بدأ إبراهيم يغني أصغت الحيواناتُ جميعاً إليه ومدَّت أعناقها وأخذت تدنو منَّا حتى كادت تضع رؤوسها على المكان الذي كنا نجلس عليه، وعندما توقَّف إبراهيم عن الغناء نفَرَت وبَعُدت عنا».
ويشيد قاضي بغداد آنذاك، أحمد بن أبي دواد، بنبوغ إبراهيم بن المهدي، فيقول إنه كان يهاجم الغناء ويعدُّه عيباً ويطعن على أهله، ولكنه عندما سمع إبراهيم يغني في مجلس الخليفة المعتصم (ت 227هـ)، ذُهل مما سمعه، وقال: «بلغ بي الطربُ مما يبلغني عن غيري فأنكره». وتوقَّف عن مهاجمة الغناء منذ ذلك اليوم. كما يشهد العالم محمد بن موسى بن شاكر على أن إبراهيم بن المهدي أحسن الناس كلهم غناءً، ويدلِّل على ذلك أنه كان شاهد عيان في مجالس الخلفاء التي كان يغني فيها إبراهيم، ويقول إنه عندما كان صوت إبراهيم يدوِّي في المجلس لا يبقى أحدٌ في قصر الخليفة من الغلمان والقائمين بالخدمة وأصحاب الصناعات والمهن، الصغار والكبار، إلا وتركَ ما في يده واقترب إلى أقرب موضعٍ يمكنه أن يسمعه. فلا يزال مصغياً ولاهياً عمَّا كان فيه ما دام يغني، فإذا توقَّف إبراهيم عن الغناء وأخذ غيره يغني، رجع كلٌّ منهم إلى عمله ولا يلتفت إلى ما يسمعه. وهل هناك برهانٌ أقوى من مثل هذه الشهادة على مكانة إبراهيم الفنية؟
من أغاني إبراهيم
لقد غنّى إبراهيم من شعره بين يدي المأمون عندما عفا عنه، قائلاً:
ذهَبتُ من الدُّنيا كما ذهَبَتْ مني
هوى الدهرُ بي عنها وأهوى بها عني
فإن أبْكِ نفسي أبْك نفساً عزيزةً
وإن أحتسِبْها أَحتسِبْها على ضَنِّ
فقال له المأمون: «أحسنتَ والله يا أمير المؤمنين»، فقام إبراهيم رهبةً من ذلك، وقال: «قتلتني واللهِ يا أمير المؤمنين، لا والله لن أجلسَ حتى تسميني باسمي». قال المأمون: «اجلس يا إبراهيم».
وغنّى إبراهيم، وهو يعزف على العود في مجلس الرشيد، من قصيدةٍ للشاعر جرير، التي يقول فيها:
أهواكِ فوقَ هوى النفوس ولم يزل
مذ بِنْتِ قلبي كالجناحِ الخافق
كما غنّى إبراهيم بناءً على طلب أخيه الرشيد، وبحضور الوزير جعفر البرمكي، من قصيدة للدارمي، التي يقول فيها:
كأن صورتَها في الوصف إذا وُصِفَتْ
دينارُ عَيْنٍ (أي ذهب) من المصريَّةِ العُتُقِ
أو دُرَّةٌ أعيت الغوَّاصَ في صَدَفٍ أو
ذَهَبٌ صاغه الصَّواغُ في وَرِقِ (أي الفضة)
وغنّى إبراهيم بن المهدي من شعر إسحق الموصلي وألحانه، ومما جاء من ذلك:
قل لَمِنْ صَدَّ عاتِبا
ونأى عنك جانبا
قد بَلغتَ الذي أرَدْ
تَ إن كنتَ لاعبا
واعترفنا بما ادعيـ
ـتَ وإن كنت كاذبا
فافعل الآن ما أرد
تَ فقد جئت تائبا
لم يكن إبراهيم بن المهدي - كما أشرنا - مغنياً وملحناً وضارباً على العود فحسب، وإنما كان شاعراً مجيداً، فقد بَعث بقصيدةٍ إلى الخليفة المأمون يشكره على العفو عنه، ومما جاء فيها:
ما إن عصيتُك والغواةُ تَمـدُّني
أسبابها إلا بنيّة طائــــــــــــــِعِ
لم أدرِ أن لمثل ذنبي غافــــراً
فأقمت أرقب أي حتفٍ صارعي
رد الحياةَ إليَّ بعد ذهابــــــــها
وَرَعُ الإمام القاهر المتواضـــعِ
إن الذي قَسَمَ الفضائل حازهـا
في صلب آدم للإمام السابــــــعِ (أي المأمون)ٍ
وعفوتَ عمن لم يكن عن مِثْلِه
عَفْوٌ ولَمْ يَشْفَعْ بشافعِ
حقيقةً لقد فَقَدَ إبراهيم بن المهدي منصب الخلافة، ولكنه غدا علماً من أعلام الفن العربي، ومثله في ذلك مثل الأمير خالد بن يزيد الذي حُرمَ من الخلافة الأموية، لكنَّه أصبح مؤسِّساً لعلم الكيمياء في الحضارة العربية الإسلامية.
عُلَيَّة بنت المهدي
ما اجتمع في الجاهلية والإسلام أخ وأخت أحسنُ غناء من إبراهيم بن المهدي وعُلَيَّة أخته.
وهي ابنة الخليفة المهدي، وأمها جارية اسمها مكنونة. ولدت عُلَيَّة عام 160هـ - 775م. وكان زوجها من البيت العباسي، وهو موسى بن عيسى. وتوفيت سنة 210هـ - 825م.
تُجمِع المصادر على أن عُلَيَّة كانت بارعة في الشعر والغناء واختراع الألحان. ويقول صاحب «الأغاني»: «كانت عُلَيَّة من أحسن الناس وأظرفهم، تقول الشعر الجيد وتصوغ فيه الألحان الحسنة». وقد بلغت ألحانُها نحو ثلاثة وسبعين لحناً. وغنَّت عُلَيَّة من شعرها وشعر أخيها الرشيد وشعر أبي العتاهية وغيرهما. ولم تُغنِّ عُلَيَّة إلا بحضرة إخوتها وأبنائهم.
عُلَيَّة والرشيد
كانت عُلَيَّة تحب أخاها الرشيد حباً عميقاً، كما كان الرشيد يبادلها المحبة نفسها، ويبدو أنَّ عُلَيَّة توقفت فترةً عن الغناء بعد وفاة الرشيد حزناً عليه. ويروي الأصفهاني أنَّ الرشيد زارها في منزلها ذاتَ يوم، وقال لها: «بالله يا أختي غنيني». فقالت: «وحياتك لأعملنَّ فيكَ شعراً ولأعملنَّ فيه لحناً». فقالت:
تفديك أُختُك قد حَبَوْت بنعمة
لسنا نَعُدُّ لها الزمان عديــلا
إلا الخلودَ، وذاك قُربُك سيِّدي
لازال قربُك والبقاءُ طويــلا
وحَمِدتُ ربي في إجابة دعوتي
فرأيتُ حمدي عند ذاك قليلا
وكانت عُليَّة تستخدم مواهبها الفنية لاسترضاء أخيها الرشيد إذا غضب منها أو في إعادة الوئام بينه وبين زوجته زبيدة. فقد شَكَت زُبيدة إلى عُلَيَّة من فعل قام به الرشيد، فوضعت عُلَيَّة شعراً، وصاغت فيه لحناً جميلاً ودرَّبت جواريها عليه، ثم خرجت جواري القصر جميعاً، ومعهن عُلَيَّة وزُبيدة، إلى حيث يجلس الرشيد، وهن يغنّينَ بصوتٍ ولحنٍ واحد صنعته عُلَيَّة من شعرها لهذا الغرض:
منفصــلٌ عني ومـا
قلبــي عنه منفصـــلْ
يا قاطعي اليومَ لمنْ
نويتَ بعدي أن تَصِلْ
فطرب الرشيد ووقف مستقبلاً زبيدة وعُلَيَّة وهو في غاية السرور.
عُليَّة وإبراهيم
كان إبراهيم يتردد كثيراً على منزل أخته عُلَيَّة، وتروي المغنية عَرِيب أن من أحسن أيامها يومَ اجتمعت مع إبراهيم عند أخته عُليّة، وبحضور أخيهما يعقوب بن المهدي، الذي كان أحذق الناس بالزمر. فبدأت عُلَيَّة تغني من ألحانها وأخوها يعقوب يزمر. ومما غنته آنذاك:
تحبَّبْ فإن الحبَّ داعيةُ الحبِّ
وكم من بعيدِ الدار مستوجبُ القرب
ويروي الأصفهاني أن عُليَّة كانت تطارح أخاها إبراهيم الغناء، يوماً، خلف الستار، فسمعها من كان في مجلس المأمون، ومنهم أحمد بن الرشيد، الذي أخذ يميل طرباً. فسأله المأمون: «ما لكَ تميل؟»، فقال: «إني سمعت شيئاً ما سمعت بمثله»، فقال له المأمون: «هذه عمتك عُليَّة تطارح عمك إبراهيم». ويبدو أن الشعر لأبي العتاهية، ولكن اللحن لحنها، ومما غنَّته:
مالي أرى الأبصارَ بي جافيةْ
لم تلتفت منِّي إلى ناحيةْ
لا ينظر الناسُ إلى المُبْتَلَى
وإنما الناس مع العافيةْ
صَحْبي سَلُوا ربَّكم العافية
فقد دهتني بعدَكم داهيةْ
لم تترك عُليَّة تـــــراثاً ثريــــاً في ميدان الشعر والغناء والموســيقى فحسب، وإنــــما تركت أثراً مازال يُذكر لها إلى يوم الناس هذا، وهو أنه كان في وجه عُلــــيَّة عيبٌ، وهـــــو أن فــــي جبيــنها سعةً، فاتخذت العصائب المرصَّعة بالجواهر لتستر جبينها، فأحدثت بذلك شيئاً لم يكن في ما ابتدعته النساء وأحدثته أحسن منه.
الخاتمة
كان إبراهيم بن المهدي أول من نبغ من أبناء الخلفاء العباسيين في ميدان الفن، وكان رائد حركة التجديد في الأغنية العربية في العصر العباسي. وترك تراثاً فنياً ثراً، أفادت منه أجيالٌ بعد أجيال. كما كانت أخته عُليَّة أول امرأة عربية بلغت هذا المستوى الرفيع في ميادين الفن. وشكَّل تراث إبراهيم وعُليَّة صفحةً مشرقة، لا في تاريخ الفن في العصر العباسي فحسب، وإنما في تاريخ الفن العربي عامةً ■