على ضفاف الألم بين عائشة وفدوى
تتنوع مصادر الألم، وتتجذر في عروق السير الذاتية النسائية، حتى يصح أن نقول إن الألم قوام السيرة الذاتية النسائية، وذلك على نمط من قول عبدالرحمن صدقي - الناظر فيه لفلسفة الألماني فريدريش نيتشه: «الألم قوام الحياة، ولا يعرف الحياة من لا يعرف الألم»، إنه يرى أن الإنسان مادام صاحب إرادة، يشعر بها في نفسه، فكل عقبة تقف في طريق هذه الإرادة أو تعرقلها، تُحدث ألمًا، وتترك في النفوس مضضًا، وعند زوال الألم نشعر بما نسميه سعادة، وكأن السعادة ما هي إلا غيبة الألم، ولأنه لا حياة من غير إرادة تستتبع السعي، والصراع والألم، فالذي يخلص من ذلك أن «الألم قوام الحياة».
وكما كان الإحساس بالألم نصيباً مفروضاً, يؤدي دوره في توجيه السيرة الذاتية إلى وجهتها الخاصة, ويسهم بفاعلية في بناء عناصر الحكاية السردية, كان الألم أيضاً دافعاً مشتركاً, وباعثاً رئيساً لكتابة السيرة الذاتية النسائية.
عائشة عبدالرحمن «على الجسر»
تقف بنت الشاطئ عائشة عبدالرحمن (1916 - 1998) في مستهل السرد - على الجسر بين الحياة والموت احائرة ضائعة في أثر الذي رحلب, تسترجع بيقظة مروعة ومرهفة, خطوته الأخيرة على المعبر, ثم تستعيد لحظة النهاية المفجعة لرحيل الزوج (الشيخ أمين الخولي، ت. 1966) بأداء شاعري بالغ الرهافة, وهي اللحظة التي تحكم حركة السرد منذ البدء, وإلى الختام المعنون بـ اعود على بدءب, حتى يمكن نعت السيرة بأنها سيرة رثائية أو مرثية سردية, أرادت بها تخليد قصتهما معاً, تلك التي ما سمع الزمان بمثلها من قبل - على حد تعبيرها - وكأنها سعت إلى أن تقيم ضريحاً باذخاً بالكلمات, يعادل ضريح اتاج محلب جوهرة العمارة الهندية, الذي جاء تقديراً سخياً من الملك شاه جهان لزوجته المحبوبة... تقول بنت الشاطئ:
اأستعيد المشهد الفاجع للزائر المرهوب.. ألمّ بدارنا مقنعاً مستخفياً, لا تراه عين ولا يدركه حس، فلم يتلبث غير لحظة خاطفة.. أنجز فيها مهمته بأسرع من لمح البصر، وأسدل قناعه الحزين على الجسد الراقد: ملاءة رقيقة بيضاء.. ما أهونها حاجزا بين الحياة والموت!
وإن لم يعرف الأحياء ما يدانيها كثافة وصلابة, وغلظاً وثقلاً..ب.
تضافرت االلحظة الخاطفةب مع االمشهد الفاجعب؛ لتكوين مركز الانطلاق نحو سرد استعاديّ, امتد إلى نحو خمسة وعشرين عاماً, هي جملة الطفولة واليفاعة والشباب, من عمر الساردة/ الراثية, واستغرق ستة فصول (قبل أن نلتقي - في الطريق إليه - في منطقة الضباب - ظلال وأضواء - موعدي معه - اللقاء), تدفق خلالها سرد موغل في التاريخ الشخصي, كاشفاً عن تكوين نفسي وفكري, قارّ في ذاكرة متوهجة, تستعيد خطوات المكابدة والمجاهدة, والآلام, على درب التحصيل والتعليم, وكيف واجهت عوامل الحظر واالحجزب, والرقابة بإرادة نحّات ماضية.
إنها تعود إلى الطفولة الباكرة؛ لتتقصّى في آثار خطاها علامات الطريق إلى الزوج الراحل, تنطلق من زمن السرد الحاضر (والمستمر) إلى زمن الحدث الماضي, ثم تعود من جديد إلى اللحظة ذاتها التي بدأت منها, فيطوي الزمن السردي الزمنين معا أو الفعلين، فعل الاستعادة, وفعل الكتابة, بوصفهما حالتين فاعلتين في آن واحد. والخيوط - سواء الخفية أو الظاهرة - التي تمسك بالسرود المتلاحقة هي خيوط الشجن المرّ, والحزن, والمأساة, ونجد لهذه الخيوط جذورا أشبه بالأسطورة, حين تفتح الإدراك - أول ما تفتح - في عامها الخامس على أفق شجي حزين يتصل بما عرفته عن غرق والدة أمها في النهر الذي تتعلق به وتحبه حباً جماً, على الرغم من كل ما يحتويه - في ذهن الطفلة - من أرواح وأشباح.
ولم تخل فترة التكوين - على شدتها وصرامة قيودها - من أن يخامر نفس الطفلة قدر من الزهو, حين تتعلم ما لا يتاح لغيرها من الأتراب والصواحب, فبالإضافة إلى الكتّاب في ساعات الصباح, كان هناك إلزام في ساعات الأصيل أن تحضر مجلس الأب مع شيوخ المعهد الديني, ثم تألف القيود, فتقبل على العلم بكل طاقتها, فهي الموهوبة لعلوم الإسلام, من قِبَل عالم متصوف, ورع, تحتفظ له بتقدير بالغ.
أما السرود المتعلقة بالمدارس, فهي سرود مطولة, تتراءى فيها المواجهة بين إرادتين، إرادة الأب الأزهري المتصوف, المحافظ الذي يرى االمدارس فاسدة مفسدةب, وإرادة البنت الصغيرة التي تعضدها الأم والجَدّ, في التطلع الدائم إلى اللحاق بالآفاق الجديدة, والطموح المقرون بالتحدي, كما يتراءى فيها درب العلم والتحصيل، درباً وسيعاً من الآلام والمشاق, والمكابدات. فلم يتحقق الالتحاق بالمدرسة الأميرية للبنات إلا بعد أن اعتراها االذبول والشرود والانطواءب, فتمت الموافقة المشروطة.
وترك الإصرار على الالتحاق بالمدرسة الراقية إصابة أقعدت الجَدّ كسيحاً, بعد أن ألقت به على الأرض دابة مسرعة, على أثر مجادلة حادة مع والدها حول الأمر, وخلّف شعوراً مرهقاً بعقدة الذنب لدى بنت العاشرة. وتطلب الالتحاق بمدرسة المعلمات أن تقهر شعوراً عميقاً بالخوف من والدها, وإمساكاً عن الطعام, حتى خيف عليها من الموت, واقتضى سفراً شاقاً, وغربة وشبح ضياع, ووحدة ألفت فيها عواء الذئاب في جوف الليل, وصدامات وهزات عنيفة, ترتب على كل ذلك أن أصيبت بانهيار عصبي اأعيا الرقاة والأساة دواؤهب؛ لكنها تماسكت من أجلها:
اأمي هي التي كانت شقية بمحنتي, وقد تضاعف همّـــي بشقائـــها, فـــإذا بنا مـــعاً, فــــي دوامة من العذاب! ومن أجلها تــمـــاسكــت! ولأجلها رحت ألتمس منفذاً عبر الطريق المسدود, بعد أن أراحني اليأس من هم التطلع والطموح..ب.
ولا تتوقف متوالية الآلام, عند امتحان الثانوية؛ بل تستمر - طول الطريق - حتى الالتحاق بالجامعة عام 1935؛ لكن المتوالية المؤلمة كانت محفوفة بإشراق وجداني خاص, ومدفوعة ابرؤيا المصحفب, ويقين راسخ - بحكم النشأة, وبيئة التصوف - بالارتباط بالقرآن الكريم اهدية السماءب, فامتد الخيط غير المرئي ابين ذلك الشوط الأول على شط النهرب, وما انتهى إليه طريقها العلمي حيث التتلمذ على يدي الأستاذ أمين الخولي, وتخصصها في دراسة النص القرآني.
ومن جانب آخر، تنطوي المتوالية الطويلة على رسالة بالغة, تتصل بطريق العلم والتحصيل, فدون مرتقاه أحوال وأهوال, وإرادة ماضية, وجهاد شاق, ينهض بالعزم الدؤوب روح الاستشراف لدى طالب علم, يستحضر دائماً ما وعى الإمام مالك بن أنس من وصية شيخه هرمز: اينبغي أن يورث العالم جلساءه قول: لا أدري, فإن العالم إذا أخطأ لا أدري, أصيبت مقاتله!ب.
مع الموت وجهاً لوجه
مع تلاحق هذه السرود التي يقودها الألم, وتستحضرها إلى الزمن الحاضر, لحظة الفقد االلحظة الخاطفةب, ويشكل معالمها االمشهد الفاجعب, يسترعي الانتباه أمران يتعلقان بأدبية السيرة, وعناصر الخطاب:
أولهما يتصل بالأثر الظاهر للمرثية, فكرة وتقاليد, في أدبية النص السيري لدى بنت الشاطئ, فالرثاء كان باعثاً للعودة إلى الطفولة لاستعادة ما لم يطوه النسيان, وكان السؤال جوهر هذه الاستعادة: اكيف سارت بي الحياة قبل أن ألقاه؟ب, وكانت العلة لاستيعاب فصول الاستعادة كامنة في قولها: األتقي بتلك الصبية التي حملت ملامحي الأولى, وأميز في آثار خطاها, تلك المرحلة التي أسلمتها إلى دربه من حيث لا تدري!ب, وكانت خواطر الرثاء بمنزلة افتتاحية أدبية لسيرة اعلى الجسرب, غلب عليها البكاء, ومشاعر الحزن والحيرة والضياع, وصدمة الفقد, والتفكر في فلسفة الموت اذلك الزائر المرهوبب, ثم يتداخل التأبين مع البكاء, ويتصفّى االراحل المقيمب من كل كدورة, حتى يعود روحاً هائمة في الوجود, وليس جسداً راقداً, أُسدلت عليه املاءة رقيقة بيضاءب, فلم يُذكر اسمه الصريح طوال الافتتاحية التي شغلت الصفحات العشر الأولى, وقام بمهمة الإشارة إليه ضمير الغائب؛ ليصل التجريد إلى مداه, والروحانية إلى أقصى درجاتها.
ويتوشح الفصل قبل الأخير, وعنوانه اثم مضى.. وبقيت!ب, بأجواء المرثية في فحواها العريق, فتصوّر فيه اللحظات الأخيرة من حياة الزوج أمين الخولي, ويعود المشهد الفاجع بكل عمقه وأبعاده, وتبرز أسئلة ما بعد الرحيل, والحيرة التي تتردد ما بين اليقين بالموت, وحدة الواقع الأسيف: اكيف مضى.. وبقيت؟ب, وتتآزر لإبراز المشهد مكونات المرثية, الإحساس بالفجيعة, والمفارقة, وتعديد صفات الفقيد, تقول: اورأيته بكل جلاله وشموخه وكبريائه وفتوته, يرحل عن الدنيا حين لم يعد له فيها على أرضنا مكان.. وشهدته بعيني مسجّى على فراشه, ليس بين حياته الدافئة الخصبة الفتية السخية, وهذا الموت الهامد, إلا نبضة من قلبه الكبير لم تستغرق جزءاً من ثانية, وخفقة من نفس واحد, لا يكفي لإطفاء عود ثقاب.. وعلى عيني, اقتحم ناس غرباء مخدعه؛ ليجهزوا جسده للرحلة الأخيرة.
وعلى عيني, حملوه من دارنا إلى غير عودة, ومضوا به إلى قريته اشوشايب في ريف المنوفية، فدفنوه في ترابها الذي جاء منه, وإليه كان المآب..ب.
أما الفصل الأخير, فجاء بعنوان ادنيانا بعدهب, وضم أربع مرثيات شعرية, وجميعها من بحر الرمل بموسيقاه الشجية, وتفعيلاته الرتيبة (فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن), وكأن االشجى يبعث الشجىب بتعبير متمم بن نويرة في رثاء أخيه امالك, والقصائد هي (رؤيا - بعد عام - كلمات للذكرى - عود على بدء), وتتحرك في المضمون نفسه, الشعور بوقع المحنة, والنظر في فلسفة الفناء والبقاء, والذكريات التي تود أن تستبقيها؛ لتؤنس وحشة الفراق إلى أن يلتئم الشمل مرة ثانية في عالم الروح. لكن بعد االلقاءب - وهو عنوان الفصل السادس - ينقطع السرد, وتطغى المراثي, وتحدث الفجوات السردية, فلا سرد لخطوات الزواج, ولا وقوف على صور من الحياة الزوجية, وكأن الشحنات العاطفية الشديدة, قد استنفدت طاقتها في تلك المراثي النثرية والشعرية, وكانت من الدلائل الفارقة على أدبية هذه السيرة الذاتية النسائية, ومن زاوية أخرى, كانت مراثي الزوج في اعلى الجسرب, معادلاً موضوعياً وفنياً - عزيز المنال في دنيانا الأدبية - لمراثي الزوجات - العزيزة بدورها - في تاريخ الأدب العربي.
أما الأمر الثاني، فيتصل بعناصر الخطاب السردي, حين تعتمد الساردة على المشهد, ليمثل الحركة السردية الأكثر ظهوراً في سيرة اعلى الجسرب, وفي المشهد يتساوى زمن الخطاب, وزمن الحدث بدرجة كبيرة, واكلما كان المشهد متطوراً, وأكثر تفصيلاً, يبدو السرد أكثر واقعية, ومن هنا فإن المشاهد الطويلة الغنية بالتفاصيل من مؤشرات الأسلوب الروائي, وأي سرد يكون فيه المشهد هو الشكل الأساسي للحركة, هو سرد ذو طبيعة روائية أو حكاية - بتعبير جيرار جينيتب.
وفي المثال التالي, ما يكشف عن دور المشهد في البناء السردي, وهو مشهد مستعاد من طوايا ذاكرة الطفولة, حيث الهزة العنيفة الأولى, على درب العلم والتحصيل, ويحوي لونين من الحوار: حوار خارجي (على لسان الأب), وحوار داخلي (منولوج), تدّخره الكاتبة/ الساردة/ البنت للتعليق على الحدث, ويتعاقب الحواران في تناغم ورهافة, ويترافقان مع أداء لغوي صاف, تحتشد له أوفى احتشاد:
اولاحظ والدي عليّ, أنني لا أكاد ألقي سمعي إلى ما يلقى علي من دروس, فلما سألني عما بي, تشجعت فصارحته بما يشوقني من الذهاب إلى المدرسة مع بنات الجيرة... فكأنني نطقت كفراً! وجاءني الرد, حازماً حاسماً:
اليس لبنات المشايخ العلماء أن يخرجن إلى المدارس الفاسدة المفسدة, وإنما يتعلمن في بيوتهنب.
وأمرني فتلوت سورة الأحزاب إلى قوله تعالى:
{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (سورة الأحزاب: 32 و33)
ولم أسأل والدي: وهل أكون من بيت النبوة؟ لعلمي أنه كان يعتز بنسبه الشريف, ويحتفظ بسلسلة آبائه إلى جده الإمام الحسين, ولد الزهراء رضي الله عنها وعنه.. وإنما أردت أن أسأله:
- اوهل بلغت مبلغ النساء؟
ثم تهيبت, فلذت بالصمت ...ب.
فدوى طوقان «رحلة جبلية.. رحلة صعبة»
يرافق الألم فدوى طوقان (1917 - 2003) في سيرتها ارحلة جبلية.. رحلة صعبةب, ويتوزع على مسارات عدة: مسار تحقيق الذات الإبداعية, وتكوين الهوية الشخصية, وهناك مسار الانعتاق من أسر القيود الاجتماعية, والتغلب على اصفعات الواقعب التي تستلب أحلامها وطموحاتها, وهناك مسار التحرر الوطني, ومجابهة وطأة المحتل الإسرائيلي الغاصب للأرض, ومقدرات الحياة عليها.
وفي الطريق ذاته, يرى خليل الشيخ أن مسألة الكتابة الإبداعية بشكــــل عام عــــند فدوى طوقان مســكونة بهاجسين متناقضين هما: االرغبة في البوح الذي يشكل في تجلياته صورة الذات بــــهويـــــتها المحددة, وأبــعادها الفنية, والخوف من الصراحة الذي يجعل من الإقدام على الاعتراف بالتجربة وتصــويرها لوناً من ألوان التعرية للذات في إطار اجتماعي شديد الحساسية, وبخاصة تجاه كتابات المرأةب.
غير أن الذي تلزم الإشارة إليه, هو ذلك الإحساس العام بالألم والعذاب, في سيرة فدوى بجزئيها ارحلة جبلية..ب واالرحلة الأصعبب, وهو إحساس تولّد بدءاً من نتيجة الاستبداد الاجتماعي, والقيود المفروضة على اجماعة الحريمب حتى أحالت واقعهم المعيش في ذلك االقمقم الحريميب إلى وجود هزيل قاتم مهين, وأحالت الإناث وهنَّ في زهرة الشباب إلى عجائز, واضحايا بلا شخصيةب, وما بين علامات التنصيص, أوصاف تتوالى في الجزء الأول من السيرة بشكل ملح مؤكد, وهكذا تستقر صورة بيت الطفولة والصبا والشباب المبكر سجناً موحشاً, يبعث في النفس الخوف والحرمان, ويحول بينها وبين الحرية والانطلاق والتحرك مع أشواق الحياة, والساردة لا تتردد في تشخيص احالتهاب تشخيصاً نفسياً, يستند إلى الاتجاهات الحديثة في التحليل النفسي, في تفسير العقد أو مركبات النقص التي تدفع الإنسان أحياناً إلى تصرفات انفعالية لاواعية, والسطور التالية كاشفة لهذه االبؤرةب المركزية من حياة الساردة/ الكاتبة, في أداء سردي يسمه السرديون اتبئيراً مسبقاً Prefocalizationب, وفيه يقدم السارد تصوراته باعتباره شخصية شاهدة على الأحداث أو مشاركة في صنعها (معجم مصطلحات نقد الرواية, ص 42), تقول فدوى:
اظلت عقد السجن كامنة في أعماقي, إن عقدنا الطفولية تتحكم بنا طوال حياتنا, يذهب الذين ولّدوها فينا, وتكرّ الأيام والأعوام, وتبقى هي في داخلنا قابعة هناك تحكمنا وتوجه خطواتنا... عدت أوغل في هجرتي النفسية, في الرحيل داخل الذات.. لقد أصبح الحزن منذ الآن هو العنصر الأساسي في حياتي, يربض في الأعماق وحشاً حزيناً متوحداً.
في تلك الأيام ظل البعد النفسي الذي يفصلني عن أبي شاسعاً, وظل الصمت هو لغتنا المشتركة التي عمقت ذلك البعد, لاسيما بعد تلك العاصفة الغاضبة التي أثارها في وجهي ساعة دخل الغرفة ذات يوم, ووجدني متلبسة بجرم تدخين السجائر... كنت أحياناً أفكر بالهرب بحثاً عن الخلاص من العذاب والألم, غير أنه كان لديّ رقة قلب بالغة تجاه شيخوخة أبي بالرغم من كل شيءب.
تنازعت حياة فدوى جملة من الدوائر المتداخلة من العوائق والمحظورات والآلام, وكل دائرة تسلم لأخرى, وهي تحضر بضمير ذاتي متطابق, إلى أقصى درجات التطابق (ذات الكاتبة = ذات الساردة = ذات الشخصية الرئيسة), ويمكن إجمال هذه الدوائر في التالي:
طفولة عليلة حزينة - طفلة بلا تاريخ ميلاد - الحرمان من رعاية الأم - الحب الموءود - الإقامة الجبرية في البيت/ العزلة - الكتابة باسم مستعار ومحاولات قهر الموهبة - الحرمان من المدرسة - موت إبراهيم طوقان والحرمان من عطف الأخ - فجيعة فقد العم حافظ.
استمرت هذه الدوائر في التأثير على الكاتبة تكويناً وتوجهاً, وملامح إبداع, بل ربما ألقت بظلالها على طبيعة السيرة الذاتية وحدودها, فلم يكن البوح شاملاً لكل الزوايا, ولم يكن الاعتراف وافياً, وجاء الميثاق الأوتوبيوغرافي للمقدمة صريحاً في إقراره: الم أفتح خزائن حياتي كلها..ب. وتطلب الخروج من معاناة االسجن الاجتماعيب, والتمرد على السجان العائلي, روحاً تتوق إلى إنجاز الأفضل, والتطلع نحو الآفاق الأرحب, كما تطلب الانعتاق من حياة القيود نضالاً وكفاحا دءوبين, بل إن الرحلة لم تخل من اعنف الكفاحب. والكاتبة تتوسل كثيراً بالتصوير للتعبير عما تريد, فقصة حياتها اهي قصة كفاح البذرة مع الأرض الصخرية الصلبة, إنها قصة الكفاح مع العطش والصخرب.
وهنا تلزم الإشارة أيضاً إلى أن هذه الآلام والعذابات لم تنفصل عن الهوية بحال, ومن أجل التعرف عليها كان الصبر على اللأواء والعسرة, وكان النضال الطويل, وكان إنجاز كتابة السيرة في هذه المرحلة من العمر (كان عمرها عند صدور الطبعة الأولى ثمانية وستين عاماً) تتويجاً لتحقق الهوية الفردية, وهي سبيل متصل بالهوية الجمعية (الأنا والآخر معا).
لقد اعتصمت طويلاً بالصمت فيما يخص حياتها, وكم شعرت بالنفور من الإجابة عن الأسئلة في هذا الاتجاه, إلى أن حانت اللحظة, لحظة الكتابة, والرحلة في طريقها إلى الاكتمال, واتضحت معالم الهوية.
إنها الحقيقة التي ينعكس نورها أمام السائرين في الدروب الصعبة, وقد خَلُصت فدوى إلى ذلك, وهي لاتزال في مفتتح الرحلة: اإن الكفاح من أجل تحقيق الذات يكفي لملء قلوبنا, وإعطاء حياتنا معنى وقيمة