على ضفاف الألم بين عائشة وفدوى

على ضفاف الألم بين عائشة وفدوى

تتنوع‭ ‬مصادر‭ ‬الألم،‭ ‬وتتجذر‭ ‬في‭ ‬عروق‭ ‬السير‭ ‬الذاتية‭ ‬النسائية،‭ ‬حتى‭ ‬يصح‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬الألم‭ ‬قوام‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬النسائية،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬نمط‭ ‬من‭ ‬قول‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬صدقي‭ - ‬الناظر‭ ‬فيه‭ ‬لفلسفة‭ ‬الألماني‭ ‬فريدريش‭ ‬نيتشه‭: ‬‮«‬الألم‭ ‬قوام‭ ‬الحياة،‭ ‬ولا‭ ‬يعرف‭ ‬الحياة‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬الألم‮»‬،‭ ‬إنه‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬مادام‭ ‬صاحب‭ ‬إرادة،‭ ‬يشعر‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬نفسه،‭ ‬فكل‭ ‬عقبة‭ ‬تقف‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬هذه‭ ‬الإرادة‭ ‬أو‭ ‬تعرقلها،‭ ‬تُحدث‭ ‬ألمًا،‭ ‬وتترك‭ ‬في‭ ‬النفوس‭ ‬مضضًا،‭ ‬وعند‭ ‬زوال‭ ‬الألم‭ ‬نشعر‭ ‬بما‭ ‬نسميه‭ ‬سعادة،‭ ‬وكأن‭ ‬السعادة‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬غيبة‭ ‬الألم،‭ ‬ولأنه‭ ‬لا‭ ‬حياة‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬إرادة‭ ‬تستتبع‭ ‬السعي،‭ ‬والصراع‭ ‬والألم،‭ ‬فالذي‭ ‬يخلص‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الألم‭ ‬قوام‭ ‬الحياة‮»‬‭. ‬

وكما‭ ‬كان‭ ‬الإحساس‭ ‬بالألم‭ ‬نصيباً‭ ‬مفروضاً‭, ‬يؤدي‭ ‬دوره‭ ‬في‭ ‬توجيه‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬إلى‭ ‬وجهتها‭ ‬الخاصة‭, ‬ويسهم‭ ‬بفاعلية‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬عناصر‭ ‬الحكاية‭ ‬السردية‭, ‬كان‭ ‬الألم‭ ‬أيضاً‭ ‬دافعاً‭ ‬مشتركاً‭, ‬وباعثاً‭ ‬رئيساً‭ ‬لكتابة‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬النسائية‭. ‬

 

عائشة‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬‮«‬على‭ ‬الجسر‮»‬

تقف‭ ‬بنت‭ ‬الشاطئ‭ ‬عائشة‭ ‬عبدالرحمن‭ (‬1916‭ - ‬1998‭) ‬في‭ ‬مستهل‭ ‬السرد‭ - ‬على‭ ‬الجسر‭ ‬بين‭ ‬الحياة‭ ‬والموت‭ ‬احائرة‭ ‬ضائعة‭ ‬في‭ ‬أثر‭ ‬الذي‭ ‬رحلب‭, ‬تسترجع‭ ‬بيقظة‭ ‬مروعة‭ ‬ومرهفة‭, ‬خطوته‭ ‬الأخيرة‭ ‬على‭ ‬المعبر‭, ‬ثم‭ ‬تستعيد‭ ‬لحظة‭ ‬النهاية‭ ‬المفجعة‭ ‬لرحيل‭ ‬الزوج‭ (‬الشيخ‭ ‬أمين‭ ‬الخولي،‭ ‬ت‭. ‬1966‭) ‬بأداء‭ ‬شاعري‭ ‬بالغ‭ ‬الرهافة‭, ‬وهي‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬حركة‭ ‬السرد‭ ‬منذ‭ ‬البدء‭, ‬وإلى‭ ‬الختام‭ ‬المعنون‭ ‬بـ‭ ‬اعود‭ ‬على‭ ‬بدءب‭, ‬حتى‭ ‬يمكن‭ ‬نعت‭ ‬السيرة‭ ‬بأنها‭ ‬سيرة‭ ‬رثائية‭ ‬أو‭ ‬مرثية‭ ‬سردية‭, ‬أرادت‭ ‬بها‭ ‬تخليد‭ ‬قصتهما‭ ‬معاً‭, ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬سمع‭ ‬الزمان‭ ‬بمثلها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ - ‬على‭ ‬حد‭ ‬تعبيرها‭ - ‬وكأنها‭ ‬سعت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تقيم‭ ‬ضريحاً‭ ‬باذخاً‭ ‬بالكلمات‭, ‬يعادل‭ ‬ضريح‭ ‬اتاج‭ ‬محلب‭ ‬جوهرة‭ ‬العمارة‭ ‬الهندية‭, ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬تقديراً‭ ‬سخياً‭ ‬من‭ ‬الملك‭ ‬شاه‭ ‬جهان‭ ‬لزوجته‭ ‬المحبوبة‭... ‬تقول‭ ‬بنت‭ ‬الشاطئ‭:‬

اأستعيد‭ ‬المشهد‭ ‬الفاجع‭ ‬للزائر‭ ‬المرهوب‭.. ‬ألمّ‭ ‬بدارنا‭ ‬مقنعاً‭ ‬مستخفياً‭, ‬لا‭ ‬تراه‭ ‬عين‭ ‬ولا‭ ‬يدركه‭ ‬حس،‭ ‬فلم‭ ‬يتلبث‭ ‬غير‭ ‬لحظة‭ ‬خاطفة‭.. ‬أنجز‭ ‬فيها‭ ‬مهمته‭ ‬بأسرع‭ ‬من‭ ‬لمح‭ ‬البصر،‭ ‬وأسدل‭ ‬قناعه‭ ‬الحزين‭ ‬على‭ ‬الجسد‭ ‬الراقد‭: ‬ملاءة‭ ‬رقيقة‭ ‬بيضاء‭.. ‬ما‭ ‬أهونها‭ ‬حاجزا‭ ‬بين‭ ‬الحياة‭ ‬والموت‭!‬

وإن‭ ‬لم‭ ‬يعرف‭ ‬الأحياء‭ ‬ما‭ ‬يدانيها‭ ‬كثافة‭ ‬وصلابة‭, ‬وغلظاً‭ ‬وثقلاً‭..‬ب‭.‬

تضافرت‭ ‬االلحظة‭ ‬الخاطفةب‭ ‬مع‭ ‬االمشهد‭ ‬الفاجعب؛‭ ‬لتكوين‭ ‬مركز‭ ‬الانطلاق‭ ‬نحو‭ ‬سرد‭ ‬استعاديّ‭, ‬امتد‭ ‬إلى‭ ‬نحو‭ ‬خمسة‭ ‬وعشرين‭ ‬عاماً‭, ‬هي‭ ‬جملة‭ ‬الطفولة‭ ‬واليفاعة‭ ‬والشباب‭, ‬من‭ ‬عمر‭ ‬الساردة‭/ ‬الراثية‭, ‬واستغرق‭ ‬ستة‭ ‬فصول‭ (‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نلتقي‭ - ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬إليه‭ - ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الضباب‭ - ‬ظلال‭ ‬وأضواء‭ - ‬موعدي‭ ‬معه‭ - ‬اللقاء‭), ‬تدفق‭ ‬خلالها‭ ‬سرد‭ ‬موغل‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الشخصي‭, ‬كاشفاً‭ ‬عن‭ ‬تكوين‭ ‬نفسي‭ ‬وفكري‭, ‬قارّ‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬متوهجة‭, ‬تستعيد‭ ‬خطوات‭ ‬المكابدة‭ ‬والمجاهدة‭, ‬والآلام‭, ‬على‭ ‬درب‭ ‬التحصيل‭ ‬والتعليم‭, ‬وكيف‭ ‬واجهت‭ ‬عوامل‭ ‬الحظر‭ ‬واالحجزب‭, ‬والرقابة‭ ‬بإرادة‭ ‬نحّات‭ ‬ماضية‭. ‬

  ‬إنها‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬الطفولة‭ ‬الباكرة؛‭ ‬لتتقصّى‭ ‬في‭ ‬آثار‭ ‬خطاها‭ ‬علامات‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬الزوج‭ ‬الراحل‭, ‬تنطلق‭ ‬من‭ ‬زمن‭ ‬السرد‭ ‬الحاضر‭ (‬والمستمر‭) ‬إلى‭ ‬زمن‭ ‬الحدث‭ ‬الماضي‭, ‬ثم‭ ‬تعود‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬إلى‭ ‬اللحظة‭ ‬ذاتها‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬منها‭, ‬فيطوي‭ ‬الزمن‭ ‬السردي‭ ‬الزمنين‭ ‬معا‭ ‬أو‭ ‬الفعلين،‭ ‬فعل‭ ‬الاستعادة‭, ‬وفعل‭ ‬الكتابة‭, ‬بوصفهما‭ ‬حالتين‭ ‬فاعلتين‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد‭. ‬والخيوط‭ - ‬سواء‭ ‬الخفية‭ ‬أو‭ ‬الظاهرة‭ - ‬التي‭ ‬تمسك‭ ‬بالسرود‭ ‬المتلاحقة‭ ‬هي‭ ‬خيوط‭ ‬الشجن‭ ‬المرّ‭, ‬والحزن‭, ‬والمأساة‭, ‬ونجد‭ ‬لهذه‭ ‬الخيوط‭ ‬جذورا‭ ‬أشبه‭ ‬بالأسطورة‭, ‬حين‭ ‬تفتح‭ ‬الإدراك‭ - ‬أول‭ ‬ما‭ ‬تفتح‭ - ‬في‭ ‬عامها‭ ‬الخامس‭ ‬على‭ ‬أفق‭ ‬شجي‭ ‬حزين‭ ‬يتصل‭ ‬بما‭ ‬عرفته‭ ‬عن‭ ‬غرق‭ ‬والدة‭ ‬أمها‭ ‬في‭ ‬النهر‭ ‬الذي‭ ‬تتعلق‭ ‬به‭ ‬وتحبه‭ ‬حباً‭ ‬جماً‭, ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحتويه‭ - ‬في‭ ‬ذهن‭ ‬الطفلة‭ - ‬من‭ ‬أرواح‭ ‬وأشباح‭.‬

  ‬ولم‭ ‬تخل‭ ‬فترة‭ ‬التكوين‭ - ‬على‭ ‬شدتها‭ ‬وصرامة‭ ‬قيودها‭ - ‬من‭ ‬أن‭ ‬يخامر‭ ‬نفس‭ ‬الطفلة‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬الزهو‭, ‬حين‭ ‬تتعلم‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يتاح‭ ‬لغيرها‭ ‬من‭ ‬الأتراب‭ ‬والصواحب‭, ‬فبالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬الكتّاب‭ ‬في‭ ‬ساعات‭ ‬الصباح‭, ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬إلزام‭ ‬في‭ ‬ساعات‭ ‬الأصيل‭ ‬أن‭ ‬تحضر‭ ‬مجلس‭ ‬الأب‭ ‬مع‭ ‬شيوخ‭ ‬المعهد‭ ‬الديني‭, ‬ثم‭ ‬تألف‭ ‬القيود‭, ‬فتقبل‭ ‬على‭ ‬العلم‭ ‬بكل‭ ‬طاقتها‭, ‬فهي‭ ‬الموهوبة‭ ‬لعلوم‭ ‬الإسلام‭, ‬من‭ ‬قِبَل‭ ‬عالم‭ ‬متصوف‭, ‬ورع‭, ‬تحتفظ‭ ‬له‭ ‬بتقدير‭ ‬بالغ‭.‬

أما‭ ‬السرود‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالمدارس‭, ‬فهي‭ ‬سرود‭ ‬مطولة‭, ‬تتراءى‭ ‬فيها‭ ‬المواجهة‭ ‬بين‭ ‬إرادتين،‭ ‬إرادة‭ ‬الأب‭ ‬الأزهري‭ ‬المتصوف‭, ‬المحافظ‭ ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬االمدارس‭ ‬فاسدة‭ ‬مفسدةب‭, ‬وإرادة‭ ‬البنت‭ ‬الصغيرة‭ ‬التي‭ ‬تعضدها‭ ‬الأم‭ ‬والجَدّ‭, ‬في‭ ‬التطلع‭ ‬الدائم‭ ‬إلى‭ ‬اللحاق‭ ‬بالآفاق‭ ‬الجديدة‭, ‬والطموح‭ ‬المقرون‭ ‬بالتحدي‭, ‬كما‭ ‬يتراءى‭ ‬فيها‭ ‬درب‭ ‬العلم‭ ‬والتحصيل،‭ ‬درباً‭ ‬وسيعاً‭ ‬من‭ ‬الآلام‭ ‬والمشاق‭, ‬والمكابدات‭. ‬فلم‭ ‬يتحقق‭ ‬الالتحاق‭ ‬بالمدرسة‭ ‬الأميرية‭ ‬للبنات‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اعتراها‭ ‬االذبول‭ ‬والشرود‭ ‬والانطواءب‭, ‬فتمت‭ ‬الموافقة‭ ‬المشروطة‭.‬

  ‬وترك‭ ‬الإصرار‭ ‬على‭ ‬الالتحاق‭ ‬بالمدرسة‭ ‬الراقية‭ ‬إصابة‭ ‬أقعدت‭ ‬الجَدّ‭ ‬كسيحاً‭, ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ألقت‭ ‬به‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬دابة‭ ‬مسرعة‭, ‬على‭ ‬أثر‭ ‬مجادلة‭ ‬حادة‭ ‬مع‭ ‬والدها‭ ‬حول‭ ‬الأمر‭, ‬وخلّف‭ ‬شعوراً‭ ‬مرهقاً‭ ‬بعقدة‭ ‬الذنب‭ ‬لدى‭ ‬بنت‭ ‬العاشرة‭. ‬وتطلب‭ ‬الالتحاق‭ ‬بمدرسة‭ ‬المعلمات‭ ‬أن‭ ‬تقهر‭ ‬شعوراً‭ ‬عميقاً‭ ‬بالخوف‭ ‬من‭ ‬والدها‭, ‬وإمساكاً‭ ‬عن‭ ‬الطعام‭, ‬حتى‭ ‬خيف‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬الموت‭, ‬واقتضى‭ ‬سفراً‭ ‬شاقاً‭, ‬وغربة‭ ‬وشبح‭ ‬ضياع‭, ‬ووحدة‭ ‬ألفت‭ ‬فيها‭ ‬عواء‭ ‬الذئاب‭ ‬في‭ ‬جوف‭ ‬الليل‭, ‬وصدامات‭ ‬وهزات‭ ‬عنيفة‭, ‬ترتب‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬أصيبت‭ ‬بانهيار‭ ‬عصبي‭ ‬اأعيا‭ ‬الرقاة‭ ‬والأساة‭ ‬دواؤهب؛‭ ‬لكنها‭ ‬تماسكت‭ ‬من‭ ‬أجلها‭:‬

‭ ‬اأمي‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬شقية‭ ‬بمحنتي‭, ‬وقد‭ ‬تضاعف‭ ‬همّـــي‭ ‬بشقائـــها‭, ‬فـــإذا‭ ‬بنا‭ ‬مـــعاً‭, ‬فــــي‭ ‬دوامة‭ ‬من‭ ‬العذاب‭! ‬ومن‭ ‬أجلها‭ ‬تــمـــاسكــت‭! ‬ولأجلها‭ ‬رحت‭ ‬ألتمس‭ ‬منفذاً‭ ‬عبر‭ ‬الطريق‭ ‬المسدود‭, ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أراحني‭ ‬اليأس‭ ‬من‭ ‬هم‭ ‬التطلع‭ ‬والطموح‭..‬ب‭.‬

  ‬ولا‭ ‬تتوقف‭ ‬متوالية‭ ‬الآلام‭, ‬عند‭ ‬امتحان‭ ‬الثانوية؛‭ ‬بل‭ ‬تستمر‭ - ‬طول‭ ‬الطريق‭ - ‬حتى‭ ‬الالتحاق‭ ‬بالجامعة‭ ‬عام‭ ‬1935؛‭ ‬لكن‭ ‬المتوالية‭ ‬المؤلمة‭ ‬كانت‭ ‬محفوفة‭ ‬بإشراق‭ ‬وجداني‭ ‬خاص‭, ‬ومدفوعة‭ ‬ابرؤيا‭ ‬المصحفب‭, ‬ويقين‭ ‬راسخ‭ - ‬بحكم‭ ‬النشأة‭, ‬وبيئة‭ ‬التصوف‭ - ‬بالارتباط‭ ‬بالقرآن‭ ‬الكريم‭ ‬اهدية‭ ‬السماءب‭, ‬فامتد‭ ‬الخيط‭ ‬غير‭ ‬المرئي‭ ‬ابين‭ ‬ذلك‭ ‬الشوط‭ ‬الأول‭ ‬على‭ ‬شط‭ ‬النهرب‭, ‬وما‭ ‬انتهى‭ ‬إليه‭ ‬طريقها‭ ‬العلمي‭ ‬حيث‭ ‬التتلمذ‭ ‬على‭ ‬يدي‭ ‬الأستاذ‭ ‬أمين‭ ‬الخولي‭, ‬وتخصصها‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭. ‬

  ‬ومن‭ ‬جانب‭ ‬آخر،‭ ‬تنطوي‭ ‬المتوالية‭ ‬الطويلة‭ ‬على‭ ‬رسالة‭ ‬بالغة‭, ‬تتصل‭ ‬بطريق‭ ‬العلم‭ ‬والتحصيل‭, ‬فدون‭ ‬مرتقاه‭ ‬أحوال‭ ‬وأهوال‭, ‬وإرادة‭ ‬ماضية‭, ‬وجهاد‭ ‬شاق‭, ‬ينهض‭ ‬بالعزم‭ ‬الدؤوب‭ ‬روح‭ ‬الاستشراف‭ ‬لدى‭ ‬طالب‭ ‬علم‭, ‬يستحضر‭ ‬دائماً‭ ‬ما‭ ‬وعى‭ ‬الإمام‭ ‬مالك‭ ‬بن‭ ‬أنس‭ ‬من‭ ‬وصية‭ ‬شيخه‭ ‬هرمز‭: ‬اينبغي‭ ‬أن‭ ‬يورث‭ ‬العالم‭ ‬جلساءه‭ ‬قول‭: ‬لا‭ ‬أدري‭, ‬فإن‭ ‬العالم‭ ‬إذا‭ ‬أخطأ‭ ‬لا‭ ‬أدري‭, ‬أصيبت‭ ‬مقاتله‭!‬ب‭.‬

 

مع‭ ‬الموت‭ ‬وجهاً‭ ‬لوجه

  ‬مع‭ ‬تلاحق‭ ‬هذه‭ ‬السرود‭ ‬التي‭ ‬يقودها‭ ‬الألم‭, ‬وتستحضرها‭ ‬إلى‭ ‬الزمن‭ ‬الحاضر‭, ‬لحظة‭ ‬الفقد‭ ‬االلحظة‭ ‬الخاطفةب‭, ‬ويشكل‭ ‬معالمها‭ ‬االمشهد‭ ‬الفاجعب‭, ‬يسترعي‭ ‬الانتباه‭ ‬أمران‭ ‬يتعلقان‭ ‬بأدبية‭ ‬السيرة‭, ‬وعناصر‭ ‬الخطاب‭: ‬

أولهما‭ ‬يتصل‭ ‬بالأثر‭ ‬الظاهر‭ ‬للمرثية‭, ‬فكرة‭ ‬وتقاليد‭, ‬في‭ ‬أدبية‭ ‬النص‭ ‬السيري‭ ‬لدى‭ ‬بنت‭ ‬الشاطئ‭, ‬فالرثاء‭ ‬كان‭ ‬باعثاً‭ ‬للعودة‭ ‬إلى‭ ‬الطفولة‭ ‬لاستعادة‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يطوه‭ ‬النسيان‭, ‬وكان‭ ‬السؤال‭ ‬جوهر‭ ‬هذه‭ ‬الاستعادة‭: ‬اكيف‭ ‬سارت‭ ‬بي‭ ‬الحياة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ألقاه؟ب‭, ‬وكانت‭ ‬العلة‭ ‬لاستيعاب‭ ‬فصول‭ ‬الاستعادة‭ ‬كامنة‭ ‬في‭ ‬قولها‭: ‬األتقي‭ ‬بتلك‭ ‬الصبية‭ ‬التي‭ ‬حملت‭ ‬ملامحي‭ ‬الأولى‭, ‬وأميز‭ ‬في‭ ‬آثار‭ ‬خطاها‭, ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬التي‭ ‬أسلمتها‭ ‬إلى‭ ‬دربه‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬تدري‭!‬ب‭, ‬وكانت‭ ‬خواطر‭ ‬الرثاء‭ ‬بمنزلة‭ ‬افتتاحية‭ ‬أدبية‭ ‬لسيرة‭ ‬اعلى‭ ‬الجسرب‭, ‬غلب‭ ‬عليها‭ ‬البكاء‭, ‬ومشاعر‭ ‬الحزن‭ ‬والحيرة‭ ‬والضياع‭, ‬وصدمة‭ ‬الفقد‭, ‬والتفكر‭ ‬في‭ ‬فلسفة‭ ‬الموت‭ ‬اذلك‭ ‬الزائر‭ ‬المرهوبب‭, ‬ثم‭ ‬يتداخل‭ ‬التأبين‭ ‬مع‭ ‬البكاء‭, ‬ويتصفّى‭ ‬االراحل‭ ‬المقيمب‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬كدورة‭, ‬حتى‭ ‬يعود‭ ‬روحاً‭ ‬هائمة‭ ‬في‭ ‬الوجود‭, ‬وليس‭ ‬جسداً‭ ‬راقداً‭, ‬أُسدلت‭ ‬عليه‭ ‬املاءة‭ ‬رقيقة‭ ‬بيضاءب‭, ‬فلم‭ ‬يُذكر‭ ‬اسمه‭ ‬الصريح‭ ‬طوال‭ ‬الافتتاحية‭ ‬التي‭ ‬شغلت‭ ‬الصفحات‭ ‬العشر‭ ‬الأولى‭, ‬وقام‭ ‬بمهمة‭ ‬الإشارة‭ ‬إليه‭ ‬ضمير‭ ‬الغائب؛‭ ‬ليصل‭ ‬التجريد‭ ‬إلى‭ ‬مداه‭, ‬والروحانية‭ ‬إلى‭ ‬أقصى‭ ‬درجاتها‭.‬

ويتوشح‭ ‬الفصل‭ ‬قبل‭ ‬الأخير‭, ‬وعنوانه‭ ‬اثم‭ ‬مضى‭.. ‬وبقيت‭!‬ب‭, ‬بأجواء‭ ‬المرثية‭ ‬في‭ ‬فحواها‭ ‬العريق‭, ‬فتصوّر‭ ‬فيه‭ ‬اللحظات‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬الزوج‭ ‬أمين‭ ‬الخولي‭, ‬ويعود‭ ‬المشهد‭ ‬الفاجع‭ ‬بكل‭ ‬عمقه‭ ‬وأبعاده‭, ‬وتبرز‭ ‬أسئلة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الرحيل‭, ‬والحيرة‭ ‬التي‭ ‬تتردد‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬اليقين‭ ‬بالموت‭, ‬وحدة‭ ‬الواقع‭ ‬الأسيف‭: ‬اكيف‭ ‬مضى‭.. ‬وبقيت؟ب‭, ‬وتتآزر‭ ‬لإبراز‭ ‬المشهد‭ ‬مكونات‭ ‬المرثية‭, ‬الإحساس‭ ‬بالفجيعة‭, ‬والمفارقة‭, ‬وتعديد‭ ‬صفات‭ ‬الفقيد‭, ‬تقول‭: ‬اورأيته‭ ‬بكل‭ ‬جلاله‭ ‬وشموخه‭ ‬وكبريائه‭ ‬وفتوته‭, ‬يرحل‭ ‬عن‭ ‬الدنيا‭ ‬حين‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬له‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬أرضنا‭ ‬مكان‭.. ‬وشهدته‭ ‬بعيني‭ ‬مسجّى‭ ‬على‭ ‬فراشه‭, ‬ليس‭ ‬بين‭ ‬حياته‭ ‬الدافئة‭ ‬الخصبة‭ ‬الفتية‭ ‬السخية‭, ‬وهذا‭ ‬الموت‭ ‬الهامد‭, ‬إلا‭ ‬نبضة‭ ‬من‭ ‬قلبه‭ ‬الكبير‭ ‬لم‭ ‬تستغرق‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬ثانية‭, ‬وخفقة‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬واحد‭, ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬لإطفاء‭ ‬عود‭ ‬ثقاب‭.. ‬وعلى‭ ‬عيني‭, ‬اقتحم‭ ‬ناس‭ ‬غرباء‭ ‬مخدعه؛‭ ‬ليجهزوا‭ ‬جسده‭ ‬للرحلة‭ ‬الأخيرة‭.‬

وعلى‭ ‬عيني‭, ‬حملوه‭ ‬من‭ ‬دارنا‭ ‬إلى‭ ‬غير‭ ‬عودة‭, ‬ومضوا‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬قريته‭ ‬اشوشايب‭ ‬في‭ ‬ريف‭ ‬المنوفية،‭ ‬فدفنوه‭ ‬في‭ ‬ترابها‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬منه‭, ‬وإليه‭ ‬كان‭ ‬المآب‭..‬ب‭.‬

  ‬أما‭ ‬الفصل‭ ‬الأخير‭, ‬فجاء‭ ‬بعنوان‭ ‬ادنيانا‭ ‬بعدهب‭, ‬وضم‭ ‬أربع‭ ‬مرثيات‭ ‬شعرية‭, ‬وجميعها‭ ‬من‭ ‬بحر‭ ‬الرمل‭ ‬بموسيقاه‭ ‬الشجية‭, ‬وتفعيلاته‭ ‬الرتيبة‭ (‬فاعلاتن‭ ‬فاعلاتن‭ ‬فاعلاتن‭), ‬وكأن‭ ‬االشجى‭ ‬يبعث‭ ‬الشجىب‭ ‬بتعبير‭ ‬متمم‭ ‬بن‭ ‬نويرة‭ ‬في‭ ‬رثاء‭ ‬أخيه‭ ‬امالك‭, ‬والقصائد‭ ‬هي‭ (‬رؤيا‭ - ‬بعد‭ ‬عام‭ - ‬كلمات‭ ‬للذكرى‭ - ‬عود‭ ‬على‭ ‬بدء‭), ‬وتتحرك‭ ‬في‭ ‬المضمون‭ ‬نفسه‭, ‬الشعور‭ ‬بوقع‭ ‬المحنة‭, ‬والنظر‭ ‬في‭ ‬فلسفة‭ ‬الفناء‭ ‬والبقاء‭, ‬والذكريات‭ ‬التي‭ ‬تود‭ ‬أن‭ ‬تستبقيها؛‭ ‬لتؤنس‭ ‬وحشة‭ ‬الفراق‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يلتئم‭ ‬الشمل‭ ‬مرة‭ ‬ثانية‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الروح‭. ‬لكن‭ ‬بعد‭ ‬االلقاءب‭ - ‬وهو‭ ‬عنوان‭ ‬الفصل‭ ‬السادس‭ - ‬ينقطع‭ ‬السرد‭, ‬وتطغى‭ ‬المراثي‭, ‬وتحدث‭ ‬الفجوات‭ ‬السردية‭, ‬فلا‭ ‬سرد‭ ‬لخطوات‭ ‬الزواج‭, ‬ولا‭ ‬وقوف‭ ‬على‭ ‬صور‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬الزوجية‭, ‬وكأن‭ ‬الشحنات‭ ‬العاطفية‭ ‬الشديدة‭, ‬قد‭ ‬استنفدت‭ ‬طاقتها‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المراثي‭ ‬النثرية‭ ‬والشعرية‭, ‬وكانت‭ ‬من‭ ‬الدلائل‭ ‬الفارقة‭ ‬على‭ ‬أدبية‭ ‬هذه‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬النسائية‭, ‬ومن‭ ‬زاوية‭ ‬أخرى‭, ‬كانت‭ ‬مراثي‭ ‬الزوج‭ ‬في‭ ‬اعلى‭ ‬الجسرب‭, ‬معادلاً‭ ‬موضوعياً‭ ‬وفنياً‭ - ‬عزيز‭ ‬المنال‭ ‬في‭ ‬دنيانا‭ ‬الأدبية‭ - ‬لمراثي‭ ‬الزوجات‭ - ‬العزيزة‭ ‬بدورها‭ - ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭.‬

    ‬أما‭ ‬الأمر‭ ‬الثاني،‭ ‬فيتصل‭ ‬بعناصر‭ ‬الخطاب‭ ‬السردي‭, ‬حين‭ ‬تعتمد‭ ‬الساردة‭ ‬على‭ ‬المشهد‭, ‬ليمثل‭ ‬الحركة‭ ‬السردية‭ ‬الأكثر‭ ‬ظهوراً‭ ‬في‭ ‬سيرة‭ ‬اعلى‭ ‬الجسرب‭, ‬وفي‭ ‬المشهد‭ ‬يتساوى‭ ‬زمن‭ ‬الخطاب‭, ‬وزمن‭ ‬الحدث‭ ‬بدرجة‭ ‬كبيرة‭, ‬واكلما‭ ‬كان‭ ‬المشهد‭ ‬متطوراً‭, ‬وأكثر‭ ‬تفصيلاً‭, ‬يبدو‭ ‬السرد‭ ‬أكثر‭ ‬واقعية‭, ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬فإن‭ ‬المشاهد‭ ‬الطويلة‭ ‬الغنية‭ ‬بالتفاصيل‭ ‬من‭ ‬مؤشرات‭ ‬الأسلوب‭ ‬الروائي‭, ‬وأي‭ ‬سرد‭ ‬يكون‭ ‬فيه‭ ‬المشهد‭ ‬هو‭ ‬الشكل‭ ‬الأساسي‭ ‬للحركة‭, ‬هو‭ ‬سرد‭ ‬ذو‭ ‬طبيعة‭ ‬روائية‭ ‬أو‭ ‬حكاية‭ - ‬بتعبير‭ ‬جيرار‭ ‬جينيتب‭.‬

  ‬وفي‭ ‬المثال‭ ‬التالي‭, ‬ما‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬دور‭ ‬المشهد‭ ‬في‭ ‬البناء‭ ‬السردي‭, ‬وهو‭ ‬مشهد‭ ‬مستعاد‭ ‬من‭ ‬طوايا‭ ‬ذاكرة‭ ‬الطفولة‭, ‬حيث‭ ‬الهزة‭ ‬العنيفة‭ ‬الأولى‭, ‬على‭ ‬درب‭ ‬العلم‭ ‬والتحصيل‭, ‬ويحوي‭ ‬لونين‭ ‬من‭ ‬الحوار‭: ‬حوار‭ ‬خارجي‭ (‬على‭ ‬لسان‭ ‬الأب‭), ‬وحوار‭ ‬داخلي‭ (‬منولوج‭), ‬تدّخره‭ ‬الكاتبة‭/ ‬الساردة‭/ ‬البنت‭ ‬للتعليق‭ ‬على‭ ‬الحدث‭, ‬ويتعاقب‭ ‬الحواران‭ ‬في‭ ‬تناغم‭ ‬ورهافة‭, ‬ويترافقان‭ ‬مع‭ ‬أداء‭ ‬لغوي‭ ‬صاف‭, ‬تحتشد‭ ‬له‭ ‬أوفى‭ ‬احتشاد‭:‬

اولاحظ‭ ‬والدي‭ ‬عليّ‭, ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أكاد‭ ‬ألقي‭ ‬سمعي‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يلقى‭ ‬علي‭ ‬من‭ ‬دروس‭, ‬فلما‭ ‬سألني‭ ‬عما‭ ‬بي‭, ‬تشجعت‭ ‬فصارحته‭ ‬بما‭ ‬يشوقني‭ ‬من‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬مع‭ ‬بنات‭ ‬الجيرة‭... ‬فكأنني‭ ‬نطقت‭ ‬كفراً‭! ‬وجاءني‭ ‬الرد‭, ‬حازماً‭ ‬حاسماً‭:‬

اليس‭ ‬لبنات‭ ‬المشايخ‭ ‬العلماء‭ ‬أن‭ ‬يخرجن‭ ‬إلى‭ ‬المدارس‭ ‬الفاسدة‭ ‬المفسدة‭, ‬وإنما‭ ‬يتعلمن‭ ‬في‭ ‬بيوتهنب‭.‬

وأمرني‭ ‬فتلوت‭ ‬سورة‭ ‬الأحزاب‭ ‬إلى‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭:‬

‭{‬يَا‭ ‬نِسَاءَ‭ ‬النَّبِيِّ‭ ‬لَسْتُنَّ‭ ‬كَأَحَدٍ‭ ‬مِنَ‭ ‬النِّسَاءِ‭ ‬إِنِ‭ ‬اتَّقَيْتُنَّ‭ ‬فَلَا‭ ‬تَخْضَعْنَ‭ ‬بِالْقَوْلِ‭ ‬فَيَطْمَعَ‭ ‬الَّذِي‭ ‬فِي‭ ‬قَلْبِهِ‭ ‬مَرَضٌ‭ ‬وَقُلْنَ‭ ‬قَوْلًا‭ ‬مَعْرُوفًا‭ (‬32‭) ‬وَقَرْنَ‭ ‬فِي‭ ‬بُيُوتِكُنَّ‭ ‬وَلَا‭ ‬تَبَرَّجْنَ‭ ‬تَبَرُّجَ‭ ‬الْجَاهِلِيَّةِ‭ ‬الْأُولَى‭ ‬وَأَقِمْنَ‭ ‬الصَّلَاةَ‭ ‬وآتِينَ‭ ‬الزَّكَاةَ‭ ‬وَأَطِعْنَ‭ ‬اللَّهَ‭ ‬وَرَسُولَهُ‭ ‬إِنَّمَا‭ ‬يُرِيدُ‭ ‬اللَّهُ‭ ‬لِيُذْهِبَ‭ ‬عَنْكُمُ‭ ‬الرِّجْسَ‭ ‬أَهْلَ‭ ‬الْبَيْتِ‭ ‬وَيُطَهِّرَكُمْ‭ ‬تَطْهِيرًا‭} (‬سورة‭ ‬الأحزاب‭: ‬32‭ ‬و33‭)‬

ولم‭ ‬أسأل‭ ‬والدي‭: ‬وهل‭ ‬أكون‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬النبوة؟‭ ‬لعلمي‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يعتز‭ ‬بنسبه‭ ‬الشريف‭, ‬ويحتفظ‭ ‬بسلسلة‭ ‬آبائه‭ ‬إلى‭ ‬جده‭ ‬الإمام‭ ‬الحسين‭, ‬ولد‭ ‬الزهراء‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنها‭ ‬وعنه‭.. ‬وإنما‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬أسأله‭:                                        

‭- ‬اوهل‭ ‬بلغت‭ ‬مبلغ‭ ‬النساء؟‭ 

ثم‭ ‬تهيبت‭, ‬فلذت‭ ‬بالصمت‭ ...‬ب‭. 

 

فدوى‭ ‬طوقان‭ ‬‮«‬رحلة‭ ‬جبلية‭.. ‬رحلة‭ ‬صعبة‮»‬

    ‬يرافق‭ ‬الألم‭ ‬فدوى‭ ‬طوقان‭ (‬1917‭ - ‬2003‭) ‬في‭ ‬سيرتها‭ ‬ارحلة‭ ‬جبلية‭.. ‬رحلة‭ ‬صعبةب‭, ‬ويتوزع‭ ‬على‭ ‬مسارات‭ ‬عدة‭: ‬مسار‭ ‬تحقيق‭ ‬الذات‭ ‬الإبداعية‭, ‬وتكوين‭ ‬الهوية‭ ‬الشخصية‭, ‬وهناك‭ ‬مسار‭ ‬الانعتاق‭ ‬من‭ ‬أسر‭ ‬القيود‭ ‬الاجتماعية‭, ‬والتغلب‭ ‬على‭ ‬اصفعات‭ ‬الواقعب‭ ‬التي‭ ‬تستلب‭ ‬أحلامها‭ ‬وطموحاتها‭, ‬وهناك‭ ‬مسار‭ ‬التحرر‭ ‬الوطني‭, ‬ومجابهة‭ ‬وطأة‭ ‬المحتل‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬الغاصب‭ ‬للأرض‭, ‬ومقدرات‭ ‬الحياة‭ ‬عليها‭. ‬

  ‬وفي‭ ‬الطريق‭ ‬ذاته‭, ‬يرى‭ ‬خليل‭ ‬الشيخ‭ ‬أن‭ ‬مسألة‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬بشكــــل‭ ‬عام‭ ‬عــــند‭ ‬فدوى‭ ‬طوقان‭ ‬مســكونة‭ ‬بهاجسين‭ ‬متناقضين‭ ‬هما‭: ‬االرغبة‭ ‬في‭ ‬البوح‭ ‬الذي‭ ‬يشكل‭ ‬في‭ ‬تجلياته‭ ‬صورة‭ ‬الذات‭ ‬بــــهويـــــتها‭ ‬المحددة‭, ‬وأبــعادها‭ ‬الفنية‭, ‬والخوف‭ ‬من‭ ‬الصراحة‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬الإقدام‭ ‬على‭ ‬الاعتراف‭ ‬بالتجربة‭ ‬وتصــويرها‭ ‬لوناً‭ ‬من‭ ‬ألوان‭ ‬التعرية‭ ‬للذات‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬اجتماعي‭ ‬شديد‭ ‬الحساسية‭, ‬وبخاصة‭ ‬تجاه‭ ‬كتابات‭ ‬المرأةب‭.‬

  ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الذي‭ ‬تلزم‭ ‬الإشارة‭ ‬إليه‭, ‬هو‭ ‬ذلك‭ ‬الإحساس‭ ‬العام‭ ‬بالألم‭ ‬والعذاب‭, ‬في‭ ‬سيرة‭ ‬فدوى‭ ‬بجزئيها‭ ‬ارحلة‭ ‬جبلية‭..‬ب‭ ‬واالرحلة‭ ‬الأصعبب‭, ‬وهو‭ ‬إحساس‭ ‬تولّد‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬نتيجة‭ ‬الاستبداد‭ ‬الاجتماعي‭, ‬والقيود‭ ‬المفروضة‭ ‬على‭ ‬اجماعة‭ ‬الحريمب‭ ‬حتى‭ ‬أحالت‭ ‬واقعهم‭ ‬المعيش‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬االقمقم‭ ‬الحريميب‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬هزيل‭ ‬قاتم‭ ‬مهين‭, ‬وأحالت‭ ‬الإناث‭ ‬وهنَّ‭ ‬في‭ ‬زهرة‭ ‬الشباب‭ ‬إلى‭ ‬عجائز‭, ‬واضحايا‭ ‬بلا‭ ‬شخصيةب‭, ‬وما‭ ‬بين‭ ‬علامات‭ ‬التنصيص‭, ‬أوصاف‭ ‬تتوالى‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬السيرة‭ ‬بشكل‭ ‬ملح‭ ‬مؤكد‭, ‬وهكذا‭ ‬تستقر‭ ‬صورة‭ ‬بيت‭ ‬الطفولة‭ ‬والصبا‭ ‬والشباب‭ ‬المبكر‭ ‬سجناً‭ ‬موحشاً‭, ‬يبعث‭ ‬في‭ ‬النفس‭ ‬الخوف‭ ‬والحرمان‭, ‬ويحول‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬الحرية‭ ‬والانطلاق‭ ‬والتحرك‭ ‬مع‭ ‬أشواق‭ ‬الحياة‭, ‬والساردة‭ ‬لا‭ ‬تتردد‭ ‬في‭ ‬تشخيص‭ ‬احالتهاب‭ ‬تشخيصاً‭ ‬نفسياً‭, ‬يستند‭ ‬إلى‭ ‬الاتجاهات‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭, ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬العقد‭ ‬أو‭ ‬مركبات‭ ‬النقص‭ ‬التي‭ ‬تدفع‭ ‬الإنسان‭ ‬أحياناً‭ ‬إلى‭ ‬تصرفات‭ ‬انفعالية‭ ‬لاواعية‭, ‬والسطور‭ ‬التالية‭ ‬كاشفة‭ ‬لهذه‭ ‬االبؤرةب‭ ‬المركزية‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬الساردة‭/ ‬الكاتبة‭, ‬في‭ ‬أداء‭ ‬سردي‭ ‬يسمه‭ ‬السرديون‭ ‬اتبئيراً‭ ‬مسبقاً‭ ‬Prefocalizationب‭, ‬وفيه‭ ‬يقدم‭ ‬السارد‭ ‬تصوراته‭ ‬باعتباره‭ ‬شخصية‭ ‬شاهدة‭ ‬على‭ ‬الأحداث‭ ‬أو‭ ‬مشاركة‭ ‬في‭ ‬صنعها‭ (‬معجم‭ ‬مصطلحات‭ ‬نقد‭ ‬الرواية‭, ‬ص‭ ‬42‭), ‬تقول‭ ‬فدوى‭:‬

اظلت‭ ‬عقد‭ ‬السجن‭ ‬كامنة‭ ‬في‭ ‬أعماقي‭, ‬إن‭ ‬عقدنا‭ ‬الطفولية‭ ‬تتحكم‭ ‬بنا‭ ‬طوال‭ ‬حياتنا‭, ‬يذهب‭ ‬الذين‭ ‬ولّدوها‭ ‬فينا‭, ‬وتكرّ‭ ‬الأيام‭ ‬والأعوام‭, ‬وتبقى‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬داخلنا‭ ‬قابعة‭ ‬هناك‭ ‬تحكمنا‭ ‬وتوجه‭ ‬خطواتنا‭... ‬عدت‭ ‬أوغل‭ ‬في‭ ‬هجرتي‭ ‬النفسية‭, ‬في‭ ‬الرحيل‭ ‬داخل‭ ‬الذات‭.. ‬لقد‭ ‬أصبح‭ ‬الحزن‭ ‬منذ‭ ‬الآن‭ ‬هو‭ ‬العنصر‭ ‬الأساسي‭ ‬في‭ ‬حياتي‭, ‬يربض‭ ‬في‭ ‬الأعماق‭ ‬وحشاً‭ ‬حزيناً‭ ‬متوحداً‭.‬

في‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬ظل‭ ‬البعد‭ ‬النفسي‭ ‬الذي‭ ‬يفصلني‭ ‬عن‭ ‬أبي‭ ‬شاسعاً‭, ‬وظل‭ ‬الصمت‭ ‬هو‭ ‬لغتنا‭ ‬المشتركة‭ ‬التي‭ ‬عمقت‭ ‬ذلك‭ ‬البعد‭, ‬لاسيما‭ ‬بعد‭ ‬تلك‭ ‬العاصفة‭ ‬الغاضبة‭ ‬التي‭ ‬أثارها‭ ‬في‭ ‬وجهي‭ ‬ساعة‭ ‬دخل‭ ‬الغرفة‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭, ‬ووجدني‭ ‬متلبسة‭ ‬بجرم‭ ‬تدخين‭ ‬السجائر‭... ‬كنت‭ ‬أحياناً‭ ‬أفكر‭ ‬بالهرب‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬الخلاص‭ ‬من‭ ‬العذاب‭ ‬والألم‭, ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬لديّ‭ ‬رقة‭ ‬قلب‭ ‬بالغة‭ ‬تجاه‭ ‬شيخوخة‭ ‬أبي‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيءب‭.‬

  ‬تنازعت‭ ‬حياة‭ ‬فدوى‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬الدوائر‭ ‬المتداخلة‭ ‬من‭ ‬العوائق‭ ‬والمحظورات‭ ‬والآلام‭, ‬وكل‭ ‬دائرة‭ ‬تسلم‭ ‬لأخرى‭, ‬وهي‭  ‬تحضر‭ ‬بضمير‭ ‬ذاتي‭ ‬متطابق‭, ‬إلى‭ ‬أقصى‭ ‬درجات‭ ‬التطابق‭ (‬ذات‭ ‬الكاتبة‭ = ‬ذات‭ ‬الساردة‭ = ‬ذات‭ ‬الشخصية‭ ‬الرئيسة‭), ‬ويمكن‭ ‬إجمال‭ ‬هذه‭ ‬الدوائر‭ ‬في‭ ‬التالي‭:‬

طفولة‭ ‬عليلة‭ ‬حزينة‭ - ‬طفلة‭ ‬بلا‭ ‬تاريخ‭ ‬ميلاد‭ - ‬الحرمان‭ ‬من‭ ‬رعاية‭ ‬الأم‭ - ‬الحب‭ ‬الموءود‭ - ‬الإقامة‭ ‬الجبرية‭ ‬في‭ ‬البيت‭/ ‬العزلة‭ - ‬الكتابة‭ ‬باسم‭ ‬مستعار‭ ‬ومحاولات‭ ‬قهر‭ ‬الموهبة‭ - ‬الحرمان‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ - ‬موت‭ ‬إبراهيم‭ ‬طوقان‭ ‬والحرمان‭ ‬من‭ ‬عطف‭ ‬الأخ‭ - ‬فجيعة‭ ‬فقد‭ ‬العم‭ ‬حافظ‭.‬

  ‬استمرت‭ ‬هذه‭ ‬الدوائر‭ ‬في‭ ‬التأثير‭ ‬على‭ ‬الكاتبة‭ ‬تكويناً‭ ‬وتوجهاً‭, ‬وملامح‭ ‬إبداع‭, ‬بل‭ ‬ربما‭ ‬ألقت‭ ‬بظلالها‭ ‬على‭ ‬طبيعة‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬وحدودها‭, ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬البوح‭ ‬شاملاً‭ ‬لكل‭ ‬الزوايا‭, ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬الاعتراف‭ ‬وافياً‭, ‬وجاء‭ ‬الميثاق‭ ‬الأوتوبيوغرافي‭ ‬للمقدمة‭ ‬صريحاً‭ ‬في‭ ‬إقراره‭: ‬الم‭ ‬أفتح‭ ‬خزائن‭ ‬حياتي‭ ‬كلها‭..‬ب‭. ‬وتطلب‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬معاناة‭ ‬االسجن‭ ‬الاجتماعيب‭, ‬والتمرد‭ ‬على‭ ‬السجان‭ ‬العائلي‭, ‬روحاً‭ ‬تتوق‭ ‬إلى‭ ‬إنجاز‭ ‬الأفضل‭, ‬والتطلع‭ ‬نحو‭ ‬الآفاق‭ ‬الأرحب‭, ‬كما‭ ‬تطلب‭ ‬الانعتاق‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬القيود‭ ‬نضالاً‭ ‬وكفاحا‭ ‬دءوبين‭, ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الرحلة‭ ‬لم‭ ‬تخل‭ ‬من‭ ‬اعنف‭ ‬الكفاحب‭. ‬والكاتبة‭ ‬تتوسل‭ ‬كثيراً‭ ‬بالتصوير‭ ‬للتعبير‭ ‬عما‭ ‬تريد‭, ‬فقصة‭ ‬حياتها‭ ‬اهي‭ ‬قصة‭ ‬كفاح‭ ‬البذرة‭ ‬مع‭ ‬الأرض‭ ‬الصخرية‭ ‬الصلبة‭, ‬إنها‭ ‬قصة‭ ‬الكفاح‭ ‬مع‭ ‬العطش‭ ‬والصخرب‭.‬

وهنا‭ ‬تلزم‭ ‬الإشارة‭ ‬أيضاً‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الآلام‭ ‬والعذابات‭ ‬لم‭ ‬تنفصل‭ ‬عن‭ ‬الهوية‭ ‬بحال‭, ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬التعرف‭ ‬عليها‭ ‬كان‭ ‬الصبر‭ ‬على‭ ‬اللأواء‭ ‬والعسرة‭, ‬وكان‭ ‬النضال‭ ‬الطويل‭, ‬وكان‭ ‬إنجاز‭ ‬كتابة‭ ‬السيرة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬من‭ ‬العمر‭ (‬كان‭ ‬عمرها‭ ‬عند‭ ‬صدور‭ ‬الطبعة‭ ‬الأولى‭ ‬ثمانية‭ ‬وستين‭ ‬عاماً‭) ‬تتويجاً‭ ‬لتحقق‭ ‬الهوية‭ ‬الفردية‭, ‬وهي‭ ‬سبيل‭ ‬متصل‭ ‬بالهوية‭ ‬الجمعية‭ (‬الأنا‭ ‬والآخر‭ ‬معا‭).‬

لقد‭ ‬اعتصمت‭ ‬طويلاً‭ ‬بالصمت‭ ‬فيما‭ ‬يخص‭ ‬حياتها‭, ‬وكم‭ ‬شعرت‭ ‬بالنفور‭ ‬من‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬الأسئلة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭, ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬حانت‭ ‬اللحظة‭, ‬لحظة‭ ‬الكتابة‭, ‬والرحلة‭ ‬في‭ ‬طريقها‭ ‬إلى‭ ‬الاكتمال‭, ‬واتضحت‭ ‬معالم‭ ‬الهوية‭.‬

إنها‭ ‬الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬ينعكس‭ ‬نورها‭ ‬أمام‭ ‬السائرين‭ ‬في‭ ‬الدروب‭ ‬الصعبة‭, ‬وقد‭ ‬خَلُصت‭ ‬فدوى‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭, ‬وهي‭ ‬لاتزال‭ ‬في‭ ‬مفتتح‭ ‬الرحلة‭: ‬اإن‭ ‬الكفاح‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحقيق‭ ‬الذات‭ ‬يكفي‭ ‬لملء‭ ‬قلوبنا‭, ‬وإعطاء‭ ‬حياتنا‭ ‬معنى‭ ‬وقيمة