متحف في المكسيك

متحف في المكسيك
        

          متحف «سميّه»، اسم اختاره كارلوس سليم للمتحف الذي يضم 60000 عمل فني من رسم ونحت، «سميه» قرينة كارلوس سليم المتوفّاة، رحمها الله، حتى أثرياء العالم يتوفّون أيضًا. شيء غريب!

          افتتح المتحف في المكسيك، سنيور كارلوس سليم مكسيكي من أصل لبناني، وهو أغنى رجل في العالم، الله يبارك، الله يزيده صحّة ومالاً، ولكن.. ولكن ماذا؟ 74 مليار دولار.. هو من أصل لبناني، قلت، لابد أنه خلال زياراته للبنان، علم أن لبنان الكبير لا يوجد فيه متحف صغير.. يا حرام.. لم يقل يا حرام، تُرى هل قال يا حراميّة؟!

          لا أدري، سألته مرّة، لمَ لا تتكرّم على بلدك الأم بمتحف تسمّيه باسمك، وليس باسم زوجة فلان وعلتان؟ نظر إليّ، بل رمى عليّ نظرة أوصوّب عليّ نظرة تحتوي على 74 مليار ابتسامة، وقال: يا أخي.. قلت له وبصوت خافت: ليتك أخي! لم يسمع.. يا أخي، تابع: أين مليارات الأغنياء اللبنانيين ليشتركوا ويخلقوا متحفًا في لبنان؟ ولو! يا أخي.. كرّرت ثانية بصوت خافت: يا ليت! وتابعت: يا سنيور كارلوس سليم، سَلِمتْ يداك الكـ.. الكريمة.. أنا لا آمل.. بل لا أمل في موضوع مليارات اللبنانيين.. همّهم الأول والأخير هو تكديس الأموال، وإن تصرّفوا بما يملكون من المال، وما الملك إلا لله! وأنت يا سنيور كارلوس سليم تعلم كيف يصرفونه وأين ولماذا؟ قال ضاحكًا: لا.. لا أعرف.. بماذا.. وشوشته بصعوبة.. هو أطول مني، وكنّا نقف قبالة لوحة لـ«الغريكو» El Greco، قلت له: أغنياء لبنان، ولا غنى إلاّ بالصحة، يصرفون أموالهم بـ.....، ضحك: آه آه آه آه آه آه آه.. سبع آهات.. كدت أغنّي له أغنية لأم كلثوم تكرّر الآهات، وكل آهة بنغم، وتساءلت هل كارلوس سليم مغرم برقم سبعة كعدد أيام الأسبوع أو كعدد المليارات الـ74؟! لم أقل شيئًا، بقيت لطيفًا، هذا من طبعي.

          تنقّلنا من لوحة إلى لوحة وأنا أقول بصوت خافت: يا ليت.. سألني: بماذا تتمتم.. ماذا تقول؟.. أجبته: لا شيء.. لا شيء يا سنيور.. لكن حضرتكم من أصول لبنانية.. نعم، قال: ولكن.. قلت: ولكن ماذا يا سنيور؟ قال: أنا مكسيكي جدًا.. ولبناني أصلاً.. حالتي المكسيكية طغت على لبنانيتي.. لكنك، قلت له: لابدّ أن البعض القليل من ذاتك.. من شخصيتك الكريمة، عالق فيه شيء من الأصول اللبنانية، ممكن؟ قال، ولكن قليل جدًّا، قلت له وأنا أرتجل ابتسامة: هذا القليل الذي بقي في ذاتك هل يفكّر في إيجاد متحف صغير؟ ولو..! في بيروت، عاصمة مهمّة، أنت تعلم.. ضحك ضحكات سبع ولم يقل شيئًا، لكني تجرّأت بعد قليل ونحن ننظر إلى لوحة لفان جوخ Van Gogh، تجرّأت وقلت له: متحف في بيروت ندعوه متحف كارلوس سليم للفنون، ويكون المهندس صهرك «فرناندو روميرو» Fernando Romero، قال: يا ليت، قلت يا ليت، وبقينا ننتقل من لوحة إلى تمثال، من بيكاسو إلى رمبراندت، من ماتيس إلى روبنز Rubens، وأنا أتمتم يا ليت، حتى أني رحت أردّد: «يا ريت عمرا ما تعمّر بيت»، عندما انتهيت من وصلتي الغنائية الكئيبة قلت في صوت خافت، ولكنه مسموع: يخرب بيتهم!

          سألني: يخرب بيت من؟ قلت: لا أحد! لا أحد! قال ضاحكًا: تتمنى خراب البيوت وتريد بناء متحف؟ كيف هذا؟ أجبته: تقول يا سنيور كارلوس سليم: بناء متحف؟ أجاب: يا ليت! عندئذ اعتذرت منه للذهاب إلى قضاء حاجتي، أشار إليّ هناك، ذهبت حيث أشار إليّ، لكني لم أدخل إلى «التواليت»، بل خرجت من متحف سميّّه، وما إن وصلت إلى الخارج حتى نظرت إلى السماء الملبّدة بأنفاس العالم والسيارات والمداخن والزمامير والضجّة والشمس المحرقة. دخلت غرفتي، أغلقت نافذتها الوحيدة، تمدّدت على السّرير ضاحكًا باكيًا فرحًا حزينًا مغمض العينين، فاتح العينين، غافيًا مستيقظًا، إلى أن حطّت الطائرة في مطار بيروت.
---------------------------------
* فنان تشكيلي وكاتب من لبنان.

 

 

أمين الباشا*