تجارب حيوية رائدة لإنتاج خلايا وأنسجة بشرية

تجارب حيوية رائدة  لإنتاج خلايا وأنسجة بشرية

لكن ما أعلنته الشركة هــو إنتاج أجنة، تكون بمنزلة مصنع لإنتاج الخلايا الجذعية البشريـة، مما يسمح بعلاج بعض الأمراض المستعصية مثل الزهايمر والسرطان واستبـدال وترقيع الجلد في حالة التعرض للحروق العميقة والكبيرة، وغيرها من الأمراض الوراثية صعبة العلاج من خلال استخدام تلك الخلايا كقطع غيار بشرية.
اهتمت الأوساط الطبية العالمية خلال الفترة الماضية بالاكتشاف الذي توصل إليه علماء جامعة سيول، في كوريا الجنوبية، عن تطوير خلايا جذعية توافق جسم كل مريض بلا استثناء لتعويض أنسجته، وتم ذلك عن طريق زرع أحماض نووية أخذت من جسم مريض في بويضة تم التبرع بها، ليكون الناتج خلايا جذعية تناسب المريض تماماً، ولا يخشى أن يرفضها الجسم، وقد لقي هذا الاكتشاف الكوري إشادة كبيرة من العلماء الأمريكيين، وفتح شهيتهم لمواصلة السير في هذا الطريق، ولا شك في أنه بعد تطور علم الأحياء خصوصاً على صعيد الهندسة الوراثية، حفل بالكثير من الإنجازات المثيرة وبالنتائج المقلقة.
في خلال السنوات القليلة المقبلة قد ينجح العلماء في تخليق قلب لإنسان قابل للزرع يمكن الاحتفاظ به في المستشفيات، لأن ثمة ازدياداً في طلب الأعضاء المزروعة وخصوصاً القلب، ففي الولايات المتحدة مثلاً تسجل لوائح الانتظار في المستشفيات والعيادات 4 آلاف مريض يحتاجون إلى زراعة للقلب، وتشكل هذه اللائحة قائمة المرضى الأكثر حاجة، ووفقا لإحصاءات إحدى المؤسسات البحثية في الولايات المتحدة، خلال هذه السنة سيتمكن 2300 مريض من إجراء جراحة زرع قلوب لهم. وبينما يهتم بعض الجراحين بزرع قلوب اصطناعية وأعضاء من الحيوانات، يتوجه اهتمام آخرين نحو هندسة الأنسجة، ويستند الأطباء المختصون في هذا الحقل الجديد إلى المهندسين وعلماء الكيمياء الحيوية من أجل تصنيع خلايا حية، كقطع غيار لجسم الإنسان، ولعل مشروع اتحاد «لايف» لهندسة الأعضاء الحية الذي يترأسه مايكل سفتون، رئيس مجمع المواد والأدوية الحيوية في جامعة تورنتو سيكون الخطوة الأولى في هذا المجال. وقد استأنف هذا الاتحاد عمله بعد فترة توقف، وهو يهدف إلى تخليق عدد كبير من أعضاء الإنسان القابلة للزرع، ويضم باحثين من مختلف المستشفيات والمؤسسات العالمية، ويقدر سفتون تكلفة تخليق قلب فعال وظيفيا بـخمسة مليارات دولار، وهو عبارة عن قلب يوضع في صندوق، يتم حفظه حتى يتم استخدامه مع الحقن والمباضع في المستشفيات، ويقول: «إن تصنيع القلب يقتضي بذل جهود تفوق صعوبتها تصنيع الكبد أو الكلية، وإذا تمكنا من ذلك فإن البقية ستأتي».
كان بعض المبدعين في هندسة الأنسجة الحية مثل جوزيف فاكانتي الأستاذ في قسم الجراحة بجامعة هارفارد ومستشفى ماساشوستس العمومي، وروبرت لانجز  الأستاذ المتخصص في الهندسة الكيميائية خلال ثمانينيات القرن الماضي بتنمية خلايا على قوائم متشابكة الخيوط، تتحلل ببطء عند تكاثره، وكانت الخطوة الأولى التي خطاها في هذا الاتجاه هي تكوين قائمة متشابكة ذات قالب نسيجي ثلاثي الأبعاد تم تصنيعها في مركبات البوليمر الحيوية، مثل حامض اللاكتيك وحامض الجليكوليك المتعدد، التي تتطور في النمو أصلاً إلى غرز تشكل خطوط الاتصال بين الأعضاء. أما الخطوة الثانية فتتمثل في زرع القائمة المتشابكة بخلايا مأخوذة من العضو (النموذج) الذي يأمل الباحثون في تصنيعه، وتوضع الخلايا التي تشكل هذه القائمة المتشابكة في مفاعل حيوي (عبارة عن جهاز يحضنها في درجة حرارية تعادل حرارة الجسم) يتدفق في داخله مزيج من المواد المغذية والمؤكسدة، الأمر الذي يساعد على انقسام الخلايا وفرزها إلى بروتينيات وعوامل إنمائية - كالفيتامينات التي تعجل بنمو الجسم- تترابط لتشكل نسيجاً حياً.
استخدم فاكانتي هذه الطريقة لتخليق 27 نوعاً نسيجياً مختلفاً في مختبره، وكانت أولى نتاجاته المفيدة، رقائق صغيرة من الجلد وأجزاء من الغضروف تطورت إلى أشكال معروفة كالأذن والأنف، وصنع باحثون آخرون أعضاء كاملة في جامعة هارفارد، فقد قام أنطوني أتالا، مثلاً، بتنمية مثانات الكلاب مستخدماً خلاياها، وقد أدت وظيفتها لمدة سنة بعد زرعها مجدداً في أجسام الكلاب، وعليه فربما تساعد المثانات التي تنمو من خلايا الإنسان الجنينية بدورها في علاج الاضطرابات البولية. ويوجه مهندسو الأنسجة اهتماماتهم اليوم نحو تصنيع أعضاء أكثر تعقيداً كالقلب، إذ صنع باحثون أوعية دموية أولية لصمامات وعضلات، وجعلوا هذه المركبات تؤدي وظيفتها تماماً كالأنسجة، ثم تم جمعها في عضو واحد، بما سيكون أكبر تحد طبي في الألفية الثالثة. لكن على الجانب الآخر يقول العالم فاكانتي: «بدلا من الكلام عن كيفية تصنيع جذع للشجرة، أو غصن، نحن نتكلم عن كيفية تصنيع شجرة بكاملها».

تصنيع أنسجة على رقائق ميكرونية
منذ سنوات قليلة قام  كل من د. ليزا فريد ود. جوردانا نوفاكوفيك بزرع خلايا قلب داخل قائمة متشابكة في مفاعل حيوي، وكانت الأنسجة المخلقة أصغر حجماً من حبة الإسبرين، وقد بدأت الخلايا بالنبض فور تلقيها منبهات كهربائية، وتقول د. ليزا: «كانت هذه اللحظات الأكثر إثارة  في تجاربي المخبرية، إذ لم يقم أحد من قبل بعمل كهذا»، وعلى الرغم من تماثل هذه «المركبات القلبية مع أنسجة القلب، فإنها لا تحتوي على أوعية دموية لتخطي هذا العائق، وقد يتمكن الباحثون من بناء قائمة متشابكة تتضمن شبكة من الأوعية، أو وضع «عوامل نهائية» فيها تساعد في تشكل الأوعية الدموية.
كما قام بعض الباحثين الآخرين  بتخليق  «شرايين اصطناعية» من خلال تنمية خلايا عضلية في أنبوب بوليمر (مركب كيميائي يتشكل بالتبلمر أو البلمرة)، ووضع خلايا البطين التجويفي في داخله ثم زرعوا شرياناً رئوياً مهندساً وراثياً داخل نعجة، أدى وظيفته بفاعلية لمدة ستة أشهر و«نما» مع الوقت. كما استخدمت د. لورا نيكلاسون (المختصة في التخدير وهندسة الطب الحيوي في جامعة ديوك) المواد الخام لهندسة شرايين من أحد الحيوانات ثم زرعتها ثانية، واكتشفت أنها تتطور نحو الأفضل إذا تدفق الدم فيها خلال نموها، وتعمل هذه الشرايين بطريقة النبض مدة ستة أشهر أو أكثر، إذ من دون ذلك تتعرض للانسداد، وخصوصاً الأوعية الدموية الرفيعة، ولتخليق هذه الأوعية يجب على الباحثين أيضا تصميم شعيرات متفرعة رفيعة.
وتعمل شركة توليد الأعضاء التقنية الحيوية في ماساشوستس حالياً على إيجاد حل معقول لتخليق أوعية دموية من الكولاجين الطبيعي (المادة البروتينية في النسيج والعظام) التي تربط نسيج الجسم، وكسوها بطبقة من مادة تعيق التخثر وتمنع انسداد الشرايين، وتجذب هذه الأوعية فور زرعها خلايا أوعية الجسم الخاصة، لتنمو. ويختبر آخرون في الوقت الراهن أيضاً، طرقاً عدة لتخليق صمامات قلب توجه الدورة الدموية، كما تم تخليق صمامات وزرعها في ست نعاج أدت وظيفتها بفاعلية لأشهر عدة، لكنها ليست متينة كالصمامات الطبيعية، ويعمل العلماء على تخطي هذه الإشكالية، إذ يختبر فريق يقوده روبرت نيريم في جورجيا تجربة لدفع الهواء المضغوط، ضمن فترات دورية منتظمة، في الأوعية الدموية «النامية». ويكمن الاحتمال الآخر في تبديد هذه الأوعية المصنعة خلال نموها بحيث تتماثل مع الأوعية الطبيعية عند تدفق الدم فيها.
ويبحث فاكانتي في طريقة جديدة لتصنيع القوائم المتشابكة وذلك باستخدام تقنيات التصنيع الدقيق المستمد من صناعة الكمبيوتر لصنع «نسيج على رقاقة» ذي مركبات مجزأة بحجم الميكرون، ولكنها مصنعة من مادة عضوية حيوية غير السيليكون، ولكي يتمكن فاكانتي وآخرون من إزالة العقبات أمام تنمية القلب، لابد من إيجاد طريقة تحفظ النسيج حياً حتى يتم استخدامه في عملية الزرع، والطريقة المفضلة هي الحفظ بالتبريد، وهي تجميد القلب في سائل يحميه من التلف بدرجة حرارة 4 تحت الصفر وإخراجه من حالة التجمد من دون تحطيم الخلايا.
يقول سيفتون: «لن يكون تخزين القلب مسألة سهلة التحقيق «وإذا لم نتمكن من تصنيع «قلب في صندوق» من خلايا المريض نفسه فسيستمر جهاز المناعة برفض القلب. لكن رغم كل ذلك فقد يكون العائق الأكبر في هذا المجال هو التكلفة المادية، وليس المقدرة التكنولوجية، فعلى الرغم من تلقي اتحاد «لايف» بعض القروض المالية الطويلة الأمد من منظمات الصحة العالمية، فإنها لا تغطي مبلغاً قدره 5 مليارات دولار على الأقل يقتضيه إتمام مثل هذا المشروع، إلا أنه يمكن جني مبالغ طائلة من جراء زرع قلوب مهندَسة، أو كبد، كلى، جلد، أو حتى حشوة أسنان... وحتى لو لم يتمكن المشاركون في «لايف» من تخليق قلب كامل على مدى السنوات القليلة المقبلة، فإن الانتصارات الجزئية ستكون فائدتها كبيرة، فهندسة أحد شرايين القلب، مثلا، ستلغي الحاجة إلى نزع عرق من فخذ المريض لإجراء جراحة تمريرية bypass، وهندسة أوعية غليظة من نسيج القلب، ستساعد في اختبار فاعلية عقاقير معينة.
ويناقش باحثون في مركز سياتل، قسم هندسة المواد الحيوية، كيفية تنمية قطعة من عضلة البطين كما يحدث لخلايا الساق، فالخلايا السابقة تكوّن خلايا أخرى، إذ ستسهل عملية «بناء» قلب. فإذا تمكن العلماء من اكتشاف المنبهات الكيميائية الحيوية التي تتسبب في تحول خلايا الساق إلى خلايـــا قلب - مثلاً - فقد يستطيعون تنمية قلب من دون قائمة متشابكة، حيث إن القلب المُصنع من خلايا  الإنسان (نفسه) سيتمكن من النمو، والتكيف مع الجسم. ويقول فاكانتي: «هدفنا الموضوعي هو إيجاد بديل حيوي يعمل تماما كالنسيج الحي».
من ناحية أخرى، توصلت الأبحاث الحديثة في مجال علم المخ والأعصاب بالتعاون مع علوم وظائف الأعضاء والتشريح إلى تقنية يمكن بوساطتها تنمية وتحفيز الخلايا العصبية في المخ بحيث تحل محل الأجزاء التالفة فيه أو المصابة، مما يعطي أملاً جديداً لمرضى العاهات المستديمة بسبب تلف أجزاء معينة في المخ. وقد توصل الأستاذ الألماني فرو ميرترز رئيس قسم وظائف الأعضاء  بجامعة ميونيخ، بمساعدة فريق من الباحثين في جراحة المخ والأعصاب والتشريح ووظائف الأعضاء والكيمياء الحيوية، إلى طريقة يمكن بها تنشيط الخلايا العصبية التالفة بوضع سطح معدني تحت الخلية العصبية وتوصيل السطح بتيار كهربائي ذي تردد ضعيـــف، وإضافة مواد كيميـــائية واستخدام تقنيات خاصة تدفــــع الخلايـــــا الحية إلى التمدد والنمو لتتصل أطرافها فوق السطح المعدني. 
ولو نجح في ذلك فستكون هذه القطعة المعدنية المتناهية في الرقة والتي يتراوح حجمها بين 1 و6 سنتيمترات وفق حجم الجزء التالف بمنزلة قطع غيار للأجزاء التالفة في المخ البشري، ويتم تصنيعها في المعامل من البلاتين النقي.
وتعتمد وظيفة المخ على حسن أداء الاتصالات العصبية لوظيفتها، ويحتوي المخ على 100 مليار خلية عصبية يطلق عليها النيورونات، وهي تحتوي على 50 مليار جهاز استقبال يتلقى مئات الآلاف من المعلومات في شكل مركبات كيميائية من الخلايا الأخرى، وأي تلف في جزء من المليون من الخلية العصبية المخية المتناهية في الدقة يؤدي إلى خلل جسيم في إحدى وظائف المخ التي يؤديها الجزء الذي تتواجد فيه الخلية التالفة، كما أن العمليات الجراحية في مخ الإنسان معروفة  بأنها دقيقة للغاية، وأي خطأ فيها يؤدي إلى تلف وظيفي كامل لأحد أعضاء الجسم، أو لوظيفة عضوية  تتأثر بالجزء الذي تتم فيه الجراحة. 
إن تمدد واتصال الخلايا العصبية يمكن علمياً بتقنيات خاصة، ومع ملاحظة أن هؤلاء المرضى كانت فرصة علاجهم في الماضي معدومة تماماً، لذلك فإن تأثر السطح المعدني البلاتيني المثبت في المخ بالموجات الكهرومغناطيسية المحيطة وارد طبعاً، ولكن يمكن اعتبار ذلك من الآثار السلبية للتقنية، ويمكن عند حدوثها محاولة الحد منها والسيطرة عليها في أضيق الحدود، والمعروف أن أي تدخل علاجي مهما كانت بساطته له آثاره الجانبية.
على أي حال، فإن التقنية الجديدة التي يعمل العلماء على وضعها في حيز التنفيذ الآن تفتح الباب على مصراعيه أمام إمكان علاج الأمراض المستعصية، فإنتاج جنين أو أجنة عدة هو بمنزلة مصنع لقطع الغيار البشرية، فالجنين في بداية التخليق يكون مجرد خلايا لم تتشكل بعد، ومن ثم استخدام هذه الخلايا في إنتاج أنسجة بشرية مختلفة لا يمكن أن تكون مصابة بأي نوع من أنواع الخلل الجيني. 
وبرغم التحفظات الأخلاقية والدينية التي تثار حول استغلال الأجنة البشرية من حيث كونها كائنات بشرية لها حقوق بصرف النظر عن اكتمال نموها أم لا، فإن بعض العلماء يرون أن عملية استنساخ الأجنة بهدف إنتاج قطع غيار للإنسان هي أفضل طريقة لتجنب حدوث المضاعفات المرتبطة بعمليات زرع أعضاء ذات ميراث جيني مختلف عن الميراث الجيني للشخص المريض، كما أنها تساعد كعلاج فاعل لبعض الأمراض الوراثية التي لا شفاء منها بالعلاج التقليدي مثل ألزهايمر والشلل الرعاش (باركنسون) وبعض أمراض النخاع الشوكي والقلب وغيرها من الأمراض الناجمة عن خلل جيني .