السّرد، الذات والمعرفة في رواية المرآة
تمثل «المرآة مسيرة الشمس» للروائية الكويتية هديل الحساوي سفراً سردياً في الذات من أجل تقويض الهيمنة، والتخلص من ربق السلط المتعددة، والانعتاق من شرنقة الوصاية التي تهيمن على الفرد - المرأة تحديداً في المجتمعات المحافظة - فتشلّ فيه كل قدرة على الحلم والابتكار واختلاق الجمال في الحياة، وتكون حياته، بالتالي، مستلبة شبيهة بالسجن الرمزي الذي لا حدود له.
انطلقت الرواية من نصوص أساسية للمحكي الصوفي، بتوقيع من رائد التصوُّف، الشيخ الأكبر، صاحب فصوص الحكم، وترجمان الأشواق، نظرا لما كانت تشكل الأنوثة في نظرته المتميزة للكون والحياة. وفي المناص؛ يتحدث عن الصورة التي تعكسها المرآة، والسر في تعددها واختلافها، الذي لا يعود إليها، بقدر ما يعود لزاوية التموقع بالنسبة إلى الرائي أو الواقف أمامها. وقد جعلت الروائية هذا النص المركزي مبتدأ المحكي ومنتهاه في تدليل على قصدية فنية توجه فعل التلقي، وتروم ترسيخ فكرة تحمّل الذات مسؤوليتها؛ في تحلل من أي وصاية، مهما كانت ذرائعها.
تشخّص الرواية، استناداً إلى هذا التقديم الفنيّ الجوهري، حالة إنسانية شائعة خاصة في المجتمعات التي تنعدم فيها تقاليد الديمقراطية، وحرية الفرد في تقرير مصيره، وممارسة حياته في كامل اختياراته، دون تدخل من أحد، وهو نقد مبطن توجهه الرواية لحالة المجتمعات العربية التي تهيمن فيها الأبيسية، والسلطة المرجعية، والهيمنة، والوصاية بداعي الحماية وحفظ الشرف، وغيرها من الذرائع الواهية.
وبما أن الحكاية التي تؤسس عليها الرواية مفارقة للواقع، ويستحيل تحققها بناء على سيادة نظم ثقافية مشبعة بالحدود والحصون العتيقة، فقد لاذت بالخيال الفني الجامح من جهة، واعتمدت من جهة أخرى على الفلسفة، وتغريب المحكي وتعجيبه، ليبدو قمة في الفانتاستيك والغرائبية، مستدرجة بذلك القراء صوب احتمالات قصوى للتخييل والتغريب، لأنهما الوحيدان اللذان بإمكانهما إفلات الوقائع والأفكار والمطامح والرغائب من أسيجتها الثقافية الفولاذية، وانعتاقها من كماشة التقاليد الفنية والاجتماعية، ناقلة إياه إلى مقامات قرائية قلما ارتادها في الرواية العربية الجديدة.
مركزية الذات
تنتصر الرواية في محكيّها لفكرة تسويد الذات في مباشرة اختياراتها، والتعرف على كينونتها، بوعي ومسؤولية، وتطرح سؤالاً فلسفياً جوهرياً يتعلق بماهية الأنا، وجوهرها، وقوتها وضعفها، في شتى تحولاتها، ثم تحاول الإجابة عنه من خلال إطلاق العنان لشخصيتها الرئيسة في ممارسة قراراتها بكل تحدّ، وثقة عالية، وارتياد آفاق تحبل بأجواء المغامرة، وروح المبادرة، بلا خوف ولا قلق من سؤال المصير أو المستقبل، وتشرع لذات هاته الشخصية مسيرة مثل مسيرة الشمس لا قيد يمكن أن يكبح جماح انطلاقها، وانفلاتها، مسيرة كلها مخاطر وتجارب متنوعة ومطبات تتوزع بين الضياع والمحنة، والموت والحياة، وجغرافيا قاهرة مصمَّمة على إيقاع الاختبارات المتاهية المتتالية التي لا تستند البطلة، في حلها، سوى إلى قدراتها الذاتية الداخلية، وقراراتها المنبثقة عن قناعات فكرية وعقلية شخصية لا يتدخل فيها أحد: اكوني شجاعة وجريئة، في نهاية هذا الدرب توجد المرآة التي تخصك، إذا وصلت إليها فستفهمين معنى رحلتك. لا تفكري في شيء آخر عداها ولا ترغبي في شيء غيرها. المرآة هدفك، كوني حذرة وسريعة، ومتفتحة الذهنب (*).
وفي كل مرة، كانت الفتاة البطلة، التي تمردت على وصية ذويها وأهلها فحلّت بها لعنة الفلسفة، لتنقلها في رحلة سرابية، كان المنطق الفلسفي إبانها، هو قائدها الرئيس بعد أن تحللت من أفكار الآخرين ووصايتهم وحمايتهم، وقيودهم، وشكلياتهم التقليدانية المعقدة، فباتت تسبح بحرية في أجواء خارج كل الثنائيات التي تعرفها حياة البشر المعتادة.
وهنا تستعير الكاتبة كثافة فلسفية بشكل بارز في دلالة على دفاعها عن أطروحة توظيف العقل، والجنوح إلى مركزية السؤال الفلسفي حول جوهر الوجود، وتشكل المعنى، وجدوى الحياة في نأي عن تدخلات الآخرين الذين ينوبون، تحت ذريعة سياقات مختلفة ومتنوعة، عن الفرد في طرح هاته الأسئلة والإجابة عنها بالأسلوب الذي يرضي تمثلاتهم للكون والحياة، دون مراعاة لحرية الشخص في اختياراته وممارساته الحياتية والفكرية والاجتماعية. هذه المصادرة القوية لحقِّ الفرد في التقرير والاختيار والممارسة الحياتية هي وازع الفعل السردي هنا، وغايته الفلسفية والفكرية.
وقد استعارت الروائية هديل الحساوي في مسردها مقولتين أساسيتين لتبئير مركزية الذات وأناها الجوهرية الجوانية، انبثاقاً عن رؤية فلسفية للكون، وتمثيل عقلي باطني للحياة، ورغبات الفرد، وقدراته، وقواه الداخلية لفك القيود، وأسلاك الحصار المتعددة المفروضة عليه من قبل سياقات خارجية: أولها المرآة، استناداً إلى مرجعية صوفية، تتجلى في استحضار الشيخ الأكبر وتصوره للمرآة العاكسة، من خلال اختيار مقطع من مقولة، وجعله عتبة وقفلاً للمحكي الروائي.
ولا تعدو هاته المقولة أن تكون استعارة كبرى، سواء في مقول ابن عربي، أو في مقول هديل الحساوي، فكلاهما يشير بها إلى معنى خفي، هو تمثل الذات البشرية لجوهرها الدفين، والنظر بوضوح إلى مكامن القوة والخلل فيها، وبناء القرارات والاختيارات؛ تأسيساً على هذا التمثل الفلسفي لقوى الأنا وإمكاناتها ورغباتها في وضوح، دون مواربة أو تخوف أو إذعان، وبتحمل كليّ لمسؤولية تبعات تلك الاختيارات في إيجابياتها وسلبياتها، وهذا هو ما ينقص الفرد عموماً، وخاصة في العالم العربي، لبناء قناعاته، وتنمية ذاته، والمساهمة في تشييد صرح الحضارة البشرية.
أما ثانية المقولتين؛ فتتمثل في الشمس التي تشكل استعارة كبرى جسدت منذ القديم، فيما تركه الأولون من أساطير ومحكيات، العظمة والكشف والنور وقوة الله الكونية، مثلما شكلت معبوداً رئيساً عند المصريين القدامى على العهد الفرعوني (رع)، وهي في الرواية القوة المشعة التي تدخل أقاصي الذات الأشد غوراً وتخفياً، فتضيئها وتبرزها، وتصقلها بنورها الوضاء. ومن المعلوم أن الشمس بأشعتها القوية، تزداد توهجاً، وتهيجاً بانعكاسها على صفحة المرآة.
يشار إلى أن تجربة الكتابة لا تنفصل بشكل من الأشكال عن تجربة الذات، فعوالم الرواية، مهما اجتهد الروائي ليظل بعيدا عن أجوائها، فلابد أن يلفي ذاته متورطة في بعض الجزئيات السياقية، فالشخصيات التي يختارها تكون أقرب إليه من حبل الوريد، إن لم نقل إنها تنبث من ضلوعه، وترث جيناته، وعليه فهديل الحساوي تتقاسم تجربة المعرفة مع بطلتها المتعددة الأسامي، لأنها جزء من تفاصيلها، وهي نفسها تعبر عن ذلك بقولها: ظروف كتابة االمرآة سيرة الشمسب والتحولات التي مرت بها البطلة، كانت تحولات ذاتية أيضا. كما مرت البطلة في رحلتها الخاصة للكمال، كانت أيضا رحلتي للنضج والتغير.
تخييل غرائبي
تستند الرواية في نهل مادتها السردية إلى العجيب والغريب، ذاك المحكي المفارق للواقع، والمتعارف عليه، وهو سرد يتم اللجوء إليه للسخرية من نظام ثقافي مزيف يتأسس على الدوكسا والتقاليد البالية، أو لنقد وتجريح أضاليل تتفشى في المحيط الاجتماعي والسياسي، أو لكشف أخلال منظومة قيمية متعفنة في صورة كاريكاتورية معيبة، أو لتهويل أمر ما يجد في نفس الباث رجعاً منفّراً ومكدّراً.
ويأتي المحكي الغرائبي في هذه الرواية؛ ليجسد في حالات وتحولات مساره السردي عبر النص الروائي؛ هذه العناصر كلها، بحكم أن الواقع المقوّض على مستوى الرؤية النصيّة من الصعب تفتيت قيوده وأقانيمه الضاربة بجذورها في العمق المجتمعي، وليس من سبيل إلى اختراقها إلا على سبيل التمثيل المفارق الذي يعبث بهذا العالم، ويمزق نظمه، ويخلخل ثوابته، ولو على مستوى التخييل الفني.
يسرد المحكيّ الروائيّ قصّة فتاة تنتمي إلى قرية اداليوبب، ومنذ حداثة سنها، تخالجها أسئلة قلقة حول أصل تسمية قريتها، فتحرج الجد بأسئلتها واستفساراتها الذكية، هذا الأخير يحاول رفد خيالها بحكايات عدة وإجابة أشدّ غرابة تشكل وعي الطفلة، لكن البنت المجبولة على التمرد وحب الاستطلاع، لا تقنعها تلك الحكايا، وكلما كبرت، كبرت معها أسئلتها، وعلى الرغم من كون جدها أوصاها بعدم الخروج من القرية قبل رحيله، استجابة لرغبة ملحة تسكن ذهنها، بحثا عن والدها الذي قيل لها إنه خرج ذات يوم متأبطاً سيفه ولم يعد؛ تقول الرواية على لسان الفتاة: ايتصاعد عندي الحنين لترك المكان، كل ذرة فيّ تحلم وترغب في البدء من جديد بعيداً عن الوصاية، تزداد رغبتي بالسفر والحرب، والشعور من جديد بفرحة أسماها جدي الانتصار...ب.
ركبت الفتاة حصان أسئلتها استجابة لنداء داخلي قوي، وانطلقت في رحلة مجهولة الوجهات عبر سفينة غريبة ركابها جانحون وسفهاء وطفيليون وحمقى أرادوا إبراز أخطاء الجماعة، فحوكموا بالطرد بعيداً عن القرية. وهنا يبدأ الموتى في الخروج من قبورهم للمساهمة في الرحلة مثل أمباذوقليس، هراقليطس، بارمنديس، وسقراط وغيرهم، ويسهمون في جدل فلسفي حول المادة والروح والظاهر والباطن وغيرها من الأمور الملتبسة على الفتاة، بل وتقتل الرواية الفتاة، وتقحم روحها في جثة القاتل ثم جثة القتيل، فتلاقي ما تلاقي من مصاعب ومخاطر غير عابئة بذلك، ويتسنى لها لقاء شخصيات غادرت الدنيا من قرون، من فلاسفة وآلهة، وتصادف في رحلتها الغريبة هاته مرشدين مزيفين يسعون لإغوائها عن هدفها المنشود (معرفة الذات والحقيقة)، لكن مرشدها الروحي سقراط كان دوماً حاضراً في الوقت المناسب ليخلصها من متاهتها: ايهمس لي: تعالي معي سأدلك على الطريق التي منها ستصلين لمعرفة الجواب الذي عرفناه جميعاب.
وبعد رحلة السفينة الغريبة، تأتي رحلة أخرى أشد غرائبية، وهي الغور في دهاليز كهف معتم، حيث تقود البطلة مجموعة من العراة في رحلة استكشاف سيزيفية، تنتهي بهم إلى قبر مسدود لا أبواب له، وهنا يظهر الفيلسوف أرسطو في الوقت المناسب لينقذ الطفلة ومن معها بحكمته، ويساعدها على هدم القبر ثم الخروج والنجاة، وبعد ذلك، يقود الفيلسوف نفسه البطلة التي يسميها آنئذ بـاأكاسياب، في طريق مليئة بالمتاريس (إغواءات ديوجين؛ وغيره من الفواعل المثبطة مثل دينيسوس، إله الخمر، ورجل الحديقة)، ليوصلها في نهاية المطاف إلى مدرسة تلتقي عبرها مع العباقرة من الفلاسفة في رحلة لا تنتهي من المحاورات والجدل المثمر والغوص المعرفي والتساؤل الدائم عن شكل الحقيقة، لتعود الطفلة بعد هاته الرحلات الحلمية المعرفية المتتالية، إلى المكان الأصليّ الذي سبق أن تعرفت عليه، أي الكوخ والقرية ومحيطهما، فيسقط عنها كساؤها القديم لتتجلى روحاً، فيما ترسل السماء شآبيب المطر مدراراً لتغسلها وتطهرها، بعد زمان طويل من الجدب والمحل، وكأن المطر هنا، يشكل المعادل الموضوعي للذات المقبوض عليها معرفياً، وبذلك، يتحقق البرنامج السردي للبطلة: افجأة وجدت نفسي في مكان أعرفه جيدا، كأن الخطوة الأخيرة على الجسر أعادتني إلى نقطة البداية، وقفت مذهولة مما أراه، المكان حولي كان شديد الشبه بكوخي، كأنني عدت إلى قريتي داليوب. الخطوة الأخيرة على الجسر انتهت بي إلى أرض خشبية صلبة وملامح مكان كأنها لكوخي الحبيبب.
وإذا كانت الرحلةُ بحثاً مستداماً عن الحقيقة في الخارج الغريب، فإنها، في المتخيل الروائي، توغّل في دهاليز الداخل وسراديبه في الوقت نفسه. وما الوصول إلى المرآة بعد مشقات وأخطار وغرائب وعجائب ومحن مسترسلة إلا ضرباً من الوصول إلى الذات، وبلوغ الحقيقة، إذ استعارت الروائية الغور في باطن الأرض (الكهف) للدلالة على التوغل داخل الذات، والخروج منه هو انعتاق من حالة الجهل إلى حالة المعرفة، وما القبر وما إليه من مشيرات كالظلمة والخوف والعراء، سواء إحالات استعارية لمرحلة الموت أو ما بعدها، حيث يصير الموت بدوره، في المحكي الروائي، مصدراً من مصادر المعرفة على طريق الوصول إلى الحقيقة/ المرآة. وقد تعمدت الروائية جعل البطلة تختلط بأولئك الغاوين والأبطال المزيفين لتكتسب، من خلال لقائهم والاحتكاك بهم، خبرات جديدة، تغني بها مسارها المعرفي.
حس تجريبي
تراهن الكتابة الروائية في االمرآةب على التجريب، وخلخلة البنى السردية، سواء على مستوى تشييد الحكاية أو على مستوى تمثيل الرؤى والمواقف والحوارات داخل المتن، فسعت من جهة، إلى تخطيب النص، وجعله قارّات وجزراً مشدودة ببعضها بخيط رفيع، مثلما رهنت حيوات شخصيات فلسفية شهيرة بادت من عصور بعيدة؛ وأقحمت في العالم الروائي، فضلاً عن أنها استحدثت أمكنة وأزمنة مفارقة وغرائبيّة إلى جانب أفضية واقعية معروفة، الشيء الذي يبعثر أفق انتظار المتلقين، الذين يهبّون إلى محاولة إيجاد خيوط ناظمة بين العالمين الواقعي والعجيب المتجاورين في المتن الروائي.
وقد وظفت الروائية نقاط الفراغ في الحوار خاصة، لتورط المتلقي في تشييد العوالم الروائية (الصفحات 21 - 34 - 26 على سبيل المثال)، كما استعانت بإقحام خطابات وملفوظات أخرى لإغناء المقول السردي وتنويع خطاباته في إطار ما يسمى بالبوليفونية؛ مثل القصيدة الشعرية (الصفحات 24 - 109 - 124 - 125... مثلاً)، واستلهمت كذلك أسلوب المغامرة الرحلية الذي نلامسه على طول المتن الروائي، مثلما نوعت من شكل الطباعة على مستوى البنط المستعمل للتمييز بين الملفوظات. عدا ذلك، نلمس حضور كلّ مميزات الكتابة السردية من توصيف للفضاء والشخصيات، وتضمين للحوار بين الشخوص، وإدراج لمقول السرد من خلال توالي أفعال المشاركة والحركة، وتسريع وتيرة الحدث، وتحول بنية الشخصيات والمكان وأحوالهما.
يطرح النص الروائي، بإلحاح شديد، مسألة التناص الضمني باعتباره ذاكرة تتفاعل فيها كثافة نصية مرجعية وقرائية ثرية، خاصة في الفلسفة، مثل االجمهورية أو المدينة الفاضلةب وامحاورة مينونب لأفلاطون، واحيّ بن يقظانب لابن طفيل، وقصة النبي موسى مع الخضر عليهما السلام، كما تستدعي الكاتبة ثقافتها ومقروئيتها في هذا المجال، محولة إياه إلى متخيل، فضلاً عن أننا نلفي أنفسنا أمام متن تتفاعل ضمنه نصوص أدبية كبرى ذائعة الصيت، على مد العصور، منها: ارسالة الغفرانب لأبي العلاء المعري، وارسالة التوابع والزوابعب لابن شهيد الأندلسي، واالكوميديا الإلهيةب لدانتي واالفردوس المفقودب لملتون، وسدهارتا لهرمان هسه.
بارتياد هاته الآفاق الرحيبة للسرد، تكون الرواية قد انتهجت لها باباً مخاتلاً للتفكير في المعقول بصيغة الفن، ففيما يشبه المسارة، تستدرج المتاهة السردية قارئها صوب مقامات التوجس والتساؤل وإعادة النظر في احتمالات بناء معرفة بديلة، فهي كثيراً ما تتأمل وتتساءل وتخلخل البنيات الساكنة في الذهن من خلال حوارات بين الشخصيات أو مونولوجات مع الذات تستهدف المناطق المعتمة في النفس البشرية، مطارحة بذلك الثوابت، والمسلمات، دون شعور بحاجة إلى التقنع أو التصنع، فما يجري من أحداث ومواقف وحوارات؛ كلها تتأبى على الواقع الأرضي، وتسبح في ملكوت الغيب، والخيال المفرط، وما وراء الطبيعة والأحلام والكوابيس، وهلمَّ جرا.
وتتقاطع الخصيصات النوعية لهاته الرواية كثيراً مع ما يصطلح عليه بالرواية المعرفية التي فيها المادة المعرفية والبحث عن الحقيقة جوهريْن أساسيين ضمن اهتمامها، بحيث تدفع بطلها إلى استقصاء المعرفة من الآخرين، محفزة إياه على الإصغاء لصوت الحكمة داخل النفس، فإذا كانت المعرفة عبارة عن مدركات عقلية تتكون في مجموعها من حقائق كلية يستخلصها العقل بالعلوم العقلية أو بعلوم المكاشفة، فإن الرواية المعرفية تضع حتى هذا التعريف أمام التحدي وتقدم أشكالاً متعددة من الفرضيات التي تهدد يقينيتها بعرض احتمال عدم قدرة البشر على إنشاء معرفة صلبة، فالبشر قد لا يعرفون العالم كما هو حقاً، وربما يعرفونه كما يبدو لهم، ومن منظور جزئي، وحسب وجهة النظر .