الساسانيـون
حكمَ الساسانيون إيران بعد سقوط الدولة الأشكانية، وامتد حكمهم من عام 226م إلى 652م. ترجع تسمية الساسانيين إلى جد الأسرة ساسان، الذي كان سادن معبد النار في اصطخر، إلا أن مؤسس الدولة الحقيقي هو أردشير، ابن ساسان، أو قيل حفيده. لقد استطاع أردشير بشخصيته الفذة إقامة دولة قوية، استعادت الإمبراطورية التي كان الفرس قد أضاعوها من أيديهم.
وقد قام بإصلاحات إدارية وثقافية عدة، ليجعلها منظومة حكم لدولته الفتية، فقسّم رعيته إلى طبقات، لكل طبقة حقوق وواجبات، ورتب ديوان الجند، فنظم الجيوش وأجرى مرتباتهم في السلم والحرب لكي تكون جاهزة على الدوام. وأقر الزرادشتية التي رأى فيها صورة من الصور الإصلاحية للدولة، وليكون بذلك قد أقر دين الدولة الرسمي، فجمع الكتاب الديني (الأفستا) وعني بترجمته وشرحه، وألزم رجال الدين الدعوة للزرادشتية، وجهد في إقامة بيوت النار، وأخيراً جعل من رجال الدين طبقة شريفة يأتي تراتبها بعد الطبقة المالكة والأرستقراطية. وما إن تم له بناء دولته بالشكل الذي ارتآه، حتى وافاه الأجل في عام 241م، فتولى بعده ابنه شابور (سابور)، وهذا الاسم من مقطعين: شاه ذ بور، ويعني ابن الملك.
كان شابور كأبيه ملكاً راجح العقل سياسياً محنكاً، اهتم بالتنظيم الداخلي للدولة، فأقر الأمن وبنى مدناً جديدة أهمها: شابور في فارس، وجنديسابور في الأهواز، وشاد سابور في ميسان. كما أقام شابور السدود والقناطر في أرجاء دولته، منها سد شادروان وقنطرة دزفول. واستطاع هذا الملك أن يمد سلطانه إلى سمرقند وطشقند، وأن يستولي على العراق وينتزع أرمينية من يد الروم ويضمها إلى أملاك دولته. ولا بد لنا أن نبين هنا أنّ الروم هي الدولة البيزنطية التي كانت تدين آنذاك بالمسيحية الأرثوذكسية، هذا لكي لا يختلط على القارئ الفرق بين الروم والرومان، فالإمبراطورية الرومانية كانت تدين بالوثنية قبل أن تدين بالمسيحية الكاثوليكية. ولعل من أبرز الأحداث غير السياسية أو العسكرية التي جرت في عهد شابور ظهور دعوة دينية جديدة أحدثها مدَّع للنبوة اسمه «ماني»، الذي عُرف أتباعه باسم المانوية، حيث كان هذا الدين الجديد قد مزج بصورة فلسفية بين الزرادشتية واليهودية والمسيحية، فادعى به ماني أنه قد أوحي إليه تعاليم الدين الجديد، وهو بذلك المخلص المنتظر الذي كانت تدعو به الأديان. لقد ولدت المانوية بأفكارها ومبادئها من رحم الزرادشتية في الإيمان بإلهين: النور والظلمة، وكان يعتقد أن منهما كل حسن وسيئ، وأنّ «خراب الأبدان عمار الأرواح». وماني هذا من أسرة أشكانية عريقة الأصل وثنية الإيمان، لذلك ظن شابور أنّ مثل هذه الشخصية ربما تسعى إلى الحُكم، فأمر بالقبض عليه والإتيان به إلى قصره بنية استجوابه، ومن ثم قتله. ويُروى أنه بعد حضور ماني بين يدي شابور، وبعد مناقشة دارت بينهما، اعتنق شابور مذهب ماني وناصره.
ويذهب بعض المؤرخين إلى أنّ شابور عندما آمن بعقيدة ماني إنما أراد أن يوحِّد الأديان بين الشرق والغرب بدين عالمي، تجمع مبادئه عقائد اليهودية والمسيحية والزرادشتية على السواء، إلا أنّ الفكرة كالطائر، تطير وتحلق، أو تُحبس فتقلق، حيث سرعان ما أُسس فيها مبدأ «فساد الروح» الذي كان قوامه أنّ شر الدنيا الأزلي بالمال والمرأة، فهما يمثلان السبب الدائم في تعاسة الإنسان، والحل الوحيد هو شيوع الاثنين، فلابد أن يكون المال بيد كل إنسان متى أراد... وكذلك المرأة! من هنا شنت الأديان الأخرى، خاصة الديانات الإبراهيمية، حرباً على المانوية، واعتبرتها «إباحية» أو «خُرَّم دينية»، و«خرّم» الفارسية تعني التمتع بالعلن أو إعلان البهجة، لذا نرى علماء الكلام المعتنين بالديانات يوردون في كتاباتهم مصطلح «خرمدينية»، هكذا، ويعنون به المانوية أو كل دين يدعو إلى الإباحية. وترادف هذا المصطلح بمصطلح آخر وهو «زنديق» وجمعه «زنادقة»، مستمدين ذلك من كلمة «زندوك» الفارسية، التي تعني سادن بيت النار.
أما الأسطورة الثانية، التي يزعم بعض المؤرخين أنّها حدثت في عهد شابور، فهي قصة «النضيرة ابنة الضيزن». كان الضيزن ملكاً من ملوك العرب، أراد أن يمد نفوذه فاستولى على بعض الأراضي من مملكة شابور، فغضب هذا الأخير وجيّش جيوشه زاحفاً إلى الحَضْر، فرآها محصَّنة بأسوار عتـــــيدة، فضرب شابور الحصار على المدينة شهوراً عدة، حتى بدأت قوة جيش شابور في التداعي، وذات يوم عندما كان شابور خارجاً من معسكره للصيد، رأى فتاة جميلة، وقعت في قلبه ووقع في قلبها فشغفها حباً، حينها ألقت له رسالــــة تعده فيها بالمــــساعدة في دخول المدينة بشرط أن يـــعدها بالزواج. وتم الاتفـــاق فدلته على مكان في السور قد بُنيَ من اللَّبِن يمكنه الولوج إلى المدينة منه. قامت النضيــــرة بإلهاء الجـــند القائمين على ذلك المكان فأسكرتـــهم حتى ناموا، حينها دخــــل جنود شابور المديــــنـــة، فسقطت الحَضْر بيد شابور، وقُتِل الضيزن في سريره، وتزوَّج شابور النضيرة بعد أن عادت إليه أراضيه، وفي حديث دار بين شابور والنضيرة يسألها فيه عن جمالها ونعومتــــها ورقتهــــا ونضارتها، قالــت: كان أبي يُطعمني المخّ والمحّ والزبد والشَّهْد ويسقيني سُلاف الخمر، فانتفض شابور وقال: كل هذا كان يقدمه والدك لك، ويكون جزاؤه منك هذه الخيـــــانة؟! فأمر شابور بربطها بحبل ليجرها جواد جموح حتى تقطعت أشلاؤها وماتت، هذه هي القصة التي بنيت عليـــها أسطورة تحكي أنّ قبائل العرب بعد هذه الحادثة تعاهدوا على «وأد البنات»، والغريب أنّ كل الروايات التاريخية تؤكد أنّ العرب لم يئدوا بناتهم من الحرائــــر، بل وأدوا بناتهم من الإماء!
مات شابور عام 272م، وعقبه ابنه هرمز الذي وافته المنية بعد عام تقريباً. وتعاقب الملوك على عرش الدولة الساسانية، ولم يكن لهم هم إلا مواجهة خصمهم التقليدي من الروم البيزنطيين، إلا أنّ خطراً داخلياً انعكست آثاره على الدولة، تمثل في فتن أدعياء الدين. كان هذا الأمر واضحاً في عهد قباذ بن فيروز، حين ظهر «مزدك» مدعياً ديناً جديداً، يوهم به الناس أنه دين إصلاحي لما جاء به ماني. فصارت «المزدكية» وقتها دين الدولة الجديد، وأصبح لمزدك قوة سياسية، حتى تجرأ في أمر تعيين الملك وولي عهده، فلقي حتفه لذلك على يد الملك قباذ وولي عهده خسرو، المعروف تاريخياً بكسرى أنوشروان (أنوشك روان = الروح الخالدة).
يعتبر المؤرخون كسرى أنوشروان أعظم ملوك الدولة الساسانية، سياسة وعدلاً وفضلاً، امتدحه العرب والعجم، إلا أنه كان يمنع أبناء العامة من التعليم، ففي رأيه «أنّ السَّفَلة إذا تأدبوا طلبوا المعالي، فإذا نالوها تحكموا في وضع الأشراف». في عهد كسرى أنوشروان استتب الأمن الذي كان سبباً في رواج التجارة، وازدهرت الزراعة والصناعة، ووضحت العناية بالإنسان عندما أنشأ بيمارستان (مستشفى) في جنديسابور، أصبح في ما بعد من أكبر مدارس الطب في الدولة الإسلامية، وبدأ يولي اهتمامه الخاص بالعلم والعلماء، حيث يروى أنه آوى كبار علماء الإغريق وفلاسفتهم، بعد أن طردهم الروم من دولتهم، واحتواهم في بلاطه وأسكنهم جنديسابور. وازدهرت حركة ترجمة العلوم من السنسكريتية واليونانية إلى اللغة البهلوية الإيرانية. مات كسرى أنوشروان في عام 579م، بعد أن حكم ثمانية وأربعين عاماً، فاعتلى عرش الدولة ابنه هرمز، الذي عرف عهده بالمؤامرات والفتن والثورات. وجلس بعده كسرى أبرويز على سدة الحكم. ولم يسلم أبرويز من المؤامرات، فانقلب عليه كبار قادة جنده، فلجأ إلى خصمه ملك الروم. وكان لزواج أبرويز من مريم بنت القيصر أثر في هدنة طويلة بين الخصمين، وقد أدت هذه الهدنة إلى استقرار دام عقدين من الزمان، استطاع فيهما كلا الطرفين بناء دولته من جديد وتطوير مرافقها، حتى صار إيوان كسرى أبرويز من عجائب الدنيا في ذاك الزمان. وكان آخر أكاسرة الفرس يزدجرد، الذي سقطت دولته على يد جنود الإسلام بقيادة سعد بن أبي وقاص في «القادسية» ■
نحت على صخر لجيوش شابور