المحيط الأبيض

المحيط الأبيض

لا أظن أن بيننا مَن يستطيع العيش بلا محيط، تلك الدائرة المرئية، أو غير المرئية، التي تُشعره بأنه ليس وحده في هذه الدنيا. هي دائرة الأقارب والمعارف والصَّحْب والأصدقاء، التي تتكون بهم ومنهم أجواء الدفء البشري الذي نعيشه... وفي هذا يقول الأعراب: «صديقك من صَدَقكْ لا من صَدَّقَكْ»، ولشدة إعجابي وإيماني بهذه المقولة، وجدت نفسي ألبسها ثوباً وأستخدمها ميزاناً لعلاقاتي، وكلما اعترض عليّ أحد الأصدقاء أو المعارف أتحجج بمقولة «عمر الخيام»:
لبستُ ثوبَ العيشِ لمْ أُستشر
وحرتُ فيه بين شَتَّى الفكر
وسوف أنضو الثوب عني
ولم أدرك لماذا جئت... أين المفر؟!
لا أحسب أن بيننا من يدّعي أن باستطاعته العيش بلا أصحاب ولا معارف ولا أصدقاء، بل يقضي أيامه ولياليه ضمن الأسوار العائلية مهما حسّنت وتجمّلت وجاءته بكل ما يحلم به، فلابد أن يفتح عينيه يوماً ليرى أن في الحياة «حباً» كما فيها «هوى»، وفيها فصول أربعة لكل منها طعم ولون، وفيها أراض لله واسعة تبدأ بغرزة إبرة وتنتهي بمحيط الكرة الأرضية.هي ثلاث من الشرائح البشرية تطلّ عليكم من دفتري الخاص، تستقبلكم بابتسامة عساها تحظى بالردّ منكم.
الأولى: عربية من أصول يونانية - لبنانية، لها قلب بسعة العالم كله، فتاة صافية نظيفة ذات خلق بالغ الرقي، لكنها مسيحية أحبّت وأحبّها شاب مسلم، وقد دخلت نفق التضحيات وحدها حماية لحبها العظيم... خدعها صاحبنا وألقى بها خلف الأسوار، ولروعة منبتها حوّلت حديد الأسوار إلى ذهب لحماية أسرتها حضانة وتعليماً وعملاً وتركته للاستمتاع بحياته الجديدة مع الأجنبية الجديدة، تركته لا يبكي دمعاً بل دماً... يستحقه.
الثانية: سورية جذبها غوى عشقها لوطنها، تاريخاً، حضارة، ثقافة وأجواء عائلية دافئة في مدن كبيرة ممتدة بأخلاقيات قرية صغيرة، وفي ليلة غاب عنها القمر ولحقت بها الشمس فغاب عنها الزيتون والكرز والياسمين، واشتعلت فيها نار كلما خمدت تبرّع مجنون بإشعالها فاتسعت الأرض بيتاً وظلت قلوبنا متماسكة.
الثالثة: إنجليزية مغرمة بالعروبة حضارة وثقافة وتاريخاً وفناً، ألتقي بها في لندن ولا أنسى فرحتها وهي تزفّ لي خبر اختيار ابنتها «بياترس» الحضارة العربية مادة لدراستها في جامعة كامبردج، ألتقيها سنوياً في لندن، يجمعنا «غداء ممتد زمنياً» أو جولة في متحف أو معرض فني أو مسرح.
أتمنى ألا أحظى بأي لوم منكم عندما أقول إننا جميعاً نحتاج إلى مثل تلك الاختراقات للنسيج المحيط بنا من أهل وصحب ومراكز علم وعلاقات خاصة وعامة تشدّ الوثاق على أعناقنا، فكلما تلوّنت الأجواء أصبح الأكسجين أكثر صفاء، وصارت الحياة تستحق مجهود العيش فيها ■