تصميم القرى البيئية (الإيكولوجية)

تصميم القرى البيئية (الإيكولوجية)

تعرف القرى البيئية (الإيكولوجية) بأنها مجموعة من الناس أو المجتمعات الصغيرة المختلفة الأعداد - تتراوح ما بين العشرات والآلاف - تحاول حل المشكلات البيئية والاجتماعية عبر  اتباع أسلوب حياة مستدام خفيف الوطأة على الأرض وعلى الناس؛ فتسعى، كمثال، إلى استخدام بدائل للتقليل من استخدام الطاقة والمياه والمواصلات، ومعالجة المخلفات، وتبحث عن الانسجام مع الأعضاء ومع الكائنات الحية الأخرى ومع الطبيعة. وتتجاوز هذه التركيبة الاجتماعية الجديدة الانقسام القائم ما بين الريف والحضر، ويصبح هدفها النهائي إعادة تصميم العادات البشرية لتحقيق المراد.

تنقسم القرى الإيكولوجية إلى قسمين:
- ينتمي الأول لبلدان متقدمة تحاول جلب الطبيعة للمدن وتحقق بعض الأمور كالترابط الاجتماعي، وتوفير أماكن آمنة للأطفال، وذلك في مجتمعات مقصودة التصميم، يسكنها أشخاص متفقون في الاهتمام بالعيش المستدام وبناء المجتمع، والنمو الروحي ويهدفون إلى الاكتفاء الذاتي والقيام بأعمال صغيرة في الموقع؛ كالمشروعات الزراعية، ومشروعات الطاقة المتجددة، وتميل نظم الإدارة فيها إلى التركيز على المشاركة والإجماع. وتعرف هذه المجتمعات أنه ليس بإمكانها إيقاف تدمير البيئة والحياة فحسب، بل يمكن إعادة الحياة لجوانب كثيرة كالتربة، وجداول المياه، والغابات؛ كما يمكن تقدير كل نقطة مطر، وكل مصدر للغذاء والطاقة المتجددة مثل الشمس والرياح والمياه. 
- وقسم آخر ينتشر في الدول النامية، وهي عبارة عن قرى تقليدية قديمة صنفت كقرى إيكولوجية لممارسات العيش المستدام. وعادة ما تعاني هذه القرى قصوراً في التمويل لأعمال التحديث وتسعى إلى الحصول على دعم كما هي الحال في السنغال، حيث ساندت الحكومة مئات القرى التقليدية لتتحول إلى قرى إيكولوجية في مقابل الحصول على موارد لتحسين أوضاعها.

غايا تراست
تعد جمعية غايا تراست Gaia Trust الخيرية التي أسست في الدنمارك عام 1987 بمبادرة من روز وهيلدور جاكسون، واحدة من الكيانات الداعمة للتحول نحو الاستدامة، وبناء مجتمعات مستقبلية قائمة على قيم روحية عليا. ففي عام 1991م، على سبيل المثال، مولت غايا دراسة قام بها كل من روبرت وديان غيلمان حول المجتمعات المستدامة في أنحاء العالم. وصدر تقرير بعنوان القرية الإيكولوجية والمجتمعات المستدامة. 

شبكة القرية الإيكولوجية العالمية GEN
في وقت لاحق عقد اجتماع في الدنمارك لمناقشة مفهوم القرية الإيكولوجية وأدى ذلك إلى تشكيل شبكة القرية الإيكولوجية العالمية GEN. وفي 1994م دشنت خدمة معلومات القرية الإيكولوجية. وفي العام التالي 1995م تم عَقْدَ أول مؤتمر دولي لأعضاء القرى الإيكولوجية تحت عنوان «القرية الإيكولوجية والمجتمعات المستدامة للقرن الحادي والعشرين»، وذلك في قرية فندهورن Findhorn الإيكولوجية في اسكتلاندا.

وتيرة متسارعة
تسارعت، بعد المؤتمر، حركة القرى الإيكولوجية، وتحولت عديد من المجتمعات المستدامة إلى مسمى القرية الإيكولوجية. ومع حلول عام 2001م حصلت الشبكة على مكانة مرموقة لدى الأمم المتحدة. والتحقت بها مجموعة من الشباب مثلت الجيل الثاني من الأعضاء GEN Next.  وليس من السهل حصر عدد القرى الإيكولوجية في العالم اليوم، وأشارت مصادر في وقت سابق إلى وجود ما يزيد على 471 قرية تتوافر معلومات حولها على شبكة القرية الإيكولوجية العالمية، 36 في المائة منها بأوربا، و25 في المائة بأمريكا، و14 في المائة بأمريكا اللاتينية، و9 في المائة بأستراليا ونيوزلندا؛ و6 في المائة بكندا، و5 في المائة بإفريقيا، و3 في المائة بجنوب آسيا، و1 في المائة بالشرق الأوسط و1 في المائة بأماكن أخرى، وتؤكد مصادر أخرى أكثر حداثة وجود ما يقرب من عشرة آلاف قرية إيكولوجية مربوطة بخمس شبكات في أوربا، وإفريقيا، والأمريكتين، وآسيا.

GEN  - أوربا
تكمن قوة  GEN أوربا التي أسست عام 1996، في إعادة نسج علاقات الثقة وتقدير أسلوب الحياة المستدام. والتطوير المشترك وإيجاد حلول اقتصادية واجتماعية وثقافية وإيكولوجية تدعم الانتماء للبيئة المحلية من أجل مستقبل مستدام، ولهذا هي تتشارك في طرح الأسئلة والمشكلات التي تواجهها، كما تتشارك في الحلول التي تتوصل إليها، أو ما يعرف بأفضل الممارسات. وتلقي الضوء على المشروعات التي تهتم بعمق بالمجتمع المحلي وتقدر المجتمع الكوكبي كأداة حيوية للتمكين. وتضع في مقدمة أولوياتها نشر القرى الإيكولوجية، وبناء الشبكات الوطنية في كل بلد من بلدان أوربا، على اعتبار أن التغيير لا يحدث إلا بالخبرة المباشرة وبالالتزام بتغيير أسلوب الحياة. وهكذا تسهل الشبكة نشر أسلوب الحياة الإيكولوجي في المدن وجعل القرى الإيكولوجية نماذج للعيش في كل ثقافة ومنطقة في أوربا. ويتعلم الناس داخل هذه القرى الإيكولوجية العديد من المهارات والحرف التي يمكن أن تساعدهم على إحداث نقلة في أسلوب الحياة. وترى أن المجتمع يحتاج برمته إلى التحول نحو الاستدامة من أجل البقاء؛ كما تحتاج الشبكات الاجتماعية إلى إحياء قيم التماسك والترابط والثقة المتبادلة.

كوشا جوبير
كوشا جوبير هي المدير التنفيذي لـ GEN إفريقيا- التي أطلقت في 2012م - ولدت في جنوب إفريقيا إبان اشتداد التفرقة العنصرية. وكانت تسكن في منطقة للبيض، وتذهب إلى مدرسة لهم، لكنها لم تكن تشعر بالراحة، ودائماً ما كانت تطرح أسئلة غير مريحة على أسرتها ومعلميها. وعندما كبرت قليلاً تحولت إلى فتاة غاضبة ورافضة للوضع. وانتقلت بعد ذلك للعيش في أمستردام، حيث توجد حركة قوية مناهضة للتفرقة العنصرية.  
درست كوشا في الجامعة عديداً من الموضوعات المتعلقة بالثقافات والأنثروبولوجيا واللغويات، على أمل أن تكتشف طريقة لاستخدام اللغة في التواصل، لتجسير الفجوة بين الفريقين - البيض والسود - ورأب الصدع، وتصليح ما انكسر، وعلاج الجروح.  شعرت في مطلع تسعينيات القرن الماضي أن العنصرية لم تمت في بلادها، بل لاتزال نابضة. وبالرغم من تحسن بعض الأمور كمستوى التعليم والصحة وحرية الحركة على الصعيد العالمي، فإن عزلة البشر عن الطبيعة وعن بقية المخلوقات البشرية مازالت قائمة. ويتطلب الأمر لتعديل الوجهة هجر الطرق التقليدية المزدحمة بالناس إلى طرق جديدة قليلة الرواد؛ حيث لا يمكن مواجهة مشكلات الحاضر بطريقة التفكير نفسها التي خلقتها، كما يقول أينشتين، أي التفكير والرؤية على نحو مختلف.
قررت كوشا في عام 1991م، وكانت حينها في عامها الثالث والعشرين العودة إلى جنوب إفريقيا، ظناً منها أن نشاطها لم يعد مطلوبا بعد الإفراج عن نيلسون مانديلا، وانهيار العنصرية. كانت تود زيارة أماكن في بلادها لم يكن بالإمكان زيارتها. نبهها بعض الأصدقاء من مغبة ذلك، لكن الله - كما تقول - حفظها طوال رحلة الألف كيلومتر التي قطعتها من منطقتها-حيث يسكن البيض- إلى مناطق مهمشة، ولم يكن معها سوى القليل من المال. وكم أدهش الناس أن تنام كوشا في أي مكان وتعيش على ما يقدم لها من طعام. وفي نهاية رحلتها شاهدت حلمها بالمستقبل محققاً بالفعل، عندما وصلت إلى مجتمعات يعيش فيها السود مع البيض ويعملون ويبنون معا دون صراع. وكانت نقطة تحول في حياتها. 
منذ ذلك الحين وهي تسافر حول العالم لزيارة قرى إيكولوجية، حيث يعيش الناس المستقبل في الحاضر، ويعيدون بناء العلاقات والثقة والروابط مع النظام الإيكولوجي والناس؛ وقرى تقليدية يفهم فيها الناس أنهم إذا لم يصمموا مستقبلهم فسيفعل ذلك أناس آخرون، عندها يمكن أن يخسروا الكثير من شعورهم بالتقدير للهوية والذات. وتعرف كوشا - التي زارت مصر أخيراً حيث أصبح لـ GEN إفريقيا مكتب في القاهرة - أنه بالإمكان التخلص من الخوف، كما يمكن تعلم بناء ثقافة المشاركة والترابط، ومعرفة أن طفلاً واحداً ينام جائعاً، أمر كفيل بشعورنا بعدم الرضا. 

برامج تعليمية 
لدى القرى الإيكولوجية برامج تربوية شاملة للتعليم من أجل الاستدامة تتضمن مفاهيم الزراعة العضوية والطاقة المتجددة وحل الصراع ومعالجة المياه والبناء الإيكولوجي، وكل ذلك عبر عمل ميداني يقوم به المشاركون؛ فبالتعاون مع «غايا تراست» تنظم عدد من القرى الإيكولوجية برامج تعليمية تدريبية كبرنامج تعليم تصميم القرى الإيكولوجية الذي أسس في عام 2005م، ضمن تدريب من أجل الاستدامة، يسعى إلى تعجيل التقدم نحو التنمية المستدامة؛ وذلك في أماكن مختلفة تتراوح ما بين مراكز التدريب في الجامعات والمناطق المهمشة. ويتضمن البرنامج 125 ساعة تدريب تقدم عادة في أربعة أسابيع، وينتهي بحصول المشاركين على شهادة EDE- Ecovillage Design Education. 
ومن ضمن أهدافه: استكشاف حلول وخبرات ونماذج فعالة لتحويل المجتمع نحو الاستدامة؛ وإكساب المشاركين مهارات نقل التصميم وتنفيذ الرؤية لأسلوب قيام القرى الإيكولوجية؛ واستعادة العلاقة المثالية مع الطبيعة والناس؛ وبناء وعي عالمي من أجل العمل على الصعيد المحلي؛ وتبني مداخل فنية للحياة ولحل المشكلات. وذلك في إطار جوانب الاستدامة الأربعة: الجانب الإيكولوجي، والجانب الاقتصادي، والجانب الاجتماعي، إضافة إلى الجانب المعني بالنظرة الكونية. وتجدر الإشارة إلى أن عدداً من خريجي هذا البرنامج - الذين يتجاوز عددهم سبعة آلاف - نجحوا في إعداد برامج محلية لتعليم طريقة تصميم القرى الإيكولوجية .