السيطرة والمراقبة ومصائر البشر

السيطرة والمراقبة  ومصائر البشر

الـــعنف والإرهــــاب أصـــبحا السمة المائزة لعصرنا، وبسبب الكلفة الباهظة لهما، صار المجـــــتـــــــمع الإنــــــساني إزاء تحد عظيم، ومن ثم هناك حاجة متعاظمة لابتداع طرائق جديدة وخلاقة من شأنها القضاء على هاتين
الآفتين.

إن أبرز طريقة لدفع الخطر عن المجتمع تمثلت في اعتماد فكرة المراقبة التي تتنبأ بالحدث قبل وقوعه. وفي الوقت الراهن غدا هذا الإجراء شائعا وروتينيا، فالبشر في غدوهم ورواحهم يخضعون للمراقبة، حيث ترصد حركاتهم وتسجلها كاميرات متصلة بدوائر تلفزيونية مغلقة. وبلغ شيوع هذا الإجراء وانتشاره درجة جعلت عدد كاميرات المراقبة في مدن بعض الدول المتقدمة يصل إلى أكثر من ستة ملايين، وهي منتشرة وموزعة بحيث إنها في بعض المدن قد تلتقط للمرء أكثر من ثلاثمائة صورة يومياً.
إن ما يسعى إليه مستخدمو كاميرات المراقبة، مثل الحكومات والمؤسسات المالية و المسؤولة عن تطبيق القانون، هو الحصول على نوعية محددة من المعلومات عن الناس بطريقة كفؤة وموثوق بها. فمن يقوم بالمراقبة غايته تشكيل آراء صادقة وقاطعة عن أفعال الناس ونواياهم بغية تمييز من يشكل منهم خطرا على المجتمع وبالتالي التنبؤ بالجرائم، وحماية الأرواح والممتلكات.
 وفي سياق كهذا، تتشكل الآراء اليقينية الصائبة عن الأفراد من خلال تعقبهم باستخدام صور عالية الجودة لتحركاتهم وتحليل مسلكياتهم بطرائق فعالة. فمشغلو كاميرات المراقبة في تحديقهم بمـجموعة من الشاشات التلفزيونية، وقدرتهم من خلال كبس أزرار معينة على التحكم بقرب وزاوية الكاميرا، هم في بعض الوجوه أشبه بوظيفة رجل الأمن الذي يتجول ويحدق في وجوه الناس الذين يلفتون انتباهه، ويستدل على الجريمة من خلال مشاهداتهم.

عين الكاميرا
ولكن هناك فارقاً كبيراً بين مشغل الكاميرا ورجل الأمن، فحدس مشغلي كاميرات المراقبة تجاه نوايا عدد كبير من الأشخاص في ارتكاب الجريمة هو من طبيعة إلكترونية توفرها برامج متطورة بمقدورها تحليل لغة الجسد وتعبيرات الوجه والسلوك، وذلك للتركيز على من يجب تمحيصهم بدقة أكبر، كما أن هناك اختلافا كميا بين الاثنين، فمشغل واحد بمقدوره مراقبة عدد أكبر من الناس أكثر من رجل الأمن في الشارع. ولكن هناك فارقاً نوعياً أكثر أهمية تضرب جذوره في عالم الفلسفة، يتضمن خلق حال من عدم التماثل في المعرفة بين طرفين. 
ولمعرفة هذا البعد الفلسفي علينا أن نعود إلى القرن الثامن عشر وتحديدا العام 1787م حين صمم «جيريمي بنتام» الفيلسوف النفعي مخططا لمراقبة السجناء أطلق عليه أسم «المشتمل» بانبتيكون (والاسم مشتق من كلمة يونانية تعني الرؤية الشاملة). والمبدأ الذي يقوم عليه المشتمل يتضمن برجاً يتوسط سجناً دائرياً، ويحتل البرج مفتش بمقدوره الإشراف على كل الزنزانات الموجودة حول المركز، وبإمكانه مراقبة أي سجين يريد أن يفعل شيئاً مخالفاً. والجانب المهم في هذا النظام أن المفتش الذي تحجبه ستائر عن السجناء لن يتمكن هؤلاء من معرفة إن كانت تتم مراقبتهم من عدمها في أي وقت. فالمفتش في وضع كهذا، بوسعه ملاحظة السجناء جميعاً في حين أنهم يعجزون عن رؤيته. إن جوهر هذه المنظومة هو تقويض للمعرفة المتماثلة: فالمعرفة فيه تصب كلها في اتجاه أحادي هو المفتش. وما يرمي إليه نظام «المشتمل» هو جعل السجناء يعتقدون أنهم تحت المراقبة كل ثانية ومن ثم فإنهم يقومون بتقويم سلوكهم بأنفسهم.

أسئلة أخلاقية
 إن فكرة كاميرات المراقبة التي تتكون منها منظومة ضخمة هي أشبه ما تكون بنسخة مطورة من مشتمل «بنتام»، فشخص أو نفر قليل من الأشخاص يراقبون من خلال كاميرات المراقبة السواد الأعظم دون أن يراقبهم أحد. وكما أوضح ميشيل فوكو في كتاب المراقبة والمعاقبة العام 1975، في بيان هذه الميزة التي توفرها فكرة عدم تماثل المعرفة، إن القوة ينبغي أن تكون مرئية وغير متعينة كي تصنع وهم السلطة الكلية، وتجعل المرء بالتالي يضبط سلوكه.
وهذا اللاتماثل المعرفي الذي يصنعه وجود الفرد تحت عيون الكاميرات التلفزيونية يطرح أسئلة أخلاقية مهمة. فكثير من الناس يتبرمون من ظهور الرقابة ويذهبون إلى القول بأن الحريات المدنية تتآكل بفعل ذلك وهناك انتهاك لخصوصيات المرء. وفي الوقت الذي بالإمكان التساهل فيه مع مبدأ المراقبة بحجة ردع عتاة المجرمين أو الإرهابيين الخطرين، فإن تمييز هؤلاء وتحديدهم أمر على قدر كبير من الصعوبة. فهناك مخاوف من أن يتم النظر إلى أشخاص أبرياء على أنهم مجرمون محتملون، وأن تتوسع قائمة المجرمين بحيث تشمل أشخاصا معارضين بالرأي أو أصحاب وجهات نظر مناوئة للتوجهات الرسمية، ولكن ليست لديهم نوايا لإزهاق أرواح البشر، أو تدمير مرافق الدولة.
والمصير الكارثي الذي يمكن للمرء أن يتخيله في ظل سيادة تقنيات المراقبة سبق أن صوره «جورج أورويل» في روايته الذائعة الصيت «1984». ففي تلك الرواية تمدد مبدأ المراقبة حتى بلغ الفضاء الخاص الشخصي للإنسان، حيث انبرى بوليس الفكر لمراقبة المواطنين بالصوت والصورة، ومارس تأثيرا على تفكيرهم من خلال وسائل للدعاية تمثلت في شاشات كبيرة مفتوحة تبث أخباراً منتقاة طوال اليوم ويعجز المواطن عن إغلاقها. ومنظومة المراقبة الهائلة هذه تراقب سكنات الناس وحركتهم، وعند صدور ما يشير إلى خروجهم عن السلوك المألوف يتم قمعهم بعنف، والمراقبة كلية في سيطرتها على الناس بحيث إن إبداء تعبير غير ملائم، على سبيل المثال إبداء الشكوك في تحقيق الجيش للنصر في معركة، يغدو تهمة تحمل مسمى جريمة الوجه. وكما في مشتمل «بنتام» فإن المواطنين في «1984» لا يعلمون إن كانوا مراقبين أم لا، ولذلك لا تحمل وجوههم أي تعابير ويتخذون سلوكاً خانعاً.

انتهاك الخصوصية
ونحن قد نشعر في دواخل أنفسنا بالريبة والامتعاض من فكرة المراقبة وقد نشعر بأنها عمل جهنمي حينما تتجسد على النمط الذي صوره «أورويل». ومع ذلك، فإن إدانة هذه الفكرة أخلاقيا أو معنويا أمر متعذر. ذاك أن المبدأ الذي تقوم عليه المراقبة هو جزء من حياة البشر اليومية والمألوفة، فعلى سبيل المثال، تتشابه كاميرات المراقبة المثبتة بالشوارع والميادين العامة بنظرات الأشخاص الذين يصرفون وقتهم في الجلوس على نواصي الشوارع، يتأملون المدبر والمقبل، أو النساء اللاتي يجلسن في شرفات المنزل ويتلهين بمراقبة الناس في مجيئهم وذهابهم. وفي كلتا الحالتين لا يلحق الأذى بالناس من جهة، كما لا تنتهك خصوصيتهم بما أنهم موجودون في فضاء عام من جهة أخرى. وبالإمكان تخيل كاميرات المراقبة وكأنها الأشخاص القابعون على نواصي الشوارع أو السيدات المطلات من الشرفات. ففي كلتا الحالتين البشرية والتقنية لا يُمس أحد بضرر.
ولكن المطابقة التامة بين المثال التقني للمراقبة والنماذج البشرية قد تحمل وجها مرعبا من جانب آخر، وتكشف عن الجانب القمعي في المبدأ. فعلى سبيل المثال، في المشرق العربي ذاع صيت قطرين عربيين يتماهيان في النموذج البشري للمراقبة مع فكرة الانتشار الواسع للمراقبة التقنية، وبلغا معاً النموذج «الأورويلي». فكاميرات المراقبة جزء من منظومة مراقبة تتكون من ملايين الكاميرات والمشغلين والبرامج وأنظمة الاتصالات. وفي هذين القطرين القمعيين كان عدد هائل من الجالسين على النواصي والمطلين من الشرفات، يقومون بمراقبة الشوارع، يحتفظ كل منهم بسجل لمشاهداته، ويرفعون تقريرا عن أي شيء مثير للاشتباه للسلطات، فكان البلدان، في واقع الأمر، محكومين بمبدأ المراقبة البشرية.
وهذه الأنظمة القمعية - تماما كرواية «أورويل» - كانت حجتها الأثيرة تتلخص في القول بمؤامرة شريرة تحاك باستمرار ضد وجود الدولة وأمنها، ولا بأس في سبيل المحافظة عليها من قبول بعض من انتهاك الخصوصية الشخصية من حين لآخر، أو انتهاج تبرير نفعي يقوم على القبول بالتفريط في خصوصية حياة قلة من الناس من أجل إدراك المصلحة العامة. وتلك الحجة كانت على الدوام ذريعة الأنظمة القمعية حين تشدد قبضتها على رقاب البشر وعقولهم، وهي أحيانا تستخدم وتوظف لغايات لا علاقة لها بالأمن والأمان.

المراقبة التجارية
ولكن الإشكال الراهن يكمن كذلك في حقيقة تعاظم الميزة المعرفية التي يتمتع بها مستخدمو تكنولوجيا المراقبة بسبب تحسن جودة وتفاصيل ما توفره هذه التكنولوجيا من جهة؛ وتطور منجزات ثورة المعلوماتية من جهة أخرى، بحيث أصبح من الصعوبة بمكان وضع خط فاصل بين القضاء على الجريمة والسيطرة الاجتماعية الشريرة. فعلى سبيل المثال، سرعان ما سيكون في مقدور الحواسيب تمييز الأفراد من خلال برامج متطورة للتعرف على الوجه والشخصية، وهو ما نشاهده الآن عند ولوج المجمعات التجارية العملاقة، حيث تصل الرسائل النصية إلى الهاتف الجوال للمرء وفيها إغراءات وعروض تسويقية داخل المجمع. وقطعا تطور هذا الجانب بفضل نظم مذهلة لتخزين بيانات ملايين الأفراد وتفاصيل عملياتهم الإلكترونية. وفي الحقيقة أصبح التنافس بين الشركات التجارية يعتمد في الدرجة الأولى على قدرتها في اقتناء البيانات الخاصة بالأفراد. وهي عملية تبدأ من خلال تكوين سجل خاص للفرد عن طريق حيازة وسيلة تواصل كالهاتف أو البريد الإلكتروني، وبعدها تدرج تفاصيل هويته الشخصية في منظومتها الحاسوبية من خلال عمليات الشراء المباشر التي يقوم بها الفرد أو صرف بطاقات امتياز له تمنيه بمزايا متنوعة نظير استخلاص بياناته. وهذه السجلات الحاسوبية ستتولى تصنيف وتنميط شخصية الفرد، فيغدو ممكنا التنبؤ بما يسعى إلى اقتنائه ومعرفة نقاط ضعفه الاستهلاكية وما يستهوي ذوقه،وهي جميعا تفضيلات تسبر أعماق ودواخل الشخصية الإنسانية. وهذا الملمح يقدم لنا الكيفية التي تتجاوز من خلالها فكرة السيطرة عبر تكنولوجيا المراقبة مبدأ الحد من الجريمة إلى اختراق الشخصية الإنسانية من أجل مصالح تجارية. وهذه الحالة يبرز فيها بوضوح مبدأ اللاتماثل المعرفي للمراقبة وخطورته على الاستقلال الذاتي للفرد ومعنى حياته.
هكذا لم تعد فكرة تكنولوجيا المراقبة مرتبطة بنموذجها الكلاسيكي المقترن بالأمن والحد من الجريمة، أو تقويم عتاة المجرمين، بقدر ما أضحى أداة جوهرية لا غنى عنها في جني الأرباح التجارية ومراكمة الثروة. ولئن استهدفت تكنولوجيا المراقبة في هذا الطور معنى حياة الإنسان، فإن آثارها السلبية مستقبلا ستغدو أكثر فداحة من ذي قبل. وربما حان الوقت لتشريع وسن قوانين جديدة تحول دون قيام أصحاب المصالح التجارية والسيطرة الاجتماعية الشريرة بجمع وتخزين بيانات الأفراد، ولكن قد يبدو هذا أمرا مستحيلا حينما يجتمع المال والسياسة معا. ومع الأسف، فإن المجتمع المثالي الذي تصوره لنا السياسات العالمية الآن يجمع بين رفاهية تنتجها أرباح تجارية متزايدة وهدوء مجتمعي قوامه أفراد خانعون، ولكن؛ هل هذا عديم الصلة بنبوءة «أورويل»؟ .