محمد علي شمس الدين : القصيدة سرٌّ يبحث عن سرًّ
محمد علي شمس الدين، شاعر الدهشة والإثارة والاشتباك الحميم والشرس في آن. شاعر اللحن الأخير في جنازة مَن يقول بموت الشعر، تحار من أين تبدأ معه: من جنوبه اللامع في شعره كحربة، والشهيد الحيّ باستمرار، أم من تبنّيه قضايا الإنسان الكبرى، أم من غرقه في التاريخ كاتباً له كتابة جديدة خارج الحدث في لمعان الدلالة، أم من تحوّله إلى حانة للمتصوّفين، يساقيهم ويساقونه خمرة الوصول؟ أم تبدأ من لغة تدخلك في اكتشاف جديد لمعاني الكلمات؟ وليس شعراً ذلك الذي لا يخلق قاموساً آخر للكلمات، كلمات حمّالة وجوه، مسافرة ومقيمة، كلمات مشحونة بالإحساس الحادّ.
شعره يضيء في العتمة، ولذلك تشعل شعره إذا أظلمت نفسك، مشحوناً من البرق بصوفية، مسُّها يُصعق، وضوؤها يريك أمداء لا نهايات لها. طفل جنوبي يلعب بالكلمات لعبة مذهلة، يبني منها قصوراً، وآناً يحوّلها غيماً في الجنوب، وغيماً في الضواحي.
لم يبرح الجنوب هويةً وهوى، حتى وهو يهرّب قصائده إلى «آسيا»، مع اندفاع الشباب وأحلامه التي لا تأفل أبداً. بسيط إلى حدّ الذهول، وموغل إلى حدّ الغرابة، تقرأه فتظنّ أنك ترى قعره ببساطة، ويغريك صفاء الرؤية بسبرها وتناولها، فتكتشف أنك مغامر مخطئ، في أعماقه فضاء، فضاء يغوص في الداخل باتجاه اللانهاية... داخله مخلوب بخارجه، يجيد الغوص والطيران في آن.
ولذا تراه دائماً ممتداً باتجاه فضاءين، وإن شئت باتجاه أفقين، أفق يمتدّ من الجنوب الداخلي في كينونته إلى الجنوب/المكان، وهو، بترابية الجنوب/المكان، عاشق ومتمرّد. له حلول في ترابيته الجنوبية، ومتحوّل عليها وفيها بشغف في اتجاه جنوب آخر، هو جنوب اللاهوت، يرى جرحاً لا ينضب ضوؤه، فتراه في أجساد الشهداء زنابق متفتّحة على «نهر القاسميّة»، وفي أكواخ الفقراء في القرى، وحين يصبح الجنوب المكان واللاهوت معاً، تصبح الجهات كلها جنوباً.
من «قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا»، أول ديوان صدر للشاعر عام 1975 عن «دار الآداب» حتى ديوانه الأخير الصادر حديثاً (2013) عن الدار نفسها بعنوان «النازلون على الريح»، لم تهدأ إصدارات محمد علي شمس الدين على امتداد 38 عاماً، كيف حصلت التحوّلات الشعرية لهذا الشاعر؟ ما أبرز محطاته الإبداعية؟ وإلى أي أفق يسير بشعره؟
يحاوره الأديب عمر شبلي، الشاعر الذي أصدر 7 دواوين، والباحث الذي ألّف 5 كتب، ورئيس تحرير مجلة المنافذ الثقافية، فكان هذا الحوار:
< لنبدأ من النهاية، في مجموعتك الجديدة «النازلون على الريح»... نلاحظ شيئاً في استكانة المتأمّل أو الصوفي... بعد شراسة «قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا»، وبعد الغوص في الجرح الجنوبي... ما سرُّ هذا التحوّل؟
- أعطيك مثالاً عن أسرار هذا التحوّل، في نهر من أنهار الجنوب اللبناني، هو نهر الليطاني، فهو ينبع من ينابيع عدة على علو ألف متر، يخترق مساحات شاسعة وأودية عميقة قبل أن يصبّ في البحر المتوسط، شمالي مدينة صور، هذا النهر العظيم، يرفده ستة عشر رافداً على ضفتيه اليسرى واليمنى، تصبّ فيه. قبل أن ينعطف نحو البحر في الجنوب، يسمّى نهر «القاسمية»، يسير في سهول منبسطة هادئاً رائعاً... وماؤه يميل إلى الخضرة، بعد تدفقاته العنيفة والوحشية في الأعالي.
هل أستطيع أن أشبّه نفسي وشعري بنهر الليطاني؟ ثمة، على ما أرى، أكثر من وجه شبه بيننا، لناحية وحشيّة المنبع وأدغاله وما يحيط به من صخور في الأعالي أولاً، وهذه هي حال «قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا» أول ديوان صدر لي عام 1975، كان بالفعل ديواناً شرساً، يتجلى فيه عنف اللغة وعنف الصورة، كانت الغريزة اللغويّة غير مهذّبة، إذا صحّت العبارة، وتحمل صورة تشبهها أو تشكيلاً صورياً كاسراً كمطلع قصيدة «النار في الخرائب»، حيث أقول:
«للنسرِ الجائعِ للبلبلِ في المطرالوحشيّ وللطفل المذبوح على عتبات النهرِ، لموسيقى الأفلاك وللفوضى الكونيّة أنزف من رئتيّ الشعر وأرفعُه كالجرحِ الشاخبِ في نافورةِ هذا العصر».
هنا بالفعل منابع وحشيّة للكلمات والصور كمنابع الليطاني.
الوجه الآخر للشبه هو أنه قبل أن يستسلم لبطاح الجنوب، يتلقّى ستة عشر رافداً من على ضفتيه، جميعها تصبّ فيه وتندرج في مياهه.
إنّ الروافد التي صبّت في تجربتي الشعريّة، تكاد تكون ستة عشر رافداً أيضاً، الرافد الأول صوت الجدّ الحزين، وهو يردد على مسمعي أشعار الحبّ المقهور والعاطفة الجيّاشة، يمتزج بذلك صوت الرياح الجبليّة وهبوب عواصف الجنوب، أضف أشعار المعرّي والمتنبي والشريف الرضي في مرحلة الصبا، وصولاً إلى أوّل الشباب، حيث سيطرت كتابات كامو الوجودية، والقراءات التاريخية والفلسفية، ومشاهد السينما العالمية، ولوحات فان جوخ وجوجان ودالي، وقد كتبت قصائد من وحي كل ما ذكرت... الرافد الحيوي الذي أثّر في لون كلماتي ومذاقها هو رافد العرفان، فأنا ابن عائلة مشيخيّة، وذِكر الله حاضر في أنفاس الهواء الذي نتنفسه، وقد ناسب تهيؤي هذا ما رفدتني به كتب بعينها، هي: «منطق الطير» لفريد الدين العطّار النيسابوري ومثنوي جلال الدين الرومي، وديوان شمس تبريزي للرومي، وديوان حافظ الشيرازي، وكتاب النبي لجبران... هذه الروافد صبّت جميعها في النهر، وأضيفت إليها أشعار لوركا ونيرودا وأنطونيو ماتشادو... وأشعار الفرنسيين بريفير ورمبو وبودلير، وهكذا مع الأيام، اختلطت هذه المياه كلها، لتجري جريانها الهادئ قبل اندفاعها في البحر.
هل الليطاني الهادر في الأعالي هو نفسه القاسمية الهادئ في المنبسطات؟ وقد سبق لي أن سألت نفسي شعرياً هذا السؤال، وأجبت في قصيدة بعنوان «الأيام» (من ديوان «يحرث في الآبار» 1997):
«تجري في جسدي الأيام
جسدي المجرى والأيام الماءْ
وحين يسائلني ملك الشعراء:
هل ماء النهر هو النهر؟ أتلعثم
وأقول له لا ونعمْ
فأنا لا أشرح للطير سماء الطير
ولا أشرح للطفل حليب الأمْ».
وهذا هو الجواب عن السؤال.
< في ديوان «النازلون على الريح» أيضاً، رحلة في الوجد الصوفي هي رحلة في وحدة الوجود، فبمَ تمتاز عن ابن عربي وعن مولانا جلال الدين الرومي، الذي يقول «لا تعبدوا حتى تروا»، وعن الحلاج وعن حافظ الشيرازي في حيرته... وعن سائر المتصوّفة المسلمين؟ أين تلتقي معهم؟ وأين تنفرد بخصوصيّتك في هذا الوجد الصوفي الغامر؟
- حسناً... المسألة حسّاسة جداً وأرغب في إيضاحها. إنّ جميع مَن ذكرت، وسواهم أيضاً كالنفّري والسهروردي، ليسوا بشعراء بالمعنى الإبداعي الصوري واللغوي للشعر، ولكنهم أصحاب أحوال، أو أصحاب عرفان... فإذا ذكر الشعر فهم غير معدودين هناك، فإن ذكر العرفان عُدّوا من أهله. أنا باختصار، شاعر ولستُ من المتصوّفة أو أهل العرفان أو الخرقة أو من الدراويش أو ما شئت من تسميات الصوفية. وحين نأخذ أمثلة محددة على ذلك، تتجلّى الفوارق، فالشعر طريقة من طرائق الأداء التعبيري باللغة، والسلوك الصوفي طريقة أخرى مغايرة. إنّ متطلبات القصيدة متطلّبات تقنية وصورية وتعبيريّة خاصة، حيث يظهر الشاعر فيها أحياناً كالساحر، يستعمل قوّة إيحاء الكلمات، ويجمع بين رقاب المتنافرات، ويركّب كيمياء قصيدته الخاصة، من الماغما العامة أو المصمتة أو المفتوحة للغة، إن الحب الذي هو أساس وحدة الوجود أو أساس العشق في التجربة الصوفية، يمكن شرحه بكلام مباشر وموزون ومقفّى، كقول ابن عربي:
«لقد صار قلبي قابلاً كل صورة
فمرعى لغزلانٍ ودير لرهبان»
...إلى آخر الأبيات المعروفة... لكننا هنا أمام نظم للمعنى لا أمام صورة من صور الشعر... والفارق هو أن الطريقة الأولى تعلن عن معناها إعلاناً، والثانية (الشعرية) تومئ وتراوغ وتلغز... كما في قصيدة «الصخرة»، (من ديوان «أناديك يا ملكي وحبيبي» عام 1977، حيث أقول:
«في فوضى هذا العمل الخلاّبْ
حيث الشعر يوحّد بين الأشياء
يحلو أن أتقدّم للصخرة
أسألها: هل أنتِ أنا؟
أتخيّلُ أنّ الصخرة واقفة
في أسفل جفن الطفل الباكي
في مجرى الدمع
فأحرّكُها
أتخيّل أن الصخرة وقت أعمى
ينهض فوق الأشياءْ
في فوضى هذا العمل الخلاّب
في اليوم السادس بعد الطوفان
فوق حطام النورس والإنسانْ
أشرب نخبكِ أيتها الصخرة».
إن عناصر الشعر (القصيدة) موجودة في «الصخرة»، وشكلها وطريقة أدائها، هما عينُ معناها، وهكذا... ولنأخذ مثالاً آخر، الفكرة التي سعى إليها فريدالدين العطّار النيسابوري في منظومته المسمّاة «منطق الطير»، لقد كتب الرجل الذي عاش في القرن السادس للهجرة، الثاني عشر للميلاد ما يقرب من خمسمائة حكاية في 4647 سطراً هي مجمل كتابه، واصفاً رحلة الطيور وسلوكها صوب «السيمرغ»... و«السيمرغ» طائر الطيور أو ملكها وسيدها المطلق، وهذه المفردة تعني بالفارسية التي كتب بها العطّار منظومته، أمرين أو معنيين في وقت واحد. فهي اسم مفرد لطائر واحد، وهي في الوقت نفسه مركبة من قسمين: «سي» وهي الرقم ثلاثون، و«مرغ» وهو الطائر أي «ثلاثون طائراً»، نظرت الطيور التي وصلت إلى الوادي الأخير من الأودية التي قطعتها، وهو وادي «الفقر والفناء» إلى صفحة السماء الأخيرة التي يقيم فيها «طائر الطيور» السيمرغ، فأبصرت ثلاثين طائراً معكوسة على صفحة المرآة في وقت واحد. وهي ليست أكثر من صورة ما بقي من طيور الرحلة الطويلة بعد أن ماتت منها الآلاف في الطريق... مرجعيات العطّار النيسابوري في حكايته لا تُعدّ ولا تحصى، بدءاً من قصص القرآن وأصحاب القصص القرآني، مروراً بعدد من رموز السلوك الصوفي، وصولاً إلى عشرات الحكايات الغريبة والمرويّات المتداولة الممتلئة بالغرابة والسلوك العجيب الواصل لحدود الجنون، بخاصة في قصص العشق والتدلّه المرويّة، التي جعلت منها المخيّلة الشعبية، أساطير مروية، كحكاية «الشيخ صنعان وعقدة الزنّار لعشقه الفتاة المسيحية»... كل هذا الحشد من العوالم الدينية والشعبية الأسطورية، يحشده العطار ليقول بوحدة الوجود ويطابق بين الوجود والشهود في الخلق. نحن هنا أمام رؤية صوفية أو «حال» أو «موقف»... رؤى وأحوال ومواقف تبهر فيها الرؤية ويبهت الشعر أو يضعف أو يموت، إنّ الشعر عند المتصوّفة على العموم، إما ضعيف أو متكلّف أو معدوم.
أنا أكتب الشعر أولاً وأخيراً وبين بين، والحال أو الرؤية الصوفية رافد من روافد ستة عشر، كما سبقت الإشارة، للقصيدة. إنها أحد الروافد الجوهريّة، والمشعّة، للقصيدة، ولعلها لقيا القلب العاشق، لكنها وحدها لا تصنع الشعر، باعتباره تقنية خاصة فريدة، في الأداء اللغوي والصوري والإيقاعي للقصيدة، مثلاً، أقول في مطلع قصيدة «صباح التعب» (من مجموعة «أناديك يا ملكي وحبيبي» عام 1977)، جامعاً عناصر متنافرة للرحيل أو السفر أو الهجرة... كلمات قليلة تصنع القصيدة:
«ناوليني حذائي وقلبي
ناوليني العصا وقربة ماء الحياة
ناوليني السفر...».
مثل هذا التوليد الصوري للشعر، يحدث، وبكلمات قليلة يجمعها خيط غامض داخلي، خيط يجمع نقائض الحياة، في نهاية قصيدة «يوم الأحد الواقع فيه صمتي» (القصيدة الأولى من ديوان «النازلون على الريح» عام 2013)، أقول خاتماً القصيدة:
«طفلٌ يحبو
ظبيان وسيّدة
وفتى مذعور القلب بعيدُ مدى الرؤية يشبهني
وأنا أتقدّم في زحمة أيامي
في زحمة سيري نحو الله».
هذا هو الفرق بين المتصوّفة وبيني، لا يجمعنا السلوك بل الرؤية، وتفرّق بيننا مسافة الشعر، فأنا شاعر يتدروش (أي يستبطن في بعض شعره حال الدراويش ولا يلبس المرقّعة والقلنسوة) وهم دراويش حال، والقصيدة بين يديهم غالباً ما هي لا تكون... فإن كانت، فلماماً وتفاريق.
< هل هذه هي معاناتُك للوصول إلى «منبع النهر الإله» تاركاً خلفك مواويل سكينة؟ وهل وصلت أو لاتزال على الطريق؟
- الصورة التي تذكرها عن «منبع النهر الإله» مأخوذة من قصيدة «موشّح إلى أعمدة الريح الجنوبية»، المكتوبة عام 1974، وهي إحدى قصائد ديواني الأول «قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا» الصادر عام 1975، مع ما تعنيه هذه التواريخ من بدايات. والمقطع المقتطع من القصيدة هو التالي:
«سيّدي
أعلمُ أن الأرز للربّ وأنّ الأرض للتاجر والمنفى لقلبي
وأنا أحمل أحزاني وأمتدّ جنوباً
مردِفاً خلفي مواويل سُكينة
باحثاً عن منبع النهرِ الإله
قبلَ يرتدّ الفتى النهر الإله
مثخناً بالماء محمولاً على العشبِ المدمّى
يدخل المسجد والمقهى وحانوتَ البغاءْ
ثم يدلي باعتراف القاتلِ المقتولِ إنّي أخلع الماء الذي ينضح سُمّا
فاعجنوا لحمي بلحم الفقراء
وادخلوا واغتسلوا في جسدي».
لقد توضحت الصورة في السياق الشعري للمقطع... هناك خطاب شعري جوهره الصراع الطبقي في بيئة مؤمنة بإله، هي الجنوب اللبناني، فالصراع - إذن - يدور في هذه البيئة الدينية بالذات، لا في بيئة أخرى ليس للدين أو للإله منها نصيب، هذا هو المفتاح الذي يضيء المقطع بكامله، ويكشف خفايا مراحله وتدرجاته... من لفظة «سيّدي» ذات البعد الطبقي، حتى دخول المعنى التغييري الثوري لـ «النهر - الإله» الذي هو في مواجهة «سيّدي»، والذي، من خلال قوة الاعتقاد الإلهية - البشرية، سيدخل إلى كل أماكن ومفاصل وأفكار الناس الجنوبيين، بلا مكان ممنوع، ليخلع عنهم ثياب الذلّ أو مياه الذلّ، ويغسلهم بمائه المقدّس - ماء الفقراء - وهذا هو القصد من تعداد أماكن متباينة يدخل إليها النهر الجارف المقدّس ليغسلها: «يدخل المسجد والمقهى وحانوت البغاء...»، أما تفسير معنى القاتل المقتول، واعترافه، فهو أنّ هذا النهر هو مقتول الظلم والخرافة وقاتلهما في وقت واحد، فاقتضى تبيان مرمى العبارة وإحالاتها في المقطع الشعري المذكور، وهو صراع لا وصول فيه على ما أرى، بمعنى الركود... إذ إن النهر حين يتجمّد ماؤه، يموت مؤقتاً بصفته النهر، وهو بحاجة لمياه دائمة متدفقة للجريان.
< كيف توفّق بين شراسة القصيدة المقاومة (الجنوبيّة) التي كتبتها ولاتزال تكتبها، وكونيّة الصوفي أو روحانيته؟ أمازالت «كل الجهات الجنوب» كما تقول في قصيدة «دخان القرى» من ديوان «غيم لأحلام الملك المخلوع» (1977)؟ وهل الجنوب «حفنة من دخان القرى» أو ساحة دموية ومقاومون وعصافير مذبوحة؟... أين أنت بين الصوفي والمقاوم؟
- أنتَ في سؤالك تفترض التعارض بين الروحي أو الديني أو الصوفي، وبين المقاوم... وعلى هذا الافتراض تبني السؤال.
والجواب هو أن الافتراض بذاته لا يستقيم، فليس ثمّ من حدود بين هذا وذاك... وفي المنطق الصوري على الأقلّ، يجب أن تكون المقدمات منطقية لتأتي النتيجة صحيحة منطقياً. كنت أنتظر مثلاً سؤالاً من نوع: كيف توفق بين القول الشعري والفعل المقاوم؟
أما لجهة الجمع بين «الروحي» و«الديني» و«الصوفي» و«العابد» والمقاوم، فهو أمر من بدهيات التاريخ العربي والإسلامي، البعيد والقريب معاً. والأمثلة أكثر من أن تحصى عداً، والرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم هو أوّلها... فمن أهم ميزاته، وميزات أصحابه الميامين، كما صوّرتهم لنا كتب السيرة، هي أنهم كانوا يجمعون في وقت واحد، قوّة المحارب وشكيمته وخشونته، مع رقّة العابد وسلامه العميق، وهدوئه الشبيه بهدوء البحر... ففي الجسد الواحد لأي من هؤلاء، حلّت روح واحدة بجزأين، ظاهرهما متعارض وداخلهما موحّد، يقاتل أحدهم أو يجاهد الأعداء، وأعدى الأعداء (وهو نفسه) بجلد الأبطال، ويخشع في صلاته في الليالي المظلمة، حتى تغمر دموعه صدره.
لا تعوزنا الأمثلة من التاريخ ولا تعوزنا الأمثلة من الحاضر الراهن أيضاً. إن الزهد في الإسلام، ليس انسحاباً من العالم أو رهبانية، ولكنه ممارسة الحياة بطبيعة الرضا، ونبذ الجشع... إنه أساس الرجاء لا أساس التجارة.
أما لناحية التعارض الموهوم بين «المقاتل» و«الشاعر»، فإنني أقول إن الرصاصة إن لم تكن مغسولة بماء الشعر، فسرعان ما تتحول إلى إرهاب. تضيّع الاتجاه والبوصلة، الشعر كالحب سدى ولُحمة الكائنات. ولا شيء في الوجود يذكر، بلا قصيدة، وأغالي أحياناً فأقول القصيدة إن لم تكن أهمّ من الحياة فهي مثلها.
< كيف توفّق بين توجهك الروحاني الغامر في «النازلون على الريح» وبين ممالك المتنبي المبنيّة على الأسل؟
- أعترف بداية أنّ ثمة ديوانين من دواويني الخمسة عشر، يطلّ من عنوان كل منهما رأس المتنبي. الأول هو «ممالك عالية»، من خلال بيت المتنبي المعروف:
«أعلى الممالك ما يُبنى على الأسل
والموت عند محبيهنّ كالقُبلِ»...
والثاني هو «النازلون على الريح»، ولعلّ هاجساً ما ينقلك عند سماعه، إلى بيت المتنبي المعروف:
«على قلقٍ كأنّ الريح تحتي
تقلّبني يميناً أو شمالاً».
ولكنّ عنوان «ممالك عالية» الصادر لي عام 2002 هو عنوان مطلق من ناحية، في حين أن بيت المتنبي يخصص، كما أن طريقة أداء القصائد أو أسلوبها وصياغاتها أبعد ما تكون عن طريقة المتنبي.
ويكفيك مثالاً مطلع القصيدة التي يحمل الديوان اسمها، والتي جاءت مسبوقة ببيت المتنبي المعروف، للدلالة على أصل التسمية، لا من أجل تثبيتها أسلوباً ومعنى، بل لنقضها من داخل اللغة:
«... ورأيته يزن الرياح بكفّه ويقول دوري
ما شئتِ إني حامل اللهب المقدّس في يدي ودم العصور
مازال يجري في أعنتِهِ القديمة غاسلاً وجهي ومقتحماً جذوري
أعلى الممالكِ ما يقامُ على الزهورِ
لا السيف...».
فإنني من البداية دخلت في تعارض أسلوبي جوهري مع المتنبي... وهو تعارض واضح في بُنية القصيدة وبنائها في وقت واحد.
أما عنوان «النازلون على الريح» فهو عنوان بَصَري أوّلاً، ونفسي في المحصلة الأخيرة، وهو أشد وقعاً في النفس من جملة المتنبي الشائعة المعروفة، مصدر العنوان، ولأكشف ذلك أيضاً كان مشهد الثياب المنشورة على حبال الغسيل، لجماعة من المهجّرين السوريين في محنتهم الراهنة، وقد نزلوا مقابل منزلنا. والقصيدة تمشي في اتجاه الانحياز إلى فئة ثالثة هي فئة «الضحايا» في الحروب، منذ بدء التاريخ حتى اليوم، حيث لا تذكر المدوّنات سوى فئتين، المنتصرين (والتاريخ تاريخهم) والمهزومين، أما «الضحايا» فهم المسكوت عنهم في الملحمة الكبرى، أنا أنحاز لهؤلاء في القصيدة، وفي التاريخ بكامله، أقول:
«ألا أيُّها اللهُ
يا لكَ الملكِ
تعطيه من شئتَ أو من تشاءْ ...».
وأعني بهم الناس الذين شيّدوا أمجاد الغابرين والحاضرين معاً. وماتوا من دون ذكر لهم أو حساب... أولئك - مثلاً - الذين «شيّدوا قصر زنوبيا / كي تنام على تخت قيصر»، والذين شيّدوا الأهرامات، وحفروا القناة، ورفعوا الممالك العالية ثم اندثروا كهباء منثور... هؤلاء هم «النازلون علىالريح» في ديواني... وهم أبعد شأواً من القلق النفسي المتوتّر لأبي الطيّب المتنبي.
< لماذا انتصرت للقصيدة الحديثة، وأنت لاتزال مبدعاً في القصيدة العموديّة؟ هل لأنها فضاء؟ وإذا كانت القصيدة العمودية «شُكلاً» أي «قيداً»، فكيف انتصرت لها عند المتنبي وأبي العلاء وغيرهما في الشعر العربي؟
- يبقى في القصيدة، في نظري، مهما كان شكلها، ووقتها، شيء ما غامض، سرٌّ ما، يتبع خطه الشعراء ويبحثون عنه، فكأن القصيدة بهذا المعنى «سرّ يبحث عن سرّ»، وهو أساس التواصل والتجدّد في وقت واحد. فالحداثة التي كتبها الشعراء العرب منذ خمسينيات القرن الفائت حتى اليوم، على اختلاف أساليبها، ومنابعها، وقعت جزئياً (لناحية النصّ الشعري الحديث المكتوب ولناحية النظريّة معاً) في التباس أو اشتباه كانت قد وقعت فيه الحداثة الغربية، (وهي سابقة على الحداثة العربية وملهمتها في بعض مسائلها). وهو التباس العلاقة بين القديم والحديث على العموم وفي الشعر، وبين الأصالة والحداثة. فإنّ الاندفاع الجارف للحداثيين في أوربا، كالمستقبليين الروس، مثلاً، وشعراء وفناني الحداثة في فرنسا، اعتبروا كل ما سبق حداثتهم وهناً وشلواً يجب رميه في سلة مهملات التاريخ، حتى إنّ مايا كوفسكي (المستقبلي الروسي) كان حين يسأل عن الرومانسية يعتبرها ساقاً ميتة، لا لزوم لها في الجسد الحي (جسد الحداثة)... وأوجين يونيسكو، المسرحي الفرنسي السريالي كتب هجائيات مرّة في فكتور هوجو... رأس الشعر الفرنسي الكلاسيكي.
أما هوجو فقال متحسّراً: «من يلقي بالشعر الجميل إلى كلاب النثر السوداء؟»... الخطأ الكبير أو الخطيئة الكبرى لدى الحداثيين الغربيين كانت في اعتبار الماضي عموماً والكلاسيكية قبراً أو مدفناً... ولابد من تلافيه... وقد تبعهم بعض الشعراء والمنظرين الحداثيين العرب في هذا الاعتبار، فرجموا التاريخ العربي بكامله، ودعا بعضهم إلى «بجّ السدّ» بتعبير أنسي الحاج، في مقدمة ديوانه الخطير «لن» (1952).
جاءت عصور ما بعد الحداثة، لكي تثبت، فلسفياً من خلال التفكيكيين الغربيين، من مثل فوكو وجاك دريدا، أن الماضي ليس مقبرة، بل هو طائر، وأن لا شيء يندثر بل كل شيء يتحوّل. هذا ما نراه نحن في علاقتنا بالحداثة الشعرية، وكتابتنا للقصيدة، ومن حيث علاقتها بماضيها البعيد والقريب المتحوّل. إني، مثلاً، ابن امرئ القيس ولست هو، وابن المتنبي ولست هو... وهو أمر خطير ودقيق، وفيه تكتب الكتب.
< على أي مائدة جمعت جبران خليل جبران والمتنبي معاً في قصيدة «أُناديكَ يا ملكي وحبيبي»؟
- الملك هو المتنبي، والحبيب هو جبران، وقد دعوتهما معاً إلى قصيدة «أناديك يا ملكي وحبيبي»، المكتوبة عام 1978، والمنشورة في الديوان الذي يحمل الاسم نفسه، في العام نفسه، وهي قصيدة مكتوبة إبّان احتدام الحرب الأهلية في لبنان، واشتداد القتال والقتل، ما جعل جسدي يعيش حالة المتنبي في الحروب، وروحي تلتجئ إلى سلام جبران وأحواله القمريّة، من هنا جاء قولي في القصيدة:
«قيل في الحرب ينكسر الحالمون على الحلم
تبتدئ الروح أحوالها القمريّة
ليس هذا بكائي لجبران لكنني أعلم أن الكآبة سري
وأنك يا سيدي وحبيبي تبادلني السرّ
فاخفض جناحك عندي...».
وقد اجتمع الشاعران هذان في عرفي في القصيدة.
< نلاحظ أواصر أخرى تربطك بهذين القطبين: جبران والمتنبي... أليس كذلك؟
- بلى، الأواصر عميقة وقويّة... حتى إنني (ولتصدقني) ربما رأيت أحدهما في المنام.
< لغتك الشعريّة خاصة... ومن خصوصيتها مثلاً أن تتلاقى فيها الدهشة وعذرية الرؤية في آن، مثل «ناوليني حذائي وقلبي، ناوليني العصا وقربة ماء الحياة، ناوليني السفَر»... فالكلمات في منتهى البساطة، ولكنها مدهشة حين تضاف إلى بعضها وتتزاوج. وفي ألفاظك شحن صوفي واضح، يتسرّب من خلال عملية التركيب اللغوي، وربما من طقوس الجنوب التي تجمع بين الغناء والحزن... فهل كان لتأثير البيئة والطقوس الجنوبية التي نشأت فيها تأثير على لغتك الشعريّة؟
- سيكون من المجافاة إنكار هذا التأثير، إذ في قاع النهر أو في مجراه، تتجمّع مياه كثيرة من كل فجّ وصوب، ولكنّ تفسير اللغة الشعرية أو اللعبة الشعرية، بمصادرها وحدها مجافاة أكثر خطورة من إهمال هذه المصادر، فلو افترضنا، على سبيل المثال، إخوة أو أتراباً نشأوا في بيت واحد، وتعلّموا في مدرسة واحدة، وعايشوا أناساً متقاربين... فلماذا ينفرد واحد منهم بالشعر دون سواه؟ وقد يصل الاختلاف بينهم إلى حد التناقض، المسألة في نظري، بمقدار ما تتعلّق بمصادر التجربة الشعرية، تتعلّق بالقدرة على التحويل والقدرة على التأويل والإبداع، وعملية التحويل والتأويل والإبداع هذه هي عملية خطيرة وسرّية وذات طبقات، شبيهة بصنع نهر متدفّق لنبتة صغيرة أو زهرة صغيرة على ضفته، هنا تتشارك عوامل جسدية ونفسية كثيرة، بعضها معروف وبعضها مستور، كطبقات اللاوعي مثلاً... كما يصح افتراض وجود «جينات شعريّة» لدى بعض الناس، ينفردون بها عن سواهم، وإلا فما معنى أن الاجتهاد وحده، والتحصيل الثقافي مهما تنوّع وتعمّق لا يصنعان شاعراً؟ ولعلّ الذي قال، على سبيل الطرافة: إن الشاعر أو الفنّان يصدر «بمرسوم إلهي» يقرّب لنا الفكرة... وهي أنّ الاستعداد الفطري، والخلقة الإلهية، هما وعاء الشعر الضروري، الذي يمتلئ بكل روافد الثقافة ثم يفيض أو ينضح بما فيه. إن تجارب علم النفس والتحليل النفسي التي لمع فيها ابن سينا من فلاسفتنا الأقدمين، وفرويد ويونج من الغربيين المحدثين... والكشف عن مجاهيل وطبقات اللاوعي في النفس البشريّة، ألقت ضوءاً على بعض ما يجري في الطبقات العميقة لنفس الشاعر... ولعل تجارب المتصوّفة وكشوفهم، تقدّم ملاحظات عميقة وثمينة في هذا المجال.
< لقد مررت بأكثر من عمر شعري ونحن نسمّيها في النقد «المراحل» التي يقطعها الشاعر في تجربته الشعريّة، وواضح في نتاجك مراحل تأثرك بالتراث وشغفك بالتاريخ الذي يستبدّ بك كالشعر نفسه واطلاعك الخصب على التراث الإنساني... فما الخيط الواصل بين كل هذه المراحل؟
- الخيط الواصل بين كل هذه المراحل، وأنا أسمّيها الأعمار الشعرية، هو خيط التحويل، فمن دونه، يبقى كل تراكم ثقافي تراكماً كمياً... القدرة على التحويل وحدها هي القدرة على استخراج نقطة عسل الشعر الصغيرة والثمينة، من زهور الحدائق وأشجارها، وهذه القدرة على التحويل هي دينامو الشعر في نظري، إنها تعمل في كيمياء وفيزياء التجربة، في أرضها وسمائها وزمانها في وقت واحد. إن عمل الشاعر هنا قريب لناحية العناصر، من عمل الكيميائي الذي يستخرج من نسب العناصر ونوعها ابتكاره المختلف عن هذه العناصر، ومن الناحية الفيزيائية، فالشاعر يلعب على عناصر الزمان والنسبية لعباً يقرّبه من الفيزيائي الرياضي. وحيث إن أدوات الشاعر، الكلمات، والكلمات كائنات قائمة بين الصوت والمخيّلة، بين النطق والإيحاء، فالشاعر هنا يقف بين العرّاف والساحر... ولا نقول «النبي» برغم جدّنا المبجّل أبي الطيّب ■