محمد علي شمس الدين : القصيدة سرٌّ يبحث عن سرًّ

محمد علي شمس الدين : القصيدة سرٌّ  يبحث عن سرًّ

محمد‭ ‬علي‭ ‬شمس‭ ‬الدين،‭ ‬شاعر‭ ‬الدهشة‭ ‬والإثارة‭ ‬والاشتباك‭ ‬الحميم‭ ‬والشرس‭ ‬في‭ ‬آن‭. ‬شاعر‭ ‬اللحن‭ ‬الأخير‭ ‬في‭ ‬جنازة‭ ‬مَن‭ ‬يقول‭ ‬بموت‭ ‬الشعر،‭ ‬تحار‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬تبدأ‭ ‬معه‭: ‬من‭ ‬جنوبه‭ ‬اللامع‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬كحربة،‭ ‬والشهيد‭ ‬الحيّ‭ ‬باستمرار،‭ ‬أم‭ ‬من‭ ‬تبنّيه‭ ‬قضايا‭ ‬الإنسان‭ ‬الكبرى،‭ ‬أم‭ ‬من‭ ‬غرقه‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬كاتباً‭ ‬له‭ ‬كتابة‭ ‬جديدة‭ ‬خارج‭ ‬الحدث‭ ‬في‭ ‬لمعان‭ ‬الدلالة،‭ ‬أم‭ ‬من‭ ‬تحوّله‭ ‬إلى‭ ‬حانة‭ ‬للمتصوّفين،‭ ‬يساقيهم‭ ‬ويساقونه‭ ‬خمرة‭ ‬الوصول؟‭ ‬أم‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬لغة‭ ‬تدخلك‭ ‬في‭ ‬اكتشاف‭ ‬جديد‭ ‬لمعاني‭ ‬الكلمات؟‭ ‬وليس‭ ‬شعراً‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يخلق‭ ‬قاموساً‭ ‬آخر‭ ‬للكلمات،‭ ‬كلمات‭ ‬حمّالة‭ ‬وجوه،‭ ‬مسافرة‭ ‬ومقيمة،‭ ‬كلمات‭ ‬مشحونة‭ ‬بالإحساس‭ ‬الحادّ‭.‬

شعره‭ ‬يضيء‭ ‬في‭ ‬العتمة،‭ ‬ولذلك‭ ‬تشعل‭ ‬شعره‭ ‬إذا‭ ‬أظلمت‭ ‬نفسك،‭ ‬مشحوناً‭ ‬من‭ ‬البرق‭ ‬بصوفية،‭ ‬مسُّها‭ ‬يُصعق،‭ ‬وضوؤها‭ ‬يريك‭ ‬أمداء‭ ‬لا‭ ‬نهايات‭ ‬لها‭. ‬طفل‭ ‬جنوبي‭ ‬يلعب‭ ‬بالكلمات‭ ‬لعبة‭ ‬مذهلة،‭ ‬يبني‭ ‬منها‭ ‬قصوراً،‭ ‬وآناً‭ ‬يحوّلها‭ ‬غيماً‭ ‬في‭ ‬الجنوب،‭ ‬وغيماً‭ ‬في‭ ‬الضواحي‭.‬

لم‭ ‬يبرح‭ ‬الجنوب‭ ‬هويةً‭ ‬وهوى،‭ ‬حتى‭ ‬وهو‭ ‬يهرّب‭ ‬قصائده‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬آسيا‮»‬،‭ ‬مع‭ ‬اندفاع‭ ‬الشباب‭ ‬وأحلامه‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تأفل‭ ‬أبداً‭. ‬بسيط‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬الذهول،‭ ‬وموغل‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬الغرابة،‭ ‬تقرأه‭ ‬فتظنّ‭ ‬أنك‭ ‬ترى‭ ‬قعره‭ ‬ببساطة،‭ ‬ويغريك‭ ‬صفاء‭ ‬الرؤية‭ ‬بسبرها‭ ‬وتناولها،‭ ‬فتكتشف‭ ‬أنك‭ ‬مغامر‭ ‬مخطئ،‭ ‬في‭ ‬أعماقه‭ ‬فضاء،‭ ‬فضاء‭ ‬يغوص‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬باتجاه‭ ‬اللانهاية‭... ‬داخله‭ ‬مخلوب‭ ‬بخارجه،‭ ‬يجيد‭ ‬الغوص‭ ‬والطيران‭ ‬في‭ ‬آن‭.‬

ولذا‭ ‬تراه‭ ‬دائماً‭ ‬ممتداً‭ ‬باتجاه‭ ‬فضاءين،‭ ‬وإن‭ ‬شئت‭ ‬باتجاه‭ ‬أفقين،‭ ‬أفق‭ ‬يمتدّ‭ ‬من‭ ‬الجنوب‭ ‬الداخلي‭ ‬في‭ ‬كينونته‭ ‬إلى‭ ‬الجنوب‭/‬المكان،‭ ‬وهو،‭ ‬بترابية‭ ‬الجنوب‭/‬المكان،‭ ‬عاشق‭ ‬ومتمرّد‭. ‬له‭ ‬حلول‭ ‬في‭ ‬ترابيته‭ ‬الجنوبية،‭ ‬ومتحوّل‭ ‬عليها‭ ‬وفيها‭ ‬بشغف‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬جنوب‭ ‬آخر،‭ ‬هو‭ ‬جنوب‭ ‬اللاهوت،‭ ‬يرى‭ ‬جرحاً‭ ‬لا‭ ‬ينضب‭ ‬ضوؤه،‭ ‬فتراه‭ ‬في‭ ‬أجساد‭ ‬الشهداء‭ ‬زنابق‭ ‬متفتّحة‭ ‬على‭ ‬‮«‬نهر‭ ‬القاسميّة‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬أكواخ‭ ‬الفقراء‭ ‬في‭ ‬القرى،‭ ‬وحين‭ ‬يصبح‭ ‬الجنوب‭ ‬المكان‭ ‬واللاهوت‭ ‬معاً،‭ ‬تصبح‭ ‬الجهات‭ ‬كلها‭ ‬جنوباً‭.‬

من‭ ‬‮«‬قصائد‭ ‬مهرّبة‭ ‬إلى‭ ‬حبيبتي‭ ‬آسيا‮»‬،‭ ‬أول‭ ‬ديوان‭ ‬صدر‭ ‬للشاعر‭ ‬عام‭ ‬1975‭ ‬عن‭ ‬‮«‬دار‭ ‬الآداب‮»‬‭ ‬حتى‭ ‬ديوانه‭ ‬الأخير‭ ‬الصادر‭ ‬حديثاً‭ (‬2013‭) ‬عن‭ ‬الدار‭ ‬نفسها‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬النازلون‭ ‬على‭ ‬الريح‮»‬،‭ ‬لم‭ ‬تهدأ‭ ‬إصدارات‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬شمس‭ ‬الدين‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬38‭ ‬عاماً،‭ ‬كيف‭ ‬حصلت‭ ‬التحوّلات‭ ‬الشعرية‭ ‬لهذا‭ ‬الشاعر؟‭ ‬ما‭ ‬أبرز‭ ‬محطاته‭ ‬الإبداعية؟‭ ‬وإلى‭ ‬أي‭ ‬أفق‭ ‬يسير‭ ‬بشعره؟

يحاوره‭ ‬الأديب‭ ‬عمر‭ ‬شبلي،‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬أصدر‭ ‬7‭ ‬دواوين،‭ ‬والباحث‭ ‬الذي‭ ‬ألّف‭ ‬5‭ ‬كتب،‭ ‬ورئيس‭ ‬تحرير‭ ‬مجلة‭ ‬المنافذ‭ ‬الثقافية،‭ ‬فكان‭ ‬هذا‭ ‬الحوار‭:‬

‭<‬‭ ‬لنبدأ‭ ‬من‭ ‬النهاية،‭ ‬في‭ ‬مجموعتك‭ ‬الجديدة‭ ‬‮«‬النازلون‭ ‬على‭ ‬الريح‮»‬‭... ‬نلاحظ‭ ‬شيئاً‭ ‬في‭ ‬استكانة‭ ‬المتأمّل‭ ‬أو‭ ‬الصوفي‭... ‬بعد‭ ‬شراسة‭ ‬‮«‬قصائد‭ ‬مهرّبة‭ ‬إلى‭ ‬حبيبتي‭ ‬آسيا‮»‬،‭ ‬وبعد‭ ‬الغوص‭ ‬في‭ ‬الجرح‭ ‬الجنوبي‭... ‬ما‭ ‬سرُّ‭ ‬هذا‭ ‬التحوّل؟

‭- ‬أعطيك‭ ‬مثالاً‭ ‬عن‭ ‬أسرار‭ ‬هذا‭ ‬التحوّل،‭ ‬في‭ ‬نهر‭ ‬من‭ ‬أنهار‭ ‬الجنوب‭ ‬اللبناني،‭ ‬هو‭ ‬نهر‭ ‬الليطاني،‭ ‬فهو‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬ينابيع‭ ‬عدة‭ ‬على‭ ‬علو‭ ‬ألف‭ ‬متر،‭ ‬يخترق‭ ‬مساحات‭ ‬شاسعة‭ ‬وأودية‭ ‬عميقة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يصبّ‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط،‭ ‬شمالي‭ ‬مدينة‭ ‬صور،‭ ‬هذا‭ ‬النهر‭ ‬العظيم،‭ ‬يرفده‭ ‬ستة‭ ‬عشر‭ ‬رافداً‭ ‬على‭ ‬ضفتيه‭ ‬اليسرى‭ ‬واليمنى،‭ ‬تصبّ‭ ‬فيه‭. ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ينعطف‭ ‬نحو‭ ‬البحر‭ ‬في‭ ‬الجنوب،‭ ‬يسمّى‭ ‬نهر‭ ‬‮«‬القاسمية‮»‬،‭ ‬يسير‭ ‬في‭ ‬سهول‭ ‬منبسطة‭ ‬هادئاً‭ ‬رائعاً‭... ‬وماؤه‭ ‬يميل‭ ‬إلى‭ ‬الخضرة،‭ ‬بعد‭ ‬تدفقاته‭ ‬العنيفة‭ ‬والوحشية‭ ‬في‭ ‬الأعالي‭.‬

هل‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أشبّه‭ ‬نفسي‭ ‬وشعري‭ ‬بنهر‭ ‬الليطاني؟‭ ‬ثمة،‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أرى،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬وجه‭ ‬شبه‭ ‬بيننا،‭ ‬لناحية‭ ‬وحشيّة‭ ‬المنبع‭ ‬وأدغاله‭ ‬وما‭ ‬يحيط‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬صخور‭ ‬في‭ ‬الأعالي‭ ‬أولاً،‭ ‬وهذه‭ ‬هي‭ ‬حال‭ ‬‮«‬قصائد‭ ‬مهرّبة‭ ‬إلى‭ ‬حبيبتي‭ ‬آسيا‮»‬‭ ‬أول‭ ‬ديوان‭ ‬صدر‭ ‬لي‭ ‬عام‭ ‬1975،‭ ‬كان‭ ‬بالفعل‭ ‬ديواناً‭ ‬شرساً،‭ ‬يتجلى‭ ‬فيه‭ ‬عنف‭ ‬اللغة‭ ‬وعنف‭ ‬الصورة،‭ ‬كانت‭ ‬الغريزة‭ ‬اللغويّة‭ ‬غير‭ ‬مهذّبة،‭ ‬إذا‭ ‬صحّت‭ ‬العبارة،‭ ‬وتحمل‭ ‬صورة‭ ‬تشبهها‭ ‬أو‭ ‬تشكيلاً‭ ‬صورياً‭ ‬كاسراً‭ ‬كمطلع‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬النار‭ ‬في‭ ‬الخرائب‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬أقول‭:‬

‮«‬للنسرِ‭ ‬الجائعِ‭ ‬للبلبلِ‭ ‬في‭ ‬المطرالوحشيّ‭ ‬وللطفل‭ ‬المذبوح‭ ‬على‭ ‬عتبات‭ ‬النهرِ،‭ ‬لموسيقى‭ ‬الأفلاك‭ ‬وللفوضى‭ ‬الكونيّة‭ ‬أنزف‭ ‬من‭ ‬رئتيّ‭ ‬الشعر‭ ‬وأرفعُه‭ ‬كالجرحِ‭ ‬الشاخبِ‭ ‬في‭ ‬نافورةِ‭ ‬هذا‭ ‬العصر‮»‬‭.‬

هنا‭ ‬بالفعل‭ ‬منابع‭ ‬وحشيّة‭ ‬للكلمات‭ ‬والصور‭ ‬كمنابع‭ ‬الليطاني‭.‬

الوجه‭ ‬الآخر‭ ‬للشبه‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يستسلم‭ ‬لبطاح‭ ‬الجنوب،‭ ‬يتلقّى‭ ‬ستة‭ ‬عشر‭ ‬رافداً‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬ضفتيه،‭ ‬جميعها‭ ‬تصبّ‭ ‬فيه‭ ‬وتندرج‭ ‬في‭ ‬مياهه‭.‬

إنّ‭ ‬الروافد‭ ‬التي‭ ‬صبّت‭ ‬في‭ ‬تجربتي‭ ‬الشعريّة،‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬ستة‭ ‬عشر‭ ‬رافداً‭ ‬أيضاً،‭ ‬الرافد‭ ‬الأول‭ ‬صوت‭ ‬الجدّ‭ ‬الحزين،‭ ‬وهو‭ ‬يردد‭ ‬على‭ ‬مسمعي‭ ‬أشعار‭ ‬الحبّ‭ ‬المقهور‭ ‬والعاطفة‭ ‬الجيّاشة،‭ ‬يمتزج‭ ‬بذلك‭ ‬صوت‭ ‬الرياح‭ ‬الجبليّة‭ ‬وهبوب‭ ‬عواصف‭ ‬الجنوب،‭ ‬أضف‭ ‬أشعار‭ ‬المعرّي‭ ‬والمتنبي‭ ‬والشريف‭ ‬الرضي‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الصبا،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬أوّل‭ ‬الشباب،‭ ‬حيث‭ ‬سيطرت‭ ‬كتابات‭ ‬كامو‭ ‬الوجودية،‭ ‬والقراءات‭ ‬التاريخية‭ ‬والفلسفية،‭ ‬ومشاهد‭ ‬السينما‭ ‬العالمية،‭ ‬ولوحات‭ ‬فان‭ ‬جوخ‭ ‬وجوجان‭ ‬ودالي،‭ ‬وقد‭ ‬كتبت‭ ‬قصائد‭ ‬من‭ ‬وحي‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬ذكرت‭... ‬الرافد‭ ‬الحيوي‭ ‬الذي‭ ‬أثّر‭ ‬في‭ ‬لون‭ ‬كلماتي‭ ‬ومذاقها‭ ‬هو‭ ‬رافد‭ ‬العرفان،‭ ‬فأنا‭ ‬ابن‭ ‬عائلة‭ ‬مشيخيّة،‭ ‬وذِكر‭ ‬الله‭ ‬حاضر‭ ‬في‭ ‬أنفاس‭ ‬الهواء‭ ‬الذي‭ ‬نتنفسه،‭ ‬وقد‭ ‬ناسب‭ ‬تهيؤي‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬رفدتني‭ ‬به‭ ‬كتب‭ ‬بعينها،‭ ‬هي‭: ‬‮«‬منطق‭ ‬الطير‮»‬‭ ‬لفريد‭ ‬الدين‭ ‬العطّار‭ ‬النيسابوري‭ ‬ومثنوي‭ ‬جلال‭ ‬الدين‭ ‬الرومي،‭ ‬وديوان‭ ‬شمس‭ ‬تبريزي‭ ‬للرومي،‭ ‬وديوان‭ ‬حافظ‭ ‬الشيرازي،‭ ‬وكتاب‭ ‬النبي‭ ‬لجبران‭... ‬هذه‭ ‬الروافد‭ ‬صبّت‭ ‬جميعها‭ ‬في‭ ‬النهر،‭ ‬وأضيفت‭ ‬إليها‭ ‬أشعار‭ ‬لوركا‭ ‬ونيرودا‭ ‬وأنطونيو‭ ‬ماتشادو‭... ‬وأشعار‭ ‬الفرنسيين‭ ‬بريفير‭ ‬ورمبو‭ ‬وبودلير،‭ ‬وهكذا‭ ‬مع‭ ‬الأيام،‭ ‬اختلطت‭ ‬هذه‭ ‬المياه‭ ‬كلها،‭ ‬لتجري‭ ‬جريانها‭ ‬الهادئ‭ ‬قبل‭ ‬اندفاعها‭ ‬في‭ ‬البحر‭.‬

هل‭ ‬الليطاني‭ ‬الهادر‭ ‬في‭ ‬الأعالي‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬القاسمية‭ ‬الهادئ‭ ‬في‭ ‬المنبسطات؟‭ ‬وقد‭ ‬سبق‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬سألت‭ ‬نفسي‭ ‬شعرياً‭ ‬هذا‭ ‬السؤال،‭ ‬وأجبت‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬الأيام‮»‬‭ (‬من‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬يحرث‭ ‬في‭ ‬الآبار‮»‬‭ ‬1997‭): ‬

‮«‬تجري‭ ‬في‭ ‬جسدي‭ ‬الأيام

جسدي‭ ‬المجرى‭ ‬والأيام‭ ‬الماءْ

وحين‭ ‬يسائلني‭ ‬ملك‭ ‬الشعراء‭: ‬

هل‭ ‬ماء‭ ‬النهر‭ ‬هو‭ ‬النهر؟‭ ‬أتلعثم

وأقول‭ ‬له‭ ‬لا‭ ‬ونعمْ

فأنا‭ ‬لا‭ ‬أشرح‭ ‬للطير‭ ‬سماء‭ ‬الطير

ولا‭ ‬أشرح‭ ‬للطفل‭ ‬حليب‭ ‬الأمْ‮»‬‭.‬

وهذا‭ ‬هو‭ ‬الجواب‭ ‬عن‭ ‬السؤال‭.‬

‭<‬‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬النازلون‭ ‬على‭ ‬الريح‮»‬‭ ‬أيضاً،‭ ‬رحلة‭ ‬في‭ ‬الوجد‭ ‬الصوفي‭ ‬هي‭ ‬رحلة‭ ‬في‭ ‬وحدة‭ ‬الوجود،‭ ‬فبمَ‭ ‬تمتاز‭ ‬عن‭ ‬ابن‭ ‬عربي‭ ‬وعن‭ ‬مولانا‭ ‬جلال‭ ‬الدين‭ ‬الرومي،‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬لا‭ ‬تعبدوا‭ ‬حتى‭ ‬تروا‮»‬،‭ ‬وعن‭ ‬الحلاج‭ ‬وعن‭ ‬حافظ‭ ‬الشيرازي‭ ‬في‭ ‬حيرته‭... ‬وعن‭ ‬سائر‭ ‬المتصوّفة‭ ‬المسلمين؟‭ ‬أين‭ ‬تلتقي‭ ‬معهم؟‭ ‬وأين‭ ‬تنفرد‭ ‬بخصوصيّتك‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوجد‭ ‬الصوفي‭ ‬الغامر؟

‭- ‬حسناً‭... ‬المسألة‭ ‬حسّاسة‭ ‬جداً‭ ‬وأرغب‭ ‬في‭ ‬إيضاحها‭. ‬إنّ‭ ‬جميع‭ ‬مَن‭ ‬ذكرت،‭ ‬وسواهم‭ ‬أيضاً‭ ‬كالنفّري‭ ‬والسهروردي،‭ ‬ليسوا‭ ‬بشعراء‭ ‬بالمعنى‭ ‬الإبداعي‭ ‬الصوري‭ ‬واللغوي‭ ‬للشعر،‭ ‬ولكنهم‭ ‬أصحاب‭ ‬أحوال،‭ ‬أو‭ ‬أصحاب‭ ‬عرفان‭... ‬فإذا‭ ‬ذكر‭ ‬الشعر‭ ‬فهم‭ ‬غير‭ ‬معدودين‭ ‬هناك،‭ ‬فإن‭ ‬ذكر‭ ‬العرفان‭ ‬عُدّوا‭ ‬من‭ ‬أهله‭. ‬أنا‭ ‬باختصار،‭ ‬شاعر‭ ‬ولستُ‭ ‬من‭ ‬المتصوّفة‭ ‬أو‭ ‬أهل‭ ‬العرفان‭ ‬أو‭ ‬الخرقة‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬الدراويش‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬شئت‭ ‬من‭ ‬تسميات‭ ‬الصوفية‭. ‬وحين‭ ‬نأخذ‭ ‬أمثلة‭ ‬محددة‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬تتجلّى‭ ‬الفوارق،‭ ‬فالشعر‭ ‬طريقة‭ ‬من‭ ‬طرائق‭ ‬الأداء‭ ‬التعبيري‭ ‬باللغة،‭ ‬والسلوك‭ ‬الصوفي‭ ‬طريقة‭ ‬أخرى‭ ‬مغايرة‭. ‬إنّ‭ ‬متطلبات‭ ‬القصيدة‭ ‬متطلّبات‭ ‬تقنية‭ ‬وصورية‭ ‬وتعبيريّة‭ ‬خاصة،‭ ‬حيث‭ ‬يظهر‭ ‬الشاعر‭ ‬فيها‭ ‬أحياناً‭ ‬كالساحر،‭ ‬يستعمل‭ ‬قوّة‭ ‬إيحاء‭ ‬الكلمات،‭ ‬ويجمع‭ ‬بين‭ ‬رقاب‭ ‬المتنافرات،‭ ‬ويركّب‭ ‬كيمياء‭ ‬قصيدته‭ ‬الخاصة،‭ ‬من‭ ‬الماغما‭ ‬العامة‭ ‬أو‭ ‬المصمتة‭ ‬أو‭ ‬المفتوحة‭ ‬للغة،‭ ‬إن‭ ‬الحب‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬أساس‭ ‬وحدة‭ ‬الوجود‭ ‬أو‭ ‬أساس‭ ‬العشق‭ ‬في‭ ‬التجربة‭ ‬الصوفية،‭ ‬يمكن‭ ‬شرحه‭ ‬بكلام‭ ‬مباشر‭ ‬وموزون‭ ‬ومقفّى،‭ ‬كقول‭ ‬ابن‭ ‬عربي‭:‬

‮«‬لقد‭ ‬صار‭ ‬قلبي‭ ‬قابلاً‭ ‬كل‭ ‬صورة

فمرعى‭ ‬لغزلانٍ‭ ‬ودير‭ ‬لرهبان‮»‬

‭...‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬الأبيات‭ ‬المعروفة‭... ‬لكننا‭ ‬هنا‭ ‬أمام‭ ‬نظم‭ ‬للمعنى‭ ‬لا‭ ‬أمام‭ ‬صورة‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬الشعر‭... ‬والفارق‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الطريقة‭ ‬الأولى‭ ‬تعلن‭ ‬عن‭ ‬معناها‭ ‬إعلاناً،‭ ‬والثانية‭ (‬الشعرية‭) ‬تومئ‭ ‬وتراوغ‭ ‬وتلغز‭... ‬كما‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬الصخرة‮»‬،‭ (‬من‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬أناديك‭ ‬يا‭ ‬ملكي‭ ‬وحبيبي‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1977،‭ ‬حيث‭ ‬أقول‭: ‬

‮«‬في‭ ‬فوضى‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬الخلاّبْ

حيث‭ ‬الشعر‭ ‬يوحّد‭ ‬بين‭ ‬الأشياء

يحلو‭ ‬أن‭ ‬أتقدّم‭ ‬للصخرة

أسألها‭: ‬هل‭ ‬أنتِ‭ ‬أنا؟

أتخيّلُ‭ ‬أنّ‭ ‬الصخرة‭ ‬واقفة

في‭ ‬أسفل‭ ‬جفن‭ ‬الطفل‭ ‬الباكي

في‭ ‬مجرى‭ ‬الدمع

فأحرّكُها

أتخيّل‭ ‬أن‭ ‬الصخرة‭ ‬وقت‭ ‬أعمى

ينهض‭ ‬فوق‭ ‬الأشياءْ

في‭ ‬فوضى‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬الخلاّب

في‭ ‬اليوم‭ ‬السادس‭ ‬بعد‭ ‬الطوفان

فوق‭ ‬حطام‭ ‬النورس‭ ‬والإنسانْ

أشرب‭ ‬نخبكِ‭ ‬أيتها‭ ‬الصخرة‮»‬‭.‬

إن‭ ‬عناصر‭ ‬الشعر‭ (‬القصيدة‭) ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬‮«‬الصخرة‮»‬،‭ ‬وشكلها‭ ‬وطريقة‭ ‬أدائها،‭ ‬هما‭ ‬عينُ‭ ‬معناها،‭ ‬وهكذا‭... ‬ولنأخذ‭ ‬مثالاً‭ ‬آخر،‭ ‬الفكرة‭ ‬التي‭ ‬سعى‭ ‬إليها‭ ‬فريدالدين‭ ‬العطّار‭ ‬النيسابوري‭ ‬في‭ ‬منظومته‭ ‬المسمّاة‭ ‬‮«‬منطق‭ ‬الطير‮»‬،‭ ‬لقد‭ ‬كتب‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬للهجرة،‭ ‬الثاني‭ ‬عشر‭ ‬للميلاد‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬خمسمائة‭ ‬حكاية‭ ‬في‭ ‬4647‭ ‬سطراً‭ ‬هي‭ ‬مجمل‭ ‬كتابه،‭ ‬واصفاً‭ ‬رحلة‭ ‬الطيور‭ ‬وسلوكها‭ ‬صوب‭ ‬‮«‬السيمرغ‮»‬‭... ‬و«السيمرغ‮»‬‭ ‬طائر‭ ‬الطيور‭ ‬أو‭ ‬ملكها‭ ‬وسيدها‭ ‬المطلق،‭ ‬وهذه‭ ‬المفردة‭ ‬تعني‭ ‬بالفارسية‭ ‬التي‭ ‬كتب‭ ‬بها‭ ‬العطّار‭ ‬منظومته،‭ ‬أمرين‭ ‬أو‭ ‬معنيين‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬واحد‭. ‬فهي‭ ‬اسم‭ ‬مفرد‭ ‬لطائر‭ ‬واحد،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬مركبة‭ ‬من‭ ‬قسمين‭: ‬‮«‬سي‮»‬‭ ‬وهي‭ ‬الرقم‭ ‬ثلاثون،‭ ‬و«مرغ‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬الطائر‭ ‬أي‭ ‬‮«‬ثلاثون‭ ‬طائراً‮»‬،‭ ‬نظرت‭ ‬الطيور‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬الوادي‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬الأودية‭ ‬التي‭ ‬قطعتها،‭ ‬وهو‭ ‬وادي‭ ‬‮«‬الفقر‭ ‬والفناء‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬صفحة‭ ‬السماء‭ ‬الأخيرة‭ ‬التي‭ ‬يقيم‭ ‬فيها‭ ‬‮«‬طائر‭ ‬الطيور‮»‬‭ ‬السيمرغ،‭ ‬فأبصرت‭ ‬ثلاثين‭ ‬طائراً‭ ‬معكوسة‭ ‬على‭ ‬صفحة‭ ‬المرآة‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬واحد‭. ‬وهي‭ ‬ليست‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬صورة‭ ‬ما‭ ‬بقي‭ ‬من‭ ‬طيور‭ ‬الرحلة‭ ‬الطويلة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ماتت‭ ‬منها‭ ‬الآلاف‭ ‬في‭ ‬الطريق‭... ‬مرجعيات‭ ‬العطّار‭ ‬النيسابوري‭ ‬في‭ ‬حكايته‭ ‬لا‭ ‬تُعدّ‭ ‬ولا‭ ‬تحصى،‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬قصص‭ ‬القرآن‭ ‬وأصحاب‭ ‬القصص‭ ‬القرآني،‭ ‬مروراً‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬رموز‭ ‬السلوك‭ ‬الصوفي،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬عشرات‭ ‬الحكايات‭ ‬الغريبة‭ ‬والمرويّات‭ ‬المتداولة‭ ‬الممتلئة‭ ‬بالغرابة‭ ‬والسلوك‭ ‬العجيب‭ ‬الواصل‭ ‬لحدود‭ ‬الجنون،‭ ‬بخاصة‭ ‬في‭ ‬قصص‭ ‬العشق‭ ‬والتدلّه‭ ‬المرويّة،‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬منها‭ ‬المخيّلة‭ ‬الشعبية،‭ ‬أساطير‭ ‬مروية،‭ ‬كحكاية‭ ‬‮«‬الشيخ‭ ‬صنعان‭ ‬وعقدة‭ ‬الزنّار‭ ‬لعشقه‭ ‬الفتاة‭ ‬المسيحية‮»‬‭... ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الحشد‭ ‬من‭ ‬العوالم‭ ‬الدينية‭ ‬والشعبية‭ ‬الأسطورية،‭ ‬يحشده‭ ‬العطار‭ ‬ليقول‭ ‬بوحدة‭ ‬الوجود‭ ‬ويطابق‭ ‬بين‭ ‬الوجود‭ ‬والشهود‭ ‬في‭ ‬الخلق‭. ‬نحن‭ ‬هنا‭ ‬أمام‭ ‬رؤية‭ ‬صوفية‭ ‬أو‭ ‬‮«‬حال‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬موقف‮»‬‭... ‬رؤى‭ ‬وأحوال‭ ‬ومواقف‭ ‬تبهر‭ ‬فيها‭ ‬الرؤية‭ ‬ويبهت‭ ‬الشعر‭ ‬أو‭ ‬يضعف‭ ‬أو‭ ‬يموت،‭ ‬إنّ‭ ‬الشعر‭ ‬عند‭ ‬المتصوّفة‭ ‬على‭ ‬العموم،‭ ‬إما‭ ‬ضعيف‭ ‬أو‭ ‬متكلّف‭ ‬أو‭ ‬معدوم‭.‬

أنا‭ ‬أكتب‭ ‬الشعر‭ ‬أولاً‭ ‬وأخيراً‭ ‬وبين‭ ‬بين،‭ ‬والحال‭ ‬أو‭ ‬الرؤية‭ ‬الصوفية‭ ‬رافد‭ ‬من‭ ‬روافد‭ ‬ستة‭ ‬عشر،‭ ‬كما‭ ‬سبقت‭ ‬الإشارة،‭ ‬للقصيدة‭. ‬إنها‭ ‬أحد‭ ‬الروافد‭ ‬الجوهريّة،‭ ‬والمشعّة،‭ ‬للقصيدة،‭ ‬ولعلها‭ ‬لقيا‭ ‬القلب‭ ‬العاشق،‭ ‬لكنها‭ ‬وحدها‭ ‬لا‭ ‬تصنع‭ ‬الشعر،‭ ‬باعتباره‭ ‬تقنية‭ ‬خاصة‭ ‬فريدة،‭ ‬في‭ ‬الأداء‭ ‬اللغوي‭ ‬والصوري‭ ‬والإيقاعي‭ ‬للقصيدة،‭ ‬مثلاً،‭ ‬أقول‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬صباح‭ ‬التعب‮»‬‭ (‬من‭ ‬مجموعة‭ ‬‮«‬أناديك‭ ‬يا‭ ‬ملكي‭ ‬وحبيبي‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1977‭)‬،‭ ‬جامعاً‭ ‬عناصر‭ ‬متنافرة‭ ‬للرحيل‭ ‬أو‭ ‬السفر‭ ‬أو‭ ‬الهجرة‭... ‬كلمات‭ ‬قليلة‭ ‬تصنع‭ ‬القصيدة‭:‬

‮«‬ناوليني‭ ‬حذائي‭ ‬وقلبي

ناوليني‭ ‬العصا‭ ‬وقربة‭ ‬ماء‭ ‬الحياة

ناوليني‭ ‬السفر‭...‬‮»‬‭.‬

مثل‭ ‬هذا‭ ‬التوليد‭ ‬الصوري‭ ‬للشعر،‭ ‬يحدث،‭ ‬وبكلمات‭ ‬قليلة‭ ‬يجمعها‭ ‬خيط‭ ‬غامض‭ ‬داخلي،‭ ‬خيط‭ ‬يجمع‭ ‬نقائض‭ ‬الحياة،‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬يوم‭ ‬الأحد‭ ‬الواقع‭ ‬فيه‭ ‬صمتي‮»‬‭ (‬القصيدة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬النازلون‭ ‬على‭ ‬الريح‮»‬‭ ‬عام‭ ‬2013‭)‬،‭ ‬أقول‭ ‬خاتماً‭ ‬القصيدة‭:‬

‮«‬طفلٌ‭ ‬يحبو

ظبيان‭ ‬وسيّدة

وفتى‭ ‬مذعور‭ ‬القلب‭ ‬بعيدُ‭ ‬مدى‭ ‬الرؤية‭ ‬يشبهني

وأنا‭ ‬أتقدّم‭ ‬في‭ ‬زحمة‭ ‬أيامي

في‭ ‬زحمة‭ ‬سيري‭ ‬نحو‭ ‬الله‮»‬‭.‬

هذا‭ ‬هو‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬المتصوّفة‭ ‬وبيني،‭ ‬لا‭ ‬يجمعنا‭ ‬السلوك‭ ‬بل‭ ‬الرؤية،‭ ‬وتفرّق‭ ‬بيننا‭ ‬مسافة‭ ‬الشعر،‭ ‬فأنا‭ ‬شاعر‭ ‬يتدروش‭ (‬أي‭ ‬يستبطن‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬شعره‭ ‬حال‭ ‬الدراويش‭ ‬ولا‭ ‬يلبس‭ ‬المرقّعة‭ ‬والقلنسوة‭) ‬وهم‭ ‬دراويش‭ ‬حال،‭ ‬والقصيدة‭ ‬بين‭ ‬يديهم‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬لا‭ ‬تكون‭... ‬فإن‭ ‬كانت،‭ ‬فلماماً‭ ‬وتفاريق‭.‬

‭<‬‭ ‬هل‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬معاناتُك‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬منبع‭ ‬النهر‭ ‬الإله‮»‬‭ ‬تاركاً‭ ‬خلفك‭ ‬مواويل‭ ‬سكينة؟‭ ‬وهل‭ ‬وصلت‭ ‬أو‭ ‬لاتزال‭ ‬على‭ ‬الطريق؟

‭- ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬تذكرها‭ ‬عن‭ ‬‮«‬منبع‭ ‬النهر‭ ‬الإله‮»‬‭ ‬مأخوذة‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬موشّح‭ ‬إلى‭ ‬أعمدة‭ ‬الريح‭ ‬الجنوبية‮»‬،‭ ‬المكتوبة‭ ‬عام‭ ‬1974،‭ ‬وهي‭ ‬إحدى‭ ‬قصائد‭ ‬ديواني‭ ‬الأول‭ ‬‮«‬قصائد‭ ‬مهرّبة‭ ‬إلى‭ ‬حبيبتي‭ ‬آسيا‮»‬‭ ‬الصادر‭ ‬عام‭ ‬1975،‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬تعنيه‭ ‬هذه‭ ‬التواريخ‭ ‬من‭ ‬بدايات‭. ‬والمقطع‭ ‬المقتطع‭ ‬من‭ ‬القصيدة‭ ‬هو‭ ‬التالي‭:‬

‮«‬سيّدي

أعلمُ‭ ‬أن‭ ‬الأرز‭ ‬للربّ‭ ‬وأنّ‭ ‬الأرض‭ ‬للتاجر‭ ‬والمنفى‭ ‬لقلبي

وأنا‭ ‬أحمل‭ ‬أحزاني‭ ‬وأمتدّ‭ ‬جنوباً

مردِفاً‭ ‬خلفي‭ ‬مواويل‭ ‬سُكينة

باحثاً‭ ‬عن‭ ‬منبع‭ ‬النهرِ‭ ‬الإله

قبلَ‭ ‬يرتدّ‭ ‬الفتى‭ ‬النهر‭ ‬الإله

مثخناً‭ ‬بالماء‭ ‬محمولاً‭ ‬على‭ ‬العشبِ‭ ‬المدمّى

يدخل‭ ‬المسجد‭ ‬والمقهى‭ ‬وحانوتَ‭ ‬البغاءْ

ثم‭ ‬يدلي‭ ‬باعتراف‭ ‬القاتلِ‭ ‬المقتولِ‭ ‬إنّي‭ ‬أخلع‭ ‬الماء‭ ‬الذي‭ ‬ينضح‭ ‬سُمّا

فاعجنوا‭ ‬لحمي‭ ‬بلحم‭ ‬الفقراء

وادخلوا‭ ‬واغتسلوا‭ ‬في‭ ‬جسدي‮»‬‭.‬

لقد‭ ‬توضحت‭ ‬الصورة‭ ‬في‭ ‬السياق‭ ‬الشعري‭ ‬للمقطع‭... ‬هناك‭ ‬خطاب‭ ‬شعري‭ ‬جوهره‭ ‬الصراع‭ ‬الطبقي‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬مؤمنة‭ ‬بإله،‭ ‬هي‭ ‬الجنوب‭ ‬اللبناني،‭ ‬فالصراع‭ -‬‭ ‬إذن‭ - ‬يدور‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البيئة‭ ‬الدينية‭ ‬بالذات،‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬أخرى‭ ‬ليس‭ ‬للدين‭ ‬أو‭ ‬للإله‭ ‬منها‭ ‬نصيب،‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬المفتاح‭ ‬الذي‭ ‬يضيء‭ ‬المقطع‭ ‬بكامله،‭ ‬ويكشف‭ ‬خفايا‭ ‬مراحله‭ ‬وتدرجاته‭... ‬من‭ ‬لفظة‭ ‬‮«‬سيّدي‮»‬‭ ‬ذات‭ ‬البعد‭ ‬الطبقي،‭ ‬حتى‭ ‬دخول‭ ‬المعنى‭ ‬التغييري‭ ‬الثوري‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬النهر‭ - ‬الإله‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬‮«‬سيّدي‮»‬،‭ ‬والذي،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قوة‭ ‬الاعتقاد‭ ‬الإلهية‭ - ‬البشرية،‭ ‬سيدخل‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬أماكن‭ ‬ومفاصل‭ ‬وأفكار‭ ‬الناس‭ ‬الجنوبيين،‭ ‬بلا‭ ‬مكان‭ ‬ممنوع،‭ ‬ليخلع‭ ‬عنهم‭ ‬ثياب‭ ‬الذلّ‭ ‬أو‭ ‬مياه‭ ‬الذلّ،‭ ‬ويغسلهم‭ ‬بمائه‭ ‬المقدّس‭ - ‬ماء‭ ‬الفقراء‭ - ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬القصد‭ ‬من‭ ‬تعداد‭ ‬أماكن‭ ‬متباينة‭ ‬يدخل‭ ‬إليها‭ ‬النهر‭ ‬الجارف‭ ‬المقدّس‭ ‬ليغسلها‭: ‬‮«‬يدخل‭ ‬المسجد‭ ‬والمقهى‭ ‬وحانوت‭ ‬البغاء‭...‬‮»‬،‭ ‬أما‭ ‬تفسير‭ ‬معنى‭ ‬القاتل‭ ‬المقتول،‭ ‬واعترافه،‭ ‬فهو‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬النهر‭ ‬هو‭ ‬مقتول‭ ‬الظلم‭ ‬والخرافة‭ ‬وقاتلهما‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬واحد،‭ ‬فاقتضى‭ ‬تبيان‭ ‬مرمى‭ ‬العبارة‭ ‬وإحالاتها‭ ‬في‭ ‬المقطع‭ ‬الشعري‭ ‬المذكور،‭ ‬وهو‭ ‬صراع‭ ‬لا‭ ‬وصول‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أرى،‭ ‬بمعنى‭ ‬الركود‭... ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬النهر‭ ‬حين‭ ‬يتجمّد‭ ‬ماؤه،‭ ‬يموت‭ ‬مؤقتاً‭ ‬بصفته‭ ‬النهر،‭ ‬وهو‭ ‬بحاجة‭ ‬لمياه‭ ‬دائمة‭ ‬متدفقة‭ ‬للجريان‭.‬

‭<‬‭ ‬كيف‭ ‬توفّق‭ ‬بين‭ ‬شراسة‭ ‬القصيدة‭ ‬المقاومة‭ (‬الجنوبيّة‭) ‬التي‭ ‬كتبتها‭ ‬ولاتزال‭ ‬تكتبها،‭ ‬وكونيّة‭ ‬الصوفي‭ ‬أو‭ ‬روحانيته؟‭ ‬أمازالت‭ ‬‮«‬كل‭ ‬الجهات‭ ‬الجنوب‮»‬‭ ‬كما‭ ‬تقول‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬دخان‭ ‬القرى‮»‬‭ ‬من‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬غيم‭ ‬لأحلام‭ ‬الملك‭ ‬المخلوع‮»‬‭ (‬1977‭)‬؟‭ ‬وهل‭ ‬الجنوب‭ ‬‮«‬حفنة‭ ‬من‭ ‬دخان‭ ‬القرى‮»‬‭ ‬أو‭ ‬ساحة‭ ‬دموية‭ ‬ومقاومون‭ ‬وعصافير‭ ‬مذبوحة؟‭... ‬أين‭ ‬أنت‭ ‬بين‭ ‬الصوفي‭ ‬والمقاوم؟

‭- ‬أنتَ‭ ‬في‭ ‬سؤالك‭ ‬تفترض‭ ‬التعارض‭ ‬بين‭ ‬الروحي‭ ‬أو‭ ‬الديني‭ ‬أو‭ ‬الصوفي،‭ ‬وبين‭ ‬المقاوم‭... ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬الافتراض‭ ‬تبني‭ ‬السؤال‭.‬

‭ ‬والجواب‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الافتراض‭ ‬بذاته‭ ‬لا‭ ‬يستقيم،‭ ‬فليس‭ ‬ثمّ‭ ‬من‭ ‬حدود‭ ‬بين‭ ‬هذا‭ ‬وذاك‭... ‬وفي‭ ‬المنطق‭ ‬الصوري‭ ‬على‭ ‬الأقلّ،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬المقدمات‭ ‬منطقية‭ ‬لتأتي‭ ‬النتيجة‭ ‬صحيحة‭ ‬منطقياً‭. ‬كنت‭ ‬أنتظر‭ ‬مثلاً‭ ‬سؤالاً‭ ‬من‭ ‬نوع‭: ‬كيف‭ ‬توفق‭ ‬بين‭ ‬القول‭ ‬الشعري‭ ‬والفعل‭ ‬المقاوم؟

أما‭ ‬لجهة‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬‮«‬الروحي‮»‬‭ ‬و«الديني‮»‬‭ ‬و«الصوفي‮»‬‭ ‬و«العابد‮»‬‭ ‬والمقاوم،‭ ‬فهو‭ ‬أمر‭ ‬من‭ ‬بدهيات‭ ‬التاريخ‭ ‬العربي‭ ‬والإسلامي،‭ ‬البعيد‭ ‬والقريب‭ ‬معاً‭. ‬والأمثلة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تحصى‭ ‬عداً،‭ ‬والرسول‭ ‬الأعظم‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬هو‭ ‬أوّلها‭... ‬فمن‭ ‬أهم‭ ‬ميزاته،‭ ‬وميزات‭ ‬أصحابه‭ ‬الميامين،‭ ‬كما‭ ‬صوّرتهم‭ ‬لنا‭ ‬كتب‭ ‬السيرة،‭ ‬هي‭ ‬أنهم‭ ‬كانوا‭ ‬يجمعون‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬واحد،‭ ‬قوّة‭ ‬المحارب‭ ‬وشكيمته‭ ‬وخشونته،‭ ‬مع‭ ‬رقّة‭ ‬العابد‭ ‬وسلامه‭ ‬العميق،‭ ‬وهدوئه‭ ‬الشبيه‭ ‬بهدوء‭ ‬البحر‭... ‬ففي‭ ‬الجسد‭ ‬الواحد‭ ‬لأي‭ ‬من‭ ‬هؤلاء،‭ ‬حلّت‭ ‬روح‭ ‬واحدة‭ ‬بجزأين،‭ ‬ظاهرهما‭ ‬متعارض‭ ‬وداخلهما‭ ‬موحّد،‭ ‬يقاتل‭ ‬أحدهم‭ ‬أو‭ ‬يجاهد‭ ‬الأعداء،‭ ‬وأعدى‭ ‬الأعداء‭ (‬وهو‭ ‬نفسه‭) ‬بجلد‭ ‬الأبطال،‭ ‬ويخشع‭ ‬في‭ ‬صلاته‭ ‬في‭ ‬الليالي‭ ‬المظلمة،‭ ‬حتى‭ ‬تغمر‭ ‬دموعه‭ ‬صدره‭.‬

لا‭ ‬تعوزنا‭ ‬الأمثلة‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬ولا‭ ‬تعوزنا‭ ‬الأمثلة‭ ‬من‭ ‬الحاضر‭ ‬الراهن‭ ‬أيضاً‭. ‬إن‭ ‬الزهد‭ ‬في‭ ‬الإسلام،‭ ‬ليس‭ ‬انسحاباً‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬أو‭ ‬رهبانية،‭ ‬ولكنه‭ ‬ممارسة‭ ‬الحياة‭ ‬بطبيعة‭ ‬الرضا،‭ ‬ونبذ‭ ‬الجشع‭... ‬إنه‭ ‬أساس‭ ‬الرجاء‭ ‬لا‭ ‬أساس‭ ‬التجارة‭.‬

أما‭ ‬لناحية‭ ‬التعارض‭ ‬الموهوم‭ ‬بين‭ ‬‮«‬المقاتل‮»‬‭ ‬و«الشاعر‮»‬،‭ ‬فإنني‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬الرصاصة‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مغسولة‭ ‬بماء‭ ‬الشعر،‭ ‬فسرعان‭ ‬ما‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬إرهاب‭. ‬تضيّع‭ ‬الاتجاه‭ ‬والبوصلة،‭ ‬الشعر‭ ‬كالحب‭ ‬سدى‭ ‬ولُحمة‭ ‬الكائنات‭. ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬يذكر،‭ ‬بلا‭ ‬قصيدة،‭ ‬وأغالي‭ ‬أحياناً‭ ‬فأقول‭ ‬القصيدة‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬أهمّ‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬فهي‭ ‬مثلها‭.‬

‭<‬‭ ‬كيف‭ ‬توفّق‭ ‬بين‭ ‬توجهك‭ ‬الروحاني‭ ‬الغامر‭ ‬في‭ ‬‮«‬النازلون‭ ‬على‭ ‬الريح‮»‬‭ ‬وبين‭ ‬ممالك‭ ‬المتنبي‭ ‬المبنيّة‭ ‬على‭ ‬الأسل؟

‭- ‬أعترف‭ ‬بداية‭ ‬أنّ‭ ‬ثمة‭ ‬ديوانين‭ ‬من‭ ‬دواويني‭ ‬الخمسة‭ ‬عشر،‭ ‬يطلّ‭ ‬من‭ ‬عنوان‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬رأس‭ ‬المتنبي‭. ‬الأول‭ ‬هو‭ ‬‮«‬ممالك‭ ‬عالية‮»‬،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بيت‭ ‬المتنبي‭ ‬المعروف‭:‬

‭ ‬‮«‬أعلى‭ ‬الممالك‭ ‬ما‭ ‬يُبنى‭ ‬على‭ ‬الأسل

والموت‭ ‬عند‭ ‬محبيهنّ‭ ‬كالقُبلِ‮»‬‭... ‬

والثاني‭ ‬هو‭ ‬‮«‬النازلون‭ ‬على‭ ‬الريح‮»‬،‭ ‬ولعلّ‭ ‬هاجساً‭ ‬ما‭ ‬ينقلك‭ ‬عند‭ ‬سماعه،‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬المتنبي‭ ‬المعروف‭:‬

‮«‬على‭ ‬قلقٍ‭ ‬كأنّ‭ ‬الريح‭ ‬تحتي

تقلّبني‭ ‬يميناً‭ ‬أو‭ ‬شمالاً‮»‬‭.‬

ولكنّ‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬ممالك‭ ‬عالية‮»‬‭ ‬الصادر‭ ‬لي‭ ‬عام‭ ‬2002‭ ‬هو‭ ‬عنوان‭ ‬مطلق‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬بيت‭ ‬المتنبي‭ ‬يخصص،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬طريقة‭ ‬أداء‭ ‬القصائد‭ ‬أو‭ ‬أسلوبها‭ ‬وصياغاتها‭ ‬أبعد‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬عن‭ ‬طريقة‭ ‬المتنبي‭.‬

ويكفيك‭ ‬مثالاً‭ ‬مطلع‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬يحمل‭ ‬الديوان‭ ‬اسمها،‭ ‬والتي‭ ‬جاءت‭ ‬مسبوقة‭ ‬ببيت‭ ‬المتنبي‭ ‬المعروف،‭ ‬للدلالة‭ ‬على‭ ‬أصل‭ ‬التسمية،‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تثبيتها‭ ‬أسلوباً‭ ‬ومعنى،‭ ‬بل‭ ‬لنقضها‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬اللغة‭: ‬

‮«‬‭... ‬ورأيته‭ ‬يزن‭ ‬الرياح‭ ‬بكفّه‭ ‬ويقول‭ ‬دوري

ما‭ ‬شئتِ‭ ‬إني‭ ‬حامل‭ ‬اللهب‭ ‬المقدّس‭ ‬في‭ ‬يدي‭ ‬ودم‭ ‬العصور

مازال‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬أعنتِهِ‭ ‬القديمة‭ ‬غاسلاً‭ ‬وجهي‭ ‬ومقتحماً‭ ‬جذوري

أعلى‭ ‬الممالكِ‭ ‬ما‭ ‬يقامُ‭ ‬على‭ ‬الزهورِ

لا‭ ‬السيف‭...‬‮»‬‭.‬

فإنني‭ ‬من‭ ‬البداية‭ ‬دخلت‭ ‬في‭ ‬تعارض‭ ‬أسلوبي‭ ‬جوهري‭ ‬مع‭ ‬المتنبي‭... ‬وهو‭ ‬تعارض‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬بُنية‭ ‬القصيدة‭ ‬وبنائها‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬واحد‭.‬

أما‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬النازلون‭ ‬على‭ ‬الريح‮»‬‭ ‬فهو‭ ‬عنوان‭ ‬بَصَري‭ ‬أوّلاً،‭ ‬ونفسي‭ ‬في‭ ‬المحصلة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬وهو‭ ‬أشد‭ ‬وقعاً‭ ‬في‭ ‬النفس‭ ‬من‭ ‬جملة‭ ‬المتنبي‭ ‬الشائعة‭ ‬المعروفة،‭ ‬مصدر‭ ‬العنوان،‭ ‬ولأكشف‭ ‬ذلك‭ ‬أيضاً‭ ‬كان‭ ‬مشهد‭ ‬الثياب‭ ‬المنشورة‭ ‬على‭ ‬حبال‭ ‬الغسيل،‭ ‬لجماعة‭ ‬من‭ ‬المهجّرين‭ ‬السوريين‭ ‬في‭ ‬محنتهم‭ ‬الراهنة،‭ ‬وقد‭ ‬نزلوا‭ ‬مقابل‭ ‬منزلنا‭. ‬والقصيدة‭ ‬تمشي‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬الانحياز‭ ‬إلى‭ ‬فئة‭ ‬ثالثة‭ ‬هي‭ ‬فئة‭ ‬‮«‬الضحايا‮»‬‭ ‬في‭ ‬الحروب،‭ ‬منذ‭ ‬بدء‭ ‬التاريخ‭ ‬حتى‭ ‬اليوم،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬تذكر‭ ‬المدوّنات‭ ‬سوى‭ ‬فئتين،‭ ‬المنتصرين‭ (‬والتاريخ‭ ‬تاريخهم‭) ‬والمهزومين،‭ ‬أما‭ ‬‮«‬الضحايا‮»‬‭ ‬فهم‭ ‬المسكوت‭ ‬عنهم‭ ‬في‭ ‬الملحمة‭ ‬الكبرى،‭ ‬أنا‭ ‬أنحاز‭ ‬لهؤلاء‭ ‬في‭ ‬القصيدة،‭ ‬وفي‭ ‬التاريخ‭ ‬بكامله،‭ ‬أقول‭:‬

‮«‬ألا‭ ‬أيُّها‭ ‬اللهُ

يا‭ ‬لكَ‭ ‬الملكِ

تعطيه‭ ‬من‭ ‬شئتَ‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬تشاءْ‭ ...‬‮»‬‭.‬

‭ ‬وأعني‭ ‬بهم‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬شيّدوا‭ ‬أمجاد‭ ‬الغابرين‭ ‬والحاضرين‭ ‬معاً‭. ‬وماتوا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ذكر‭ ‬لهم‭ ‬أو‭ ‬حساب‭... ‬أولئك‭ - ‬مثلاً‭ - ‬الذين‭ ‬‮«‬شيّدوا‭ ‬قصر‭ ‬زنوبيا‭ / ‬كي‭ ‬تنام‭ ‬على‭ ‬تخت‭ ‬قيصر‮»‬،‭ ‬والذين‭ ‬شيّدوا‭ ‬الأهرامات،‭ ‬وحفروا‭ ‬القناة،‭ ‬ورفعوا‭ ‬الممالك‭ ‬العالية‭ ‬ثم‭ ‬اندثروا‭ ‬كهباء‭ ‬منثور‭... ‬هؤلاء‭ ‬هم‭ ‬‮«‬النازلون‭ ‬علىالريح‮»‬‭ ‬في‭ ‬ديواني‭... ‬وهم‭ ‬أبعد‭ ‬شأواً‭ ‬من‭ ‬القلق‭ ‬النفسي‭ ‬المتوتّر‭ ‬لأبي‭ ‬الطيّب‭ ‬المتنبي‭.‬

‭<‬‭ ‬لماذا‭ ‬انتصرت‭ ‬للقصيدة‭ ‬الحديثة،‭ ‬وأنت‭ ‬لاتزال‭ ‬مبدعاً‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬العموديّة؟‭ ‬هل‭ ‬لأنها‭ ‬فضاء؟‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬القصيدة‭ ‬العمودية‭ ‬‮«‬شُكلاً‮»‬‭ ‬أي‭ ‬‮«‬قيداً‮»‬،‭ ‬فكيف‭ ‬انتصرت‭ ‬لها‭ ‬عند‭ ‬المتنبي‭ ‬وأبي‭ ‬العلاء‭ ‬وغيرهما‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي؟

‭- ‬يبقى‭ ‬في‭ ‬القصيدة،‭ ‬في‭ ‬نظري،‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬شكلها،‭ ‬ووقتها،‭ ‬شيء‭ ‬ما‭ ‬غامض،‭ ‬سرٌّ‭ ‬ما،‭ ‬يتبع‭ ‬خطه‭ ‬الشعراء‭ ‬ويبحثون‭ ‬عنه،‭ ‬فكأن‭ ‬القصيدة‭ ‬بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬‮«‬سرّ‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬سرّ‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬أساس‭ ‬التواصل‭ ‬والتجدّد‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬واحد‭. ‬فالحداثة‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬الشعراء‭ ‬العرب‭ ‬منذ‭ ‬خمسينيات‭ ‬القرن‭ ‬الفائت‭ ‬حتى‭ ‬اليوم،‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬أساليبها،‭ ‬ومنابعها،‭ ‬وقعت‭ ‬جزئياً‭ (‬لناحية‭ ‬النصّ‭ ‬الشعري‭ ‬الحديث‭ ‬المكتوب‭ ‬ولناحية‭ ‬النظريّة‭ ‬معاً‭) ‬في‭ ‬التباس‭ ‬أو‭ ‬اشتباه‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬وقعت‭ ‬فيه‭ ‬الحداثة‭ ‬الغربية،‭ (‬وهي‭ ‬سابقة‭ ‬على‭ ‬الحداثة‭ ‬العربية‭ ‬وملهمتها‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬مسائلها‭). ‬وهو‭ ‬التباس‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬القديم‭ ‬والحديث‭ ‬على‭ ‬العموم‭ ‬وفي‭ ‬الشعر،‭ ‬وبين‭ ‬الأصالة‭ ‬والحداثة‭. ‬فإنّ‭ ‬الاندفاع‭ ‬الجارف‭ ‬للحداثيين‭ ‬في‭ ‬أوربا،‭ ‬كالمستقبليين‭ ‬الروس،‭ ‬مثلاً،‭ ‬وشعراء‭ ‬وفناني‭ ‬الحداثة‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬اعتبروا‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬حداثتهم‭ ‬وهناً‭ ‬وشلواً‭ ‬يجب‭ ‬رميه‭ ‬في‭ ‬سلة‭ ‬مهملات‭ ‬التاريخ،‭ ‬حتى‭ ‬إنّ‭ ‬مايا‭ ‬كوفسكي‭ (‬المستقبلي‭ ‬الروسي‭) ‬كان‭ ‬حين‭ ‬يسأل‭ ‬عن‭ ‬الرومانسية‭ ‬يعتبرها‭ ‬ساقاً‭ ‬ميتة،‭ ‬لا‭ ‬لزوم‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬الجسد‭ ‬الحي‭ (‬جسد‭ ‬الحداثة‭)... ‬وأوجين‭ ‬يونيسكو،‭ ‬المسرحي‭ ‬الفرنسي‭ ‬السريالي‭ ‬كتب‭ ‬هجائيات‭ ‬مرّة‭ ‬في‭ ‬فكتور‭ ‬هوجو‭... ‬رأس‭ ‬الشعر‭ ‬الفرنسي‭ ‬الكلاسيكي‭.‬

أما‭ ‬هوجو‭ ‬فقال‭ ‬متحسّراً‭: ‬‮«‬من‭ ‬يلقي‭ ‬بالشعر‭ ‬الجميل‭ ‬إلى‭ ‬كلاب‭ ‬النثر‭ ‬السوداء؟‮»‬‭... ‬الخطأ‭ ‬الكبير‭ ‬أو‭ ‬الخطيئة‭ ‬الكبرى‭ ‬لدى‭ ‬الحداثيين‭ ‬الغربيين‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬اعتبار‭ ‬الماضي‭ ‬عموماً‭ ‬والكلاسيكية‭ ‬قبراً‭ ‬أو‭ ‬مدفناً‭... ‬ولابد‭ ‬من‭ ‬تلافيه‭... ‬وقد‭ ‬تبعهم‭ ‬بعض‭ ‬الشعراء‭ ‬والمنظرين‭ ‬الحداثيين‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاعتبار،‭ ‬فرجموا‭ ‬التاريخ‭ ‬العربي‭ ‬بكامله،‭ ‬ودعا‭ ‬بعضهم‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬بجّ‭ ‬السدّ‮»‬‭ ‬بتعبير‭ ‬أنسي‭ ‬الحاج،‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬ديوانه‭ ‬الخطير‭ ‬‮«‬لن‮»‬‭ (‬1952‭).‬

جاءت‭ ‬عصور‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة،‭ ‬لكي‭ ‬تثبت،‭ ‬فلسفياً‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التفكيكيين‭ ‬الغربيين،‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬فوكو‭ ‬وجاك‭ ‬دريدا،‭ ‬أن‭ ‬الماضي‭ ‬ليس‭ ‬مقبرة،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬طائر،‭ ‬وأن‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬يندثر‭ ‬بل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يتحوّل‭. ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬نراه‭ ‬نحن‭ ‬في‭ ‬علاقتنا‭ ‬بالحداثة‭ ‬الشعرية،‭ ‬وكتابتنا‭ ‬للقصيدة،‭ ‬ومن‭ ‬حيث‭ ‬علاقتها‭ ‬بماضيها‭ ‬البعيد‭ ‬والقريب‭ ‬المتحوّل‭. ‬إني،‭ ‬مثلاً،‭ ‬ابن‭ ‬امرئ‭ ‬القيس‭ ‬ولست‭ ‬هو،‭ ‬وابن‭ ‬المتنبي‭ ‬ولست‭ ‬هو‭... ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬خطير‭ ‬ودقيق،‭ ‬وفيه‭ ‬تكتب‭ ‬الكتب‭.‬

‭<‬‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬مائدة‭ ‬جمعت‭ ‬جبران‭ ‬خليل‭ ‬جبران‭ ‬والمتنبي‭ ‬معاً‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬أُناديكَ‭ ‬يا‭ ‬ملكي‭ ‬وحبيبي‮»‬؟

‭- ‬الملك‭ ‬هو‭ ‬المتنبي،‭ ‬والحبيب‭ ‬هو‭ ‬جبران،‭ ‬وقد‭ ‬دعوتهما‭ ‬معاً‭ ‬إلى‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬أناديك‭ ‬يا‭ ‬ملكي‭ ‬وحبيبي‮»‬،‭ ‬المكتوبة‭ ‬عام‭ ‬1978،‭ ‬والمنشورة‭ ‬في‭ ‬الديوان‭ ‬الذي‭ ‬يحمل‭ ‬الاسم‭ ‬نفسه،‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬نفسه،‭ ‬وهي‭ ‬قصيدة‭ ‬مكتوبة‭  ‬إبّان‭ ‬احتدام‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬واشتداد‭ ‬القتال‭ ‬والقتل،‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬جسدي‭ ‬يعيش‭ ‬حالة‭ ‬المتنبي‭ ‬في‭ ‬الحروب،‭ ‬وروحي‭ ‬تلتجئ‭ ‬إلى‭ ‬سلام‭ ‬جبران‭ ‬وأحواله‭ ‬القمريّة،‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬جاء‭ ‬قولي‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭:‬

‮«‬قيل‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬ينكسر‭ ‬الحالمون‭ ‬على‭ ‬الحلم

تبتدئ‭ ‬الروح‭ ‬أحوالها‭ ‬القمريّة

ليس‭ ‬هذا‭ ‬بكائي‭ ‬لجبران‭ ‬لكنني‭ ‬أعلم‭ ‬أن‭ ‬الكآبة‭ ‬سري

وأنك‭ ‬يا‭ ‬سيدي‭ ‬وحبيبي‭ ‬تبادلني‭ ‬السرّ

فاخفض‭ ‬جناحك‭ ‬عندي‭...‬‮»‬‭.‬

وقد‭ ‬اجتمع‭ ‬الشاعران‭ ‬هذان‭ ‬في‭ ‬عرفي‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭.‬

‭<‬‭ ‬نلاحظ‭ ‬أواصر‭ ‬أخرى‭ ‬تربطك‭ ‬بهذين‭ ‬القطبين‭: ‬جبران‭ ‬والمتنبي‭... ‬أليس‭ ‬كذلك؟

‭- ‬بلى،‭ ‬الأواصر‭ ‬عميقة‭ ‬وقويّة‭... ‬حتى‭ ‬إنني‭ (‬ولتصدقني‭) ‬ربما‭ ‬رأيت‭ ‬أحدهما‭ ‬في‭ ‬المنام‭.‬

‭<‬‭ ‬لغتك‭ ‬الشعريّة‭ ‬خاصة‭... ‬ومن‭ ‬خصوصيتها‭ ‬مثلاً‭ ‬أن‭ ‬تتلاقى‭ ‬فيها‭ ‬الدهشة‭ ‬وعذرية‭ ‬الرؤية‭ ‬في‭ ‬آن،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬ناوليني‭ ‬حذائي‭ ‬وقلبي،‭ ‬ناوليني‭ ‬العصا‭ ‬وقربة‭ ‬ماء‭ ‬الحياة،‭ ‬ناوليني‭ ‬السفَر‮»‬‭... ‬فالكلمات‭ ‬في‭ ‬منتهى‭ ‬البساطة،‭ ‬ولكنها‭ ‬مدهشة‭ ‬حين‭ ‬تضاف‭ ‬إلى‭ ‬بعضها‭ ‬وتتزاوج‭. ‬وفي‭ ‬ألفاظك‭ ‬شحن‭ ‬صوفي‭ ‬واضح،‭ ‬يتسرّب‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عملية‭ ‬التركيب‭ ‬اللغوي،‭ ‬وربما‭ ‬من‭ ‬طقوس‭ ‬الجنوب‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬الغناء‭ ‬والحزن‭... ‬فهل‭ ‬كان‭ ‬لتأثير‭ ‬البيئة‭ ‬والطقوس‭ ‬الجنوبية‭ ‬التي‭ ‬نشأت‭ ‬فيها‭ ‬تأثير‭ ‬على‭ ‬لغتك‭ ‬الشعريّة؟

‭- ‬سيكون‭ ‬من‭ ‬المجافاة‭ ‬إنكار‭ ‬هذا‭ ‬التأثير،‭ ‬إذ‭ ‬في‭ ‬قاع‭ ‬النهر‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مجراه،‭ ‬تتجمّع‭ ‬مياه‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬فجّ‭ ‬وصوب،‭ ‬ولكنّ‭ ‬تفسير‭ ‬اللغة‭ ‬الشعرية‭ ‬أو‭ ‬اللعبة‭ ‬الشعرية،‭ ‬بمصادرها‭ ‬وحدها‭ ‬مجافاة‭ ‬أكثر‭ ‬خطورة‭ ‬من‭ ‬إهمال‭ ‬هذه‭ ‬المصادر،‭ ‬فلو‭ ‬افترضنا،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬إخوة‭ ‬أو‭ ‬أتراباً‭ ‬نشأوا‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬واحد،‭ ‬وتعلّموا‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬واحدة،‭ ‬وعايشوا‭ ‬أناساً‭ ‬متقاربين‭... ‬فلماذا‭ ‬ينفرد‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬بالشعر‭ ‬دون‭ ‬سواه؟‭ ‬وقد‭ ‬يصل‭ ‬الاختلاف‭ ‬بينهم‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬التناقض،‭ ‬المسألة‭ ‬في‭ ‬نظري،‭ ‬بمقدار‭ ‬ما‭ ‬تتعلّق‭ ‬بمصادر‭ ‬التجربة‭ ‬الشعرية،‭ ‬تتعلّق‭ ‬بالقدرة‭ ‬على‭ ‬التحويل‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬التأويل‭ ‬والإبداع،‭ ‬وعملية‭ ‬التحويل‭ ‬والتأويل‭ ‬والإبداع‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬عملية‭ ‬خطيرة‭ ‬وسرّية‭ ‬وذات‭ ‬طبقات،‭ ‬شبيهة‭ ‬بصنع‭ ‬نهر‭ ‬متدفّق‭ ‬لنبتة‭ ‬صغيرة‭ ‬أو‭ ‬زهرة‭ ‬صغيرة‭ ‬على‭ ‬ضفته،‭ ‬هنا‭ ‬تتشارك‭ ‬عوامل‭ ‬جسدية‭ ‬ونفسية‭ ‬كثيرة،‭ ‬بعضها‭ ‬معروف‭ ‬وبعضها‭ ‬مستور،‭ ‬كطبقات‭ ‬اللاوعي‭ ‬مثلاً‭... ‬كما‭ ‬يصح‭ ‬افتراض‭ ‬وجود‭ ‬‮«‬جينات‭ ‬شعريّة‮»‬‭ ‬لدى‭ ‬بعض‭ ‬الناس،‭ ‬ينفردون‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬سواهم،‭ ‬وإلا‭ ‬فما‭ ‬معنى‭ ‬أن‭ ‬الاجتهاد‭ ‬وحده،‭ ‬والتحصيل‭ ‬الثقافي‭ ‬مهما‭ ‬تنوّع‭ ‬وتعمّق‭ ‬لا‭ ‬يصنعان‭ ‬شاعراً؟‭ ‬ولعلّ‭ ‬الذي‭ ‬قال،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬الطرافة‭: ‬إن‭ ‬الشاعر‭ ‬أو‭ ‬الفنّان‭ ‬يصدر‭ ‬‮«‬بمرسوم‭ ‬إلهي‮»‬‭ ‬يقرّب‭ ‬لنا‭ ‬الفكرة‭... ‬وهي‭ ‬أنّ‭ ‬الاستعداد‭ ‬الفطري،‭ ‬والخلقة‭ ‬الإلهية،‭ ‬هما‭ ‬وعاء‭ ‬الشعر‭ ‬الضروري،‭ ‬الذي‭ ‬يمتلئ‭ ‬بكل‭ ‬روافد‭ ‬الثقافة‭ ‬ثم‭ ‬يفيض‭ ‬أو‭ ‬ينضح‭ ‬بما‭ ‬فيه‭. ‬إن‭ ‬تجارب‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬والتحليل‭ ‬النفسي‭ ‬التي‭ ‬لمع‭ ‬فيها‭ ‬ابن‭ ‬سينا‭ ‬من‭ ‬فلاسفتنا‭ ‬الأقدمين،‭ ‬وفرويد‭ ‬ويونج‭ ‬من‭ ‬الغربيين‭ ‬المحدثين‭... ‬والكشف‭ ‬عن‭ ‬مجاهيل‭ ‬وطبقات‭ ‬اللاوعي‭ ‬في‭ ‬النفس‭ ‬البشريّة،‭ ‬ألقت‭ ‬ضوءاً‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬الطبقات‭ ‬العميقة‭ ‬لنفس‭ ‬الشاعر‭... ‬ولعل‭ ‬تجارب‭ ‬المتصوّفة‭ ‬وكشوفهم،‭ ‬تقدّم‭ ‬ملاحظات‭ ‬عميقة‭ ‬وثمينة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭.‬

‭<‬‭ ‬لقد‭ ‬مررت‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬شعري‭ ‬ونحن‭ ‬نسمّيها‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬‮«‬المراحل‮»‬‭ ‬التي‭ ‬يقطعها‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬تجربته‭ ‬الشعريّة،‭ ‬وواضح‭ ‬في‭ ‬نتاجك‭ ‬مراحل‭ ‬تأثرك‭ ‬بالتراث‭ ‬وشغفك‭ ‬بالتاريخ‭ ‬الذي‭ ‬يستبدّ‭ ‬بك‭ ‬كالشعر‭ ‬نفسه‭ ‬واطلاعك‭ ‬الخصب‭ ‬على‭ ‬التراث‭ ‬الإنساني‭... ‬فما‭ ‬الخيط‭ ‬الواصل‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المراحل؟

‭- ‬الخيط‭ ‬الواصل‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المراحل،‭ ‬وأنا‭ ‬أسمّيها‭ ‬الأعمار‭ ‬الشعرية،‭ ‬هو‭ ‬خيط‭ ‬التحويل،‭ ‬فمن‭ ‬دونه،‭ ‬يبقى‭ ‬كل‭ ‬تراكم‭ ‬ثقافي‭ ‬تراكماً‭ ‬كمياً‭... ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التحويل‭ ‬وحدها‭ ‬هي‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬استخراج‭ ‬نقطة‭ ‬عسل‭ ‬الشعر‭ ‬الصغيرة‭ ‬والثمينة،‭ ‬من‭ ‬زهور‭ ‬الحدائق‭ ‬وأشجارها،‭ ‬وهذه‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التحويل‭ ‬هي‭ ‬دينامو‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬نظري،‭ ‬إنها‭ ‬تعمل‭ ‬في‭ ‬كيمياء‭ ‬وفيزياء‭ ‬التجربة،‭ ‬في‭ ‬أرضها‭ ‬وسمائها‭ ‬وزمانها‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬واحد‭. ‬إن‭ ‬عمل‭ ‬الشاعر‭ ‬هنا‭ ‬قريب‭ ‬لناحية‭ ‬العناصر،‭ ‬من‭ ‬عمل‭ ‬الكيميائي‭ ‬الذي‭ ‬يستخرج‭ ‬من‭ ‬نسب‭ ‬العناصر‭ ‬ونوعها‭ ‬ابتكاره‭ ‬المختلف‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬العناصر،‭ ‬ومن‭ ‬الناحية‭ ‬الفيزيائية،‭ ‬فالشاعر‭ ‬يلعب‭ ‬على‭ ‬عناصر‭ ‬الزمان‭ ‬والنسبية‭ ‬لعباً‭ ‬يقرّبه‭ ‬من‭ ‬الفيزيائي‭ ‬الرياضي‭. ‬وحيث‭ ‬إن‭ ‬أدوات‭ ‬الشاعر،‭ ‬الكلمات،‭ ‬والكلمات‭ ‬كائنات‭ ‬قائمة‭ ‬بين‭ ‬الصوت‭ ‬والمخيّلة،‭ ‬بين‭ ‬النطق‭ ‬والإيحاء،‭ ‬فالشاعر‭ ‬هنا‭ ‬يقف‭ ‬بين‭ ‬العرّاف‭ ‬والساحر‭... ‬ولا‭ ‬نقول‭ ‬‮«‬النبي‮»‬‭ ‬برغم‭ ‬جدّنا‭ ‬المبجّل‭ ‬أبي‭ ‬الطيّب‭ ‬