الأمومة في الأدب... إليف شفّاق نموذجاً

الأمومة في الأدب... إليف شفّاق نموذجاً

لا توجد معادلة تنتظم الأمومة والكتابة وتناسب الجميـــع، فلكـــــل كاتبـــــة اختياراتها في هذا الصدد، هذا ما توصلت إليه إليف شفاق بعد تجربتها مع الإنجاب، فمن خلال مذكراتها الروائية (حليب أسود) قامت الكاتبة التركية الشهيرة برحلة ممتعة إلى وادي الطفولة وغابة الكتابة، تجولت فيها عبر مسارب الذات وتشققاتها، وحيرتها، وقلقها الدائم، متحاورة مع ذواتها الأخرى، وعبر حركة سردية بندولية بين الداخل والخارج؛ توقفت لرصد تجربة كاتبات سابقات ومعاصرات مع الإنجاب والأزواج ومتطلبات الأمومة.

كانت إليف، إذ تقف على تخوم تجربة الأمومة، حريصة على ألا تخرج عن طبيعتها ككاتبة ذات خيال مجنح، فجاءت تجربة نصها الكتابي رهيفة شائقة مفعمة بمشاعر لا تعرفها إلا الأنثى، لتحقق بذلك خصوصية تطمح لها الكاتبات من بنات حواء ممن حلمن بالوصول إلى كتابة أنثوية خالصة، وأبرزت - من ناحية ثانية - ما تحمله من إرث ثقافي ممتد وشاسع لا يوازيه في امتداداته سوى تعمقها في تشخيص ذوات أخرى منبثقة من ذاتها، تتماس معها حيناً، تهادنها حيناً وتجادلها حيناً آخر، حيث شكلت ثنائية الأمومة والكتابة الثنائية أساس تجربتها. 
وخلف هذه الثنائية الأساس يبرز كثير من القضايا المطروحة على طاولة الدراسات النسوية، وتنظيرات نقادها، ومفاهيمهم عن الجنس والمرأة والأمومة. 
كما يبرز تاريخ ممض لكاتبات عديدات عانين إثم التجنيس وذكورية الرؤية، والنظرة إليهن كإناث أولاً ثم ككاتبات ثانياً. 
 «لا تولد المرأة امرأة، ولكنها تسعى لتصير امرأة»، هذا ما قالته منذ أكثر من نصف قرن سيمون دي بوفوار التي تحتل مكانة مركزية في الحراك النسوي.
ففي مرحلة أساسية من المراحل التي مرت بها الدراسات النسوية قامت على التحليل النقدي للأيديولوجية البطريركية وبنيتها الطاغية التي تهب لمن تشاء هويته وتؤسس لمعايير التمايز بين الجنسين، والتفرقة بين الذكر وبنيته البيولوجية والأنثى وبنيتها الاجتماعية، ومن هذا المنطلق تطرح شفّاق قضايا الأمومة باعتبار أن الفهم الشائع لها وأدوارها وواجباتها هو ثقافي بالأساس، قبل أن يكون طبيعياً أو جسدياً. 
ومن هنا تأخذ قضايا الأمومة والأنوثة مساحة معتبرة في مذكراتها، ليس من خلال التنظير، بل من خلال استقراء تجارب كاتبات سابقات من جنسيات مختلفة استطعن خلخلة كثير من المفاهيم الخاصة بالمرأة، وكلها بالأساس ذكورية المنشأ تكرس لاستمرار تسلطه واستبداده. ويقوم الراوي بدور الناقد النسوي الذي يعيد ترتيب مفاهيمه حول تجربة الأمومة والأنوثة والكتابة، ويخوضها في الوقت ذاته. فالتجربة تتم على مستويين: معايشة التجربة وتمثلها في آن واحد. 

استبطان الذات
في الرافد الأول من الرحلة لجأت الكاتبة إلى نوع من استبطان الذات، وتشخيص المشاعر والأفكار في إطار سردي لا يخلو من السخرية، وأخذت تغوص بأعماق الذات في أدق مشاعرها، حتى وصلت إلى اللحظة التي صرخت فيها شهرزاد زيلدا وليدتها من زوجها أيوب، وما بعدها من معاناة وقلق واكتئاب.
وأخذت عملية التشخيص القسط الوافر من تجربة إليف، وكانت مناط الإبداع الحقيقي في تجربتها، فلكل فتاة من فتيات الفوضى أو نساء الأصابع التي تتصارع داخل الذات سمتها الخاص وقيمها ودوافعها ووظائفها التي تميزها عن أخواتها.
وقد برعت الكاتبة في وصف كل أنا دخل كيانها الإنساني بصورة جعلت من كل شعور يعتمل داخلها إنساناً من لحم ودم، وله بنيته الجسدية والفكرية المستقلة، وله توجهاته التي تترك أثرها في الذات الأم. وكل شخصية من الشخصيات الست تمثل رؤية أو جانباً من جوانب الذات الفكرية والشعورية متدرجة على خط مستقيم، تقف على أحد طرفيه شخصية الآنسة التشيخوفية الرافضة لفكرة الكاتبة الأم، وعلى الطرف الآخر تقف شخصية ماما الرز بالحليب؛ رمز الأمومة في أوضح صورها، لذا كان التحول الأساسي في حياة إليف بتجربة الإنجاب، بمنزلة تحول في حضور الشخصيتين ومدى سيطرتهما على مقومات الذات واختياراتها، والتعبير عن وجودهما على حواف الثنائية الأساس، إذ هما الممثلتان الشرعيتان للكتابة والأمومة داخل الذات، فبرزت الأولى في مناهضتها لفكرة الأمومة وتبعاتها، في حين برزت الثانية بعد الحمل وظهرت سطوتها على مقدرات الذات واختياراتها. 
هذا التحول الذي يشبه تحولات الدول من نظام إلى آخر مغاير لسابقه ومضاد له. فمن حكم الأقلية حيث الأصوات متوازنة، إلى الحكم العسكري للصوت الشخصية التشيخوفية المتسلطة والمنحازة للكتابة، إلى الحكم الملكي، وشخصية ماما الرز باللبن، ثم مرحلة الفاشية، وما عانته إليف ذاتها من اكتئاب ما بعد الولادة نال حظه من التشخيص، وعرفنا مراحله ودرجاته من خلال لورد بوتون وعائلته، وقد أتاحت فكرة التشخيص هذه الفرصة للكاتبة للتحرك بحرية في فضاءاتها الداخلية، والتنقل بين وجهات النظر المختلفة بسهولة ويسر، وتحولت بها الذات إلى عالم مواز للعالم الخارجي، عالم يمور بالأصوات والشخصيات التي تطلق لتوجهاتها العنان، ولا تعرف الكبت أو الانزواء وترتب على ذلك كسرٌ لأحادية الصوت ومن ثم أحادية الرؤية... إنها جوقة من الأصوات بداخلها، أتاحت لها فرصة الخروج من أجل تأسيس شكل ديمقراطي داخلي، لا يكبت فيه صوت لمصلحة آخر، إنما يعبر كل صوت عن وجوده بحرية مطلقة في إطار ديمقراطي، وإليف في هذا الرافد تضارع المحلل النفسي والروائي المبدع القادر على السرد والوصف والتقاط أدق تفاصيل التجربة. 
وفي الرافد الثاني للرحلة تتبعت صاحبة قواعد العشق الأربعين عشرات السير ومئات التجارب لكاتبات عالميات من جوانب العالم الأربعة، من أمثال سيمون دي بوفوار، وفرجينا وولف وجورج إليوت، ودورثي باركر، ومارجريت أتود، ونادين غورديمر، وآني برولكس... إلخ، ممن مررن بتجارب الأمومة وخبرنها أو رفضنها مطلقاً، أو تعايشن وأبدعن معها. ولم يأت هذا الرافد منفصلاً عن الرافد الأول، بل جاء مضفوراً فيها في جديلة واحدة، قوامها الواقعي والمتخيل، فكان بمنزلة استراحات أو فواصل تتوقف فيها أصوات الذات على التشاحن والتنافس، ثم ما تلبث أن تعاود معاركها من جديد. ولم يكن تناول إليف لحيواتهن مجرد سرد تاريخي، إنما قام على مناقشة وتأمل أبعاد كل تجربة، والتقاط اللحظات الحرجة فيها، فكانت توقفاتها هي إعادة قراءة للحظات الصراع التي عاشتها كل كاتبة مع ثنائية الأمومة والكتابة، وما تمخض عنها من إشكاليات حياتية ووجودية، على نحو ما رأيناه في قراءتها لشخصية صوفيا زوجة تولستوي، ومعاناتها وإبداعها المكبوت خلف جبل عال حجب عن إبداعها الشمس، فيما أفضت مقاومة سلفيا بلاث لشخصية زوجها تيد هيوز بها إلى الانتحار بفرن الغاز. ولم تتحيز إليف في اختياراتها لطرف من أطراف الثنائية الأمومة أو الكتابة، ولكن عرضت لنماذج مختلفة، متنوعة في توجهاتها واختياراتها؛ لكنها - دائماً - ما تمتدح من دون مواربة كل تجربة تنظر بعين جديدة إلى الأنوثة والرجولة وعدم أخذ قوانين التفريق بين الجنسين كمعطى ثابت. وبجمعها بين الغيري والذاتي نستطيع أن نضيف ثنائية أخرى للثنائية الأساس لها دورها في عملية بناء النص، وأقصد هنا ثنائية القراءة والكتابة، فمن أهم ما يميز السير الذاتية أنها تعد صيغة قراءة بمقدار ما هي نمط في الكتابة، كما قال فليب لوجون. فلم تكن إليف في رحلتها تلك مجرد صوت لراوٍ يروي جانباً من جوانب حياتها، يتماس صوته مع صوت المؤلف والشخصية، وإنما أضافت إلى سردها الذاتي سرديات أخرى وطعمت تجربتها بمستويات متنوعة من الخطاب ما بين تاريخي واجتماعي ونقدي وصوفي وبيولوجي، أضفت على كتابها ثراء جمالياً ومعرفياً كفل لقارئه متعة لا شائبة فيها .