عبدالله العروي... مؤرخ المفاهيم ومُنظِّر القطيعة المعرفية

يحار المرء أين يمكن أن يدرج المؤرخ المغربي عبدالله العروي الذي اشتغل في حقول وأبحاث علمية وفكرية متنوعة أكسبته صفة المفكر الموسوعي. تعددت اهتماماته المعرفية، فكتب في التاريخ والبيداغوجيا والفلسفة والأدب والرواية، وأرسى نظريات جريئة، لعل أهمها مقولته حول «العقل الموروث»، فوجّه نقداً للعقل العربي التراثي، معتبراً أنه «أصل الإحباط» بسبب طابعه السكولائي الاجتراري (Scolastique)، وهذا ما أكده المؤرخ الجزائري محمد أركون (1928-2010)، الذي خلص إلى أن استمرار هذا العقل الممتد منذ القطيعة مع التراث التنويري هو السر في تخلفنا، من دون أن يطالب بطيّ الصفحة معه، علماً بأن صاحب «نقد العقل الإسلامي» دعا إلى ممارسة القطع مع العقل التأصيلي، ورفض القطيعة مع العقل الإسلامي ككل.
(انظر: المصباحي، محمد: العقل والمدينة عند الجابري وأركون والعروي ونصّار، في: الفلسفة والمدينة، أعمال المؤتمر الفلسفي اللبناني - العربي، المركز الدولي لعلوم الإنسان، جبيل، 2013).
وعلى الرغم من تعدد إنتاجه الفكري والتاريخي والروائي، اشتهر العروي بكونه امؤرخ المفاهيمب، فأصدر خمسة كتب مهمة، هي: امفهوم الأيديولوجياب، امفهوم الحريةب، امفهوم التاريخب، امفهوم العقلب، وامفهوم الدولةب. اتسقت إصداراته هذه مع أطروحاته في التاريخ وفلسفة التاريخ والرواية والسياسة ونقد المثقفين والثقافة العربية، ولعل الأهم خلاصاته الجريئة حول القطيعة المعرفية مع التراث، فمن هو عبدالله العروي، وكيف يمكن مقاربة أفكاره التأسيسية في حقلي اتأريخ المفاهيمب واالقطيعة مع التراثب؟
هوية العروي... المؤرخ والروائي والأكاديمي
اوُلد عبدالله العروي في أزمور (المغرب) عام 1933، ونال دبلوم الدراسات العليا في العلوم السياسية عام 1956، وفي العلوم التاريخية عام 1958، ثم حصل على شهادة التبريز التعليمية في الإسلاميات عام 1963. وختم اختصاصه عام 1976 بدكتوراه دولة في التاريخ. عمل في التدريس الجامعي بين المغرب وفرنسا والولايات المتحدة. يُفهم من سجله الأكاديمي مدى اهتمامه الشخصي باختصاصات إنسانية وعلمية في آن: سياسة، تاريخ، إسلاميات. ما جعله معروفاً ومشهوراً لدى العرب غرباً وشرقاً، ليس عمله الأدبي، من هنا جاءت علامة الاستفهام، وكان البدء بتعريفه أديباً روائياً، يكتب بالعربية مباشرة، إلى جانب لغات أجنبية. عُرف العروي في فرنسا والعالم العربي بكتابه الأبرز: (L>Idéologie Arabe Contemporaine) الصادر بالفرنسية عام (1967), والذي ترجم إلى العربية تحت عنوان االأيديولوجيا العربية المعاصرةب (شكل هذا الكتاب مدخلاً لبروز مشروعه الفكري الذي أعقبه بكتابين االعرب والفكر التاريخيب واأزمة المثقفين العرب: تقليدية أم تاريخية?ب، عاين في هذا الكتاب معضلة التأخر التاريخي عندنا، وقام بتشخيص الأزمة الثقافية العربية انطلاقاً من تأرجحها بين المنطق السلفي والمنزع الانتقائي). صدرت له عام 1978 رواية االيتيمب، ثم ظهرت عام 1981 رواية االغربةب، ورواية االفريقب عام 1986، ورواية اأوراقب عام 1990، (انظر: خليل، خليل أحمد، موسوعة أعلام العرب المبدعين في القرن العشرين، الجزء الثاني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2001، ص 812 - 813). في عام 1998 أصدر رواية اغيلةب، كما أنه نقل إلى العربية عدداً من الكتب نذكر منها: اتأملات في تاريخ الرومان: أسباب النهوض والانحطاطب للفيلسوف الفرنسي مونتسكيو Montesquieu، وادين الفطرةب للأديب والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau. أصدر عام 2001 اخواطر الصباح: يوميات (1967-1973)ب سجل فيها خواطره بدءاً من صيف 1967، حيث اندلعت الحرب العربية ذ الإسرائيلية الثانية، وما نتج عنها من هزيمة يونيو، التي تركت ندوباً وجراحاً في الذات الجمعية العربية، إلى أن توقف عام 1973 في أعقاب الحرب الثالثة.
وضع العروي مؤلفاتٍ علمية شكلت بصمة معرفية مهمة في الفكر العربي المعاصر نذكر منها: امجمل تاريخ المغربب، اثقافتنا في ضوء التاريخب، االإسلام والحداثةب (بالفرنسية)، اإسلاموية، حداثوية، ليبراليةب (بالفرنسية)، االسنّة والإصلاحب (2008)، امن ديوان السياسةب، اابن خلدون وميكيافيلليب، االعرب والفكر التاريخيب واالأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربيةب.
العروي متحدثاً عن نفسه مفكراً وعالِماً
في كتاب اهكذا تكلم عبدالله العرويب (مجموعة من الباحثين، منتدى المعارف، بيروت، الطبعة الأولى، 2015) يتحدث العروي عن مجموع إنتاجه الفكري امشدداً على أنه وحدة تتجاوب وتتكامل أجزاؤهاب. جاء في كلامه: ادليل هذه الوحدة هو الآتي: أول عمل نشر لي هو الحوار التلفزيوني المعنون بــــ ارجل الذكرىب، الذي كُتب في سنة 1961، والذي سيُعاد نشره هذه السنة (أي 2015). يتناول هذا الحوار موضوع الذاكرة. الموضوع نفسه تناولته بعد عقود في قصة االآفةب وفي كتاب االسنة والإصلاحب. ينقسم كتاب االأيديولوجيا العربية المعاصرةب إلى أربعة فصول: العرب والأصالة؛ العرب والاستمرار التاريخي؛ العرب والعقل الكوني؛ العرب والتعبير عن الذات. يمكن تجزئة أعمالي إلى أربعة محاور، كل محور مرتبط بأحد هذه الفصول: الأيديولوجيا، البحث التاريخي، التأصيل، التعبير. المحور الأول، وصف وتعبير لمقالات العرب عن أنفسهم في العصر الحديث. لم أدرس الفكر العربي أو الفلسفة العربية أو الثقافة العربية، بل الأيديولوجيا فقط. هذا موضوع محدد. اخترت من الإنتاج الفكري العربي المعاصر ما اعتبرته أيديولوجياً. من يُسَمّ هذا الفكر أو ذاك بالأيديولوجيا، فعليه أن يبرر هذا الحكم. بالنسبة إلى أي شيء يكون الفكر أيديولوجياً؟ ثم قبل كل شيء ما الذي تعنيه هذه الكلمة؟ هذا ما فعلته في ثلاثة مؤلفات: امفهوم الأيديولوجياب، امفهوم الحريةب وامفهوم الدولةب. وزدت الأمور توضيحاً في مقالات عدة، جمعتها في كتابي: اأزمة المثقفين العربب، واثقافتنا في ضوء التاريخب. زد إلى هذين المؤلفين المحاضرة التي صدرت تحت عنوان اعوائق التحديثب. هذا الجزء من أعمالي يكوِّن وحدة حول الأيديولوجيا وما يميزها عن الواقعية والموضوعية. الجزء الثاني يتعلق بالبحث الموضوعي من المجتمع الذي تسود فيه تلك الأيديولوجيا. الغرض منه إظهار أن الأيديولوجيا أيديولوجيا بالفعل، أي تصور خاطئ غير مطابق للواقع. دراسة الأيديولوجيا يجوز أن تكون عامة، تشمل كل البلاد العربية، لكن البحث التاريخي يمسّ بالضرورة بلداً بعينه، أي المغرب في ما يخصني. لذلك كتبت مجمل تاريخ المغرب، جذور التاريخية الوطنية، المغرب والحسن الثاني، ومقالات جمعتها في مؤلف مباحث تاريخية. الجزء الثالث من أعمالي تعميق للجزء الثالث من الأيديولوجيا العربية المعاصرة، أي تأصيل للتاريخانية. وهنا لابد من تجاوز التأريخية إلى التاريخانية. نقول إن هذه التحليلات أيديولوجية لأنها لا تطبق المنطق السليم لدراسة الحاضر والماضي. لولا أننا نذهب أبعد من هذا الاستنتاج، لنقول إن هذه التحليلات إذا حولت إلى سياسة تخفق لا محالة، وإن التحليلات المناقضة لها تضمن وحدها النجاح. هذا الاستنتاج الثاني هو الذي أسميه أنا تاريخاني. فوجب أن أُبرِره، أن أُؤَسّس له. وهو ما فعلته في مفهوم التاريخ، ثم مفهوم العقل. يُضاف إلى هذين الكتابين االسنة والإصلاحب وامن ديوان السياسةب. هذه محاولة مني في تأصيل التاريخانية بصفتها بوصلة العمل السياسي الهادف. وأخيراً الجزء الرابع الذي يتقاطع مع محتوى الفصل الرابع من الأيديولوجيا العربية المعاصرة، يُعنى بالتعبير. يتكوّن من خواطر الصباح التي تسجل وقع الأحداث اليومية في النفس من دون أدنى تنظير أو تعقيل. ومن الأعمال الأدبية، تُستحضر الغربة واليتيم وأوراق أخرى بكثير من الحنين إلى ذكريات الصبا. فيما يصف الفريق وغيلة أوضاع الحاضر، وتستكشف الآفة آفاق مستقبل مظلم. لا دور هنا للعقل، كل شيء مبني على الحدث والخيال. انكب جل المحللين العرب على الجزء الأول فقط، ظناً منهم أن الباقي كله شرح وتوظيف لما جاء فيه. تصرفوا كما لو كنت أقدم أيديولوجيا جديدة، عوض الأيديولوجيات التي انتقدتها. لم أقدم التاريخانية كأيديولوجيا بديلة، بل وسيلة للتخلص من كل أنواع الأيديولوجيا، وللالتصاق بالواقع لنضمن بعض النجاح لما نُقدِم عليه من تدبيرب (انظر: هكذا تكلم عبدالله العروي، ص 16-17-18).
اعتمد العروي في مقاربته وتأويله للتاريخ العربي على مناهج عدة من بينها امنهجية التأسيس للمفاهيمب (أو ما يسميه االتاريخ بالمفهومب) التي رأى إليها امفاهيم اجتماعية تاريخية تتغير باستمرارب. وقد بلور منهجه في سلسلة أبحاث مثل: امفهوم الأيديولوجياب، امفهوم الحريةب، امفهوم الدولةب، امفهوم التاريخب، امفهوم العقلب. واعتبر أن وضوح المفهوم مسألة ضرورية لفهم الواقع من أجل التخلص امن التساؤلات الزائفةب، قائلاً: اإننا لا نبحث في مفاهيم مجردة لا يحدها زمان ولا مكان، بل نبحث في مفاهيم تستعملها جماعة قومية معاصرة هي الجماعة العربية. إننا نحلِّل تلك المفاهيم ونناقشها لا لنتوصل إلى صفاء الذهن ودقة التعبير فحسب، بل لأننا نعتقد أن نجاعة العمل العربي مشروطة بتلك الدقة وذلك الصفاء. لهذا السبب نحرص على البدء بوصف الواقع المجتمعي، آخذين المفاهيم أولاً كشعارات تحدد الأهداف وتنير مسار النشاط القومي. وانطلاقاً من تلك الشعارات نتوخى الوصول إلى مفاهيم معقولة صافية من جهة ونلتمس من جهة ثانية حقيقة المجتمع العربي الراهنب (العروي، عبدالله، مفهوم العقل: مقالة في المفارقات، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، الطبعة الخامسة، 2012)، أي إن العروي يدرس المفاهيم في حركتها التاريخية. وإلى جانب البعد التأسيسي للمفاهيم تأثر إلى حد ما بما أتت به مدرسة الحوليات الفرنسية من دون أن يتبنى الرؤية البنيوية للتاريخ، بمعنى أنه لم يأخذ بإطلاق بروديل للمدة الطويلة. (انظر: الخراط، محمد: تأويل التاريخ العربي، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2013).
التاريخانية والمنهج «التاريخاني»
استند العروي بشكل أساسي إلى المنهج االتاريخانيب (أي المنهج المادي التاريخي والفكر الماركسي)، الذي هو عصارة تركيبية، لخلاصات أعمال كارل ماركس ولينين وأنطونيو غرامشي. جعل من االماركسية التاريخانيةب أفضل مدخل لفهم وتفكيك ودراسة التاريخ العربي. وحدد مقومات التاريخانية بأربعة: ثبوت قوانين التطور التاريخي (حتمية المراحل)، ووحدة الاتجاه (الماضي - المستقبل)، وإمكان اقتباس الثقافة (وحدة الجنس)، وإيجابية دور المثقف والسياسي (الطفرة واقتصاد الزمن) (انظر: الخراط، محمد: تأويل التاريخ العربي، مرحع سابق). ومن أجل توضيح منهجه يقول: ابما أن التاريخانية حدت بفلاسفة الغرب إلى الانكباب على تاريخ مجتمعاتهم وحضاراتهم، فإنها عندي دليل يحيلني على مجتمعي وتاريخه (...). التاريخانية ليست تصوراً مغلقاً تركن إلى الزمن بشكل جامد، بل هي دعوة صريحة للعودة إلى الماضي وقراءته بشكل موضوعي لفهم الحاضر. هذا الحاضر الذي يتسم اليوم بوجود أنموذجين مختلفين للمجتمعات، أطلقت اسم التاريخانية على وضع ثقافي معين هو التخلفب.
غدا العروي ذ كما يلاحظ شمس الدين الكيلاني في مقاله اتفكير العروي في الدولة: الدولة السلطانية وطوبى الخلافةب - امن أكبر دعاة الحداثة السياسية في الفكر العربي المعاصر، تجلّى ذلك في وضوح دعوته إلى التاريخانية الرامية إلى الدفاع عن واحدية التاريخ البشري، من أجل أن تتمكن الإنسانية في كل مكان من التعلم من دروس الحداثة الأوربية. فأصبحت هذه التاريخانية التي حاول العروي بلورتها تياراً له حضوره في الحياة الثقافية - السياسية العربية، تجلت في عديد من التصورات يمكن اختصارها في أربعة مقومات:
< ثبوت قوانين التطور التاريخي، أي حتمية التمرحل التاريخي.
< وحدة الاتجاه (الماضي، الحاضرو المستقبل).
< إمكان اقتباس الثقافة، التي ترمي إلى وحدة الثقافة.
< إيجابية دور الثقافة والسياسي، بما تعني من إمكان اختصار الزمنب.
عبدالله العروي مؤرخ المفاهيم... الحرية والدولة في الحاضرة العربية
أصدر العروي خمسة مؤلفات اتأصيليةب: امفهوم الأيديولوجياب (الأدلوجة)، امفهوم الحريةب، امفهوم الدولةب، امفهوم التاريخب، وامفهوم العقلب.
في شرحه لــــ االمفهومب يقول العروي: اقلت إن المفهوم بالمعنى الذي أتناوله، ليس مجرد عنوان، كاسم اللغويين، أو فرضية كالتي ينطلق منها الرياضيون، بل هو ملخص نظيمة فكرية، بل هو تلك النظيمة في شكل محجر. لا يُدرك خارج حالات الكشف، إلاّ بعد عملية الفكّ والتركيب وفي أثناء تلك العملية. المفهوم بهذا المعنى هو في الوقت نفسه مدار مجموع القضايا، ومقياس الحكم على كل واحدة منها. يعني هذا الكلام أنه يوجد في كل مجتمع، وفي كل عهد، على أعلى مستوى من التجريد، مفهوم واحد يتحكم في الفكر والشعور والسلوك. غير أنه لا سبيل إلى إدراكه في أي لحظة، إلاّ من منظور محدود، أي عبر مفاهيم أخرى أقل تجريداً وأكثر حملاً. إذا لازمنا مسلكاً وسطاً بين الأكثر تجريداً الأقل مضموناً والأقل تجريداً الأقل مضموناً، تناولنا مفاهيم عدة تدرك بعضها بواسطة البعض الآخر، وتشير كلها إلى ذلك المفهوم المهيمن عليها. وعددها محصور بالضرورة، يقل كلما زادت تجريداً وشمولاً. كلامنا هنا على مفاهيم تاريخية/ اجتماعية، ذات مضامين لا مفاهيم اصطلاحية شكلية. تكاد من ناحية تكون مقولات بالمعنى المنطقي، ومن ناحية ثانية أحكاماً مسبقة في العرف الكانطي. لا يستقيم أي خطاب إلاّ بالوعي بها، وإلاّ عاد لغواً، أي ترديداً للمسموع، بعيد عنا أو قريب منا، حصل التصديق به أو لم يحصلب (انظر: العروي، عبدالله، مفهوم العقل، المركز، مرجع سابق، ص 14 - 15). يوضح العروي شرحه لــــ االمفهومب اتساقاً مع المفاهيم التي عمل عليها: اكتبت إلى حد الآن في مفاهيم تتفاوت دقةً وشمولاً، فانعكس بعضها في بعض. الحرية تحيل على الدولة، والأدلوجة على التاريخ... إلخ. وكما أحالت الدراسات المنجزة بعضها على بعض، فإنها تحيل ضمنياً على دراسات غير منجزة. ذُكرت العقلانية في سياق الكلام على الدولة، وذُكر الفرد في سياق الكلام على الحرية، والجدل ضمن الكلام على التاريخ، وكان من الوارد أن أتمم المجموعة في دراسة الثقافة والثورة والأمة، كل ذلك في سياق مفهوم مهيمن على الكل، هو بالطبع مفهوم الحداثة الذي يحدد مضمون وترتيب المفاهيم المذكورةب. (المرجع نفسه، ص 15).
لقد أولى العروي أهمية قصوى للمفاهيم التي عمل عليها بجهد علمي استثنائي، يحتاج كل واحد منها إلى شروحات وتعقيبات لفهم خلاصاتها ونتائجها. لا يتوخى هذا المقال الإحاطة بها كونها تتطلب تفريعاً معرفياً، على الرغم من أنها على تواصل مباشر مع بعضها البعض، وهذا ما شرحه العروي كما ذكرنا أعلاه، لذا ستقتصر معالجتنا هنا على إطلالة سريعة حول الكيفية التي أدركت بها الليبرالية العربية الحرية في سياقاتها الغربية، ورأي العروي فيها، إلى جانب امفهوم الدولةب ذ كما أدركه العروي - في التداول العربي.
في كتابه امفهوم الحريةب ذالذي جاء في خمسة فصول - (الفصل الأول: طوبى الحرية في المجتمع الإسلامي التقليدي؛ الفصل الثاني: الدعوة إلى الحرية في عصر التنظيمات؛ الفصل الثالث: الحرية الليبرالية؛ الفصل الرابع: نظرية الحرية؛ الفصل الخامس: اجتماعيات الحرية)، يقرر العروي أن الليبرالية افي صورتها المبسطة تقر أن الفرد هو أصل المجتمع، وأن الحرية هي حقه البديهي والطبيعي. لا تطرح أبداً الحرية كمشكل، بل تسجلها فقط كظاهرة طبيعية تابعة لوجود الفرد على وجه الأرض. وهكذا تنزع الحرية من مجال المساجلات الفلسفية لتوضع في حيز السياسة التطبيقية والاقتصادية، أي في نطاق التاريخ والتطورب (انظر: العروي، عبدالله، مفهوم الحرية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، الطبعة الخامسة، 1993). يقول العروي: اإن الليبرالية مرت بمراحل أربع أساسية: مرحلة التكوين، ومرحلة الاكتمال، ومرحلة الاستقلال، ومرحلة التقوقع، وكل مرحلة من المراحل تتميز بالتشديد على مفهوم أساسي خاص بها، الذات أولاً، والفرد العاقل ثانياً، والمبادرة الخلاقة ثالثاً، والمغايرة والاعتراض رابعاًب.
يلحظ الأكاديمي والباحث المغربي رزين يونس، قارئاً العروي، في سياق فهمه لكيفية استيعاب الفكر العربي لـــ االليبراليةب: اأن ضعف الفكر الليبرالي يكمن بهذا المعنى، في كونه لم يتمثل على نحو صائب، هذا المسار الذي قطعته الليبرالية في الفكر الغربي، فراح يدعو إلى الحرية بمنطق فلاسفة القرن الثامن عشر، متداخلة مع حرية مفهومة من زاوية الفلاسفة المتأخرين، مثال: جان ستوارت ميل. كيف يعقل إذاً أن نرسي دعائم الدولة، بدعوة إلى الحرية لم نستوعبها حق الاستيعاب؟ فالفكر الغربي قطع مع هاجس الدولة الثيوقراطية، مؤسساً في البدء، الأطروحة القائلة باقتران الدولة والحرية: الحرية التي تتربع على عرش الفصل بين الدولة والدين، والذي تجد تفسيراً لها في الدستور الذي يفصل بين السلط، لينتهي به المطاف بالتشديد على الحرية المطلقة. لم يعد الخطاب الغربي، راضياً قانعاً ومكتفياً بحرية ممارسة في ظل الدولة، إنما يريد حرية أشمل وأوسع، أبستطاعتنا الدعوة إلى الحرية كما نظر لها جان ستيوارت ميل في مجتمع لم يبرح بعد منطق القبيلة. لقد انتقد ميل النظام الإنجليزي لأنه لا يسمح بحرية أكبر. والمسافة بين النظام الإنجليزي والنظام العربي مسافة امتداد البصر. هذا شيء واقعي ويجب أن يُقال، إن الفكر الليبرالي العربي من شدة التصاقه بحقيقة الواقع العربي غابت عنه الفكرة الحقيقية الليبرالية، كما تم التنظير لها في موطنها الأصلي. زدْ على ذلك: اأن خصوصية الليبرالي العربي أنه يعبد الحرية باندفاع لم يعد يحس به زميله الأوربي. والسبب في ذلك هو حالة مجتمعه الذي لم تتحقق فيه أي صورة من صور الحريةب (انظر: رزين يونس، الدولة والحرية موانع النظر في الفكر الليبرالي العربي: قراءة في أطروحات عبدالله العروي، في: هكذا تكلم عبدالله العروي، مرجع سابق، ص 274-275).
في امفهوم الدولةب وزع الكتاب على سبعة فصول: الأول: نظرية الدولة الإيجابية؛ الثاني: النظرية النقدية للدولة؛ الثالث: تكوُّن الدولة؛ الرابع: الدولة التقليدية في الوطن العربي؛ الخامس: دولة التنظيمات؛ السادس: النظرية وواقع الدولة العربية القائمة؛ السابع: المفارقة الحالية. قدم العروي أبرز نظريات الفكر السياسي الأوربي حول موضوع الدولة والتطورات التاريخية التي لحقته، امنذ أواخر العصر الوسيط إلى بداية العصر الحديث. ولم يكن العروي تجاه ملخصات مفاهيم الدولة المتباينة حسب النزعات الفلسفية، سلبياً ولا محايداً، بل كان ناقداً ومحلِّلاً، ومنبهاً للثغر والنواقص التي تعتور أي طرح من الطروحاتب (انظر: جبرون، محمد، إمكان النهوض الإسلامي: مراجعة نقدية في المشروع الإصلاحي لعبدالله العروي، مركز نماء للبحوث والدراسات، الطبعة الأولى، 2013، ص 112).
يدرس العروي الأسس النظرية لمسألة الدولة في التجربتين الغربية والعربية. اثمة مساران، الأول يتعلق بالتجربة الغربية التي ينظر إليها العروي من خلال ثلاث وجهات نظر، عند كلٍّ من هيغل وماركس وماكس فيبر. أما المسار الثاني فيتعلق بالدولة في التجربة الإسلامية التي تعرضت في القرن الثالث عشر هجري لتأثيرات وضغوط أوربا، مما أدى إلى نشوء دولة التنظيمات، وتالياً إلى نشوء التعقيدات الراهنةب (...) في الفصل الرابع من الكتاب ينتقل إلى الدولة التقليدية في الوطن العربي، فيناقش مسألة الدولة الإسلامية، عبر تعقب تاريخي يرى أنه صعب ومعقد. ويخلص إلى أن العناصر المكوِّنة لما نسميه الدولة الإسلامية تقوم على: الدهرية العربية، الأخلاقية الإسلامية، التنظيم الهرمي الآسيوي (...)، ويشير العروي إلى أن اسم الدولة الإسلامية لا ينطبق على الدولة التقليدية، والتسمية الأقرب هي الدولة السلطانية، لأنها الأقرب إلى الواقع والأقل التباساً، أما الخلافة فهي طوبى الفكر السياسي الإسلامي. أما القول بأن الإسلام دين ودولة فيعيده إلى سلفية القرن الماضي، ولا يرى أنه يعني شيئاً واقعياً. تلك الدعوة تبررها ظروف القرن الماضي، ظروف مواجهة الفقهاء لليبرالية الغربيةب (انظر: زيادة، خالد، مفهوم الدولة: قراءة في كتاب عبدالله العروي، موقع حكمة الإلكتروني. ومن أجل الإحاطة الواسعة بخلاصات العروي انظر: العروي، عبدالله، مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، الطبعة التاسعة، 2011).
العروي والقطيعة
مع العقل التراثي
اشتهر العروي بدعوته إلى القطيعة مع االعقل التراثيب؛ لأنه بهذا الفعل يتمكن من تجاوز الإحباط الذي ولدّه فيه العقلان التراثي والنهضوي (انظر: المصباحي، محمد: العقل والمدينة عند الجابري وأركون والعروي ونصّار، في: الفلسفة والمدينة، مرجع سابق). الاستمرارية بالنسبة إليه امفهوم أيديولوجيب لذا ومن أجل تخطي االتأخر التاريخيب وتجاوزه، لابد من القطع اوهذا لا يكون إلا بالقفز فوق حاجز معرفي، حاجز تراكم المعلومات التقليدية، لا يفيد فيها أبداً النقد الجزئي، بل ما يفيد هو طيّ الصفحة، وهذا ما أسميته ولا أزال أسميه بالقطيعة المنهجية... مَن نفى أو تجاهل ضرورة القطيعة أصبحت جهوده تحقيقية تافهةب. اعتبر العروي أن السبيل الوحيد إلى فتح المجال أمام التغيير والتقدم الحقيقيين، هو الابتعاد الحقيقي عن مفهوم القرون الوسطى للعقل، وعن الموروثات التي تأتّت عن هذا المفهوم.
ويقول بشكل واضح ينبغي أن يكون التجديد الفاعل خلاّقاً أكثر مما هو مقلد. (كساب، إليزابيت: الفكر العربي المعاصر دراسة في النقد الثقافي المقارن، مركز دراسات الوحدة العربية، 2012).
ينتقد العروي خطاب الأصالة والفكر السلفي ويدعو إلى الانخراط بالحداثة، مؤكداً أن الخروج من المأزق التاريخي، عربياً، يكون بـــ االدعوة إلى العقل التاريخي، لأن اللجوء إلى الرومانسية والفوضوية، إلى الشعر الغاضب، إلى الثوروية الفارغة، يقوي فقط جانب الفكر السلفي، وهذا الفكر كان سبب التخلف، وسيبقى سبب التخلف (...) ليس ذلك، لأن الفكر السلفي أو مفهوم الأصالة، لا يلتقي مع الفكر التاريخي ومقوماته فحسب، بل لأن مفهوم الأصالة ذاته يعاني اضطراباً. وذلك لأنه تارة يرمز إلى الدين، وأخرى إلى الثقافة، وثالثة إلى واقع أنثروبولوجي، ومرة إلى اختيار تاريخي. ولكل مفهوم من هذه المفاهيم، فئة تدافع عنه أو تيار سياسي يسنده. الأمر الذي يجعل منه مفهوماً غير مستقر ويجعل من النقاش حوله أمراً مستصعباًب (انظر: هاني، إدريس، كيف جرى مفهوم القطيعة على التراث، موقع هسبريس، 25 مارس 2010).
يخلص العروي إلى اأن العلاقة مع التراث، لم تعد قائمة؛ وهي قطيعة تمس الميادين كافة. وما يبدو من استمرار لهذا القديم، ما هو إلا ضرب من الحنين الرومانسي، ونتيجة انخداع يحول دوننا ودون رؤية واقع القطيعة هذه. فليس الوفاء للتراث، هو الواقع، بل إن الانفصال عنه، هو الواقع الحقيقي. ويبدو، أن الفكر العربي، لايزال متخلفاً لهذا السبب تحديداً. إننا امنذ النهضة، ونحن نعيش بأجسامنا في قرن وبأفكارنا وشعورنا في قرن سابق، بدعوى المحافظة على االروح الأصليب، وتلك كانت خدعة من القسم المتأخر في نفسانيتنا وفي مجتمعناب (انظر: هاني، إدريس، كيف جرى مفهوم القطيعة على التراث، مرجع سابق).
قدم عبدالله العروي في أطروحاته بنياناً فكرياً علمياً متراصاً، اتسم بالعقلانية والعمل الدؤوب على مشروعه الفكري، الذي تميز بالتجديد والدعوة المتكررة للأخذ من الحداثة، باعتبارها خلاصاً معرفياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً، قادراً على تجاوز الانسداد التاريخي في العالم العربي. لقد جعل من العقل حدوده وهو القائل: الا يكون العقل عقلانية، لا يُجسد في السلوك، إلاّ إذا انطلقنا من الفعل وخضعنا لمنطقه، ثم بعد عملية تجديد وتوضيح وتعقيل، أبدلنا به المنطق الموروث، منطق القول والكون، منطق العقل بإطلاقب >