غواية النظر
لست ناقداً فنياً ولست مؤرخاً للفن. نشأت في بيت يقطن المتنبي كل زاوية فيه. وفي الصبا والشباب طالعت أو قرأت كل ما وقع تحت يدي. كتبت القصة والرواية. وفي الستينيات، كانت القاهرة خصبة بالشعر والأدب والفنون، ومع أني أدرس الاقتصاد كان جل الأصدقاء شعراء وكتّاباً وفنانين. جمعتني صداقات مع رسامين جلهم من مصر. وكنت أتردد على القاهرة بعد التخرج ثم حين كنت أتابع مشروع صخر لتعريب الحاسب الذي انتقل بعد الغزو الصدامي للكويت من الجابرية بالكويت إلى المنطقة الحرة في مدينة نصر. فاستمرت هذه الصداقات زمناً طويلاً. وقد رأى ابني فهد أخيراً أن يعدّ كتاباً بمجموعتي من اللوحات التشكيلية التي يتجاوز عددها 300 لوحة، وطلب محرر الكتاب كجزء من المهنية أن أسجل كيف اقتنيت المجموعة. لم يكن من السهل التذكر.
فأنا لم أقتن هذه المجموعة مثل أصحاب المقتنيات الفنية. فلم أكن أعتني باسم الفنان أو اسم اللوحة أو توقيعه عليها أو تاريخها. كانت عيني دليلي. ولم يكن في بالي أن أجلس يوماً لأكتب مثل هذا الكتاب. والتذكر أمر صعب، فأغلب اللوحات حزتها أو اشتريتها بمحض المصادفة وغواية النظر. ولقد سخر مني الأهل، كما عنفني عمي، إذ كان معي مرة في زيارة إلى الإسكندرية حين اشتريت لوحتين لمحمود عبدالله وتمثالين لأحمد عبدالوهاب، عنفني على إنفاق المال وتبديده بهذا الشكل.
ولكم وددت لو كان عمي الآن حياً ليرى أن تلك اللوحات صارت بفعل الزمن ذات قيمة كبيرة. ولا أعرف الآن كيف اقتنيت كل لوحة. لكنني أعرف أن المجموعة حصيلة علاقة حميمة بأصدقاءٍ من الرسامين مثل أحمد مرسي، البهجوري، جميل شفيق، آدم حنين، حسن سليمان، فتحي عفيفي، مصطفى رمزي وأرداش.
وبالطبع تضم المجموعة عديداً من اللوحات لغير هؤلاء الأصدقاء. لوحات من معارف كعادل السيوي وفاروق حسني ومحمد عبلة ومنى السعودي وحلمي التوني. ولوحات أخرى من معارض، وأخرى بتوصية من الأصدقاء الرسامين الذين نصحوني باقتناء لوحات عبداللاكي، والشيخلي، وشبعا وهيلين الخال وشاكر حسن والعزاوي وجاذبية وتحية حليم وهند عدنان وغيرهم. وفي هذا الكتاب سأقتصر على لوحات الرسامين الذين جمعتني معهم صداقات.
حسن سليمان
أخذني إبراهيم منصور إلى مرسم حسن سليمان قرب دار القضاء العالي بالقاهرة، وصعدته بالمصعد الحديدي الهزاز الذي يعود إلى ما قبل مائة سنة وأكثر. كان حسن القصير الجسم الحاد النظرات لا يكف عن الكلام وهو يستمع إلى موسيقى ماهلر.
وفي فراندة صغيرة ذات سياج حديدي مثقل باللون الأسود تطل شمس تترك ظلالاً شحيحة، ونحن ننظر إلى لوحات مازال حسن يعمل على تشطيبها أو انتهى منها حديثاً. وما كنت مأخوذاً به هو الألوان القاتمة بين أسود ورمادي داكن، وهي لا تشي بالحزن أو التعاسة، بل تمنح النفس متنفساً عميقاً لبهجة الطبيعة وحيوية الحركة الكامنة في التصميم المحكم. أذكر لوحة الصبي والجاموسة (1966) بالأسود والرمادي، لكن أي بهجة تفيض منها وكأنما أنت الصبي الذي يغسل ظهر الجاموسة فتحس بقشعريرة جسدها والماء الذي لا يظهر في اللوحة ينساب على جسدها. اقتنيت اللوحة بعد سنوات، أي بعد تخرجي في جامعة القاهرة خلال زياراتي المتتالية لها.
ودائماً كنت أزور مرسم حسن سليمان, وكنا نخرج إلى الحواري التي يرتاح لها في الحسين وهو يتحدث طوال الوقت ويقهقه ويطلق تعليقات سياسية كانت شائعة وتتردد آنذاك على ألسنة المثقفين. في إحدى المرات وقفت لشراء مشربية من خان الخليلي، لكنّ حسن سرعان ما سحب يدي وقال لي إن هذه المشربية ليست قديمة، سأعمل لك مشربية أحسن منها. وبعد سنة أهداني مشربية حوالي مترين في متر وثمانين سنتيمتراً من الخشب المحفور وبالزجاج المعشق الذي اشتراه من محال مختلفة في جولات عديدة، وكانت تلك المرة الأولى التي يعمل فيها مشربية خشب بالزجاج. حملتها إلى شقتي في شارع الغيث بالعجوزة، وحملها البواب مع ابنه وطلبت منه أن يضعها في الجزء الفاصل بين صالة الجلوس وطاولة الطعام. وبعد أشهر عدت إلى القاهرة ودخلت الشقة وعيني تنظر إلى المشربية كي أنقلها إلى الكويت، فلم أجدها.
سألت البواب عنها فقال إنه لم يرها أبداً. وما فائدة الكلام الكثير والغضب وعمّ عبده يقسم بالله وكل المقدسات أنه لم يرها أصلاً ولم يحملها مع ابنه إلى الشقة! ولو أخبرت حسن آنذاك بما حصل لشتم أبا البواب والناس جميعاً.
الناس الأفاقون المنافقون الجهلة الذين يأكلون لحم بعض... كلهم... كلهم كما يراهم حسن. وبعد سنوات كان غضبه من الدنيا واحتقاره للناس الكذابين قد تحول إلى جحيم، ولم أستطع تحمُّل سماعه خاصةً وهو يمس أصدقاء أعرفهم، ولم أكن راغباً بالدخول في منازعاتهم الشخصية البسيطة.
واليوم لديّ ست لوحات لحسن أقدمها تعود إلى سنة 1963، وكنت قد اشتريت من حسن لوحات أخرى أهديتها لأصدقاء. لدي ثلاث لوحات طبيعة صامتة كلها بالأسود والرمادي. لكنّ الأسود غير غامق، بل يقترب من الرمادي، إذ يتلاشى اللونان معاً فلا تحس بالعتمة أو الغم. تكوينات قوية form ولعب بالظل وأطراف نور غير ساطع. إنه أستاذ في سبك اللون باللون.
وهناك لوحة للفتاة الشعبية المصرية بالقلم الشيني تغطي رأسها بمنديل أخضر، والوجه المصري الملامح يشي بعظمة المرأة، والزخارف تحيط باللوحة، ورد اللوتس وقلائد النساء والأصابع تتشابك. يا لها من لوحة لا يمكن نسيانها أبداً، وجهٌ لا يُنسى.
واللوحة الأخيرة للبحر. بحر حسن سليمان سماوي مريح وموج أبيض وخط أبيض يفصل البحر عن السماء. إنها عين حسن الفنان, غير عيوننا. نحن نتذكر البحر أمواجاً عالية، قراصنة، غواصات، حاملات طائرات محملة بقنابل ذرية. أما بحر حسن سليمان فهو رخي هادئ تلاحم السماء السماوية زرقة مياهه. بحر سلام وسكينة، مريح للعين والقلب.
كما تضم المجموعة لوحة لحسن سليمان لا تشبه أعماله الأخرى ولا طريقته في الرسم. Mixed Media أكريليك على ورق ألوان مائية وكولاج بقياس 26 x 43 سم ومؤرخة في 2001.
أحمد مرسي
كنت أحضّر للماجستير في الاقتصاد بكلية وليامز شمال غرب ماساشوتس حين جاءني هاتف من الكويت بأن لي قصة منشورة في مجلة جاليري 68. تذكرت المناقشات المسائية في مقهى ريش ومقهى برادي في الدقي عن ثورات عام 1968 في فرنسا وأنحاء مختلفة من العالم ورغبة الأصدقاء في إصدار مجلة طليعية تخرج عن الكساد الأدبي المؤسساتي. اطلعت على المجلة فوجدت قصة اقيس وليلىب التي كتبتها سنة تخرجي في كلية الاقتصاد في جامعة القاهرة عام 1966 وقرأتها في حينه على عادتنا مع الأصدقاء، منشورة في المجلة من دون إبلاغي بذلك. قرأت أن رئيس تحرير المجلة هو أحمد مرسي ولم أكن قد رأيته من قبل. وفي عدد تال قرأت له شعراً. وحين مررت بالقاهرة كعادتي المستمرة التقيت بأحمد ومجموعة جاليري 68 في اجتماعات تحرير المجلة بمنزل إدوار الخراط. ثم التقيته مرات مع الأصدقاء في شقتي بالعجوزة. وحين زرت القاهرة مع زوجتي في شهر العسل صيف 1970 كان أحمد وزوجته أماني من أقرب الأصدقاء لنا. وبعد فترة علمت أن أحمد ترك في شقتي لوحة كهدية لزواجي. في اللوحة حصان يتمرغ بالبني الغامق، والذيل أرجواني ولون أزرق خفيف يغطي الصدر والرأس والسماء زرقاء. لوحة كبيرة بمقاس مترين في متر و20 سم. وحين انتقلت عام 1973 للعمل عضواً في مجلس إدارة البنك الدولي بواشنطن أخذت اللوحة إلى شقتي في مجمع الـاووترغيتب، وهي البناية التي أطاحت الرئيس نيكسون لسماحه بالتجسس على أعمال الحزب الديمقراطي، وكان يزورني حينذاك السفير اليمني يحيى جغمان الذي صار بعد ذلك رئيساً للوزراء، نلعب الشطرنج وينظر السفير إلى هذه اللوحة ويقهقه اهذه حال الأمة العربية... تتمرغ على ظهرها وترفس على الأرضب.
في واشنطن اتصل بي أحمد مرسي للمساعدة ذ لو أستطيع ذ في الطلب الذي تقدمت به زوجته للعمل مترجمة في الأمم المتحدة، وهو ما حصل فعلاً. انتقل أحمد مع زوجته وابنتيه للإقامة في نيويورك. كنا نلتقي في كل زيارة لي إلى نيويورك ويأخذني إلى معارض وجاليريهات الرسم ويحدثني بحماسة مفرطة عن أنه هو من ابتدأ الشعر الحر وليس نازك الملائكة، مستخدماً التواريخ لإثبات حجته. سألته مرة: لماذا لا يبيع لوحاته في نيويورك؟ فأجاب بثقة أن اسمه أحمد، وهذا باعتقاده كاف لعدم تحمس أصحاب الجاليريهات له، علماً بأن صديقه الرسام السوداني محمد نور الذي يصحبنا أحياناً، كان يعرض ويبيع في نيويورك. ربما كانت كبرياء أحمد اللعينة حاجزاً لتردده على أصحاب الجاليريهات.
من أعز لوحات أحمد مرسي إلي لوحة العصافير بالرمادي والأزرق والأخضر، والخلفية الزرقاء لسماء غاضبة تتعمق في حيوية اللون وكأنّ لها أعماقاً متناهية والطيور على أرض سوداء غير آبهة بعتمة السماء. العصافير تلهو، تلعب، وربما تزقزق وأنا أنقلها معي في مكتبي أينما كنت.
وكنت أقتني لوحاته ولا نتكلم عن السعر، وفيما بعد يبعث لي بالمبلغ المطلوب فأدفعه. أحمد إسكندراني مشبع بحب الإسكندرية، وقد ترجم مجموعة قصائد لكفافي الشاعر الإسكندراني اليوناني الأصل والمعروف عالمياً، وأعدّ كتاباً عنه، أحسن ما كتب أو ترجم عن حياة كفافي وشعره بالعربية (ترجمة زوجته أماني فهمي). وحين اشتريت شقة في لندن اتصلت بأحمد ليبعث لي بلوحات، واطلعت على صور فوتوغرافية عديدة واخترت أربع لوحات كبيرة جداً مازالت تزين الشقة ذات الأسقف العالية والمطلة على الـاهايد باركب والمجاورة للرويال ألبرت هول، حيث تعزف الموسيقى كل يوم. ولوحاته مسرحيات وشيء من السريالية وعدم اهتمام بدقة التفاصيل، لكنّ جوها العام يترك تساؤلاً عن الزمن والحيرة والصمت. إنه رسام مسرحي وشاعر. كيف لا وقد عمل في شبابه بالإسكندرية مصمماً لديكورات المسرح؟ كيف لا وقد كتب الشعر منذ بدايات شبابه؟ وبعد أحداث 11 سبتمبر اشتريت منه لوحة كبيرة من نيويورك لامرأة تملأ اللوحة بفستانها الأحمر، وعيناها واسعتان والميكرفون قريب من صدرها وعيناها طائرتان ومكتوب عليها بلون يكاد يتلاشى (Wonderful Women Empire Builders).
وأحمد شاعر له دواوين عديدة ومثقف حداثي. وفي هيئته وطريقة كلامه وضحكته شيء أسطوري. صوت يترجرج كأنما بداخله حشرجة. كأنه خارج من جوف التاريخ، لكنه معك بلحم ودم وعينين زائغتين كأنما تبحثان عن شيء ما. إنه معك في نيويورك قلب العالم وغناه وديناميكيته. تاريخي في قلب الحداثة. يجاهد في الرسم بألوان تبهر في عوالم صاعقة وألم مكبوت. هناك دائماً دراما تحيط الصدمة اللونية. إنه معي كل يوم. كل يوم. وحين رزقت بأول أبنائي في مستشفى واشنطن سنة 1973 كتبت في اليوم نفسه رسالة طويلة لأحمد أحكي له قصة الولادة، فاتصل من نيويورك صارخاً اإنها قصةب وهكذا نشرتها بعد حين بعنوان االمخاضب.
واليوم لديّ عشر لوحات كبيرة أقدمها ترجع إلى سنة 1968 لجسدين متلاصقين وخيول وألوان باهرة. قمة العطاء السريالي.
ولوحة سريالية أخرى بالأسود والخلفية الزرقاء، لكنّ أحب هذه اللوحات هي الطيور التي تتناجى، تتناغم، وتغرد. وهناك لوحتان في شقة لندن. امرأة بالفستان الأحمر والخلفية صفراء ولها وجهان وفوقها رأس حصان باللون الأزرق.
وأخرى لامرأة تضم وجهها المقسوم نصفين بكفيها باللون الأزرق وثلاث ساعات على طاولتها. حيرة وقلق وصمت. ولوحة تملأ الجدار 2.5 x 3 أمتار للزمن. ساعة طويلة منتصف اللوحة وجسدان ملتصقان والخلفية حمراء هادئة وأطراف بحر شمال اللوحة. مسرح درامي. وأخرى بالأزرق القاتم بالحجم نفسه للزمن والحيرة. امرأة تجلس على ساق ممدودة لرجل وبندول الزمن كبير بجانبهما... أزرق قاتم... وها نحن كما كنا منذ الأزل في قلق الوجود وهرولة الأيام ومجاهدتها، وهذا في ظني هاجس أحمد الدائم.
يا أحمد قل مثل كفافي:
«قل وداعاً لها، للإسكندرية الغاربة
كن رجلاً مهيباً طويلاً وشجاعاً
اذهب في ثبات إلى النافذة
وقل وداعاً لها. الإسكندرية التي تفقدها».
جورج البهجوري
ولد جورج البهجوري بعين مستقصية وقلم وبراءة طفل وجنّي من عبقر. عرفناه أول مرة في صفحات مجلة اصباح الخيرب، حيث كان يعمل مع العمالقة اأبوالعينينب وحسن فؤاد وصلاح جاهين والصديق الحميم رئيس التحرير المفكر العروبي أحمد بهاء الدين. كان يرسم الوجوه كما يراها هو، لا كما هي. يحذف الزوائد ويلخص بحرفية رسام الكاريكاتير. وقد رسم وجوهاً على ما يقول محيي الدين اللباد أكثر من شعر رأسه. وأهمها، بل أعظمها عندي، وجه العبقري جورج البهجـوري كمـا لو كان شمساً مشـرقة مـع صلعة ملسـاء وشعـر متطاير علـى الجانبيـن. Self-Portrait نادر. وحين غضب السادات على المثقفين المعارضين لزيارته للقدس، ارتحل جورج إلى فرنسا وخصصت الحكومة الفرنسية له مرسماً في ضواحي باريس. زرته مرات وكانت هناك العشرات من اللوحات والتماثيل والاسكتشات.
رأيت لوحة تفاح تشع بألوانها وأخرى صغيرة الحجم بتفاح معتم، قال لي آدم حنين حين شاهدها معلقة في منزلي: اهل أشطب توقيع جورج وأوقعها أنا؟ب. وثالثة فيها تفاح متباعد باللونين الأحمر والأخضر، ولكل لون أعماق اللون نفسه كأنها طبقات جواهر تصدح. أخذتها كلها، بل وطلبت منه أن يعمل لي لوحة تفاح أخرى بطول 1.30 متر وعرض 9.40 أمتار لأزين بها غرفة الضيوف، فجاءت بعد أشهر طويلة بـ 87 تفاحة كل منها يشع فرحة وسخاء، فتود أن تتملى فيها. وتتملى، وتتملى!
جورج عزيز علينا جميعاً، على كل أفراد أسرتي. يزورنا في منزلنا الصيفي في الجنوب الفرنسي كما يزورني في الكويت مع الأصدقاء من أدباء القاهرة، ليمضوا معنا أياماً في شاليه بنيدر، حيث البحر والشمس والهواء والسكينة. دائماً القلم والكراس بيده والضحكة المجلجلة. مرة واحدة رأيته حزيناً بل كان غاضباً. أول ما وصل إلينا من باريس قال لي وهو يكتوي حسرة: اهل الأطفال أشرار أيضاً؟ب كان ابن صديقة له جالساً في المقعد الخلفي للسيارة التي تقودها والدته لا يتوقف عن سحب وتقطيع شعر رأس جورج رغم توبيخ أمه له، حنق جورج عليه. وجاء يحكي لي هذه القصة بحسرة وحزن كبيرين اهل الأطفال أشرار؟ب.
القصص مع البهجوري كثيرة لطول عشرتنا معه. في المطاعم والمقاهي والأسواق لا يتوقف عن رسم من يخطر في باله أن يرسمه، والنساء يستغربن تحديقه بهن ويفرحن ويندهشن ويضحكن حين يعطيهن رسومهن. في شاتو سان مارتان بقرية سان بول دو فان كان لدي ضيوف على العشاء والمطعم يشترط لبس جاكيت مع ربطة عنق. وصل البهجوري من باريس والتحق بنا في المطعم مرتدياً لباسه المعروف اكهيبيب وشنطة الخيش العريضة على كتفه، فمنعه الحراس من الدخول ونحن فــــي طـــرف قـــصي من المطعم. ثـــم سمــعنا أصـــواتـــاً اL Artisteب، إذ قام جورج برسم وجوه الجرسونات قائلاً لهم لم ألبس جاكيت مع ربطة عنق في حياتي، وحين تعالى الصراخ هرع مدير المطعم مستطلعاً، ثم صرخ بهم اإنه فنان... دعوه يدخلب وجاءنا جورج ضاحكاً وجلس مقهقهاً يرسم. ثم أتى المدير معتذراً ومرحّباً وإذا بجورج يعطيه رسماً لوجهه بأنف يصل إلى نهاية الورقة والنظّارتان في آخر الأنف والعينان تائهتان. نظر المدير إلى الرسم وضحك. أخذه ثم عاد إلى البهجوري طالباً منه أن يوقعه ويؤرخه. ومرة كتب جورج مقالة طويلة عن الحلزونة التي ضايقته وهو يتناول العشاء معنا في شرفة المنزل بالطابق السابع عشر، وطاولة الطعام تضم أفراداً عدة، ولكن كانت هناك حلزونة واحدة صغيرة رأيتها مرة واحدة بحياتي في بيتنا هي هذه المرة. تسلقت الحلزونة الطاولة وأخذت تنقض على طبق جورج وطار صوابه، صارخاً: الماذا أنا بالذات؟!ب. أهداني جورج كراساً للاسكتشات التي رسمها في إحدى زياراته لنا على شاطئ الملائكة الفرنسي Baie des Anges، حيث النساء المتشمسات والأطفال والكلاب وفندق Bahia الذي يسكنه بجانبنا.
في حفل زواج ابنتي العنود في فندق الدورجستر بلندن دعوت جورج فجلس وسط المدعوين إلى طاولة منفردة وفتح كراسة الرسم وأخذ يرسم اللباس والوجوه والرقص والغناء وظهور النساء. وبعد أشهر بعث لي بكراس اعرس العنودب. ومن هذا الكراس أخذنا عشرين لوحة وكبّرناها وأطّرناها وعلقتها ابنتي بالألوان في منزلها. في تلك الليلة بعد انتهاء الحفل عند حوالي الثانية صباحاً وكنا أنا وجورج ومن بقي من الأصدقاء، قال لي ابني فهد ونحن نهم بدخول المصعد إن الأميرة ديانا حصل لها حادث سيارة في باريس وإنها توفيت في الحال. كان فهد يعرف بالخبر منذ العاشرة، لكنه لم يشأ أن يخبرنا حتى لا ننشغل بغير الفرح. مضيت أنا وجورج مشياً نحو شقتي في ليل هواؤه معتدل فرحين بالحفل وحزينين على ديانا. كانت جميلة ومليئة حيوية ورغبة في الحياة. واليوم تضم مجموعتي للبهجوري 28 لوحة. وجوه أصدقاء: جميل شفيق، أحمد بهاء الدين، سيد حجاب، وصور لعائلتي. ولوحات تفاح ووجوه وموسيقى وأم كلثوم ومقاه وشيشة. زرته مرات في منزله بشارع معروف، ومع زوجتي أحياناً. تجلس زوجتي ويرسمها مرة بالحبر الأسود في جلسة ملوكية، وعندما يشاهد جميل شفيق اللوحة يعلق اأحسن أعمال البهجوريب.
ويرسمها ثانية بالألوان، وحين قلت له إن سيقان زوجتي أجمل مما رسمت، وجدته بعد يومين قد قطع الجزء الأسفل من اللوحة. أما أنا فقد رسمني والتلفون على أذني وبالجلابية البيضاء وبتجهم رجل الأعمال المشغول دائماً. وهناك لوحة أخرى لزوجتي بستّ أيدٍ!
ولديّ لوحة الابتسامة. ربما أحسن ما رسم البهجوري أو أحسن ما لدي من لوحاته. التاريخ 1975. وجه يبتسم، فم صغير تود لو تضعه في قلبك. وعين مدورة يعلوها حاجب كالهلال ووجنتان تشعان بياضاً. بالألوان الزيتية. باللون البني. تنويعات البني. تشريح للوجه وإيماءات. وماذا عن الفلوس؟ الفلوس التي جعلت جورج يرفع يده عن قلم الرسم. فلوس المكائن. وها هن اللاعبات المطحونات بهموم الفقدان ومعايشة الحياة يحوطن مثل الجنيات في المسرحيات اليونانية بهذا الهيبي الأصلع الذي لم يرينه من قبل واقفات على أقدامهن راجمات بأعينهن الرقم 777 الذي ظهر لعم جورج، فانهمرت الفرنكات على حضنه مثل شلال. كان قد دخل للتسلية كازينو في نيس فاتجه ناحية المكائن، وبعد بعض الوقت سمعت صوت جورج ايلعلعب واللاعبون واللاعبات ينظرون له ويموتون حسرة، وبالطبع، يا عيني، لم تكن كل هذه الفرنكات تكفي لعشائنا في مطعم مريح.
لكم تمنيت، ومازلت، أن أرى متحفاً للبهجوري. لعله أكثر من رسم في العالم العربي. يده لم تكن تتوقف عن الرسم أينما يكون وفي أي وقت وأي زحام. مواضيعه مختلفة وأسلوبه. كاريكاتير ولوحات زيتية ونحت أيضاً. لديّ منحوتة له بالبرونز ولا أدري إن كانت له أعمال نحت أخرى بالبرونز. أحد الحساد المتهكمين حين شاهد هذا التمثال لوجه رجل أغبر على طاولة رخام ناصعة البياض في صالون الضيوف، قال اأي تمثال تضعه في هذا المكان يكون جميلاًب ومنه استفدنا، قبّحه الله! وجورج منهمك فيما خلق له... الرسم. لا يأبه للحاسدين والملفقين، بل لا يسمعهم أصلاً. لا يسمع الطنين.
جميل شفيق
إنه جميل وكله شفقة وإنسانية. صوفي، يعذب نفسه في تلك الرباعيات والثلاثيات قياس 5x5 سم أو 8 x 9 سم أو 7.5 x 8 سم وبالقلم اللوحة مليئة بتكوين قوي جداً. أناس كلهم صبوة وحنين، نساء شبه عاريات ذوات حرارة. خيول رشيقة لها أقدام وأرجل كتلك التي يرسمها بهزاد في منمنماته. أهذه اللوحات من جميل هي منمنمات حديثة؟! لقد اختط جميل لفنه لغة خاصة. لم يبحث عما يستهوي مقتني اللوحات. لم يبحث عن اللون. لم يكن لديه مرسم. لم يطلب أن يكون له مرسم. وصاغ بالقلم ملاحم من الحلم الإنساني وتشرَّب الطبيعة كما هي دون ضجيج اللون. وغالباً السمكة الرزق والقطة الشريرة وعيون النساء الواسعة والجواميس. لكن الخيول الرشيقة الكثيرة في مد رقابها والتفاتاتها وجموحها وهوسها بالحرية وانتشائها رسمها جميل مرات ومرات ومرات. لماذا يحب الخيول؟ لم يكن فارساً. بل كان من رأى صورته في شبابه... الطول والوسامة والملاحة في الوجه، لابد أن يراه فارساً مغواراً في العشق، وقد كان.
لوحاته تحيطني في كل سكن وكل مكتب، لماذا؟ لأنها الصفاء الإنساني الذي يعطيك راحة البال. أن ترسم في هذه المساحة الصغيرة ذكراً وأنثى متعانقين وسمكة كبيرة في واجهة اللوحة وقمراً ساطعاً في السماء، ذاك هو الجهد الجهيد. كم ترى أخذت هذه المنمنمة الحداثية وقتاً منه؟ وبالقلم على ورق أبيض. ما وزن اليد على الورق وما رقة الخط وكيف يرسم في هذا الحيز كل هذه الظلال حتى لتشعر أن عالماً كاملاً أمام عينيك بخيول تمد رؤوسها كأنها أعناق زرافات وقوائمها وقوائم الجواميس كأرجل راقصات الباليه؟ لكم تعذب جميل، بالتأكيد، وهو يحشر نفسه في هذا الحيز الضيق. حين أرى لوحات فرانسيس بيكون، الرسام العالمي الشهير، وأرى الأوجه المشوهة التي يرسمها في الأماكن المتسخة وإطراء العالم الفني لفنه، أحمد الله لكوني أعرف جميل شفيق الذي يعيدني إلى إنسانيتي وراحة البال. بيكون ابن ثقافة وحضارة عظيمتين ونحن برغم تعلمنا في الغرب لا نستطيع أن نتقمّص هذه الثقافة المتقدمة، ويبقى جميل ثقافتنا وعالمنا.
عرفته بعد عودته من بغداد، إذ كان يعمل مع األيسكوب. يصدح بأغاني ناظم الغزالي ويغني لسيد درويش. يبقى فترات عندي في الجنوب الفرنسي. لا تشعر به معك. موجود حولك كنسمة. موجود لكنك لا تراه. أحياناً يدخل المطبخ ليطبخ شوربة البصل. وهناك يقلب الورقة، أي ورقة، ويخط عليها، واليوم بعضها في إطارات معلقة بشقة نيس. إنه يقضي فترات طويلة في شاليه بالساحل الشمالي منفرداً مع قطة لا يمنعها عما تريد. يريد البحر والهدوء. أول ما يصل إلى الكويت يذهب لشراء الصنارة، وفي الصباح الباكر ينزل إلى الشاطئ ونحن نيام يصطاد السمك في بحر بنيدر. يرسم ويروي الأحاديث والقصص التي تريح الأذن. خير صديق. شديد الوفاء. ومرة حكى لي عن ابنته ورأيت الدموع تنزل على الخدين. يلتقط الأخشاب المرمية في البحر والقواقع، ويصنع منها لوحات ومنحوتات صغيرة تزين بيتي في كل مكان. أمضى ستة أشهر يرسم على الحائط بالألوان رقص الفتيات الخليجيات بشعورهن السوداء التي يهززنها يميناً وشمالاً. ستة أشهر كل يوم على سقالة خشبية في حمام السباحة المنزلي. وبعد تحرير الكويت من عدوانية وجنون صدام حسين جمعت زوجتي أغطية قنابل عديدة من منزلنا بعد انفجارها (في منزلنا) وغسلتها وبدأت ترسم عليها. جلس معها جميل يرسم لوحات على هذه القنابل النحاسية الكبيرة (حوالي متر) والصغيرة (20 سم) بالألوان الخيول والعيون الواسعة والرقاب. لا شيء يريحني مثل لوحات جميل شفيق. واليوم لديّ خمس وثلاثون لوحة له وأحد عشر تمثالاً خشبياً.
نعم إنه صاحب فن خالص. لم يتبع أحداً. لم يفكر في الشهرة أو السوق. وحيد بفنه. أسود وأبيض. لم يختر الألوان ولا المساحات الكبيرة التي تزين القاعات والقصور. وحين فعل القلم ما فعل ضعف البصر. قلم مما يستخدمه المهندسون لتخطيطات العمارة Rapidograph ينثر به النقاط والخطوط وفي ذهنه تصور تام لما ستكون عليه اللوحة في النهاية. جهد جهيد. لكنّ جميل ما لجأ إلى الفرشاة والألوان. ذهب إلى حيث يحب. إلى البحر يلتقط بقايا خشب متناثر رمته المياه وتعثر بالرمال وتأكسد وأخذ يعمل منه تماثيل خشبية. وحيد زمانه وكل زمان وكل مكان. اقتنيت لوحات بالأسود والأبيض لسيد القماش المدهش والمثير، وفيها الجهد التفصيلي نفسه، كما اقتنيت لوحات لصبحي منصور عن أحلام وعوالم أخروية بالأسود والأبيض. لكن جميل في تلك المساحات البسيطة كان الأقرب إلى نفسي. كيف يمكن أن ترسم في تلك المساحة الصغيرة 9x9 سم القمر شاباً يمد يده من الشباك ليهدي حبيبته وردة، وتحس لهفة الشاب وخفر البنت في ضوء؟! وبهذا الحجم رسم أشجان الموسيقى وتمايل الراقصات والأجساد الأنثوية المليئة. لا بد ذات يوم أن أكبّر هذه اللوحات وأعرضها في مكان مناسب. وفي بنيدر مد يده وأخرج كتاباً عن الرسام التركستاني سايه كلم في القرن الخامس عشر. كان لسايه كلم أسلوب خاص به من العنف وجرة القلم والخطوط المائلة والمتداخلة ما يصعب أن تراه عند غيره. ومؤرخو الفن لا يصنفونه ضمن أي مدرسة أو حقبة فنية آسيوية. أخذ جميل كراساً ورسم بطريقة سايه كلم ابورتريهاًب للمغني النوبي محمد حمام، والأدهش أنه رسم حصاناً بالألوان بعنف وحرارة سايه كلم. لقد رأيت عديداً من اسكتشات وتقليد لوحات لماتيس ورينوار وبيكاسو، لكني كنت أحس بأنها تقليد، أما مع جميل فكنت أرى في رسميه هذين فقط سايه كلم. تقمص روحه بسرعة ورسم لوحتين بخطف البصر. فلنتفحص لوحاته أو بعضها. لنبدأ بالثلاثيات والرباعيات. لنبدأ من الخيول في هذه المجموعة. كلها بالأسود والأبيض، بالقلم. تسعة خيول في حركات والتفاتات وتمرغ وجموح وعنفوان، يتوسطها جسم بشري ربما لامرأة كأنها تحدق في هذه الخيول والمساحة للجميع 17*25 سم. والخيول مرة أخرى... تسعة خيول كل منـــها فــــي مربع له وحده وبوقــــفات وتعبــــيرات مختلفة، وأيــــضاً 26 x 27 سم.
وخيول ثالثة... حصانان وحصانان في أربعة مربعات وأرجلها وإيحاءاتها كراقصات الباليه ومساحة اللوحة 17 x 71 سم. ثم لنعرج على رباعيات أخرى... للعشق وفتنة البنات. البنات! أربع لوحات في مساحة 21 x 12 سم. ذكر وأنثى يتعانقان وقمر ساطع في السماء وسمكة ضخمة مُنتشية في سطح اللوحة. والثانية لامرأة يظهر بطنها وصدرها، تحمل سمكة على رأسها وهي وسط الماء، وخلفها من الجانبين جسم بشري يحتضن سمكة، والثالثة لثلات سمكات تمد ثغورها من الماء فتتطلع لذكر وأنثى وسط الماء يلتصقان. والرابعة لذكر وأنثى على الأرض يتساقيان حباً في ضوء القمر والسمكة في السماء تمد بصرها نحوهما. أي سحر هذا وأي جهد وأي خيال؟ كل ذلك في 21 x 12 سم وبالأبيض والأسود.
وللحزن البشري مكان. رجل يلقي برأسه وهمومه نحو الأرض ويعطي ظهره لامرأة وهما جالسان على منضدة واحدة وظلهما على الأرض كظل أرجل الخيول. وأخرى لرجل وامرأة كلاهما حزين ويبكي وخلفهما من بعيد بشر يحملون السمك. وهناك صفاء وجمال لوجهين ناصعين لفتاتين نضرتين. هنا ترى صوفية جميل بالخطوط الناعمة الربانية من دون عنف، وحدة خطوط ماتيس في تخطيطه للفتيات. وأخرى لجسدي امرأتين ترقصان، فيستخفك الطرب وتود لو كنت تراهما فعلاً أو لو كنت بجانبهما! شاعرية وحياة صوفية أيضاً. ويمكن أن أضيف وأضيف، لكن لا شيء يعدل مشاهدتها.
كما تضم المجموعة عشرة أغطية قنابل، منها ستة كبيرة 150 سم بقطر 25 سم وأربعة صغيرة 60 سم بقطر 15 سم، وكلها مرسومة بالألوان للسمك والخيول والعيون الواسعة والتصاق الذكر بالأنثى.
هذا الصوفي احتضن الطبيعة وجردها من كل الألوان والأوصاف والبلاغة، ولو كان لدينا نقاد فن مبدعون لعلمونا روح الجمال عند جميل ونوازعه الداخلية وملاءمة هذا الأسلوب لنوازعه وعاطفته وإنسانيته.
أرداش كاكافيان
النسيان، لا أتذكر متى أو كيف تعرفت إليه. هذا الشيوعي المناضل الذي فرّ إلى الأهوار مع آخرين بعد مجازر الشيوعيين حين تولى البعثيون الحكم في العراق. فرّ إلى الأهوار ليقوم مع أصحابه بثورة شعبية ضد السلطة على غرار جيفارا، ثم فرّ إلى إيران، ثم لا أدري إلى أين. لكننا التقينا. التقينا كثيرا. كان رساماً وشاعراً. وكان نموذجاً لمأساة الفنان العراقي المغترب.
في باريس، التحق بصحافة البعث التي كانت تعطي من دون حساب، وكان يصرف كل ما يصل إلى يده. زيجات عديدة. وبيت ريفي على النهر في ضواحي باريس. غير أن مصلحة الضرائب الفرنسية اصطادته بعد فترة من الزمن وطالبته بالتسديد، ولم يكن لديه ما يسدد ما عليه من ضرائب بعد أن أنفق بسخاء. هرب إلى لوس أنجلوس وانهمك في الرسم، وسافر إلى عمان في الأردن ليحضّر لمعرض أقيم له. وحين عاد وجد أن اللصوص (يقول الأصدقاء!) قد سرقوا كل أعماله. عاد يعمل من جديد وقد ضاقت به لوس أنجلوس. عاد إلى عمان مرة أخرى وأقام معرضاً خاصاً باع منه بعض الأعمال وترك بقية اللوحات عند صاحب الجاليري. وحين سأل عن لوحاته بعد فترة أخبره صاحب الجاليري أنها سرقت كلها؟ نعم كلها!
اتصل بي في الكويت، وجاءنا منهكاً نفسياً. ذات مرة طرق باب البيت ولم نسمعه فضرب الباب حتى كسره ودخل علينا. اندهشت من قوته البدنية وأنا أرى مسامير مفاصل الباب معوجة من قوة الضربة. جلست إليه زوجتي في منزلنا بالنزهة ورسم لها بورتريها بالأسود والأبيض مازلنا نحتفظ به. كانت في ريعانها.
في باريس أزوره ويطبخ الأكلات العراقية (أرز وباميا أو فاصوليا بيضاء يسمونها اليابسة) ويقرأ لي أشعاره ويتحدث بالسياسة والصحافة وخبث الصحفيين الذين يعمل معهم. تزوج مرات عديدة وله ابنة، كان حزيناً لأنه لم يرها منذ تركته زوجته الرومانية أو البولندية. بعد ذلك استغرق في الزواج من فتيات عربيات في باريس. تضايقت زوجتي وسألتني: الم لا يقول أرداش صديقتي؟... كلما جئنا إلى باريس وجدنا معه امرأة جديدة ويقدمها على أنها زوجته، هل يستخف بالزواج؟ب قلت ذلك لأرداش فأقسم بأنهن فعلاً زوجاته، لكنه يفعل ذلك بحكم أن الشرقية تريد الزواج من أجل أن تكتب لأهلها أنها تزوجت. وكان لا يبخل عليهن بعقد زواج. اهن يردن ذلك. أتزوج إنسانيةب.
ثم تغير عنوانه ورحت أسأل عنه في باريس. من أسأل؟ ذهبت يوم أحد إلى كنيسة الأرمن في باريس وياللدهشة وجدت قسيساً أرمنياً تعرفت إليه في رحلة شهر العسل بمدينة فينيسيا أو البندقية. في الدير الأرمني الذي شيده ثري أرمني اشترى جزيرة صغيرة أسس عليها ديراً خاصاً للأرمن. دير تصل إليه بالقارب. وياللدهشة كان فيه متحف صغير. ويا لعجب المتحف يضم مومياء مصرية. هذا القسيس أرمني من حلب وأفضل من شرح لي عقيدة الخلاص المسيحية. سألته عن الرسام العراقي الأرمني أرداش فأجابني أنه يأتي للصلاة في كنيستهم كل أسبوع. أعطاني رقم هاتفه وحين التقيت أرداش، سألته: هل الشيوعي يصلي أيضاً؟ فأجابني: اأبداً أريد أن أرى الأرمن. أين أراهم؟ إنهم يذهبون هناك للقاء الأحباب من دون إيمان حقيقيب.
كان أليفاً وكريماً. لا يبخل بما بين يديه. أخذني وأم فهد إلى مطعم فخم صحبة الشاعر العراقي الشهير مظفر النواب، الذي على ما أظن كان من زملائه في رحلة الأهوار الشهيرة. وبصوته الحالم الحزين قرأ النواب مغنياً احمد والريلب. أكل طيب وصحبة طيبة وشعر وطرب. وأم فهد تردد الغناء معه. جاءني في نيس يحمل ثلاث لوحات. إحداها لرجل مثله بزندين قويين ويدين متشابكتين باللون الأحمر كما لو تقطر دماً، رأسه منحنٍ يبحث عن شيء ما! ما هو؟ المصير ربما! ولوحة بالقلم الشيني لـاالعشاء الأخيرب. وأخرى أيضاً بالأسود للجسر. جسر يمتد من هنا إلى هناك حتى آخر اللوحة. أي جسر هذا الذي يغطي كل اللوحة، كل العالم بالقلم الشيني؟!
كم كان أرداش حيوياً ومبهوتاً ومبتهجاً وفي الداخل نار مضطرمة من الحزن والغضب. مازالت زوجتي تتذكر آخر اتصال له بنا في الكويت. انشغلنا ولم نلبّ طلبه وعرفنا بعد أيام بوفاته. زوجتي مازالت تتذكر ذلك اليوم بحسرة وألم. والبورتريه الذي رسمه لها يشي بتشبع روحه ودمه وعقله بعشق الصبايا. أنوثة وصفاء.
مصطفى رمزي
لا يعرفه أحد. ليس في اجوجلب ولا الـافيسبوكب ولا اويكيبيدياب. لم يعمل أو يشارك في معرض. وأنا جالس مع أصدقائي في مطعم لجريون وسط البلد (في القاهرة طبعاً) مع أصدقاء يعرفهم ويعرفونه، سحب كرسياً وجلس معنا بسلام مقتضب. وحين هممت بالمغادرة أخذني إلى سيارته وفتح شنطتها الخلفية. أطلعني على مجموعة من اللوحات بالقلم الشيني وألح أن آخذ واحدة. أخذت ثلاثاً. إحداها لعامل يحمل عبئاً على رأسه وثانية لرجل جالس القرفصاء مهدود من التعب وغم الهموم. إحداها بتاريخ 1962 بالكويت واثنتان بتاريخ 1969 يزينان صالة الجلوس في شقة لندن.
دعوته للعشاء معنا في الحسين. ولاحظت أنه صامت، وقلما يهمس بكلمة. السيجارة تشعل الأخرى والروائح متنوعة. وعيناه الصغيرتان تتجولان في الوجوه، وابتسامة انشراح تطفو على الوجه. دعاني لرؤية أعماله في منزله بمدينة نصر. له زوجة طويلة ممتلئة من التشيك يحبها حباً صادقاً ويتحدث عنها كالمفتون ويبجلها كما تُبجلُ السلطانة. ليس لهما أبناء. وطبخها لذيذ ويفتخر مصطفى بالسلاطة التي تعدها وهي فعلاً تستحق الإطراء.
فماذا رأيت؟ لوحة واحدة بالزيت بعرض 3.6م وطول 1.6م عن بناء السد العالي مؤرخة في 1962. لوحة رسام فلمنكي بألوانها المعتمة وحركة أجساد العمال وهم يكسرون الصخور ويحملونها ويرفع بعضهم بعضاً. كان ذاك زمن الوطنية والكبرياء. زمن بناء السد العالي. وهذا الشيوعي ضمن نضالاته حمل العدة وارتحل إلى أسوان ليخلد بروح فنية متفانية هذا العمل الذي عُدّ أسطورياً.
لكن ماذا بعد؟ ماذا بعد الوطنية والسد والكبرياء؟ العيش. نعم العيش وتدبيره. توجه هذا الرسام لكتب الأطفال يزينها برسومات وألوان وحكايات. وجوه أطفال وشوارب فلاحين وأسماك. هكذا تم تدبير العيش.
زارني في الكويت ولاحظت خلال الأسبوع الذي كان معنا مع أصدقاء آخرين، أنه قليل الكلام. ويبدو حزيناً، ويلوك شيئاً دائماً! وإن ظفرت بضحكة منه تأتيك صافية وأحياناً تستغرقه الضحكة فيحمر وجهه وتدمع عيناه، وتظن أنه لن ينتهي منها أبداً. في تلك الزيارة سألت زميلنا محمد البساطي: لماذا يبدو مصطفى صامتاً؟ فهز يدي الا تسأل... عنده همومب.
ذهبت مع جميل شفيق لزيارته في برنو جنوب التشيك، بعد أن علمنا بوفاة زوجته. تمتعنا بالمكان. الخضرة والغابات ورخص الأسعار وطيبة الناس. لكن العجب العجاب هو تلك المناوشات التي اندلعت بين مصطفى وجميل. نعم ونحن أتينا لنواسيه ونعزيه. خلاف حاد على أي شيء مثل نوع القهوة التي نطلبها في مقهى. ثلاثة أيام مرت بعدها لأكتب قصة مذهلة من وحي هذه الصداقة العجيبة ونشرتها بعنوان أصدقاء أعداء. وشخصياتها بالطبع لا تشبه أياً منهما.
تضم مجموعتي بالإضافة إلى لوحة السد العالي الكبيرة 15 لوحة مقاس 1مx80 سم مؤرخة في 1969 بالألوان المائية الممزوجة بكولاج ومواد أخرى. الألوان بهيجة والورد في كل صوب وأشكال مختلفة وحوريات بحر وأسماك وأقمار. وجوه أطفال وصبايا بعيون سوداء كبيرة، وللرجال شوارب طويلة وحشمة أهل البلد وصرامتهم. الأم وثلاثة أطفال. غزال أبيض يملأ لوحة يحيطه الورد والأقمار كما لو كان في الجنة. عبلة على الحصان. والحصان دائماً باللون البني المحمر (وقد لاحظت أن جميل شفيق في إحدى لوحات مقهى البرلس استخدم نفس اللون ونفس شكل الحصان)، جحا وحماره.
العربي بالطربوش والعروس عيناها واسعتان وشمال اللوحة كف عين الحسود. ولوحة أخرى لفطومة المغربية ذات السحر والدلال بنصاعة الوجه والشعر مغطى بدانتيل أخضر يشع بخيوط ذهبية. كلها لوحات كما يقال تسر الخاطر. وأعجب بهذه الألوان. ليست ناصعة أو قوية. ألوان في الغالب ناعمة.
هكذا ألوان مصطفى. ألوان فريدة تخصه هو. لوحات حلوة لكنها في العادة لا تصنف ضمن الفن الراقي. تأخذك بألوانها الزاهية، بنفسجي، أرجواني، قليل من الأصفر، شيء من الأخضر ولون عجيب لم أره أبداً عند غيره وكأنه من تلك الألوان التي خلقها جوجان بلوحات تاهيتي. لون بني مخلوط بالأحمر. لون شجي. صور لن يقتنيها الهواة وجامعو اللوحات، فهي ليست زيتاً وهو لم يشارك في معارض وليس معروفاً.
ليس له سعر في السوق، وفوق هذا هو فن شعبي، وبالألوان المائية! ورسوم لكتب الأطفال! هكذا. لكن كل لوحة تنبض بحياة باذخة بألوانها وأشخاصها وجوها العام. شرح لي بإسهاب طريقة إعداد اللوحة وأطلعني على عمليات الطباعة والمسح وأنواع الأقلام والريش، ولأني غير مختص فأنا لا أستطيع شرح طريقة عمله.
والأكثر دهشة عن هذا الرسام الحاذق ذي العينين الصغيرتين المركزتين الذي يلوك دائماً شيئاً في فمه، أنه كان في يوم ما يرأس خلية حزبية كان من بين أعضائها جميل شفيق. اختلافات دفينة. خالد وعمر!
آدم حنين
في منتصف ستينيات القرن الماضي بنى بيتاً في منطقة الحرانية قرب الأهرام. المنطقة لم أسمع بها من قبل وليست مكان سكن لأي ممن أعرف. ولكن آدم كان يعرف ما يريد ويخطط له. صمم البيت المعماري رمسيس ويصا الذي أسس مشغل الحرانية لنسيج الأطفال، وقد ذاعت شهرته لجمال تصاميمه وألوانه التي نفذها أطفال درّبهم ويصا بنفسه. تلك المنسوجات (كلها) التي زينت بها شاليه بنيدر لم أجدها بعد الغزو الصدامي للكويت. ربما التحف بها الجنود من البرد وربما أحرقوها كالكتب ومخطوط ديوان الوالد ليتدفأوا بها!
ذهبنا مجموعة لزيارة آدم في البيت الجديد، وكانت معه زوجته عفاف التي - لأسباب صحية - لم تتعرف عليّ حين التقينا بعد ذلك في باريس. بعد هزيمة 1967 رحل آدم إلى باريس. التقينا مع الرسام العراقي أرداش في مقاهي مونماتر. وفي افتتاح معهد العالم العربي الذي كنت راعيه (شركة صخر) جاء آدم في حفل الاستقبال الذي أقمته للضيوف في فندق لكرييون وأهداني ربطة عنق، قائلاً: اكنت أريد أن ألبسها ولم أعرف... خذها أنت أحسنب. كان يحسن الفكاهة ويريد أن يقول أنتم زبائن هذه الفنادق تستحقون الكرافتات. زرت معرضاً له في باريس للوحات تجريدية بأصباغ وصمغ عربي واشتريت ستاً منها على ورق البردي. وبعد أكثر من عشرين عاماً عاد إلى القاهرة وبدأ تأسيس محترف الحرانية لشغل الجرانيت والأحجار والبازل الذي يجلبه من أسوان وكوّن فريقاً احترافياً ونحت مجموعة كبيرة من التماثيل، أشهرها طبعاً قارب الطوفان أو سفينة نوح، وملأها بتماثيل مختلفة بعضها حيوانات وأطفال وكل ما كان يخطر على بال آدم الأصلي والحديث. اقتنيت نصف امرأة من البرونز. تكوين قوي وملمس ناعم. أنوثة ملساء ناعمة. كان يحدثني عن مخططه لإنشاء متحف خاص له في المكان نفسه وكنت أضحك: اأنت فرعوني تنشد الخلودب، كان فعلاً يريد الخلود. هذا طبيعي، فآدم فرعوني بالتأكيد في الوجه وجلال المنحونات وصلابتها وسكونها. وبمنهج عقلاني ومهنية مخلصة تمكّن بعد سنوات طوال من جمع المال اللازم لبناء متحفه.
ذهبت مع جميل شفيق ويحيى سويلم لزيارته في أسوان، حيث أسس وأشرف على سمبوزيوم دولي للنحت. شاهدت على تلة واسعة في الهواء الطلق متحفاً زاخراً بالتماثيل التي حفرها فنانون من دول عديدة. سألته: اأهذا المتحف الذي تحلم به من زمان؟ب، أكد ضاحكاً كعادته في الكلام: اهذا متحف أسوان. أنا متحفي بالحرانيةب. وفي ليال عديدة أمضينا سهرات عند آدم بالحرانية نسمع باخ وبرامز في أسطوانات أجلبها معي ونتحدث مع إبراهيم أصلان وجميل شفيق وإبراهيم منصور وآخرين. روح طيبة. سليمة من أي غش أو مداهنة أو نفاق. روح تستحق الحياة ومتحفاً للخلود.
زارني في الكويت وحين شاهد تفاح البهجوري قال لي هامساً ضاحكاً: اأريد أن أمسح اسمه وأوقِّعها أناب! عادة فرعونية.
فتحي عفيفي
ذات مساء في القاهرة سحبني ابني فهد إلى معرض كان قد اشترى منه لوحة ويريدني أن أرى هذا المعرض. ذهبت معه إلى معرض فتحي عفيفي في الزمالك. أذكر اندهاشي الكبير حين زرت معرض عفيفي وشاهدت لوحاته للمرة الأولى. كان ابني قد اشترى لوحة الدراجة الكبيرة.
تعرفت عليه ودعاني لزيارته في مرسمه بمنطقة السيدة زينب في الأزقة القديمة، حيث الباعة المتجولين والثياب والبطاطين المعلقة لتتشمس على حبال فوق البلكونات والسطوح التي تمر بها وأنت تخشى أن تسقط عليك! دهشت لما رأيت من كمية وأحجام وأنواع اللوحات التي رسمها هذا الفنان الغريب. فن فطري بعيد عن عالم الأكاديميين والمثقفين. اشتريت كل ما استهواني يومئذ ولم أبخل. وحين زارني فتحي في الكويت مع عدد من الأصدقاء سر سرور طفل اشترى له والده لعبة يريدها من زمان عندما رأى أعماله تزين بيتي وكل ركن فيه. عالم عجيب من اللون الأزرق والخلفية سوداء أو رمادية. أعداد من البشر تركب حافلة المواصلات أو تسير في جماعات نحو مكان لا ندري ما هو. ربما مكان العمل. رجال كالمديرين يسرعون لدخول قاطرة.
مدير يقفل الباب أمام حشد من العمال. رجل مسرع يحمل فجلاً أخضر. أي نوع من العالم هذا؟ لوحات بعيدة عما ألفناه. لا تجريد، لا نجوم، لا وجود لفتيات. لا عرايا. لا أحلام. لا سماء. فقط بشر وبشر وبشر. كلهم مسرعون. لا عجب فقد كان عاملاً في المصانع الحربية. تعلّم الرسم بنفسه. ولم يحاول أن يتحدث كالمثقفين أو العارفين بالفنون. ولعله لم يقرأ ما قرأناه عن الفنون الأوربية وغيرها. عالم بذاته. ويا لعيني كيف التقطت عينا عفيفي هذه الحركات للناس؟!
جلست زوجتي أمامه ورسم لها بورتريهات عديدة بالألوان. وهو لا يكف عن الضحك والفرحة بالناس. عفوية وفطرية بلا تنميق. أنا متأكد من أن نقاد الفن سيقولون هذا وذاك عن التكنيك أو الخط أو مزج اللون. مالنا نحن وكل هذا؟! لوحاته تأخذك إلى صميم الحياة الحقيقية وتلامس عواطفك وعقلك بحيوية وحس بشري. ولع شديد باللون الأزرق. والفجل الأخضر بيد الرجل الذي يسرع في مشيته بالبدلة الزرقاء والحذاء الأسود الضخم. دائماً الأحذية سوداء وضخمة. تضم مجموعتي 24 عملاً لعفيفي وأنا أتحاشى زيارته في الفترة الأخيرة لأنني أخشى أن أشتري من جديد..