عرشُ السُّلطان أكْبر

في الرحلة من دلهي إلى أجرا، توقفت في محطاتٍ كثيراتٍ، كُنتُ أقرأ خلالها صفحاتٍ من كتاب «طبقات أكبري» لمؤلفه نظام الدين أحمد بخشي، الذي يضم - بلسانه - ذكراً مجملاً عن «جلائل فتوحات، وعظائم حالات، أتباع الحضرة المقدسة المنزلة لمركز دائرة الرأفة وقطب فلك الخلافة السلطان السعيد، ملك الملوك العادل، مُظهر القدرة الإلهية، صاحب التأييد السماوي، رافع عرش العظمة والجلال، باني قصر الدولة والإقبال، رافع المسند الحقيقي والمجازي، أبي الفتح جلال الدين محمد أكبر بادشاه غازي، خلَّد الله ملكه، وأيد ظلال عدله وإحسانه».
كنتُ أبحث عن شخص امتلك كل هذه الصفات، لكنه بقدر ما مدحه وزيره وصديقه أبو الفضل بن المبارك، أشهر مؤرخي عصر السلطان جلال الدين أكبر، في كتابه «أكبر نامه»، الذي تناول به أحداث ست وأربعين سنة قضاها السلطان بالحكم، بقدر ما نال من هجاء، فما كان من مناقب عند محبيه، أصبح مجرد مثالب عند كارهيه، وبين المحبة والبغض، وبين الحقائق والأساطير، وبين دلهي وأجرا، ومدن وعواصم أخرى، وجدت طرفاً من سيرة ذلك الرجل، بل إنني تحدثت إلى جلال الدين محمد أكبر نفسه، واستمعتُ منه، فبالرغم من أنه مات - تاريخياً - في العام 1605م، فإن لقائي به جاء بعد ذلك بأكثر من أربعة قرون!
إنه العام 2008م.
يمتد بساط أحمر، ليس أمام قصر السلطان أكبر في عاصمته أجرا بالهند، ولكن على سلَّم هرمٍ زجاجيٍّ عملاق في مدينة قازان عاصمة تتارستان، إحدى جمهوريات روسيا الاتحادية.
سيهبط السلطان أكبر من المركبة التي أقلته، ويلوح للجماهير المصطفة على جانبي البساط المُفضي إلى المسرح الكبير، وكأنه يستمع إلى الأغنية التي رددها له محبه:
«عظيم الشان، شاهنشاه»؛ أي عظيم الشأن، ملك الملوك.
أمعنتُ النظر، لهذا الشخص الذي بعث شخصية السلطان أكبر من مرقدها بعد 400 سنة، إنه الممثل إريتيك روشان، الذي جاء ليقدم فيلمه «جودا أكبر» في مهرجان المنبر الذهبي الدولي لسينما العالم الإسلامي (قبل أن يصبح اسمه «مهرجان قازان الدولي لسينما العالم الإسلامي»). جاء إريتيك روشان من أسرة فنية، لوالدين منتجين للسينما، حتى أنه ظهر طفلاً في أفلام بوليوود، وعمل لسنوات مخرجاً مساعداً، وتزوج ممثلة، قبل أن يفتح له فيلم «جودا أكبر» الذي قام ببطولته - مع مواطنته ملكة جمال العالم الممثلة آيشورايا راي - أبواب النجومية والشهرة بعد تجسيده شخصية السلطان المغولي جلال الدين أكبر، وبعد نجاح لافت للفيلم التاريخي تجارياً في الهند وخارجها. بل إن روشان نال بعد أيام من لقائنا الأول جائزة أفضل ممثل عن دوره في هذا الفيلم بالمهرجان نفسه.
لم أبحث كثيراً عن أوجه الشبه والاختلاف بين السلطانين؛ الحقيقي والممثل، فقد تكفلت المنمنمات التي ظهرت في مخطوطات «أكبر نامه» المصورة بتقديم ملامح الشخصية التي استلهمها الفيلم، والتي منحت صفات أخرى إضافية، غير التي كتبها المؤرخون المحبون، تعطي تلك الشخصية مظاهر القوة، ولمَ لا، وهو يصطاد ويروض الحيوانات البرية، ويصارع ويهزم من هم أضخم منه جسدياً، مثلما تمنحه خصال الرحمة، والتسامح الديني.
نحن الآن في دلهي، أو كما كان اسمها مدوناً قديماً «دهلي»، سننتقل إلى نقطة تالية من المحطات التي تحمل بصمات جلال الدين مثل عاصمته فتح بور سيكري، في راجستان، وحتى ميناء سورات في كوجرات، وصولاً إلى أكرا (أجرا، وآغره في كتاباتٍ أخرى)، حيث ضريح تاج محل.
رقعة جغرافية كبيرة تشير إلى اتساع مُلك السلطان الذي شهد نشاطات عسكرية، وصولاً إلى بلاط السلطان الذي كان قبلة المؤرخين ومَحج الأدباء ومجلس المفكرين وقاعدة العقائد والمذاهب، ومدرسة العلماء، ومنهم من كان مقرباً في «مجلسه الخاص/ خاص- ي ذ محل»، الذي سمي في جُل الكتابات التاريخية «عبادت - خانه» أو «مكان العبادة». نحن هنا في دهلي التي تمثل، مع سلطانها، مركز الهندوستان، ونهاية طبقة سلاطينها.
أمام ضريح همايون
كان والده؛ السلطان همايون (17 مارس 1508م -7 مارس 1556م)، من أحفاد أشهر اثنين في تاريخ المعارك الآسيوية؛ الأمير تيمور (تيمورلنك في الأدبيات التاريخية العربية، وتعني تيمور الأعرج)، وملك المغول الأشهر جنكيز خان، منهما جاء عُمر شيخ ميرزا حاكم فرغانة، والد سيد السلاطين محمد بابر، فاتح الهند وجَدُّ سلطاننا جلال الدين. لقد عثرت على تخطيط يشرح سلالته، السابقة عليه واللاحقة له، للشيخ ياسين العجلوني.
وقفت أمام مدخل ضريح السلطان همايون (1530م)، في دلهي، تحمل كل مآثر العمارة المغولية، التي نرى آثارها اليوم في الهند الإسلامية (قديماً)، الهند والباكستان وبنجلاديش وكشمير (حالياً). وهي عمارة مزجت - بمرونة - تقاليد العمارة المحلية في الهند قبل الإسلام وحضارة ما بعد الفتوحات، حيث استخدمت - كتقليد محلي - الحجر والخشب كمادتين أساسيتين، - وهو ما يجعلها تختلف عن العمارة الفارسية في إيران وتركستان وأفغانستان التي شيدت من الطوب الطيني (اللبن) والمحروق (الآجر)، وزينت بالفسيفساء الخزفية. بديلاً عن التزيين الخارجي تميزت العمارة المغولية بالنقش على الحجر والجص والفسيفساء الرخامية والترصيع والحجارة الملونة.
كانت الأبنية المغولية في رحلتنا ذوات مساقط، وهي صحون واسعة محاطة بأروقة مسقوفة أحياناً بقباب صغيرة، ومن النافورة التي رأيناها أمام الضريح، والحدائق التي أحاطت بالقلاع، كما شاهدناها من علٍ، تتضح العناية الكبرى بتنظيم الحدائق والمياه، وهو إرث من أسرة الصفويين في إيران، وشاعت العقود المدببة الفارسية، - (قسمها العلوي مقعر نحو الخارج) والفاطمية (بقوس علوي مستقيم)، كما انتشرت القباب ذوات الأقواس المدببة والدائرية، ومعظمها من طبقتين بينهما فراغ واسع، ما يجعل عنصرها العلوي يشبه الكأس المقلوبة. أما الأروقة فهي مظللة أو غير مظللة، تعلوها قبة أو قنطرة. وهناك رفوف بارزة في الواجهات أو فوق الأروقة أو أسفل طاسة - القبة من ألواح حجرية كبيرة أو رخام محمول بواسطة مساند حجرية، وقلَّ استعمال الأعمدة واستخدمت العضائد بدلاً منها.
أما مآذن العمارة المغولية فقد كانت من الحجر، وهي تبدو مضلعة أو أسطوانية مخروطية ذات شكل نخلي، زخارفها، وزخارف الجدران في المنشآت تنتهي بمقرنصات ومحاريب ونقوش حجرية، وتطعم حجارة البناء الأساسية بحجارة من لون مختلف (خلط) كالرخام. وقد شاع استخدام الرخام الأبيض كمادة أساسية للبناء، وكثيراً ما نجد فسيفساء حجرية أو رخامية أو أحجار كريمة مغروسة أو مخلوطة، مثلما خلطت قطع الزجاج الملون على الجدران لتعكس أشعة الضوء بافتتان ملون. وقد استخدمت الرسوم الجدارية الملونة بالحوائط والسقوف والعضائد بديلاً عن الترصيع لسرعتها وقلة كلفتها، مثلما رسمت المواضيع الزخرفية بالألوان فوق أرضية بيضاء من الكلس أو الجص أو عجينة الصدف، بحيث تبدو كالرخام الناصع البياض. عمارة ستبلغ قمتها في ضريح حفيده شاه جهان وزوجته المحبة، والمعروف باسم تاج محل، الذي اختتمنا به رحلتنا في راجستان على خطى السلطان أكبر.
حين أشرقت الشمسُ
قبل وفاته، أرسل السلطان همايون ابنه الأمير جلال الدين من دهلي إلى سوالك، مع ركن السلطنة بيرام خان، لدفع ورفع (قتال) اسكندر خان أفغاني. وحين وصل جلال الدين إلى قرية كلانور (تتبع لاهور عاصمة إقليم البنجاب في الباكستان حالياً) جاء خبر وفاة السلطان همايون، فأجلس بيرم خان الأمير جلال الدين على عرش السلطنة ظهر يوم الجمعة، الثاني من ربيع الأول سنة 963 هـ، بموافقة أمراء وقادة الجيش، أمام قصبة (قلعة) كلانور.
يقول نظام الدين أحمد بخشي، بترجمة الدكتور أحمد عبدالقادر الشاذلي، عن الفارسية، بتصرف:
عندما أشرقت الشمسُ على العَرش،
وعقدَ الفلكُ رباطه جيداً على الغُلام،
فرح كل العظماء، ورفعوه على الرأس عالياً،
ونشروا ما هو لائق بالعرش على الملك سعيد الحظ،
فكلما كانت الشمسُ عالية، استفاد العالمُ من نورها.
تبدأ سنوات حكم جلال الدين، بالنوروز، وهو عيد أول السنة الشمسية، واحتفال أساسه فارسي، مطلعه 21 مارس، حين تدخل الشمس برج الحمل، كما أنه بداية الربيع في الهند، وقد اعتاد المغول الاحتفال به تسعة عشر يوماً (مقابل 12 يوماً فقط في إيران).
السنوات التاليات امتدت في بسط النفوذ، بالحرب والحصار حيناً، وبعهود السلام حيناً آخر، فخضعت قلاع كواليار، ورنتهبور، وترهنده، وكاكرون وغيرها وقصبتي سكندره، وأركدار وسواهما، يروض الأفيال الخاصة في مالوه، ويصيد القردة - في فيروزه، ويغزو ويخضع مناطق وولايات عدة، ويخلع الألقاب على حلفائه، ومنهم شاه الصفويين طهماسب.
كانت هناك رابطة قوية من الود والاتحاد بين السلطان الأب همايون وشاه طهماسب صفوي، لذلك أراد طهماسب تجديد هذه العلاقة مع الابن، فأرسل معصوم بيك ابن عمه بهدايا وتحف مع رسالة إلى بلاط السلطان أكبر في آكره، فأنعم السلطان على الرسول بمبلغ 700 ألف تنكه، واستضافه شهرين في دار الخلافة، ومنحه خلعة خاصة وجواداً، قبل أن يعود بتحف وهدايا هندوستانية إلى طهماسب.
لكن هذه العاطفة الجياشة تجاه المقربين كان يقابلها رد فعل قاس من السلطان جلال الدين ضد الخائنين، وهو ما أمر به ضد أدهم خان كوكلتاش، الذي قتل الخان الأعظم وكيل السلطنة، غروراً وغواية، وتهجم على الحرم السلطاني، فخرج له جلال الدين وضربه، وأمر بإلقائه حياً من فوق سطح القصر، ولما بقي فيه رمق حياة، أعاد جنوده الكرة، وقد جاء هذا المشهد في فيلم جودا أكبر (214 دقيقة) قاسياً وعنيفاً، لكنه يكشف بعداً مهماً من شخصية الحاكم، الذي ينزع قناع الحلم في مواقف لا ينفع معها.
لقاء مع البرتغاليين
ولكن محك قراءة تاريخ جلال الدين أكبر يظهر جلياً، في علاقته، كسلطان مسلم، بالأديان الأخرى، السماوية والأرضية، التي نشأت في الهند أو جاءتها من الشرق والغرب.
ففي القرن السادس عشر تم توثيق أول حضور للكاثوليك الأوربيين في بلاد الهند. وقد راسل السلطان جلال الدين أكبر إلى البعثة الكاثوليكية المقيمة في ميناء ومدينة جوا «Goa» وكانت برتغالية، جاءت مع أساطيل البرتغال عام 916هـ/ 1510م، إلى شواطئ جوا وديو «Diu» ودامان «Daman» على سواحل الهند الغربية، قبل أن تتوسع على بقية الشواطئ الهندية، حتى أنها وصلت أعالي خليج البنغال عام 944هـ/ 1537م. أراد السلطان أكبر من البعثة الكاثوليكية البرتغالية أن يوفدوا إليه من يعرِّفه بدينهم، كما يكشف الباحث الدكتور سعد الغامدي، أستاذ التاريخ الإسلامي ودراساته الشرقية في بحث له، شارك به في عام 2008 (عام الفيلم أيضاً)، بمؤتمر أقامته في مصر كلية دار العلوم - جامعة المنيا.
وصل الوفد الديني البرتغالي إلى بلاط السلطان أكبر، بمدينة الفتح في سيكري في عام 986هـ/ 1578م، يمثل منظمة «القس بول»، وقد بدت مظاهر تأثر السلطان بشروح الوفد كثيراً، حتى أنه خصص مربياً منهم ليعلّم ابنه مراد اللغة البرتغالية، وطلب أكبر أيضاً أن يُعَلَّمَ هو نفسُهُ اللغة البرتغالية (وهو الأمي الذي لا يعرف القراءة والكتابة).
وضم السلطان أكبر رعاية الطقوس الكاثوليكية، إلى غيرها من الديانات الأُخَر التي يعتنقها مواطنوه، كالهندوسية والبوذية واليانية والزرادشتية والبوذية التبتية اللاما والسمنية السندية والبراهمية، كما سمح ببناء كنس في مدينة الفتح بسيكري، وبناء آخر في مدينة لاهور. وترك لهم ولبقية مواطنيه حرية التعبد، وشاركهم في مناسبات أقاموها داخل مدينة الفتح في سيكري، لكنه رفض طلباً لهم بأن يعتنق المسيحية.
هكذا كان السلطان أكبر مسلماً وهندياً، في آن واحد. فهو مسلم يتبع القرآن الكريم وأحاديث الرسول، ويجد في الكتاب والسنّة مصدر سماحته، كما أنه هندي يعرف أن ترابط تلك الأعراق والأديان في وطن قوي موحد يستلزم منه أن يكون عادلاً في سياسته الدينية التسامحية تجاه من ينتمون إليها، كافة الأديان، ودليلاً يهدي إلى حريات التعبد والتسامح في ما
بين أصحاب الديانات وأتباعها من مواطني دولته. وتكفي إشارات من آيات الله للتدليل على مصدر نهج السلطان أكبر: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (سورة البقرة: من الآية 256)، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (سورة البقرة: 62). {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (سورة آل عمران: من الآية 159). {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}(سورة يونس: من الآية 100). {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (سورة العنكبوت: من الآية 46).
سطور «أكبر نامه»
سنعود إلى «أكبر نامه»، ذلك السجل التاريخي لسنوات حكم السلطان جلال الدين، وفيه يقدم الوزير أبو الفضل بن الشيخ مبارك ( 958-1011هـ/ 1551-1602م)؛ القائد العسكري والمستشار الخاص للسلطان سيرة تفصيلية.
كان تفتُّح ذهن ذلك المؤرخ والمعلم وراء انفتاح السلطان نفسه على أديان الهند، فالمعلم خبير بأسرارها التي يرويها في مجلس السلطان، رواية العارف بأسرارها، ولمَ لا وهو صديق علماء الهندوس، وإمامهم في «عبادت خانه».
وقفت في المكان الذي اتخذه السلطان ساحة للنقاش، وأمامه، على مرأى، أول مسرح مفتوح، كانت تؤدى به الاستعراضات والأداءات الموسيقية. وفي الوقت الذي كان فيه العلماء يتبادلون الآراء والأفكار، كان الفنانون يلعبون على الأوتار. كان رسول اللغة الفارسية، لغة البلاط السلطاني، يعلمها لمن شاء من الأكابر. وقد ساند أفكار سلطانه، ودافع عنها، حتى أنه قدم حياته فداء لها، حيث اغتيل بمؤامرة قام على رأسها ابن السلطان أكبر، الأمير سالم (الملقب بجهان كير في ما بعد)، بيد بير- سينغ - Bir- Singh، يوم الجمعة 4 ربيع الأول عام 1011هـ/ 12/ 8/ 1602م، كما يروي حاكم بخارى، عبدالله البخاري.
مقابل ما ذكره أبوالفضل من مديح مفصّل في «أكبر نامه» يأتي هجوم مؤلف منتخب التواريخ. إنه الإمام البدعوني، أحد سبعة أئمة بمسجد السلطان (إمام الأربعاء، حيث كان هناك إمام لكل يوم من أيام الأسبوع)، صاحب الصوت الحسن، والترتيل الجميل ومترجم اللغة الفارسية، الذي نقل من العربية بناءً على أمر السلطان، معجم البلدان لياقوت الحموي، وجامع التواريخ لرشيد الدين الهمداني.
لم يحب البدعوني فكرة التقارب بين الأديان، فغاب عن ساحة الحوار، وسحب السلطان منه نصف أرضٍ كانت تدر عليه مخصصاً يقتات منه وعياله، فاعتزل مجلسه واستقال من الإمامة؛ فسحبت منه بقية الأرض، فاعتزل الناس والبلاط، واختفى علناً، بينما أخذ يراقب سراً الأحداث ويدوّنها، من شاهدي عيان ثقة، دَوّن أسماءهم في منتخب التواريخ، وأخفى كتابه، وحين عُثر عليه أصبح أكثر المؤلفات طلباً، خاصة أنه أخرج بجرأة سلطان البلاد من الدين كلياً.
وبينما تدور هذه الأحداث في الفيلم على مسرح تتصدره قصة زواج السلطان بالأميرة الهندوسية، فإن التفاصيل كلها، الخاصة بالزواج، أو المؤامرات، أو الحروب، تصبّ في بناء شخصية لقائد مغولي أراد أن يكون استثناءً، وأن يأخذ بالسلام أكثر مما يمكن أن تمنحه المعارك.
مسجد فتح بور سكري
اتجهنا للصلاة في مسجد فتح بور سكري (أنشئ في 1571م)، الذي تناوب عليه أئمة السلطان، وهو من أوائل المساجد المغولية التي بناها جلال الدين، ومساحته 165 متراً طولاً و133 متراً عرضاً، ويضم قاعة صلاة ومدرسة تؤلفها سلسلة غرف تحيط بالصحن، وله أبواب ثلاثة مفتوحة على الصحن ورواقه. تشبه قاعة الصلاة مسجد أصفهان ذا التأثير السلجوقي، أما الغرف وراء الرواق فيبرز بها التأثير العثماني، بينما يبدو التأثير الهندي في الزخارف.
يرتفع المسجد عن مستوى الشارع بثلاثة عشر متراً ونصف المتر، وتحته مستودعات وخزانات ماء، صعدنا الأدراج التي تتقدم البوابات، لنواجه بالبناء المصنوع من الحجر الرملي الأحمر المرصّع بالرخام الأبيض، ثم عبرنا إلى قاعة الصلاة، وهي أضيق من الصحن (133 x 109 أمتار). الطريف أن هناك مكاناً يضم عدداً من قبور النساء.
في سنة حكمه الثانية عشرة، التي بدأت الثلاثاء الثاني من رمضان 974هـ، أراد السلطان أن يمضي أيام النوروز في صيد القمرغه، وهي كلمة تركية تصور إحدى طرق المغول بالصيد، وفيها يحيط الجيش بمنطقة الصيد من كل جانب، ثم يتقدم أفراده من كل جانب لتضيق الحلقة، بينما يقوم السلطان بالصيد داخل هذه الدائرة، ثم يُسمح للوزراء والمقربين في أيام النوروز الأخيرة بالمشاركة في الصيد.
كما رأينا، كانت الهند، وخاصة راجستان، مكاناً رحباً لكل الكائنات الحية. رأينا طيور الطاووس تقفز من سور بيت لفناء آخر. تابعنا القردة تتقافز من ساحة معبد إلى شجرته. كانت السناجب تلهو في براءة، والبقر يعبر في استرخاء. الغزلان تتماهى مع رمال الصحراء، والجمال تمرح فوق الكثبان. حديقة حيوانات سوارها المدن وسقفها السماء.
ترويض الفيلة... وصيد القردة
بدأ الأمراء المشاركون في القمرغه بطرد الحيوانات حول لاهور أمامهم من كل ناحية، حتى عد المؤرخون بأنه كانت هناك خمسة عشر ألف حيوان، بين غزلان وبقر وحشي وابن آوى وثعالب. وسط هذه الدائرة التي يبلغ قطرها خمسة فراسخ من كل ناحية أقيمت خيمة سلطانية معتادة، يركب منها السلطان يومياً على جواد سريع، وبدأ الصيادون يزيدون، فسُمح للأمراء، وللمقرّبين بعدهم، حتى شارك كل من بالجيش في الصيد، وحتى يتم رياضته، سافر إلى مدينة تهته، وعندما وصل إلى شاطئ نهر لاهور قفز في النهر راكبا فرسه، ثم عبر سابحاً، بينما غرق بعض من تبعه، وهو السلطان، تعلم الرماية، والسباحة، وركوب الخيل، وترويض الفيلة، وصيد القردة.
بداية ونهاية
بعد بدء الحملات العربية على شبه القارة الهندية، بزعامة محمد بن القاسم الثقفي (92هـ/710 م)، أسست حقبة جديدة للمنطقة تحت السيادة الإسلامية، توجت بتأسيس قواعد للمسلمين في إقليمي السند والبنجاب، (714م)، ولكن بقيت مجرد إدارة تابعة للحكم الأموي.
ومثلت الدولة الغزنوية (979-1030م) مرحلة جديدة، فقد ورثوا حكم السامانيين في إيران وآسيا الوسطى، وورثوا حكم العرب في حكم الهند، وفي حين استقلت عن الحكم العباسي، فإنها لم تشأ أن تهاجمه، بل إن سلطانها محمود الغزنوي وطد علاقته بالعباسيين، وحرص على الحصول من قبل خلافتهم على اعتراف بأنه سلطان المسلمين في الشرق. حتى أن المؤرخ نظام الملك الطوسي سجل نموذجاً من تلك الألقاب؛ فقد نُعت بأنه «أمين الملة ويمين الدولة»، و«نظام الدين وكهف الإسلام والمسلمين، وولي أمير المؤمنين»، ولقب بأنه «المنتقم من أعداء الله»، و«شهاب الدولة» حتى إن الخليفة أصدر مرسوماً معتاداً يمنح بهذه الألقاب سمي فيه الغزنوي «الناصر لدين الله».
وقد حقق الغزنويون أساساً لملك مستقر في آسيا الوسطى وإيران والهند وورثتهم في حكم أفغانستان وشبه القارة الهندية الأسرة الأفغانية الغورية (1148-1215م) وقد تبلور حكمها في الهند في عهد السلطان غياث الدين أبو الفتح محمد بن سام الغوري، الذي مُنح لقب «معين أمير المؤمنين» تقديراً لجهوده في نشر الإسلام. وجاء عبده، قطب الدين أيبك، (حكم بين عامي 1206 و1210م) ليكون المؤسس الحقيقي لسلطنة دهلي (دلهي)، الذي أصبح أول مؤسس لقواعد نظام سياسي إسلامي في الهند، مستقلة عن العباسيين. واكتسبت سلطنة دهلي مكانة وأهمية كبيرتين، فتوافد رسل العباسيين في عهد «يمين أمير المؤمنين» السلطان شمس الدين التتمش معترفين به سلطاناً على الهند، وأن عاصمته دهلي من ديار الإسلام. الغريب أن التتمش، أوصى بالحكم لابنته رضية، القوية، لكن ابنه ركن الدين فيروز شاه حكم بدلاً منها، وكان ضعيفاً، فقامت القلاقل والاضطرابات، واعتلت رضية عرش البلاد كأول حاكمة لبلد إسلامي (18 ربيع الأول 634هـ/ 19 نوفمبر 1236م)، وبرعت لأكثر من ألف يوم ويوم في الحكم، وظهر أن مسلمي البلاد هناك كانوا على وعي راقٍ بأن اعترفوا بقدرتها وحكمها.
لكن اجتياح الشرق في خوارزم من قبل قوات جنكيز خان (1219م) وانهيار قلب الدولة العباسية على يدي هولاكو (1258م) أفقد الدولة المملوكية في الهند حليفاً كانت تكتسب منه شرعية وجودها في حكم الهند. وهكذا بدأت تغييرات جذرية في حكم تلك البلاد في عهد الأسرة الأفغانية الخلجية (1290-1320م)، ودولة تغلق التي تلتها واستمرت 4 سنوات، على الرغم من أنها حافظت في ضرب العملات باسم الخلفاء الراشدين الأربعة، وحين اتخذت الدولة المملوكية في مصر من الخلفاء العباسيين خلفاء للدولة، كما يقول الدكتور أحمد محمد الجوارنة، بجامعة اليرموك، أدركت سلطنة دلهي أنها مضطرة لإعلان الولاء للخليفة العباسي الجديد في القاهرة، فظهر اسم الخليفة «المستكفي بالله» على نقود تداولها تجار دهلي (1244م).
وحين حضر موفد الخليفة العباسي بموافقة رسمية للسلطان تغلق، دعا خطيب المسجد في يوم الجمعة للخليفة العباسي ووزعت دراهم ذهبية وفضية على الفقراء - والمحتاجين. لكن حملات الأمير تيمور - حتى على قلب دهلي - جعلت ممارسات جنوده تعيد البلاد إلى فوضى وبؤس ومعاناة لم تعرفها، وهي المدينة العامرة بالنشاط والعمران والحضارة.
وقد أسس خلفه في شبه القارة الهندية، خضر خان، أسرة جديدة اسمها الأسياد، سكت العملة باسم تيمور، وقرأت خطبة الجمعة باسم ابنه الأكبر شاه رخ ميرزا، حتى استولى أمراء الأفغان على الحكم، تحت قيادة أسرة اللودية (1451-1526م)، وتواكب ذلك مع نقل الخلافة من القاهرة إلى الأسرة العثمانية الجديدة، ومرت الدولة الأفغانية بحالة من الضياع السياسي والصراعات الداخلية، وظهر المغول ببأسهم، ولبى زعيمهم، ظهير الدين محمد بابر (حكم بين عامي 1526-1530م) نداء ناشده فيه الأمير الأفغاني دولت خان لودي للمجيء إلى الهند والاستيلاء على السلطة، فدخلها بابر، وهو جد سلطاننا جلال الدين محمد أكبر، ووالد السلطان همايون، ليرتبط تاريخاً بدأناه، بآخر وصلنا إليه، وليستمر حكم المغول بين 1526 و1857م، وقد حررتهم نزعات الانفصال عن الدولة الإسلامية المركزية من اتباع دولة الخلافة، بل أرادوا أن تكون لهم دولة خلافة مستقلة، وفعلوا ما كانت دول الخلافة تفعل، فقرئت باسمهم الخطبة فوق منابر المساجد المنتشرة بالهند، وهو مظهر سيادي بحت، وسكت العملات والنقود الإسلامية باسمهم، ووشحت المراسيم والفرمانات بتوقيعاتهم وأختامهم. ولم يكن جلال الدين أكبر خلافاً لهم، بل أراد أن يضيف مظاهر له وحده، تمثلت في اتجاهاته السياسية والدينية.
كان نظام الحكم لدى المغول رأسه السلطان الذي يجمع بين يديه جميع سلطات الدولة العسكرية والمدنية والدينية، ولكن يظهر لنا حرص جلال الدين أكبر على مشاورة رجاله، والجلوس مع أبناء الشعب لسماع شكواهم (أو السير بينهم متخفياً كما ذكرت سيرته وأظهر الفيلم). لقد علق على أبواب القصر أجراساً يدقها أي مظلوم لتُسمع شكاواه. وكان للسلطان وكيل يعتمد عليه فى تصريف الأمور، ووزير- يأتي بعده في المرتبة, مسؤول عن شؤون المال في الدولة وميرنجتش يلي الوزير فى المرتبة, يختص بدفع رواتب الجند والقادة ويشرف على شؤون البلاط - ويعد مسؤولاً عن جيش السلطان الخاص، ثم خان سامان مختص بالإشراف على البلاط, يلازم السلطان فى ترحاله، وقاضي القضاة، والمحتسب الذي يراقب سلوك الناس ويمنع ممارسة البدع وارتكاب ما ينافي الشرع والآداب.
أخيراً سنصل إلى المكان الذي يجتمع فيه علية الرجال في بلاط السلطان أكبر، كأني أسمع مشورتهم، وإخبارياتهم. كأني أراه يغضب على أحدهم فيأمره ببدء رحلة الحج، وهي الرحلة الأخيرة في حياة أحدهم. كأني أرى - قرب بركة المياه - منصة تبدأ عليها وصلة من الفن، لعازفين وراقصات. هنا عرش السلطان أكبر الذي جمع خصالاً وخصائل فرقت الآراء حوله، ولكنه يبقى رمزاً لإمبراطورية كبيرة، ذهب رجالها، وبقيت آثارها، وعاشت قصصها تُروى، من أجل عبر وآيات منسية، أو تكاد ■
ضريح السلطان همايون، في دلهي، تميزه كل مآثر العمارة المغولية، التي نرى آثارها اليوم في الهند الإسلامية، وهي عمارة مزجت بمرونة تقاليد العمارة المحلية في الهند قبل الإسلام وحضارة ما بعد الفتوحات، حيث استخدمت - كتقليد محلي - الحجر والخشب كمادتين أساسيتين.
مدينة جودبور، أو المدينة الزرقاء، التي تتوسط راجستان، حيث كانت جولتنا الممتدة لأكثر من 3 آلاف كيلومتر في دائرة بيضاوية، لرؤية جغرافيا مملكة السلطان أكبر، الرحلة بدأت في دلهي ومرت هنا بتاج راجستان الذي يعد واحة سماوية اللون في صحراء طهار، أعلى تل هضبة من الحجر الجيري، وسواء كان طلاء المباني باللون الأزرق مرتبطاً بالنظام الطبقي في الهند، أو أنه لون البراهمة الذين أرادوا تبيان مكانتهم المرموقة باعتبارهم مع القساوسة والمعلمين أعلى الفئات منزلة بطلاء منازلهم باللون الأزرق، فالفكرة الآن أن هذا اللون الأزرق النيلي أضيف إلى الدهان الجيري الأبيض المستخدم في طلاء المنازل لحمايتها من النمل الأبيض وغيره من الحشرات الأخرى. أصبحت الولاية إقطاعية في ظل حكم إمبراطورية المغول، وظهرت بها آيات جديدة للفنون والهندسة المعمارية، وقد أصبحت جودبور ممراً لطريق الحرير.
أمام معبد هندوسي تسير الحياة اليومية بين نساك زاهدين وفقراء شحاذين وبائعات فقيرات وحيوانات وزوار موسرين جاءوا جميعاً للتبرك. إن الهندوسية الآن، حتى في قلب راجستان، كما في الهند كلها، هي الديانة السائدة، مازجة بين عقائد وتقاليد عمرها أكثر من ثلاثة آلاف عام، لتكون أقدم ديانة حية في العالم، يتبعها أكثر من مليار نسمة، منهم نحو 900 مليون نسمة يعيشون في الهند وحدها.
بحيرة يغتسل فيها الهندوس تبركاً، تقع في قلب المدينة العتيقة في جيبور، المدينة الوردية، إحدى محطات راجستان، يمكن أن نرى الحمام بكثرة، وفي بحيرات المدن الراجستانية الأخرى كانت هناك أسراب من طيور البط المنفوش الشعر والبلشون الأبيض والغاق والرفراف... وغيرها.
استمر حكم المغول آباء السلطان أكبر ونسله للهند الفترة من 1526 م إلى 1858م، تاريخ استيلاء البريطانيين على شبه القارة، وازدهرت فنون المغول التي كان من أهمها النقش على الجدران (الصورة أعلاه من غرف قصر السلطان أكبر)، ورسوم المنمنمات (الصورة الوسطى تبين مقطعاً من منمنمة عملاقة لحفل زفاف مغولي)، ورسوم جدارية كما في قصر «تاج ليك»، (الصورة الثالثة) المغطى بالرخام الأبيض والعائم على بحيرة بيكولا الصناعية، وقد بدأ بناء هذا القصر عام 1743م وتم بناؤه في 1746م بأمر من مهارانا جاغات سينغ الثاني، الملك الثاني والستين من الأسرة الحاكمة لميوار، أقدم الأسر الحاكمة في العالم، حيث يرجع تاريخها إلى عام 566م.
وجوه راجستانية مختلفة لأعمال بسيطة: بائعة ثمار برية لاذعة المذاق في جودبور،
مهما قيل عن جمال ضريح ومسجد تاج محل، فلا أصدق من معاينته بالعين المجردة، سواء عبر الطريق الرسمية المؤدية إليه أو من خلال الطرف الآخر من نهر يامونا، حيث يبدو كشبح بناء أسطوري قادم من الحكايات الخرافية. فهذا البناء المرمري الأبيض في مدينة أجرا (أكره / أكرا) شمال الهند، يعد درة العمارة المغولية، التي شيدها الإمبراطور شاه جهان تكريماً لذكرى زوجته ممتاز محل، وقد أعلنته اليونيسكو عام 1983م موقعاً تراثياً عالمياً. بدأ بناء تاج محل عام 1632م وانتهى في عام 1653م وسط حدائق محيطة بنهر يامونا، في مدينة «أكرا» مدينة أباطرة المغول التي كانت عاصمتهم في ذلك الحين، إلى أن قام الإمبراطور شاه جهان، الذي حكم الهند قبل أكثر من 300 سنة، بنقل العاصمة من «أكرا» إلى مدينة دلهي التي تبعد عنها حوالي 204 كم، والتي غدت عاصمة الهند منذ ذلك التاريخ.
في مدينة جيبور، تبدو قلعة أمبر (عنبر) العملاقة التي أنشئت في القرن السابع عشر وما حولها من نهر وبساتين كاستديو سينمائي مذهل... هنا نتذكر السلطان أكبر لأن لدينا الفرصة لركوب الفيلة، من بوابة القلعة حتى باحتها الداخلية عبر طريق صاعدة، مخيفة إن لم يتمسك ركاب الفيلة بهوادجهم.
تعد جيبور مدينة أمراء راجستان وحكام راتهور، المسورة بالتلال من ثلاث جهات، أجمل ما يحفل بالفنون التقليدية المغولية من حياكة السجاد وصناعة الزجاج ودباغة الجلود وحفر على الحجر والرخام والعاج. أسسها المحارب راجبوتس في القرن الثاني عشر الميلادي وأصبحت القلعة الجبلية عاصمة الولاية وتتميز بالطراز العمراني الذي يجمع بين الفن الهندي والفارسي. تكفي زيارة هذا الكتاب المعماري المفتوح بالمدينة لينقل لنا خلاصة الفن المغولي.
بحلول أواخر القرن السادس الهجري / الثاني عشر الميلادي، بنيت باكورة الآثار المعمارية الإسلامية في مدينة دلهي وحولها، ومن أشهرها: قطب منار أو منارة قطب في عهد السلطان قطب الدين أيبك (602هـ/ 1206م – 607هـ/ 1211م) على أنقاض حصن لال كوت الذي قام ببنائه راجا برتوي آخر حاكم هندوسي لإمارة دلهي، والذي تغلب عليه قطب الدين أيبك أول حاكم مسلم لمدينة دلهي، وكان
لا يزال نائباً عن السلطان شهاب الدين الغوري، لكن البناء لم يكتمل إلا في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي من قبل خلفائه. هي ثاني أطول المنارات في تاريخ العالم الإسلامي بعد منارة الجيرالدا في إشبيلية (يبلغ ارتفاعها 97.5 متراً) إذ إن ارتفاع قطب منار 250 قدماً، أي نحو 75 متراً، ومحورها من أسفل 47 قدماً، ومن أعلى 7 أقدام فقط، وللمنارة ثلاث شرفات للأذان، تقوم كل شرفة منها على مقرنصات، وبها 378 درجاً، والمنارة المخروطية حولها كتابة عربية منها آيات من القرآن الكريم.