يوسف شلحت... العلاّمة الإثنولوجي وبُنى المقدَّس

يوسف شلحت...  العلاّمة الإثنولوجي وبُنى المقدَّس

ليس‭ ‬قليلاً‭ ‬ما‭ ‬قدّمه‭ ‬عالِم‭ ‬الاجتماع‭ ‬والإثنولوجي‭ ‬Ethnologue‭ ‬السوري‭ ‬يوسف‭ ‬باسيل‭ ‬شلحت‭ ‬Joseph‭ ‬Chelhod‭ (‬1919-1994‭) ‬على‭ ‬مدى‭ ‬حياته‭ ‬العلمية‭. ‬قلة‭ ‬من‭ ‬الكتّاب‭ ‬والأكاديميين‭ ‬العرب‭ ‬تدرك‭ ‬أهمية‭ ‬النتاج‭ ‬العلمي‭ ‬الذي‭ ‬وضعه‭ ‬‮«‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬العرب‮»‬‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬كما‭ ‬يصفه‭ ‬البروفيسور‭ ‬خليل‭ ‬أحمد‭ ‬خليل‭.‬

يكاد‭ ‬شلحت‭ ‬مؤسس‭ ‬علم‭ ‬الاجتماع‭ ‬الديني‭ ‬العربي‭ ‬يتفرّد‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬تخصصه‭. ‬كان‭ ‬سبّاقاً‭ ‬زمنياً‭ ‬بين‭ ‬العلماء‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬المقدّس‭ ‬ضمن‭ ‬بيئته‭ ‬الإسلامية‭. ‬اتخذ‭ ‬من‭ ‬الحيادية‭ ‬نهجاً‭ ‬معرفياً‭ ‬مبتعداً‭ ‬من‭ ‬الأطر‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬والإسقاطية‭ ‬في‭ ‬مقاربة‭ ‬الظاهرة‭ ‬الدينية‭.‬

لا‭ ‬يعرف‭ ‬بعض‭ ‬الجيل‭ ‬الجديد‭ ‬من‭ ‬المهتمين‭ ‬بالأبحاث‭ ‬الإثنولوجية‭ ‬والأنثروبولوجية‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬يوسف‭ ‬شلحت‭. ‬عالج‭ ‬قضايا‭ ‬إسلامية‭ ‬معقدة،‭ ‬فتناول‭ ‬الأضاحي‭ ‬عند‭ ‬العرب‭ ‬وبُنى‭ ‬المقدّس‭ ‬والقبائل‭ ‬والعشائر‭ ‬وعلم‭ ‬اجتماع‭ ‬الإسلام‭ ‬ومسائل‭ ‬أخرى‭.‬

 

من‭ ‬حلب‭ ‬إلى‭ ‬السوربون

يوسف‭ ‬شلحت‭ (‬تكتب‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المراجع‭ ‬شلحد‭) ‬المولود‭ ‬في‭ ‬حلب‭ ‬من‭ ‬أسرة‭ ‬مسيحية،‭ ‬تلقى‭ ‬دروسه‭ ‬في‭ ‬سورية‭ ‬واكتسب‭ ‬الثقافة‭ ‬الفرنسية‭ ‬ولغتها‭ ‬من‭ ‬مدارسها‭. ‬انتظر‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬كي‭ ‬يلتحق‭ ‬بجامعة‭ ‬السوربون‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬متابعة‭ ‬تخصصه‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الاجتماع‭. ‬حصل‭ ‬على‭ ‬شهادة‭ ‬الدكتوراه‭ ‬عن‭ ‬أطروحة‭ ‬‮«‬الأضاحي‭ ‬عند‭ ‬العرب‮»‬‭ ‬تحت‭ ‬إشراف‭ ‬الأنثروبولوجي‭ ‬الفرنسي‭ ‬مارسيل‭ ‬غريول‭ ‬Marcel‭ ‬Griaule‭ (‬1898-1956‭). ‬اختير‭ ‬ضمن‭ ‬فريق‭ ‬كلود‭ ‬ليفي‭ ‬ستروس‭ ‬Claude‭ ‬Levi‭-‬Strauss‭ (‬1908-2009‭) ‬كمختص‭ ‬في‭ ‬الأنثروبولوجيا‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬فعمل‭ ‬في‭ ‬المركز‭ ‬الوطني‭ ‬للبحوث‭ ‬العلمية‭ (‬C‭.‬N‭.‬R‭.‬S‭) ‬في‭ ‬باريس‭ ‬مع‭ ‬ستروس‭ ‬والمؤرخ‭ ‬جاك‭ ‬بيرك‭ (‬1910-1995‭) ‬والمستشرق‭ ‬مكسيم‭ ‬ردونسون‭ (‬1915-2004‭).‬

 

من‭ ‬علم‭ ‬الاجتماع‭ ‬الديني‭ ‬إلى‭ ‬اليمن

امتاز‭ ‬شلحت‭ ‬بموضوعيته‭ ‬ونزاهته‭ ‬العلمية‭ ‬في‭ ‬معالجة‭ ‬الإسلاميات‭ ‬بمنهجية‭ ‬سوسيولوجية‭. ‬نشر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1946‭ ‬كتابه‭ ‬بالعربية‭ ‬‮«‬علم‭ ‬الاجتماع‭ ‬الديني‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬أسس‭ ‬هذا‭ ‬المؤلف‭ ‬لمعظم‭ ‬أبحاثه،‭ ‬وقدم‭ ‬له‭ ‬وحققه‭ ‬خليل‭ ‬أحمد‭ ‬خليل‭ ‬بعد‭ ‬سبعة‭ ‬وخمسين‭ ‬عاماً‭ ‬على‭ ‬صدوره،‭ ‬فصدر‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬نحو‭ ‬نظرية‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الاجتماع‭ ‬الديني،‭ ‬الطوطمية‭ - ‬اليهودية‭- ‬النصرانية‭ - ‬الإسلام‮»‬‭.‬

حقق‭ ‬شلحت‭ ‬مخطوط‭ ‬المؤرخ‭ ‬السوري‭ ‬فتح‭ ‬الله‭ ‬الصايغ‭: ‬‮«‬رحلة‭ ‬فتح‭ ‬الله‭ ‬الصايغ‭ ‬الحلبي‭ ‬إلى‭ ‬بادية‭ ‬الشام‭ ‬وصحارى‭ ‬العراق‭ ‬والعجم‭ ‬والجزيرة‭ ‬العربية‮»‬‭. ‬يذكر‭ ‬أن‭ ‬المخطوط‭ ‬نفسه‭ ‬حققه‭ ‬أستاذ‭ ‬التاريخ‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الملك‭ ‬سعود،‭ ‬عبدالله‭ ‬العسكر،‭ ‬والأستاذ‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الملك‭ ‬سعود،‭ ‬محمد‭ ‬خير‭ ‬البقاعي،‭ ‬وقد‭ ‬عنون‭ ‬بـ«رحلة‭ ‬فتح‭ ‬الله‭ ‬ولد‭ ‬أنطون‭ ‬الصايغ‭ ‬الحلبي‭ ‬إلى‭ ‬بادية‭ ‬الشام‭ ‬وصحارى‭ ‬العراق‭ ‬والعجم‭ ‬والجزيرة‭ ‬العربية‮»‬‭.‬

نشر‭ ‬شلحت‭ ‬مقالات‭ ‬عدة‭ ‬في‭ ‬مجلات‭ ‬علمية‭ ‬أوربية‭ ‬منها‭: ‬‮«‬Studia‭ ‬Islamica‭,‬‭ ‬Arabica‭,‬‭ ‬LHomme‮»‬‭.‬

عرّب‭ ‬خليل‭ ‬أحمد‭ ‬خليل‭ ‬ثلاثة‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬شلحت،‭ ‬الأول‭: ‬‮«‬بُنى‭ ‬المقدّس‭ ‬عند‭ ‬العرب‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام‭ ‬وبعده‮»‬‭ (‬دار‭ ‬الطليعة،‭ ‬بيروت،‭ ‬الطبعة‭ ‬الأولى،‭ ‬1996،‭ ‬الطبعة‭ ‬الثانية،‭ ‬2004‭). ‬الثاني‭: ‬‮«‬مدخل‭ ‬إلى‭ ‬علم‭ ‬اجتماع‭ ‬الإسلام‭ ‬من‭ ‬الأرواحية‭ ‬إلى‭ ‬الشمولية‮»‬‭. ‬والـــــثالث‭: ‬‮«‬الأضاحي‭ ‬عند‭ ‬العرب‭: ‬أبحاث‭ ‬حول‭ ‬تطور‭ ‬شعائر‭ ‬الأضاحي‭ ‬طبيعتها‭ ‬ووظيفتها‭ ‬في‭ ‬غرب‭ ‬الـــجزيرة‭ ‬العربية‮»‬‭.‬

 

المقدَّس‭ ‬والقدسي‭ ‬والأضاحي

يدفع‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬المقدّس‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬تحديد‭ ‬المراد‭ ‬عموماً‭ ‬بالتجربة‭ ‬الدينية،‭ ‬فهذا‭ ‬المصطلح‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬يقف‭ ‬على‭ ‬نقيض‭ ‬الأطروحة‭ ‬لثنائية‭ ‬من‭ ‬المفاهيم‭ ‬ضمّ‭ ‬في‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر‭ ‬المدنس‭. ‬ويشير‭ ‬المقدّس‭ ‬إلى‭ ‬شيء‭ ‬يدركه‭ ‬البشر‭ ‬خلال‭ ‬مشوار‭ ‬حياتهم،‭ ‬بما‭ ‬يخلّف‭ ‬فيهم‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬وقوة،‭ ‬ومظاهر‭ ‬خارقة‭. ‬يعود‭ ‬الجذر‭ ‬اللغوي‭ ‬لكلمة‭ ‬مقدّس‭ ‬في‭ ‬اللاتينية‭ ‬إلى‭ ‬مفردة‭ (‬Sacer‭) ‬ويرد‭ ‬المعنى‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللغة‭ ‬مزدوجاً،‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬حر‭ ‬على‭ ‬الآلهة،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬ما‭ ‬يثير‭ ‬الرهبة‭. ‬وتالياً‭ ‬مصطلح‭ (‬Sacrificio‭) ‬المتحدر‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الكلمة،‭ ‬الذي‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬نترجمه‭ ‬بالقربان‭ ‬والأضحية‭ ‬والذبيحة،‭ ‬ويتضمن‭ ‬معنيين‭ ‬مختلفين‭: ‬فهو‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬‮«‬إضفاء‭ ‬القداسة‮»‬‭ ‬و«الهلاك‭ ‬موتاً‮»‬‭. ‬حاول‭ ‬هنري‭ ‬هوبرت‭ ‬Henri‭ ‬Hubert‭ (‬1927-1872‭) ‬ومارسيل‭ ‬موس‭ ‬Marcel‭ ‬Mauss‭ (‬1872-1950‭) ‬تلميذا‭ ‬إميل‭ ‬دوركايم‭ ‬Emile‭ ‬Durkheim‭ (‬1858-1917‭)‬،‭ ‬تفسير‭ ‬هذه‭ ‬الازدواجية،‭ ‬وذهبا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الأضحية‭ ‬هي‭ ‬عنصر‭ ‬أساسي‭ ‬داخل‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الديانات‭ ‬التاريخية،‭ ‬فبواسطتها‭ ‬يعانق‭ ‬البشر‭ ‬عالم‭ ‬الألوهية،‭ ‬بفضل‭ ‬التوسّط‭ ‬الذي‭ ‬يضمنه‭ ‬الكاهن‭ ‬عبر‭ ‬ممارسات‭ ‬طقوسية‭. ‬يذهب‭ ‬الدارسان‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تحويل‭ ‬الحيوان‭ ‬الأضحية‭ ‬إلى‭ ‬كائن‭ ‬مقدس‭ ‬جدير‭ ‬بعالم‭ ‬الآلهة،‭ ‬يتطلب‭ ‬التضحية‭ ‬به‭ ‬وفصله‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬الحياء‭. ‬بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬يتقابل‭ ‬المقدّس‭ ‬مع‭ ‬المدنّس‭ ‬Profane‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬يبقى‭ ‬خارج‭ ‬الحرم‭ ‬القدسي‭. ‬يستدعي‭ ‬المقدّس‭ ‬فصلاً‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬البشر‭ ‬لإسداء‭ ‬الشكر‭ ‬إلى‭ ‬الآلهة‭.‬

تحرى‭ ‬يوسف‭ ‬شلحت‭ ‬عن‭ ‬‮«‬المقدّس‮»‬‭ ‬Le‭ ‬Sacre  ‬و«القدسي‮»‬‭ ‬ممعناً‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬مقومات‭ ‬علم‭ ‬اجتماع‭ ‬الأديان،‭ ‬اللانبوية،‭ ‬والنبوية،‭ ‬مفترضاً‭ ‬أن‭ ‬المجتمع‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬ينتج‭ ‬الظواهر‭ ‬الدينية‭ ‬ويستهلكها،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬فوق‭ ‬التحليل‭ ‬والنقد،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬كل‭ ‬الظواهر‭ ‬المجتمعية‭ ‬الأخرى‭. ‬

وهذا‭ ‬يعني‭ ‬إرجاع‭ ‬الخيال‭ ‬الديني‭ ‬إلى‭ ‬الخيال‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وتالياً‭ ‬وضع‭ ‬مرجعيات‭ ‬الأديان‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬ومجتمعاتنا،‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭. ‬ما‭ ‬يقصده‭ ‬شلحت‭ ‬أن‭ ‬الدين‭ ‬يؤثر‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬ويتأثر‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬وهنا‭ ‬نحيل‭ ‬على‭ ‬عبارة‭ ‬الفيلسوف‭ ‬المغربي‭ ‬طه‭ ‬عبدالرحمن‭ (‬1944‭): ‬‮«‬أن‭ ‬الدين‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬النصوص‭ ‬ولكنه‭ ‬يتعدد‭ ‬ويتكوثر‭ ‬في‭ ‬الممارسة‭ ‬وفق‭ ‬فهم‭ ‬الأطراف‭ ‬والفئات‭ ‬والظروف‭ ‬التاريخية‮»‬‭.‬

ينظر‭ ‬شلحت‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬المقدّس‮»‬‭*‬‭ ‬باعتباره‭ ‬‮«‬تلك‭ ‬القوة‭ ‬الغريبة‭ ‬واللاشخصية‭ ‬الخيّرة‭ ‬أو‭ ‬المخيفة‭ ‬التي‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أساس‭ ‬كل‭ ‬سلطة‭ ‬وكل‭ ‬فرح،‭ ‬كما‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أساس‭ ‬كل‭ ‬حزن‭ ‬أو‭ ‬مصيبة‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬قارب‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬نحو‭ ‬نظرية‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الاجتماع‭ ‬الديني‮»‬‭ (‬ص54‭) ‬مفهومَي‭ ‬الحرام‭ ‬والحلال،‭ ‬فالحرام‭ ‬ليس‭ ‬إلا‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬القوة‭ ‬أو‭ ‬النار‭ ‬المحرقة‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬الأشياء‭ ‬المقدّسة‭ ‬والنجسة‭. ‬أما‭ ‬الحلال‭ ‬فهو‭ ‬ضد‭ ‬الحرام‭ ‬ولا‭ ‬يفهم‭ ‬معناه‭ ‬إلا‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ضده‭. ‬فالحلال‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬غير‭ ‬مقدس‭ ‬وغير‭ ‬نجس‭. ‬والحلال‭ ‬ما‭ ‬يستطيع‭ ‬المرء‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أدنى‭ ‬استعداد‭ ‬يؤهله‭ ‬لذلك‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يخشى‭ ‬عاقبة‭ ‬عمله‭.‬

أوضح‭ ‬شلحت‭ ‬أن‭ ‬مساحتي‭ ‬الطاهر‭ ‬والنجس‭ ‬تتعارضان‭ ‬في‭ ‬التصوّر‭ ‬الإسلامي‭ ‬للكون،‭ ‬كما‭ ‬أبرز‭ ‬ازدواجية‭ ‬الحرام‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التصوّر،‭ ‬لأنه‭ ‬وجد‭ ‬أن‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬يستخدم‭ ‬الجذر‭ ‬‮«‬ح‭.‬ر‭.‬م‮»‬‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬الخطر‭ ‬الذي‭ ‬يمثله‭ ‬كلاهما‭ ‬على‭ ‬الكائن‭ ‬العادي،‭ ‬والحرام‭ ‬يشملهما‭ ‬دون‭ ‬الخلط‭ ‬بينهما،‭ ‬وأن‭ ‬المؤمن‭ ‬مطالب‭ ‬باجتناب‭ ‬القوى‭ ‬الدنسة،‭ ‬وللسبب‭ ‬ذاته‭ ‬فإن‭ ‬مساحة‭ ‬القداسة‭ ‬والطهارة،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬مع‭ ‬التعالي‭ ‬أو‭ ‬يدل‭ ‬عليه،‭ ‬مفصول‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬العالم‭. ‬

ويخلص‭ ‬إلى‭ ‬القول‭: ‬‮«‬إن‭ ‬الأشياء‭ ‬المحرّمة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬معزل‭ ‬عن‭ ‬غيرها‭ ‬لا‭ ‬تختلط‭ ‬بها،‭ ‬ويحظر‭ ‬الدين‭ ‬على‭ ‬المؤمن،‭ ‬تحت‭ ‬طائلة‭ ‬العقاب‭ ‬الصارم،‭ ‬أن‭ ‬يقربها‭ ‬أو‭ ‬يمسّها‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحوال‭ ‬الاستثنائية،‭ ‬وبعد‭ ‬استعدادات‭ ‬خاصة،‭ ‬فتكون‭ ‬العقائد‭ ‬الدينية‭ ‬رموزاً‭ ‬وتصوّرات‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬الأشياء‭ ‬المحرّمة،‭ ‬وعن‭ ‬علاقاتها‭ ‬بالأشياء‭ ‬المحللة،‭ ‬وما‭ ‬الحفلات‭ ‬الدينية‭ ‬إلا‭ ‬تقاليد‭ ‬وطقوس‭ ‬يخضع‭ ‬لها‭ ‬المرء‭ ‬ويسير‭ ‬على‭ ‬منوالها‭ ‬في‭ ‬علاقته‭ ‬بالأشياء‭ ‬المحرّمة،‭ ‬والديانة‭ ‬تعلم‭ ‬المؤمنيــــن‭ ‬بهــا‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬هاتين‭ ‬الفئتين‭ (...) ‬كجعل‭ ‬أماكن‭ ‬الصلاة‭ ‬في‭ ‬منعزل‭ ‬عن‭ ‬أماكن‭ ‬العمل،‭ ‬وبفصل‭ ‬أيام‭ ‬الأعياد‭ ‬عن‭ ‬أيام‭ ‬العمل‮»‬‭.‬

 

المقدَّس‭ ‬يُدرس‭ ‬سوسيولوجياً

 

راهن‭ ‬شلحت‭ ‬على‭ ‬الانتقال‭ ‬بالفكر‭ ‬الاجتماعي‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬الأدب‭ ‬الخيالي‭ ‬إلى‭ ‬الكناية‭ ‬الفكرية‭ ‬العلمية،‭ ‬أي‭ ‬دراسة‭ ‬الدين‭ ‬والمقدّس‭ ‬ضمن‭ ‬المنهج‭ ‬السوسيولوجي‭. ‬وفي‭ ‬إطار‭ ‬علم‭ ‬اجتماع‭ ‬غير‭ ‬أيديولوجي‭ ‬سعى‭ ‬إلى‭ ‬تبيان‭ ‬الموقع‭ ‬الاجتماعي‭ ‬للأديان،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يدّعي‭ ‬توظيفاً‭ ‬آخر‭ ‬سوى‭ ‬التوظيف‭ ‬العلمي،‭ ‬فالدين‭ ‬ظاهرة‭ ‬سوسيولوجية‭ ‬ذات‭ ‬توظيفات‭ ‬شتى‭ ‬على‭ ‬أصعدة‭ ‬الأيديولوجيات‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية،‭ ‬وعلى‭ ‬العالِم‭ ‬أن‭ ‬يفكك‭ ‬هذه‭ ‬التوظيفات‭ ‬بذاتها،‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬يضع‭ ‬الدين‭ ‬كأيديولوجيا‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الأيديولوجيات‭ ‬الأخرى‭. ‬

علم‭ ‬الاجــــتماع‭ ‬الديني‭ ‬‭**‬‭ ‬كما‭ ‬يراه‭ ‬شلحت‭ ‬هو‭ ‬درس‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬وتحديد‭ ‬نسبة‭ ‬الحدث‭ ‬الديني‭ ‬وقوته‭ ‬وتبيان‭ ‬أثره‭ ‬وتأثيره،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬تأثره‭ ‬بالمجتمع‭ ‬الذي‭ ‬يعتنقه،‭ ‬ودراسة‭ ‬الدين‭ ‬كظاهرة‭ ‬في‭ ‬السلوك‭ ‬الاجتماعي‭ ‬في‭ ‬نظام‭ ‬المجتمع‭ ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬سياسته‭ ‬وأدائه‭ ‬الاقتصادي‭ ‬وهويته‭ ‬الثقافية‭. ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬العقائد‭ ‬الدينية‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬نتاج‭ ‬مجتمعاتها‭ ‬عبر‭ ‬تــــغيّرها‭ ‬وتطوّرها‭ (...) ‬وتتجلى‭ ‬الوظيفة‭ ‬المميزة‭ ‬للأديان،‭ ‬سوسيولوجياً،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الطقوس‭ (‬الشعائر‭ ‬والمراسم‭) ‬التي‭ ‬يأتي‭ ‬في‭ ‬مقدمتها‭ ‬طقس‭ ‬التطهّر‭ ‬أو‭ ‬التطهير‭. ‬

ففي‭ ‬كل‭ ‬الأديان‭ ‬التي‭ ‬عمل‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬الطوطمية‭ ‬إلى‭ ‬اليهودية‭ ‬والنصرانية‭ ‬وحتى‭ ‬الإسلام،‭ ‬هناك‭ ‬سلك‭ ‬مشترك‭ ‬بينها،‭ ‬هو‭ ‬سلك‭ ‬الطهارة،‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬المتدينين‭ (‬أي‭ ‬المتطهرين‭) ‬والدينيين‭ ‬إخوة‭ ‬في‭ ‬جماعة‭ ‬منتشرة،‭ ‬بنظام‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬نظام‭.‬

 

سوسيولوجيا‭ ‬الإسلام‭ ‬والعرب

الكتب‭ ‬الأربعة‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬المكتبة‭ ‬العربية‭: ‬‮«‬بُنى‭ ‬المقدَّس‭ ‬عند‭ ‬العرب‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام‭ ‬وبعده‮»‬،‭ ‬‮«‬نحو‭ ‬نظرية‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الاجتماع‭ ‬الديني‭ ‬‭(‬الطوطمية‭ - ‬اليهودية‭ - ‬النصرانية‭ - ‬الإسلام‮»‬،‭ ‬‮«‬مدخل‭ ‬إلى‭ ‬علم‭ ‬اجتماع‭ ‬الإسلام‭ ‬من‭ ‬الأرواحية‭ ‬إلى‭ ‬الشمولية‮»‬،‭ ‬‮«‬الأضاحي‭ ‬عند‭ ‬العرب‭... ‬أبحاث‭ ‬حول‭ ‬تطور‭ ‬شعائر‭ ‬الأضاحي،‭ ‬طبيعتها،‭ ‬وظيفتها‭ ‬في‭ ‬غرب‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‮»‬،‭ ‬يحتاج‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬قراءات‭ ‬ومراجعات‭ ‬هادئة‭ ‬تبين‭ ‬أهمية‭ ‬المؤلفات‭ ‬التي‭ ‬عمل‭ ‬عليها‭ ‬شلحت،‭ ‬وسوف‭ ‬نكتفي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المقالة‭ ‬بإبراز‭ ‬بعض‭ ‬ما‭ ‬تضمنته‭.‬

 

بُنى‭ ‬المقدَّس‭ ‬عند‭ ‬العرب

في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب،‭ ‬عمل‭ ‬شلحت‭ ‬على‭ ‬دراسة‭ ‬البيئة‭ ‬المكية‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الهجرة،‭ ‬محاولاً‭ ‬تبيان‭ ‬أن‭ ‬الإسلام‭ ‬هو‭ ‬الخلاصة‭ ‬المنطقية‭ ‬والضرورية‭ ‬للحالة‭ ‬الدينية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعيشها‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬الغربية‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬الميلادي‭. ‬

واعتبر‭ ‬أن‭ ‬التصوّر‭ ‬الإسلامي‭ ‬للمقدس‭ ‬يعكس‭ ‬تصوّر‭ ‬بيئته‭ ‬العربية،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬عالمية‭ ‬عقيدته‭ ‬وشموليتها،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬الواقع‭ ‬يطبع‭ ‬بطابعه‭ ‬الأسس‭ ‬العميقة‭ ‬للإسلام‭. ‬يتساءل‭ ‬شلحت‭: ‬ما‭ ‬هذه‭ ‬البنى‭ ‬العميقة‭ ‬للإسلام‭ ‬التي‭ ‬استلهمها‭ ‬وتحكمت‭ ‬في‭ ‬تطوره؟‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الهدف‭ ‬الذي‭ ‬توخى‭ ‬تناوله‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب،‭ ‬محاولاً‭ ‬استخلاص‭ ‬السمات‭ ‬الأصلية‭ ‬والأصيلة‭ ‬الخاصة‭ ‬بالنظام‭ ‬المدروس،‭ ‬والكفيلة‭ ‬بتبيان‭ ‬علاقاته‭ ‬مع‭ ‬البنى‭ ‬الاجتماعية‭ - ‬الجغرافية‭ ‬لنمط‭ ‬مجتمعي‭ ‬معين‭. ‬

لا‭ ‬يهدف‭ ‬شلحت‭ ‬إلى‭ ‬قراءة‭ ‬المقدَّس‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭ ‬بعين‭ ‬المقدَّس‭ ‬الإسلامي‭ ‬أو‭ ‬المسيحي،‭ ‬فعنده‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المقدَّسات‭ ‬وإن‭ ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬مهدٍ‭ ‬سامٍ‭ ‬مشترك،‭ ‬لا‭ ‬تفسّر‭ ‬بعضها،‭ ‬بل‭ ‬تجد‭ ‬تفسيرها‭ ‬الأعمق‭ ‬في‭ ‬البُنى‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬تقبّلتها‭ ‬واستوعبتها‭.‬

 

نحو‭ ‬نظرية‭ ‬جديدة‭ ‬

في‭ ‬علم‭ ‬الاجتماع‭ ‬الديني

يقدم‭ ‬شلحت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬نظرية‭ ‬علمية‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬منهج‭ ‬البحث‭ ‬السوسيولوجي‭ ‬لدرس‭ ‬المقدَّس‭ ‬الديني،‭ ‬ساعياً‭ ‬إلى‭ ‬تناول‭ ‬الدين‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مسارات‭ ‬التطور‭ ‬الاجتماعي‭ ‬نفسه‭. ‬

 

مدخل‭ ‬إلى‭ ‬علم‭ ‬اجتماع‭ ‬الإسلام

قسّم‭ ‬الكتاب‭ ‬إلى‭: ‬مقدمة‭ ‬بقلم‭ ‬المعرب‭ ‬خليل‭ ‬أحمد‭ ‬خليل،‭ ‬مدخل،‭ ‬الفصل‭ ‬الأول‭: ‬البيئة،‭ ‬الفصل‭ ‬الثاني‭: ‬البدو‭ ‬والحضر،‭ ‬الفصل‭ ‬الثالث‭: ‬قيامة‭ ‬المدينة،‭ ‬الفصل‭ ‬الرابع‭: ‬هيمنة‭ ‬القرشيين‭ ‬والدين‭ ‬القومي،‭ ‬الفصل‭ ‬الخامس‭: ‬انحطاط‭ ‬الدين‭ ‬القومي‭ ‬وانتصار‭ ‬الشخص،‭ ‬الفصل‭ ‬السادس‭: ‬الإسلام‭ ‬ومعنى‭ ‬المقدَّس،‭ ‬خلاصة‭ ‬وخواتيم‭. ‬يرى‭ ‬شلحت‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬هذا‭ ‬أن‭ ‬البيئة‭ ‬العربية،‭ ‬البنية،‭ ‬هي‭ ‬مفتاح‭ ‬التفسير‭ ‬السوسيولوجي‭ ‬لما‭ ‬يحدث،‭ ‬ففيها‭ ‬السببية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬تجعل‭ ‬تاريخ‭ ‬الأحداث‭ ‬مفهوماً‭ ‬فهماً‭ ‬عقلانياً،‭ ‬ومشفوعاً‭ ‬بكل‭ ‬تسويغاته‭ ‬التاريخية،‭ ‬ومنها‭: ‬أن‭ ‬البيئة‭ ‬العربية،‭ ‬عشايا‭ ‬الإسلام،‭ ‬هي‭ ‬بيئة‭ ‬صراع‭ ‬لأجل‭ ‬الحياة،‭ ‬وأن‭ ‬الشريعة‭ ‬الإسلامية‭ ‬كأيديولوجيا‭ ‬جديدة،‭ ‬بل‭ ‬كمألفة‭ ‬أديان،‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬جوهرها‭ ‬الاجتماعي‭ ‬التاريخي‭ ‬تعبيرات‭ ‬عن‭ ‬توحدات‭ ‬داخلية،‭ ‬مكّنت‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬تحقيق‭ ‬قومية‭ ‬الأقوام‭ ‬العربية‭. ‬يعتبر‭ ‬شلحت‭ ‬أن‭ ‬العقلية‭ ‬العربية‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬راسب‭ ‬بدوي‭/‬حضري،‭ ‬معقد،‭ ‬ومستمر‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬شخصية‭ ‬العربي‭ (...) ‬هذا‭ ‬النسيج‭ ‬الازدواجي‭ ‬للشخصية‭ ‬العربية،‭ ‬نجده‭ ‬مبرمجاً‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬المجتمع‭ ‬بالسلطة‭ ‬التي‭ ‬ينتجها‭: ‬السلطة‭ ‬المفردنة،‭ ‬الدنيوية،‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام،‭ ‬السلطة‭ ‬الجماعية،‭ ‬المقدَّسة،‭ ‬مع‭ ‬الإسلام‭. ‬يلاحظ‭ ‬شلحت‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬ولادة‭ ‬دين‭ ‬عضوي‭ ‬أساسه‭ ‬المجتمع‭ ‬المتحد،‭ ‬ويرى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬من‭ ‬الجد‭ ‬المتنقل‭ ‬في‭ ‬قلوب‭ ‬محبيه‭ ‬الرُّحل‭ ‬إلى‭ ‬الجد‭ ‬المستقر‭ ‬في‭ ‬ضريح‭ ‬أو‭ ‬معبد‭ (‬وثن‭ - ‬صنم‭) ‬مروراً‭ ‬بالتبادل‭ ‬الاجتماعي‭ - ‬الاقتصادي،‭ ‬صارت‭ ‬المدينة‭ ‬العربية‭ ‬نفسها‭ ‬مقدّسة‭ ‬بثلاثة‭ ‬معانٍ‭: ‬معنى‭ ‬الحمى‭ ‬والحماية،‭ ‬معنى‭ ‬الحرم،‭ ‬ومعنى‭ ‬السيادة‭. ‬

وفوق‭ ‬ذلــــك‭ ‬كان‭ ‬وجه‭ ‬الشخص‭ ‬رمز‭ ‬شخصيته‭. ‬ومع‭ ‬طقس‭ ‬المؤاخاة‭ ‬أو‭ ‬الإخاء‭ ‬بين‭ ‬العرب‭ ‬بالمؤاكلة‭ ‬أو‭ ‬بالمؤادبة،‭ ‬ولدت‭ ‬علاقة‭ ‬مقدّسة‭ ‬بين‭ ‬العرب،‭ ‬وانتظم‭ ‬الكائن‭ ‬المقدّس‭ ‬في‭ ‬نظام‭ ‬المعاني‭ ‬العربية‭ ‬المقدّسة،‭ ‬قبل‭ ‬ربطها‭ ‬بالقدسي‭ ‬الأرفع‭.‬

 

الأضاحي‭ ‬عند‭ ‬العرب

كتاب‭ ‬‮«‬الأضاحي‭ ‬عند‭ ‬العرب‭... ‬أبحاث‭ ‬حول‭ ‬تطور‭ ‬شعائر‭ ‬الأضاحي،‭ ‬طبيعتها،‭ ‬وظيفتها‭ ‬في‭ ‬غرب‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‮»‬‭ ‬آخر‭ ‬ما‭ ‬عُرِّب‭ ‬من‭ ‬مؤلفات‭ ‬يوسف‭ ‬شلحت‭. ‬

ينطلق‭ ‬الإثنولوجي‭ ‬السوري‭ - ‬الفرنسي‭ ‬من‭ ‬الإسلام‭ ‬إلى‭ ‬الجاهلية‭ ‬المتأخرة،‭ ‬محدداً‭ ‬عرب‭ ‬الحجاز،‭ ‬مهد‭ ‬الإسلام‭ ‬مجال‭ ‬دراسته‭. ‬يتناول‭ ‬في‭ ‬مؤلَّفه‭ ‬المسار‭ ‬العكسي‭ ‬للأضحية‭ ‬من‭ ‬الإسلام‭ ‬إلى‭ ‬الجاهلية،‭ ‬مصنّفاً‭ ‬الأضاحي‭ ‬بتنوّعها‭ ‬واختلافها‭ ‬التي‭ ‬تراوحت‭ ‬بين‭ ‬أضاحٍ‭ ‬دامية‭ ‬وغير‭ ‬دامية‭: ‬قربانية‭/‬إيلافية،‭ ‬تكفيرية،‭ ‬وأضاحٍ‭ ‬سلبية‭ ‬وإيجابية،‭ ‬وذاتية‭ ‬وموضوعية،‭ ‬ودورية‭ ‬وافتراضية‭ ‬تبعاً‭ ‬لطبيعتها‭. ‬بغية‭ ‬توضيح‭ ‬التصنيفات‭ ‬التي‭ ‬وضعها،‭ ‬قسّم‭ ‬الأضاحي‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬المحددة‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬‮«‬الضحية‮»‬،‭ ‬والمحددة‭ ‬في‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭: ‬هَدْي‭ ‬القربان،‭ ‬والمحددة‭ ‬في‭ ‬المكان،‭ ‬وغير‭ ‬المحددة،‭ ‬أي‭ ‬المنذورة‭ ‬والمقدمة‭ ‬حسب‭ ‬الظروف‭. ‬

يقرن‭ ‬شلحت‭ ‬بين‭ ‬الطقوس‭ ‬الدينية‭ ‬التي‭ ‬تبناها‭ ‬العربي‭ ‬الجاهلي‭ ‬والقواعد‭ ‬الإصلاحية‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬أرساها‭ ‬الإسلام،‭ ‬ســواء‭ ‬في‭ ‬شعائر‭ ‬الحج‭ ‬والعمرة،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬قضايا‭ ‬تعبّدية‭ ‬أخرى‭ ‬قام‭ ‬النبي‭ ‬‭ ‬بمنع‭ ‬جزء‭ ‬كبير‭ ‬منها،‭ ‬وأضفى‭ ‬على‭ ‬بعضها‭ ‬بعداً‭ ‬روحياً‭ ‬ورمزياً‭ ‬إيمانياً‭. ‬يخلص‭ ‬شلحت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الأضحية‭ ‬العربية‭ ‬المؤسلــــمة‭ ‬ليســــت‭ ‬مجرد‭ ‬عمل‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬التقوى،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬أيضاً‭ ‬وسيلة‭ ‬لمقاربة‭ ‬الإلهي،‭ ‬تستعمل‭ ‬قوة‭ ‬الفداء‭ ‬في‭ ‬دم‭ ‬الضحية‮»‬‭.‬

 

الإثنولوجي‭ ‬المنسي‭ ‬في‭ ‬ديار‭ ‬العرب

اشتغل‭ ‬يوسف‭ ‬شلحت‭ ‬الإثنولوجي‭ ‬العربي‭ ‬بدقة‭ ‬على‭ ‬أبحاثه‭ ‬ومؤلفاته‭. ‬عمل‭ ‬طوال‭ ‬حياته‭ ‬العلمية‭ ‬على‭ ‬سير‭ ‬المقدَّس‭ ‬وتجلياته‭ ‬عند‭ ‬المسلمين‭ ‬والعرب‭. ‬لم‭ ‬تنحصر‭ ‬همومه‭ ‬المعرفية‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الاجتماع‭ ‬الديني‭ ‬وعلم‭ ‬اجتماع‭ ‬الإسلام،‭ ‬فكانت‭ ‬له‭ ‬اهتماماته‭ ‬البحثية‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وتبدى‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬أعماله‭ ‬المهمة‭ ‬عن‭ ‬اليمن‭ ‬وحضارته‭.‬

لم‭ ‬يحظ‭ ‬شلحت،‭ ‬العلامة‭ ‬الصبور،‭ ‬والمدقق،‭ ‬بالتقدير‭ ‬اللازم‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬العرب‭. ‬ولولا‭ ‬المجهود‭ ‬الذي‭ ‬بذله‭ ‬البروفيسور‭ ‬خليل‭ ‬أحمد‭ ‬خليل‭ ‬في‭ ‬نقل‭ ‬بعض‭ ‬مؤلفاته‭ ‬إلى‭ ‬العربية‭ ‬لكان‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬مجهولاً‭ ‬عند‭ ‬أبناء‭ ‬جلدته،‭ ‬خصوصاً‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يجيدون‭ ‬اللغة‭ ‬الفرنسية‭. ‬وثمة‭ ‬كتب‭ ‬أخرى‭ ‬له‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬تنقل‭ ‬إلى‭ ‬العربية‭. ‬واظب‭ ‬شلحت‭ ‬على‭ ‬دراسة‭ ‬بيئة‭ ‬الإسلام‭ ‬وبنيته‭ ‬المجتمعية،‭ ‬بحيادية‭ ‬تامة‭ ‬ومنهج‭ ‬علمي‭ ‬صارم،‭ ‬يفقده‭ ‬كثيرون‭ ‬من‭ ‬دارسي‭ ‬الإسلام‭ ‬والإنثروبولوجيين‭ ‬وعلماء‭ ‬الاجتماع‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭.‬

 

‭*‬‭ ‬المقدّس‭ ‬معناه‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬والتراث‭ ‬العربيين‭ ‬والإسلاميين‭: ‬المبارك‭ ‬والمطهر‭. ‬جاء‭ ‬في‭ ‬لسان‭ ‬العرب‭: ‬‮«‬المقدس‭: ‬المبارك،‭ ‬والأرض‭ ‬المقدسة‭: ‬المطهرة،‭ ‬وقال‭ ‬الفراء‭ ‬‮«‬الأرض‭ ‬المقدسة‭: ‬الطاهرة‮»‬‭... ‬ويقال‭: ‬أرض‭ ‬مقدّسة‭ ‬أي‭ ‬مباركة‮»‬‭. ‬وجاء‭ ‬في‭ ‬تاج‭ ‬العروس‭: ‬‮«‬البيت‭ ‬المقدّس‭: ‬لأنه‭ ‬يتطهّر‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬الذنوب‭ ‬أو‭ ‬للبركة‭ ‬التي‭ ‬فيه‮»‬،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬اشتقّ‭ ‬من‭ ‬قدس‭ ‬بضمتين‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬قدس‭ ‬بإسكان‭ ‬الثاني‭ ‬وهو‭ ‬اسم‭ ‬ومصدر،‭ ‬له‭ ‬علاقة‭ ‬بالبركة‭ ‬والطهارة،‭ ‬فقد‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬معجم‭ ‬الألفاظ‭ ‬والأعلام‭ ‬القرآنية‭: ‬‮«‬قدس‭ ‬الله‭ ‬تقديسا‭: ‬طهر‭ ‬نفسه‭ ‬له،‭ ‬وقدس‭ ‬الله‭: ‬عظمه‭ ‬وكبره،‭ ‬وقدس‭ ‬الإنسانُ‭ ‬اللهَ‭: ‬نزّهه‭ ‬عمّا‭ ‬لا‭ ‬يليق‭ ‬بألوهيته،‭ ‬وقــدّس‭ ‬الله‭ ‬فلاناً‭: ‬طهّره‭ ‬وبارك‭ ‬عليه،‭ ‬وتقدّس‭ ‬لله‭: ‬تنزّه‭ ‬عمّا‭ ‬لا‭ ‬يليق‭ ‬بجلاله،‭ ‬والقدّوس‭ ‬من‭ ‬أسماء‭ ‬الله‭ ‬الحسنى‭ ‬بمعنى‭ ‬الطاهر‭ ‬المنزّه‭ ‬عن‭ ‬النقائض‮»‬‭.‬

‭**‬‭ ‬يعرف‭ ‬علم‭ ‬الاجـــتــــماع‭ ‬الديـني‭ ‬بأنه‭ ‬العلم‭ ‬الذي‭ ‬يــدرس‭ ‬العلاقة‭ ‬المتفاعلة‭ ‬بين‭ ‬الديــــن‭ ‬والمجتــمع،‭ ‬كما‭ ‬عرف‭ ‬بأنه‭ ‬العلم‭ ‬الذي‭ ‬يدرس‭ ‬الجذور‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والظواهر‭ ‬الدينية‭ ‬وأثر‭ ‬هذه‭ ‬الظواهر‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬والبناء‭ ‬الاجتماعي‭ ‬■