عائشة التيمورية ... رائدة الأديبات العربيات في العصر الحديث

عائشة التيمورية ... رائدة الأديبات العربيات في العصر الحديث

أصابت‭ ‬الأديبات‭ ‬الأوليات‭ ‬أزمة‭ ‬نفسية‭ ‬عنيفة،‭ ‬نتيجة‭ ‬صدمة‭ ‬خروجهن‭ ‬من‭ ‬الظلام‭ ‬الطويل،‭ ‬ومواجهة‭ ‬الأضواء‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭! ‬فانطبع‭ ‬الأدب‭ ‬النسوي‭ ‬بطابع‭ ‬الحزن‭ ‬والحرمان،‭ ‬تمثّل‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬أعلام‭ ‬الأدب‭ ‬النسوي‭: ‬عائشة‭ ‬التيمورية،‭ ‬وَمَلَك‭ ‬حفني‭ ‬ناصف،‭ ‬وَمَيّ‭ ‬زيادة،‭ ‬فقد‭ ‬أصابتهن‭ ‬أزمة‭ ‬استغرقت‭ ‬حياتهن،‭ ‬وامتدت‭ ‬وتعمقت،‭ ‬فصبغتْ‭ ‬أدبهن‭ ‬بطابع‭ ‬الألم‭ ‬والتشاؤم‭ ‬والحزن‭.‬

فـ«عائشة‭ ‬التيمورية‮»‬‭ ‬الشاعرة‭ ‬النابغة،‭ ‬التي‭ ‬تعدّ‭ ‬أبرز‭  ‬الشاعرات‭ ‬العربيات‭ ‬بعد‭ ‬الخنساء،‭ ‬نشأت‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬الفكر‭ ‬ودنيا‭ ‬الأدب،‭ ‬وكانت‭ ‬أمها‭ ‬تريدها‭ ‬ربة‭ ‬بيت‭ ‬وسيدة‭ ‬قصر،‭ ‬لكنها‭ ‬اختارت‭ ‬حرفة‭ ‬الأدب‭! ‬وكان‭ ‬والدها‭ ‬يؤيدها‭ ‬في‭ ‬اتجاهها،‭ ‬ويقول‭: ‬‮«‬إنْ‭ ‬كان‭ ‬لي‭ ‬من‭ ‬عائشة‭ ‬كاتبة‭ ‬وشاعرة،‭ ‬فذلك‭ ‬سيكون‭ ‬مجلبة‭ ‬الرحمة‭ ‬لي‭ ‬بعد‭ ‬مماتي‮»‬‭.‬

تقول‭ ‬الأديبة‭ ‬ميّ‭ ‬زيادة‭ ‬في‭ ‬كتابها‭ ‬‮«‬عائشة‭ ‬التيمورية‮»‬‭: ‬‮«‬لقد‭ ‬كان‭ ‬الشِّعر‭ ‬الغزلي‭ ‬للتيمورية‭ ‬أروع‭ ‬تراثها‭ ‬الأدبي،‭ ‬وفيه‭ ‬بلغت‭ ‬شاعريتها‭ ‬أوج‭ ‬تفتحها‭ ‬وانطلاقها،‭ ‬وبه‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تتجاوز‭ ‬حدود‭ ‬المنطقة‭ ‬التي‭ ‬اعترفوا‭ ‬للشاعرة‭ ‬العربية‭ ‬بالحق‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تمارس‭ ‬نشاطها‭ ‬الفني‭ ‬داخلها،‭ ‬ففتحتْ‭ ‬بذلك‭ ‬الباب‭ ‬الموصد‭ ‬أمام‭ ‬الأديبات‭ ‬العربيات‭ ‬المعاصرات،‭ ‬وكانت‭ ‬رائدة‭ ‬اتجاه‭ ‬من‭ ‬أقوى‭ ‬الاتجاهات‭ ‬في‭ ‬الشِّعر‭ ‬النسوي‭ ‬الحديث‮»‬‭.‬

وقد‭ ‬كان‭ ‬رحيل‭ ‬‮«‬التيمورية‮»‬‭ ‬فاجعة‭ ‬أصابت‭ ‬عصرها،‭ ‬وقد‭ ‬رثاها‭ ‬الشعراء‭ ‬بقصائد‭ ‬تقطر‭ ‬دماً،‭ ‬وقصائد‭ ‬مغسولة‭ ‬بالدمع،‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬رثاء‭ ‬‮«‬باحثة‭ ‬البادية‮»‬‭ ‬لها‭ ‬بقصيدة‭ ‬‮«‬خيـر‭ ‬النسـاء‮»‬‭:‬

سنـبــقى‭ ‬بـــعــــــد‭ ‬‮«‬عــــــــائشةٍ‮»‬‭ ‬حـــيـارَى

كـسِرْبٍ‭ ‬فـي‭ ‬الفلاة‭ ‬بـغـير‭ ‬راعِ‭!‬

هـي‭ ‬الـدُّرُّ‭ ‬المـصونُ‭ ‬ببطن‭ ‬أرضٍ

وقـد‭ ‬كـانـتْ‭ ‬كذلك‭ ‬فـي‭ ‬قنـاع

هـي‭ ‬الـبحـرُ‭ ‬الخِضمُّ‭ ‬ومـا‭ ‬سمعـنـا

بأنَّ‭ ‬البحـر‭ ‬يُدفـن‭ ‬فـي‭ ‬الـتِّلاع

وكـانـت‭ ‬للـمكـارم‭ ‬خـيرَ‭ ‬عـونٍ

وللخَيْرات‭ ‬كـانـتْ‭ ‬خـيرَ‭ ‬داعِ

لهـا‭ ‬القِدْحُ‭ ‬الـمعـلَّى‭ ‬فـي‭ ‬العـوالـي

وفـي‭ ‬نشـر‭ ‬الـمعـارف‭ ‬طـولُ‭ ‬بـاع

فـيـا‭ ‬شمسَ‭ ‬الـمحـامد‭ ‬غبتِ‭ ‬عـنّا

وخلَّفتِ‭ ‬الـبكـاء‭ ‬لكلِّ‭ ‬نـاع

ويـا‭ ‬خـيرَ‭ ‬النسـاء‭ ‬بـلا‭ ‬خلافٍ

وقُدوتَنـا‭ ‬بـــلا‭ ‬أدنى‭ ‬نزاع

لقـد‭ ‬أحـيـيْتِ‭ ‬ذِكرَ‭ ‬نسـاءِ‭ ‬مـصرٍ

وجَـدَّدتِ‭ ‬العـلا‭ ‬بعـد‭ ‬انقطـاع‭!‬

 

لقد‭ ‬سيطرت‭ ‬الأزمة‭ ‬النفسية‭ ‬على‭ ‬‮«‬التيمورية‮»‬،‭ ‬وذلك‭ ‬عندما‭ ‬فقدتْ‭ ‬ابنتها‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬بلغتْ‭ ‬الثامنة‭ ‬عشرة،‭ ‬وتأهَّلتْ‭ ‬للزواج‭ ‬بالفعل،‭ ‬حيث‭ ‬فاجأها‭ ‬الموت‭ ‬بعد‭ ‬مرض‭ ‬خطير‭ ‬أذهل‭ ‬عقل‭ ‬أمها،‭ ‬فكان‭ ‬موتها‭ ‬حدثاً‭ ‬ضخماً‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الشاعرة،‭ ‬هزَّها‭ ‬هزاً،‭ ‬وطوال‭ ‬سبع‭ ‬سنوات‭ ‬كاملة‭ ‬لمْ‭ ‬تعرف‭ ‬غير‭ ‬البكاء‭ ‬والنواح‭! ‬حتى‭ ‬ضعف‭ ‬بصرها،‭ ‬وشاب‭ ‬شَعرها،‭ ‬وشاختْ‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تبلغ‭ ‬الأربعين‭! ‬وقد‭ ‬رثتْ‭ ‬ابنتها‭ ‬في‭ ‬قصائد‭ ‬عدة،‭ ‬تُعد‭ ‬من‭ ‬أفضل‭ ‬المرثيات‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭!‬

  ‬تقول‭ ‬عن‭ ‬ابنتها‭: ‬‮«‬كانت‭ ‬‮«‬توحيـدة‮»‬‭ ‬الثمرة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬ثمرات‭ ‬فؤادي،‭ ‬وهي‭ ‬نفحة‭ ‬نفسي،‭ ‬وروح‭ ‬أُنسي،‭ ‬وعندما‭ ‬بلغت‭ ‬التاسعة‭ ‬من‭ ‬عمرها،‭ ‬كنتُ‭ ‬أتمتع‭ ‬برؤيتها،‭ ‬تقضي‭ ‬يومها‭ ‬من‭ ‬الصباح‭ ‬إلى‭ ‬الظهر‭ ‬بين‭ ‬المحابر‭ ‬والأقلام،‭ ‬وتشتغل‭ ‬بقية‭ ‬يومها‭ ‬إلى‭ ‬المساء‭ ‬بإبرتها،‭ ‬فتنسج‭ ‬بها‭ ‬بدائع‭ ‬الصنائع،‭ ‬فأدعو‭ ‬لها‭ ‬بالتوفيق،‭ ‬شاعرة‭ ‬بحزني‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬فرَطَ‭ ‬مني،‭ ‬يوم‭ ‬كنتُ‭ ‬في‭ ‬سنّها‭ ‬من‭ ‬النفرة‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬العمل‮»‬‭! ‬

هكذا‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬توحيدة‮»‬‭ ‬عقدة‭ ‬حياة‭ ‬أُمها‭! ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬شاعرة‭ ‬مثلها،‭ ‬تعلّمت‭ ‬العروض،‭ ‬وفي‭ ‬أول‭ ‬مرضها،‭ ‬كانت‭ ‬تداري‭ ‬أمها‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تكشف‭ ‬علَّتها،‭ ‬فتأكل‭ ‬معها،‭ ‬ثم‭ ‬تذهب‭ ‬لتخرج‭ ‬ما‭ ‬أكلتْ‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬المرض،‭ ‬وتتركها‭ ‬لتنام‭ ‬فلا‭ ‬يغمض‭ ‬لها‭ ‬جفن،‭ ‬لدرجة‭ ‬أنها‭ ‬كتبت‭ ‬شِعراً‭ ‬نعتْ‭ ‬فيه‭ ‬نفسها،‭ ‬وكانت‭ ‬تعزّي‭ ‬أمها‭ ‬عندما‭ ‬أحسّتْ‭ ‬باقتراب‭ ‬الموت‭.‬

وكان‭ ‬هذا‭ ‬الحادث‭ ‬بعيد‭ ‬الأثر‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬التيمورية‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬يتصوره‭ ‬أحد،‭ ‬فقد‭ ‬قيل‭ ‬إنها‭ ‬أقامت‭ ‬ابنتها‭ ‬بعد‭ ‬موتها‭ ‬في‭ ‬جلوة‭ ‬الفرح‭ (‬الكوشة‭) ‬واحتفلتْ‭ ‬بزفافها،‭ ‬وهي‭ ‬مقعدةً‭ ‬إياها،‭ ‬مسندةً‭ ‬لها‭ ‬ليلة‭ ‬طويلة‭ ‬قضتها‭ ‬في‭ ‬الرقص‭ ‬والفرح،‭ ‬كأنما‭ ‬أرادت‭ ‬أن‭ ‬تعاند‭ ‬القدر،‭ ‬فتقيم‭ ‬الحفل‭ ‬الذي‭ ‬حرمها‭ ‬منه‭ ‬الموت‭! ‬ثم‭ ‬انتهت‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الحفل‭ ‬إلى‭ ‬البكاء‭ ‬والصراخ‭! ‬

وقد‭ ‬خلّدت‭ ‬ابنتها‭ ‬بِشِعرها‭ ‬فرسمت‭ ‬صورة‭ ‬الأمومة‭ ‬الملهوفة،‭ ‬وأحاسيس‭ ‬الحرمان،‭ ‬وعجز‭ ‬الطب،‭ ‬ويأس‭ ‬الطبيب،‭ ‬والأسى‭ ‬في‭ ‬الدنيا،‭ ‬والرجاء‭ ‬في‭ ‬اللقيا‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬أخرى،‭ ‬قالت‭:‬

طافتْ‭ ‬بشهر‭ ‬الصوم‭ ‬كاسات‭ ‬الردى

سحراً‭ ‬وأكواب‭ ‬الدموع‭ ‬تدور

فتناولتْ‭ ‬منها‭ ‬ابنتي‭ ‬فتغيرتْ

وَجَنَاتُ‭ ‬خدٍّ،‭ ‬شأنها‭ ‬التغيير

جاء‭ ‬الطبيب‭ ‬ضحىً‭ ‬وبشَّر‭ ‬بالشفا

إنَّ‭ ‬الطبيب‭ ‬بطبه‭ ‬مغرور

فتنفستْ‭ ‬للحزن‭ ‬قائلةً‭ ‬له

عجِّل‭ ‬ببرئي‭ ‬حيث‭ ‬أنت‭ ‬خبير

وارحم‭ ‬شبابي‭ ‬إنَّ‭ ‬والدتي‭ ‬غدتْ

ثكلى‭ ‬يشير‭ ‬لها‭ ‬الجوى‭ ‬وتشير

لمَّا‭ ‬رأتْ‭ ‬يأس‭ ‬الطبيب‭ ‬وعجزه

قالت‭ ‬ودمع‭ ‬المقلتين‭ ‬غزير

أمَّاه‭ ‬قد‭ ‬عزَّ‭ ‬اللقاء‭ ‬وفي‭ ‬غدٍ

سترينَ‭ ‬نعشي‭ ‬كالعروس‭ ‬يسير

وسينتهي‭ ‬المسعى‭ ‬إلى‭ ‬اللحد‭ ‬الذي

هو‭ ‬منزلي‭ ‬وله‭ ‬الجموع‭ ‬تصير

قولي‭ ‬لرب‭ ‬اللحد‭ ‬رِفقاً‭ ‬بابنتي

جاءت‭ ‬عروساً‭ ‬ساقها‭ ‬التقدير

وتجلّدي‭ ‬بإزاء‭ ‬لحدي‭ ‬برهةً

فتراك‭ ‬روح‭ ‬راعها‭ ‬المقدور

صوني‭ ‬جهـاز‭ ‬العرس‭ ‬تذكاراً‭ ‬فلي

قد‭ ‬كان‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬الزفاف‭ ‬سرور

أمَّاه‭ ‬لا‭ ‬تنسي‭ ‬بحق‭ ‬بنوَّتي

قبري‭ ‬لئلاَّ‭ ‬يحزن‭ ‬المقبور‭!‬

‭* * *‬

فأجبتها‭ ‬والدمع‭ ‬يحبس‭ ‬منطقي

والدهر‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬الجوار‭ ‬يجور

بنتاه‭ ‬يا‭ ‬كبدي‭ ‬ولوعة‭ ‬مهجتي

قد‭ ‬زال‭ ‬صفو‭ ‬شانه‭ ‬التكدير

لا‭ ‬توصِ‭ ‬ثكلى‭ ‬قد‭ ‬أذاب‭ ‬وتينها

حزن‭ ‬عليك‭ ‬وحسرة‭ ‬وزفير

أبكيكِ‭ ‬حتى‭ ‬نلتقي‭ ‬في‭ ‬جنةٍ

برياض‭ ‬خلدٍ‭ ‬زَيّنتها‭ ‬الحور

ولَهِي‭ ‬على‭ ‬‮«‬توحيدة‮»‬‭ ‬الحسن‭ ‬التي

قد‭ ‬غاب‭ ‬بدر‭ ‬جمالها‭ ‬المستور

قلبي‭ ‬وجفني‭ ‬واللسان‭ ‬وخالقي

راضٍ‭ ‬وباكٍ،‭ ‬شاكرٌ‭ ‬وغفور

مُتِّعْتِ‭ ‬بالرضوان‭ ‬في‭ ‬خلد‭ ‬الرضا

ما‭ ‬ازيّنتْ‭ ‬لكِ‭ ‬غرفة‭ ‬وقصور‭!‬

وسمعتِ‭ ‬قول‭ ‬الحقِّ‭ ‬للقوم‭ ‬ادخلوا‭ ‬

دار‭ ‬السلام‭ ‬فسعيكم‭ ‬مشكور‭!‬

 

‭ ‬وقد‭ ‬قاستْ‭ ‬الشَّاعرة‭ ‬الصدّاحة‭ ‬لوعة‭ ‬الحزن‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬بوفاة‭ ‬زوجها،‭ ‬ثم‭ ‬وفاة‭ ‬والدتها‭ ‬التي‭ ‬رثتها‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬هـي‭ ‬درةٌ‮»‬‭ ‬تقول‭ ‬فيها‭: 

يـا‭ ‬قبرُ‭ ‬فـاهـنأ‭ ‬بـالـتـي‭ ‬أحـرزتَها

هـي‭ ‬دُرّةٌ‭ ‬فـي‭ ‬الـدَّرْجِ‭ ‬لاحتْ‭ ‬تسطعُ

قـد‭ ‬خـانَهـا‭ ‬الدهر‭ ‬الـملِـمُّ‭ ‬فأصبحتْ

لكؤوس‭ ‬أسقـام‭ ‬الضنى‭ ‬تتجـــرَّع

حتى‭ ‬أتى‭ ‬أمـر‭ ‬الإله‭ ‬لهـا‭: ‬ادخلـــي

لـحْداً،‭ ‬وأمْرُ‭ ‬الله‭ ‬لا‭ ‬يُستـــرجَع

يـا‭ ‬ربِّ‭ ‬فـاجعـلْ‭ ‬جنةَ‭ ‬الـمأوى‭ ‬لهـا

داراً‭ ‬بطـيب‭ ‬نعـيـمهـا‭ ‬تتــمتّع

 

وقد‭ ‬امتدتْ‭ ‬أزمتها‭ ‬واشتدتْ،‭ ‬فأحرقتْ‭ ‬أشعارها‭ ‬كلها‭ ‬إلا‭ ‬القليل‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬هذه‭ ‬الفواجع‭! ‬وعن‭ ‬ذلك‭ ‬تقول‭: ‬أمَّا‭ ‬أشعاري‭ ‬بالفارسية،‭ ‬فإنها‭ ‬لما‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬محفظة‭ ‬فقيدتي‭ ‬‮«‬توحيدة‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬أحرقتها‭ ‬وهي‭ ‬بمحفظتها‭ ‬كما‭ ‬احترق‭ ‬كبدي‭! ‬ثم‭ ‬هجرت‭ ‬الشِّعر‭ ‬والحياة‭ ‬كلها‭. ‬وتقول‭: ‬أصبح‭ ‬جسمي‭ ‬الضعيف‭ ‬كأنه‭ ‬فاقد‭ ‬الحياة،‭ ‬لكثرة‭ ‬أتعابي‭ ‬وأوصابي،‭ ‬وقد‭ ‬صورتْ‭ ‬حياتها‭ ‬الحزينة‭ ‬بقولها‭: ‬

إني‭ ‬ألفتُ‭ ‬الحزنَ‭ ‬حتى‭ ‬إنني

لوْ‭ ‬غاب‭ ‬عني،‭ ‬ساءني‭ ‬التأخير‭!‬

تلقتْ‭ ‬عائشة‭ ‬التيمورية‭ ‬تعليمها‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الشيخة‭ ‬فاطمة‭ ‬الأزهرية‭... ‬تلقتْ‭ ‬عليها‭ ‬علوم‭ ‬اللغة‭ ‬والأدب‭ ‬والفقه‭ ‬الإسلامي‭. ‬وهيأت‭ ‬لها‭ ‬حياتها‭ ‬الرغدة‭ ‬أن‭ ‬تستزيد‭ ‬من‭ ‬الأدب‭ ‬واللغة،‭ ‬فاستدعت‭ ‬سيدتين‭ ‬لهما‭ ‬إلمام‭ ‬بعلوم‭ ‬الصرف‭ ‬والنحو‭ ‬والعروض،‭ ‬ودرست‭ ‬عليهما‭ ‬حتى‭ ‬برعت،‭ ‬فأتقنت‭ ‬نظم‭ ‬الشِّعر‭ ‬بالعربية،‭ ‬كما‭ ‬أتقنتْ‭ ‬اللغتيْن‭ ‬التركية‭ ‬والفارسية‭ ‬عن‭ ‬والديها‭. ‬

وقد‭ ‬برز‭ ‬اسمها‭ ‬شاعرة‭ ‬لها‭ ‬دويّ،‭ ‬وكانت‭ ‬ذات‭ ‬صلة‭ ‬بالشَّاعر‭ ‬العلامة‭ ‬حفني‭ ‬ناصف،‭ ‬فكانت‭ ‬تعرض‭ ‬عليه‭ ‬قصائدها،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ذلك،‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬الناشطات‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الاجتماعي‭.‬

‭ ‬أمَّا‭ ‬عن‭ ‬مؤلفاتها،‭ ‬فلها‭ ‬ديوان‭: ‬‮«‬حلية‭ ‬الطراز‮»‬‭ ‬ومسرحية‭ ‬بعنوان‭: ‬‮«‬اللقا‭ ‬بعد‭ ‬الشتات‮»‬،‭ ‬ولها‭ ‬رواية‭ ‬بخطها،‭ ‬لم‭ ‬تكتمل،‭ ‬ورسالة‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬بعنوان‭: ‬‮«‬نتائج‭ ‬الأحوال‭ ‬في‭ ‬الأقوال‭ ‬والأفعال‮»‬‭ ‬فيها‭ ‬قصص‭ ‬لتهذيب‭ ‬النفوس،‭ ‬ورسالة‭ ‬أخرى‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬مرآة‭ ‬التأمل‭ ‬في‭ ‬الأمور‮»‬‭ ‬دعت‭ ‬فيها‭ ‬الرجال‭ ‬إلى‭ ‬الأخذ‭ ‬بحقهم‭ ‬من‭ ‬القوامة‭ ‬على‭ ‬المرأة‭ ‬دون‭ ‬تفريط‭ ‬في‭ ‬واجبهم‭ ‬نحو‭ ‬المرأة‭ ‬من‭ ‬الرعاية‭ ‬والتكريم‭.‬

يقول‭ ‬النقاد‭ ‬عن‭ ‬شِعرها‭: ‬إنه‭ ‬طليعة‭ ‬الشِّعر‭ ‬النسوي‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬هو‭ ‬بديباجته‭ ‬وأسلوبه‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الموروث،‭ ‬وبمحتواه‭ ‬وتنوعه‭ ‬الموضوعي‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬حياة‭ ‬صاحبته‭ ‬وتجاربها،‭ ‬وتتبدّى‭ ‬شاعريتها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأغراض‭ ‬الشعرية،‭ ‬فاستمع‭ ‬إلى‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬استغاثـة‮»‬‭ ‬إذْ‭ ‬تقول‭: ‬

أتـــــيـــتُ‭ ‬لــبـــــابكَ‭ ‬الــــــعـالــــــي‭ ‬بـــذُلِّي

فإنْ‭ ‬لـمْ‭ ‬تعــــفُ‭ ‬عـن‭ ‬زلَلـي‭ ‬فـمَنْ‭ ‬لـي؟

مُــــقـــــِرّاً‭ ‬بـالـــجنـايــــــة‭ ‬وامـــــتثـالــــــي

لأسْــــــرِ‭ ‬النفــس‭ ‬فــي‭ ‬عَـــقْدي‭ ‬وحَلِّي

ومعتـرفاً‭ ‬بأوزارٍ‭ ‬ثقـــــــــالٍ

أُقـادُ‭ ‬لـحـمـلِهـا‭ ‬طـوعاً‭ ‬لجهلـي

أُقـرُّ‭ ‬بـزلَّتـي‭ ‬مـن‭ ‬قبـلُ‭ ‬كـــيْ‭ ‬لا

تَقـرَّ‭ ‬جـوارحـي‭ ‬بـالـذنـب‭ ‬قبـلي

أتـيـتُ‭ ‬ولـي‭ ‬ذنـوبٌ‭ ‬لــيس‭ ‬تُحصى

أقـول‭ ‬لراحـمـي‭ ‬بـالعفـو‭ ‬كـنْ‭ ‬لـي

فأنـتَ‭ ‬لـوحدتـي‭ ‬ولكلّ‭ ‬عــاصٍ‭ ‬

له‭ ‬رحـمـاك‭ ‬مـن‭ ‬بعـدي‭ ‬وقبـلي

لكن‭ ‬تبقى‭ ‬قصيدتها‭ ‬‮«‬الميميـة‮»‬‭ ‬من‭ ‬أروع‭ ‬ما‭ ‬جادت‭ ‬به‭ ‬قريحتها،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬توجهت‭ ‬بها‭ ‬نحو‭ ‬الرسول‭ ‬الأعظم‭ ‬،‭ ‬وقد‭ ‬نشرناها‭ ‬كاملة‭ ‬في‭ ‬كتابنا‭ ‬‮«‬بستان‭ ‬المدائح‭ ‬النبوية‮»‬‭ ‬تقول‭ ‬فيها‭:‬

‮«‬طه‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كسا‭ ‬إشراق‭ ‬بعثته

وجه‭ ‬الوجودِ‭ ‬سناء‭ ‬الرشدِ‭ ‬والكرَم

‮«‬طه‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كللتْ‭ ‬أنوار‭ ‬سُنّتهِ

تيجان‭ ‬أُمّتهِ‭ ‬فضلاً‭ ‬على‭ ‬الأُممِ

نِعمَ‭ ‬الحبيبُ‭ ‬الذي‭ ‬مَنَّ‭ ‬الرقيبُ‭ ‬بهِ

وهو‭ ‬القريبُ‭ ‬لراجي‭ ‬المجدِ‭ ‬والنعمِ

فاشفعْ‭ ‬بحب‭ ‬الذي‭ ‬أنتَ‭ ‬الحبيبُ‭ ‬لهُ

لولاكَ‭ ‬ما‭ ‬أبرزَ‭ ‬الدنيا‭ ‬من‭ ‬العدمِ

عليك‭ ‬أزكى‭ ‬صلاة‭ ‬اللهِ‭ ‬ما‭ ‬افتُتِحتْ

أدوارُ‭ ‬دهرٍ‭ ‬وما‭ ‬ولَّتْ‭ ‬بِمُختَتَمِ‭ ‬■