عائشة التيمورية ... رائدة الأديبات العربيات في العصر الحديث

أصابت الأديبات الأوليات أزمة نفسية عنيفة، نتيجة صدمة خروجهن من الظلام الطويل، ومواجهة الأضواء لأول مرة! فانطبع الأدب النسوي بطابع الحزن والحرمان، تمثّل هذا في أدب أعلام الأدب النسوي: عائشة التيمورية، وَمَلَك حفني ناصف، وَمَيّ زيادة، فقد أصابتهن أزمة استغرقت حياتهن، وامتدت وتعمقت، فصبغتْ أدبهن بطابع الألم والتشاؤم والحزن.
فـ«عائشة التيمورية» الشاعرة النابغة، التي تعدّ أبرز الشاعرات العربيات بعد الخنساء، نشأت في بيئة الفكر ودنيا الأدب، وكانت أمها تريدها ربة بيت وسيدة قصر، لكنها اختارت حرفة الأدب! وكان والدها يؤيدها في اتجاهها، ويقول: «إنْ كان لي من عائشة كاتبة وشاعرة، فذلك سيكون مجلبة الرحمة لي بعد مماتي».
تقول الأديبة ميّ زيادة في كتابها «عائشة التيمورية»: «لقد كان الشِّعر الغزلي للتيمورية أروع تراثها الأدبي، وفيه بلغت شاعريتها أوج تفتحها وانطلاقها، وبه استطاعت أن تتجاوز حدود المنطقة التي اعترفوا للشاعرة العربية بالحق في أن تمارس نشاطها الفني داخلها، ففتحتْ بذلك الباب الموصد أمام الأديبات العربيات المعاصرات، وكانت رائدة اتجاه من أقوى الاتجاهات في الشِّعر النسوي الحديث».
وقد كان رحيل «التيمورية» فاجعة أصابت عصرها، وقد رثاها الشعراء بقصائد تقطر دماً، وقصائد مغسولة بالدمع، من ذلك رثاء «باحثة البادية» لها بقصيدة «خيـر النسـاء»:
سنـبــقى بـــعــــــد «عــــــــائشةٍ» حـــيـارَى
كـسِرْبٍ فـي الفلاة بـغـير راعِ!
هـي الـدُّرُّ المـصونُ ببطن أرضٍ
وقـد كـانـتْ كذلك فـي قنـاع
هـي الـبحـرُ الخِضمُّ ومـا سمعـنـا
بأنَّ البحـر يُدفـن فـي الـتِّلاع
وكـانـت للـمكـارم خـيرَ عـونٍ
وللخَيْرات كـانـتْ خـيرَ داعِ
لهـا القِدْحُ الـمعـلَّى فـي العـوالـي
وفـي نشـر الـمعـارف طـولُ بـاع
فـيـا شمسَ الـمحـامد غبتِ عـنّا
وخلَّفتِ الـبكـاء لكلِّ نـاع
ويـا خـيرَ النسـاء بـلا خلافٍ
وقُدوتَنـا بـــلا أدنى نزاع
لقـد أحـيـيْتِ ذِكرَ نسـاءِ مـصرٍ
وجَـدَّدتِ العـلا بعـد انقطـاع!
لقد سيطرت الأزمة النفسية على «التيمورية»، وذلك عندما فقدتْ ابنتها الوحيدة التي بلغتْ الثامنة عشرة، وتأهَّلتْ للزواج بالفعل، حيث فاجأها الموت بعد مرض خطير أذهل عقل أمها، فكان موتها حدثاً ضخماً في حياة الشاعرة، هزَّها هزاً، وطوال سبع سنوات كاملة لمْ تعرف غير البكاء والنواح! حتى ضعف بصرها، وشاب شَعرها، وشاختْ قبل أن تبلغ الأربعين! وقد رثتْ ابنتها في قصائد عدة، تُعد من أفضل المرثيات في العصر الحديث!
تقول عن ابنتها: «كانت «توحيـدة» الثمرة الأولى من ثمرات فؤادي، وهي نفحة نفسي، وروح أُنسي، وعندما بلغت التاسعة من عمرها، كنتُ أتمتع برؤيتها، تقضي يومها من الصباح إلى الظهر بين المحابر والأقلام، وتشتغل بقية يومها إلى المساء بإبرتها، فتنسج بها بدائع الصنائع، فأدعو لها بالتوفيق، شاعرة بحزني على ما فرَطَ مني، يوم كنتُ في سنّها من النفرة من مثل هذا العمل»!
هكذا كانت «توحيدة» عقدة حياة أُمها! فقد كانت شاعرة مثلها، تعلّمت العروض، وفي أول مرضها، كانت تداري أمها حتى لا تكشف علَّتها، فتأكل معها، ثم تذهب لتخرج ما أكلتْ من شدة المرض، وتتركها لتنام فلا يغمض لها جفن، لدرجة أنها كتبت شِعراً نعتْ فيه نفسها، وكانت تعزّي أمها عندما أحسّتْ باقتراب الموت.
وكان هذا الحادث بعيد الأثر في نفس التيمورية إلى حد لا يكاد يتصوره أحد، فقد قيل إنها أقامت ابنتها بعد موتها في جلوة الفرح (الكوشة) واحتفلتْ بزفافها، وهي مقعدةً إياها، مسندةً لها ليلة طويلة قضتها في الرقص والفرح، كأنما أرادت أن تعاند القدر، فتقيم الحفل الذي حرمها منه الموت! ثم انتهت من هذا الحفل إلى البكاء والصراخ!
وقد خلّدت ابنتها بِشِعرها فرسمت صورة الأمومة الملهوفة، وأحاسيس الحرمان، وعجز الطب، ويأس الطبيب، والأسى في الدنيا، والرجاء في اللقيا في حياة أخرى، قالت:
طافتْ بشهر الصوم كاسات الردى
سحراً وأكواب الدموع تدور
فتناولتْ منها ابنتي فتغيرتْ
وَجَنَاتُ خدٍّ، شأنها التغيير
جاء الطبيب ضحىً وبشَّر بالشفا
إنَّ الطبيب بطبه مغرور
فتنفستْ للحزن قائلةً له
عجِّل ببرئي حيث أنت خبير
وارحم شبابي إنَّ والدتي غدتْ
ثكلى يشير لها الجوى وتشير
لمَّا رأتْ يأس الطبيب وعجزه
قالت ودمع المقلتين غزير
أمَّاه قد عزَّ اللقاء وفي غدٍ
سترينَ نعشي كالعروس يسير
وسينتهي المسعى إلى اللحد الذي
هو منزلي وله الجموع تصير
قولي لرب اللحد رِفقاً بابنتي
جاءت عروساً ساقها التقدير
وتجلّدي بإزاء لحدي برهةً
فتراك روح راعها المقدور
صوني جهـاز العرس تذكاراً فلي
قد كان منه إلى الزفاف سرور
أمَّاه لا تنسي بحق بنوَّتي
قبري لئلاَّ يحزن المقبور!
* * *
فأجبتها والدمع يحبس منطقي
والدهر من بعد الجوار يجور
بنتاه يا كبدي ولوعة مهجتي
قد زال صفو شانه التكدير
لا توصِ ثكلى قد أذاب وتينها
حزن عليك وحسرة وزفير
أبكيكِ حتى نلتقي في جنةٍ
برياض خلدٍ زَيّنتها الحور
ولَهِي على «توحيدة» الحسن التي
قد غاب بدر جمالها المستور
قلبي وجفني واللسان وخالقي
راضٍ وباكٍ، شاكرٌ وغفور
مُتِّعْتِ بالرضوان في خلد الرضا
ما ازيّنتْ لكِ غرفة وقصور!
وسمعتِ قول الحقِّ للقوم ادخلوا
دار السلام فسعيكم مشكور!
وقد قاستْ الشَّاعرة الصدّاحة لوعة الحزن قبل ذلك بوفاة زوجها، ثم وفاة والدتها التي رثتها في قصيدة بعنوان «هـي درةٌ» تقول فيها:
يـا قبرُ فـاهـنأ بـالـتـي أحـرزتَها
هـي دُرّةٌ فـي الـدَّرْجِ لاحتْ تسطعُ
قـد خـانَهـا الدهر الـملِـمُّ فأصبحتْ
لكؤوس أسقـام الضنى تتجـــرَّع
حتى أتى أمـر الإله لهـا: ادخلـــي
لـحْداً، وأمْرُ الله لا يُستـــرجَع
يـا ربِّ فـاجعـلْ جنةَ الـمأوى لهـا
داراً بطـيب نعـيـمهـا تتــمتّع
وقد امتدتْ أزمتها واشتدتْ، فأحرقتْ أشعارها كلها إلا القليل في ظل هذه الفواجع! وعن ذلك تقول: أمَّا أشعاري بالفارسية، فإنها لما كانت في محفظة فقيدتي «توحيدة»، فقد أحرقتها وهي بمحفظتها كما احترق كبدي! ثم هجرت الشِّعر والحياة كلها. وتقول: أصبح جسمي الضعيف كأنه فاقد الحياة، لكثرة أتعابي وأوصابي، وقد صورتْ حياتها الحزينة بقولها:
إني ألفتُ الحزنَ حتى إنني
لوْ غاب عني، ساءني التأخير!
تلقتْ عائشة التيمورية تعليمها على يد الشيخة فاطمة الأزهرية... تلقتْ عليها علوم اللغة والأدب والفقه الإسلامي. وهيأت لها حياتها الرغدة أن تستزيد من الأدب واللغة، فاستدعت سيدتين لهما إلمام بعلوم الصرف والنحو والعروض، ودرست عليهما حتى برعت، فأتقنت نظم الشِّعر بالعربية، كما أتقنتْ اللغتيْن التركية والفارسية عن والديها.
وقد برز اسمها شاعرة لها دويّ، وكانت ذات صلة بالشَّاعر العلامة حفني ناصف، فكانت تعرض عليه قصائدها، إلى جانب ذلك، كانت من أبرز الناشطات في المجال الاجتماعي.
أمَّا عن مؤلفاتها، فلها ديوان: «حلية الطراز» ومسرحية بعنوان: «اللقا بعد الشتات»، ولها رواية بخطها، لم تكتمل، ورسالة في الأدب بعنوان: «نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال» فيها قصص لتهذيب النفوس، ورسالة أخرى بعنوان «مرآة التأمل في الأمور» دعت فيها الرجال إلى الأخذ بحقهم من القوامة على المرأة دون تفريط في واجبهم نحو المرأة من الرعاية والتكريم.
يقول النقاد عن شِعرها: إنه طليعة الشِّعر النسوي في العصر الحديث، هو بديباجته وأسلوبه أقرب إلى الموروث، وبمحتواه وتنوعه الموضوعي أقرب إلى حياة صاحبته وتجاربها، وتتبدّى شاعريتها في كل الأغراض الشعرية، فاستمع إلى قصيدة «استغاثـة» إذْ تقول:
أتـــــيـــتُ لــبـــــابكَ الــــــعـالــــــي بـــذُلِّي
فإنْ لـمْ تعــــفُ عـن زلَلـي فـمَنْ لـي؟
مُــــقـــــِرّاً بـالـــجنـايــــــة وامـــــتثـالــــــي
لأسْــــــرِ النفــس فــي عَـــقْدي وحَلِّي
ومعتـرفاً بأوزارٍ ثقـــــــــالٍ
أُقـادُ لـحـمـلِهـا طـوعاً لجهلـي
أُقـرُّ بـزلَّتـي مـن قبـلُ كـــيْ لا
تَقـرَّ جـوارحـي بـالـذنـب قبـلي
أتـيـتُ ولـي ذنـوبٌ لــيس تُحصى
أقـول لراحـمـي بـالعفـو كـنْ لـي
فأنـتَ لـوحدتـي ولكلّ عــاصٍ
له رحـمـاك مـن بعـدي وقبـلي
لكن تبقى قصيدتها «الميميـة» من أروع ما جادت به قريحتها، وهي التي توجهت بها نحو الرسول الأعظم ، وقد نشرناها كاملة في كتابنا «بستان المدائح النبوية» تقول فيها:
«طه» الذي كسا إشراق بعثته
وجه الوجودِ سناء الرشدِ والكرَم
«طه» الذي كللتْ أنوار سُنّتهِ
تيجان أُمّتهِ فضلاً على الأُممِ
نِعمَ الحبيبُ الذي مَنَّ الرقيبُ بهِ
وهو القريبُ لراجي المجدِ والنعمِ
فاشفعْ بحب الذي أنتَ الحبيبُ لهُ
لولاكَ ما أبرزَ الدنيا من العدمِ
عليك أزكى صلاة اللهِ ما افتُتِحتْ
أدوارُ دهرٍ وما ولَّتْ بِمُختَتَمِ ■