ماري عجمي ومجلتها «العروس»

ماري عجمي  ومجلتها «العروس»

ماري‭ ‬عجمي‭ (‬1888‭ - ‬1965‭) ‬رائدة‭ ‬من‭ ‬الرائدات‭ ‬البارزات‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬منذ‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬عملت‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬الصحافة‭ ‬والأدب‭ ‬والشعر‭ ‬والتعليم‭ ‬والعمل‭ ‬الوطني‭ ‬والإصلاح‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وسعت‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬النهوض‭ ‬بالمرأة‭ ‬العربية‭. ‬أنشأت‭ ‬سنة‭ ‬1910‭ ‬أول‭ ‬مجلة‭ ‬نسائية‭ ‬في‭ ‬سورية،‭ ‬هي‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬العروس‮»‬‭.‬

وُلدت‭ ‬ماري‭ ‬عجمي‭ ‬في‭ ‬دمشق‭ ‬في‭ ‬الرابع‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬مايو‭ ‬سنة‭ ‬1888،‭ ‬وعاشت‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬قديم‭ ‬من‭ ‬أحياء‭ ‬دمشق‭ ‬يسمى‭ ‬‮«‬الحارة‭ ‬الجوانية‮»‬‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬توما‭.‬

درست‭ ‬في‭ ‬دمشق‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬الأرلندية‭ ‬وهي‭ ‬ابنة‭ ‬خمس‭ ‬سنوات،‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬الروسية‭ ‬إلى‭ ‬سن‭ ‬الخامسة‭ ‬عشرة،‭ ‬كما‭ ‬بدأت‭ ‬دراسة‭ ‬التمريض‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬سنة‭ ‬1906،‭ ‬ولكنها،‭ ‬لأسباب‭ ‬صحية،‭ ‬لم‭ ‬تكمل‭ ‬تخصصها‭... ‬مارست‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬زحلة‭ (‬1903‭ - ‬1904‭) ‬وفي‭ ‬بورسعيد‭ ‬في‭ ‬مصر‭ (‬1908‭) ‬والإسكندرية‭ (‬1909‭)‬،‭ ‬وعلّمت‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬الروسية‭ ‬وفي‭ ‬معهد‭ ‬الفرنسيسكان‭ ‬في‭ ‬دمشق،‭ ‬ودرّست‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬والعراق‭.‬

عاشت‭ ‬ماري‭ ‬عجمي‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬عصيبة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭ ... ‬عهد‭ ‬الاستعمار‭ ‬العثماني‭ ‬وما‭ ‬خلّفه‭ ‬من‭ ‬ظلم‭ ‬وطغيان،‭ ‬يوم‭ ‬كانت‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭ ‬تواجه‭ ‬دعوات‭ ‬التتريك،‭ ‬وعصر‭ ‬الانتداب‭ ‬الفرنسي‭ ‬على‭ ‬سورية‭ ‬ولبنان،‭ ‬فكانت‭ ‬رائدة‭ ‬بارزة‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬الرائدات‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭.‬

ولم‭ ‬ينحصر‭ ‬نشاطها‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬والصحافة‭ ‬والكتابة‭ ‬ونظم‭ ‬الشعر،‭ ‬بل‭ ‬دأبت‭ ‬على‭ ‬غرس‭ ‬الحسّ‭ ‬الوطني‭ ‬الصحيح‭ ‬في‭ ‬صدور‭ ‬الطالبات‭ ‬وتوجيههنّ‭ ‬إلى‭ ‬الخط‭ ‬القويم،‭ ‬كما‭ ‬غرست‭ ‬في‭ ‬نفوسهن‭ ‬اليافعة‭ ‬بذور‭ ‬مناهضة‭ ‬الحكم‭ ‬العثماني،‭ ‬وعملت‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وأسست‭ ‬نوادي‭ ‬وجمعيات‭ ‬نسائية،‭ ‬كالنادي‭ ‬الأدبي‭ ‬النسائي‭ ‬سنة‭ ‬1920‭ ‬في‭ ‬دمشق،‭ ‬وجمعية‭ ‬نور‭ ‬الفيحاء‭ ‬وناديها،‭ ‬ومدرسة‭ ‬لبنات‭ ‬الشهداء‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬ذاتها‭.‬

وفي‭ ‬مسيرتها‭ ‬النضالية‭ ‬التقت‭ ‬بالمناضل‭ ‬بترو‭ ‬باولي،‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تسميه‭ ‬‮«‬الباتر‮»‬‭ ‬وأحبته‭ ‬وتواعدا‭ ‬على‭ ‬الزواج،‭ ‬وقد‭ ‬جمعت‭ ‬بينهما‭ ‬روح‭ ‬النضال‭ ‬والكفاح‭ ‬ومحاربة‭ ‬الظلم‭ ‬والاستبداد‭ ‬العثماني‭.‬

ولكن‭ ‬حظها‭ ‬كان‭ ‬سيئاً،‭ ‬لأن‭ ‬خطيبها‭ ‬قبض‭ ‬عليه‭ ‬الأتراك‭ ‬وسُجن،‭ ‬ثم‭ ‬أُعدم‭ ‬مع‭ ‬من‭ ‬أعدم‭ ‬من‭ ‬الشهداء‭ ‬الأبرار‭ ‬الذين‭ ‬قضى‭ ‬عليهم‭ ‬السفاح‭ ‬جمال‭ ‬باشا‭ ‬سنة‭ ‬1916،‭ ‬وهي‭ ‬كانت‭ ‬تتحدى‭ ‬الجنود‭ ‬الأتراك‭ ‬وتذهب‭ ‬إلى‭ ‬زيارته‭ ‬في‭ ‬سجنه‭ ‬في‭ ‬دمشق،‭ ‬وتنقل‭ ‬إليه‭ ‬الرسائل‭ ‬وتشجعه‭ ‬وتشد‭ ‬من‭  ‬أزره‭. ‬وكان‭ ‬باولي‭ ‬وكيل‭ ‬مجلتها‭ ‬‮«‬العروس‮»‬‭ ‬في‭ ‬بيروت،‭ ‬وقد‭ ‬سبّب‭ ‬شنق‭ ‬حبيبها‭ ‬بترو‭ ‬باولي‭ ‬لها‭ ‬حزناً‭ ‬شديداً،‭ ‬وزاد‭ ‬في‭ ‬ثورتها‭ ‬ونقمتها‭ ‬على‭ ‬الأتراك،‭ ‬وأخذت‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬بقلمها‭ ‬الدامي،‭ ‬فكتبت‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬المقالات‭ ‬في‭ ‬ذكرى‭ ‬6‭ ‬مايو،‭ ‬ذكرى‭ ‬شهداء‭ ‬1916‭... ‬ولم‭ ‬تتزوج‭.‬

تابعت‭ ‬ماري‭ ‬خط‭ ‬نضالها‭ ‬على‭ ‬جبهاتها‭ ‬الثلاث‭: ‬الكتابة،‭ ‬الخطابة،‭ ‬التعليم،‭ ‬وكانت‭ ‬تلجأ‭ ‬إلى‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬المواقف‭ ‬الحماسية،‭ ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬يعبّر‭ ‬بشكل‭ ‬أقوى‭ ‬وأغنى‭ ‬عما‭ ‬يجيش‭ ‬في‭ ‬صدرها‭ ‬من‭ ‬براكين‭ ‬الغضب‭.‬

وهي‭ ‬لم‭ ‬تنسَ‭ ‬حبيبها‭ ‬الذي‭ ‬ذهب‭ ‬ضحية‭ ‬الغدر‭ ‬والظلم‭ ‬والاستبداد،‭ ‬وكان‭ ‬الحزن‭ ‬يتشظّى‭ ‬في‭ ‬قلبها‭ ‬ويدفعها‭ ‬إلى‭ ‬متابعة‭ ‬النضال‭ ‬ضد‭ ‬الأتراك‭ ‬وضد‭ ‬الظلم‭ ‬وضد‭ ‬الاستبداد،‭ ‬ويزيدها‭ ‬دفاعاً‭ ‬عن‭ ‬وطنها‭ ‬وعزته‭ ‬واستقلاله،‭ ‬فتناشد‭ ‬أبناء‭ ‬وطنها‭ ‬أن‭ ‬يلتفتوا‭ ‬إلى‭ ‬ثروات‭ ‬أرضهم‭ ‬واستثمارها،‭ ‬ويقفوا‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬المستعمر‭ ‬الذي‭ ‬يسلبهم‭ ‬خيرات‭ ‬بلادهم‭ ‬ولقمة‭ ‬عيشهم‭.‬

 

ماري‭ ‬عجمي‭ ‬الصحفية‭... ‬مجلة‭ ‬‮«‬العروس‮»‬

أنشأت‭ ‬ماري‭ ‬عجمي‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬العروس‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1910‭ ‬في‭ ‬دمشق،‭ ‬واستمرت‭ ‬إلى‭ ‬سنة‭ ‬1914،‭ ‬حين‭ ‬توقفت‭ ‬بسبب‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ (‬1914‭ - ‬1918‭)‬،‭ ‬وبعد‭ ‬انتهاء‭ ‬الحرب‭ ‬أعادت‭ ‬إصدارها‭ ‬حتى‭ ‬1926‭ ‬حين‭ ‬توقفت‭ ‬نهائياً،‭ ‬وكانت‭ ‬‮«‬العروس‮»‬‭ ‬مجلة‭ ‬نسائية‭ ‬علمية‭ ‬أدبية‭ ‬صحية‭ ‬فكاهية،‭ ‬جعلت‭ ‬شعارها‭ ‬‮«‬إن‭ ‬الإكرام‭ ‬قد‭ ‬أعطي‭ ‬للنساء‭ ‬لتزيّن‭ ‬الأرض‭ ‬بأزهار‭ ‬السماء‮»‬‭.‬

تقول‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬مجلتها‭: ‬‮«‬إليك‭ ‬العروس‮»‬،‭ ‬فرحبي‭ ‬بها‭ ‬غير‭ ‬مأمورة،‭ ‬ليذهب‭ ‬عنها‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬حيائها،‭ ‬فتُسِر‭ ‬إليكِ‭ ‬بمكنونات‭ ‬قلبها‭ ‬وشعائر‭ ‬موقفها‭.‬

عروسة‭ ‬لا‭ ‬عريس‭ ‬لها‭ ‬سوى‭ ‬الشعب‭ ‬الجاثي‭ ‬على‭ ‬أقدام‭ ‬حريته،‭ ‬يطلب‭ ‬بركة‭ ‬الوطنية‭ ‬تحت‭ ‬سماء‭ ‬العِلم‭ ‬والعَلَم،‭ ‬مسجلاً‭ ‬عقد‭ ‬قرانه‭ ‬عليها‭ ‬بمداد‭ ‬الفكر‭ ‬والقلب،‭ ‬مكللاً‭ ‬رأسيهما‭ ‬ببراعم‭ ‬الآمال‭ ‬وأزهار‭ ‬الحب‮»‬‭.‬

إلى‭ ‬أن‭ ‬تقول‭: ‬‮«‬إلى‭ ‬الذين‭ ‬يؤمنون‭ ‬بأن‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬المرأة‭ ‬قوة‭ ‬تميت‭ ‬جراثيم‭ ‬الفساد،‭ ‬وأن‭ ‬في‭ ‬يدها‭ ‬سلاحاً‭ ‬يمزق‭ ‬غياهب‭ ‬الاستبداد،‭ ‬وأن‭ ‬في‭ ‬فمها‭ ‬العزاء‭ ‬يخفف‭ ‬وطأة‭ ‬الشقاء‭ ‬البشري،‭ ‬إلى‭ ‬الذين‭ ‬بهم‭ ‬الغيرة‭ ‬والحميّة،‭ ‬إلى‭ ‬الذين‭ ‬يمدّون‭ ‬أيديهم‭ ‬لإنقاذ‭ ‬بنات‭ ‬جنسهم‭ ‬من‭ ‬مهاوي‭ ‬هذا‭ ‬الوسط‭ ‬المشوّه‭ ‬بانتشار‭ ‬الأوهام‭... ‬أقدّم‭ ‬مجلتي،‭ ‬لا‭ ‬كضريبة‭ ‬تثقل‭ ‬بها‭ ‬عواتقهم،‭ ‬بل‭ ‬كتقدمة‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬يليق‭ ‬بهم‭ ‬الإكرام،‭ ‬وتناط‭ ‬بهم‭ ‬الآمال‮»‬‭.‬

ولو‭ ‬استعرضنا‭ ‬أسماء‭ ‬الأدباء‭ ‬والكتّاب‭ ‬والشعراء‭ ‬الذين‭ ‬شاركوا‭ ‬في‭ ‬تحريرها،‭ ‬لوجدنا‭ ‬أنها‭ ‬ضمّت‭ ‬كبار‭ ‬الأدباء‭ ‬والشعراء‭ ‬الذين‭ ‬عاصروها،‭ ‬أمثال‭: ‬جبران‭ ‬خليل‭ ‬جبران،‭ ‬ميخائيل‭ ‬نعيمة،‭ ‬إيليا‭ ‬أبوماضي،‭ ‬جميل‭ ‬صدقي‭ ‬الزهاوي،‭ ‬إسماعيل‭ ‬صبري،‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي،‭ ‬حافظ‭ ‬إبراهيم،‭ ‬شبلي‭ ‬الملاط،‭ ‬الشاعر‭ ‬القروي‭ (‬رشيد‭ ‬سليم‭ ‬الخوري‭)‬،‭ ‬الأخطل‭ ‬الصغير‭ (‬بشارة‭ ‬عبدالله‭ ‬الخوري‭)‬،‭ ‬إلياس‭ ‬أبوشبكة،‭ ‬بدوي‭ ‬الجبل،‭ ‬أمين‭ ‬ناصر‭ ‬الدين،‭ ‬وليّ‭ ‬الدين‭ ‬يَكَن،‭ ‬خليل‭ ‬مطران،‭ ‬عيسى‭ ‬إسكندر‭ ‬المعلوف،‭ ‬شفيق‭ ‬جبري،‭ ‬صلاح‭ ‬اللبابيدي،‭ ‬فؤاد‭ ‬صروف،‭ ‬فيلكس‭ ‬فارس،‭ ‬سليم‭ ‬سركيس،‭ ‬محمود‭ ‬عباس‭ ‬العقاد،‭ ‬إبراهيم‭ ‬المازني،‭ ‬فارس‭ ‬الخوري‭ ... ‬وسواهم،‭ ‬وإلى‭ ‬جانب‭ ‬هؤلاء‭ ‬نجد‭ ‬أسماء‭ ‬بعض‭ ‬النساء،‭ ‬أمثال‭ ‬روز‭ ‬شحفة،‭ ‬والدكتورة‭ ‬أنس‭ ‬بركات‭ - ‬زوجة‭ ‬نصير‭ ‬المرأة‭ ‬جرجي‭ ‬نقولا‭ ‬باز‭ - ‬وسلمى‭ ‬كساب،‭ ‬ونازك‭ ‬العابد‭... ‬وسواهنّ‭.‬

وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬برزت‭ ‬ماري‭ ‬عجمي‭ ‬خطيبة‭ ‬بليغة‭ ‬تدعوها‭ ‬الجمعيات‭ ‬والأندية‭ ‬لتلقي‭ ‬على‭ ‬منابرها‭ ‬خطباً‭ ‬بليغة‭ ‬كانت‭ ‬تنشرها‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬في‭ ‬مجلتها،‭ ‬حيث‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬العدد‭ ‬تلو‭ ‬العدد‭ ‬عنواناً‭ ‬لخطبة‭ ‬من‭ ‬خطبها‭ ‬واسم‭ ‬النادي‭ ‬أو‭ ‬الجمعية‭ ‬التي‭ ‬ألقتها‭ ‬على‭ ‬منبرها،‭ ‬ولم‭ ‬يقتصر‭ ‬عمل‭ ‬هذه‭ ‬الخطيبة‭ ‬البليغة‭ ‬والأديبة‭ ‬اللامعة‭ ‬على‭ ‬ميدان‭ ‬البيان،‭ ‬بل‭ ‬أضافت‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬المآثر‭ ‬خدمات‭ ‬اجتماعية‭ ‬جلّة،‭ ‬كانت‭ ‬قضية‭ ‬ما‭ ‬يدعى‭ ‬بتحرير‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬عهدها‭ ‬أدق‭ ‬القضايا‭ ‬المطروحة‭ ‬على‭ ‬بساط‭ ‬الإصلاح‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬فخصصت‭ ‬مجلتها‭ ‬‮«‬العروس‮»‬‭ ‬لمعالجة‭ ‬هذه‭ ‬القضية،‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬رفع‭ ‬مستوى‭ ‬المرأة‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬أغلب‭ ‬خطبها‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع،‭ ‬داعية‭ ‬إلى‭ ‬مكارم‭ ‬الأخلاق‭ ‬والفضيلة‭ ‬والترقي‭.‬

 

ماري‭ ‬عجمي‭ ‬الشاعرة

رُزقت‭ ‬ماري‭ ‬عجمي‭ ‬موهبة‭ ‬شعرية‭ ‬قلما‭ ‬نرى‭ ‬مثلها‭ ‬عند‭ ‬شاعرات‭ ‬اليوم،‭ ‬ولو‭ ‬أنها‭ ‬تفرّغت‭ ‬لنظم‭ ‬الشعر‭ ‬ولم‭ ‬تصرف‭ ‬جل‭ ‬وقتها‭ ‬في‭ ‬التدريس‭ ‬والترجمة‭ ‬وتحرير‭ ‬مجلتها‭ ‬‮«‬العروس‮»‬‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬حقوق‭ ‬الشعب‭ ‬والمرأة‭ ‬خاصة،‭ ‬لتركت‭ ‬لنا‭ ‬ديواناً‭ ‬ضخماً‭. ‬ولكن‭ ‬مع‭ ‬الأسف‭ ‬ضاع‭ ‬بعض‭ ‬شعرها‭ ‬وبعضه‭ ‬سُرق‭ ‬وبعضه‭ ‬مازال‭ ‬مطوياً‭ ‬ينتظر‭ ‬من‭ ‬ينفض‭ ‬عنه‭ ‬الغبار‭ ‬وينشره‭.‬

أكثر‭ ‬شعرها‭ ‬فـــــــي‭ ‬وصف‭ ‬الطبيعة،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬طبيعة‭ ‬دمشق‭ ‬وغوطتها‭ ‬وبســــــــاتينها‭ ‬الخلابة،‭ ‬وجمال‭ ‬طبيعة‭ ‬لبنان،‭ ‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬ـفصل‭ ‬الربيع‭.‬

إن‭ ‬شعر‭ ‬الطبيعة‭ ‬يوشك‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬القاسم‭ ‬المشترك‭ ‬لشعر‭ ‬ماري‭ ‬عجمي،‭ ‬فدمشق‭ ‬التي‭ ‬ألهمت‭ ‬طبيعتها‭ ‬الفنانة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬شاعر‭ ‬زارها‭ ‬أو‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬أحضانها،‭ ‬من‭ ‬البدهي‭ ‬أن‭ ‬تمد‭ ‬شاعرتنا‭ ‬الذوّاقة‭ ‬بألف‭ ‬خاطرة‭ ‬وألف‭ ‬معنى،‭ ‬وإذا‭ ‬هي‭ ‬لم‭ ‬تخرج‭ ‬إلى‭ ‬الغوطة‭ ‬فدارها‭ ‬الفسيحة‭ ‬الشجراء‭ ‬غوطة‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬غوطة،‭ ‬تزدهي‭ ‬بالورد‭ ‬والريحان،‭ ‬يعبق‭ ‬شذاهما‭ ‬بما‭ ‬يملأ‭ ‬الصدر‭ ‬انشراحاً‭ ‬وارتياحاً،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬كان‭ ‬للربيع‭ ‬في‭ ‬شعرها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬تذكر‭ ‬فيها‭ ‬الشام‭ ‬التي‭ ‬ترتبط‭ - ‬في‭ ‬ذهنها‭ - ‬بالزهر‭ ‬والعبير‭ ‬والشجر‭ ‬والظلال‭ ‬والثمار‭:‬

‮«‬خلّ‭ ‬اللواعجَ‭ ‬والفِكَر

فلقد‭ ‬أضرّ‭ ‬بك‭ ‬السهرْ

وامرح‭ ‬بجــــناتِ‭ ‬الـــــشآ

مِ‭ ‬مـــع‭ ‬العـــبيرِ‭ ‬المنتشر

حيث‭ ‬الربيع‭ ‬مخيّم

والمــوج‭ ‬يــــعبث‭ ‬بـــالدرر

سالَ‭ ‬اللجينُ‭ ‬بمائه

يجلي‭ ‬الخميلةَ‭ ‬والزَّهَر

أنا‭ ‬أعشقُ‭ ‬الأزهار‭ ‬ما

احتجب‭ ‬الربيعُ‭ ‬وما‭ ‬سَفَر

أهوى‭ ‬الخُزامَ‭ ‬وما‭ ‬روت

عنه‭ ‬نسيماتُ‭ ‬السَّحَر

وأُحب‭ ‬ثرثرة‭ ‬الشوا

دي‭ ‬في‭ ‬ظليل‭ ‬المنحدَر

مــــــن‭ ‬لا‭ ‬تشـــرفه‭ ‬المـــنى

ويذوب‭ ‬من‭ ‬وجد‭ ‬وحر

جهل‭ ‬الحياة‭ ‬وفتنة‭ ‬السحـ

رِ‭ ‬الحلال‭ ‬وما‭ ‬غمر

وغدا‭ ‬كغصنٍ‭ ‬قد‭ ‬ذوى

لا‭ ‬زهرَ‭ ‬يرجى‭ ‬أو‭ ‬ثمر‮»‬‭.‬

وهي‭ ‬كانت‭ ‬تحب‭ ‬دمشق‭ ‬بالغ‭ ‬الحب‭ ‬وتؤثرها‭ ‬بالغ‭ ‬الإيثار،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬إيثارها‭ ‬لها‭ ‬تخصُّها‭ ‬بقصيدة‭ ‬أو‭ ‬موشح‭ ‬بديع،‭ ‬كأنه‭ ‬نجوى‭ ‬المحب‭ ‬للمحبوب،‭ ‬تقول‭ ‬وهي‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬جلّق‭ ‬مشتاقة‭ ‬لرياضها‭ ‬وغوطتها‭ ‬ومحاسنها‭:‬

‮«‬دمشق‭ ‬إذا‭ ‬غبتِ‭ ‬عن‭ ‬ناظري

فرسمك‭ ‬في‭ ‬حسنه‭ ‬الزاهرِ

مقيمٌ‭ ‬على‭ ‬الدهر‭ ‬في‭ ‬خاطري‮»‬

كما‭ ‬أننا‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬شعرها‭ ‬بوحاً‭ ‬بالحب‭ ‬وتحسُّراً‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬فات‭ ‬من‭ ‬الصبا‭ ‬وما‭ ‬تعانيه‭ ‬من‭ ‬الوحدة‭ ‬والوحشة‭:‬

‮«‬فلا‭ ‬ظلٌ‭ ‬ولا‭ ‬ورقٌ‭ ‬يقيني

هزيمَ‭ ‬الرعدِ‭ ‬في‭ ‬حلكِ‭ ‬السماء

ولا‭ ‬أنسٌ‭ ‬يطيب‭ ‬ولا‭ ‬حبيب

يرد‭ ‬بجنحه‭ ‬عصفَ‭ ‬الشقاء

ولا‭ ‬قلبٌ‭ ‬يجيب‭ ‬صدى‭ ‬حنيني

ولا‭ ‬عينٌ‭ ‬تتوق‭ ‬إلى‭ ‬لقائي

كأني‭ ‬للنوائب‭ ‬صرت‭ ‬أهلاً

أداوي‭ ‬داءها‭ ‬فيعز‭ ‬دائي

على‭ ‬روض‭ ‬الشباب‭ ‬نثرتُ‭ ‬دمعي

عسى‭ ‬تخضرّ‭ ‬أعوادُ‭ ‬الرجاء‮»‬‭.‬

ولما‭ ‬توفي‭ ‬أمير‭ ‬الشعراء‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭ (‬1868‭ - ‬1932‭) ‬نظمت‭ ‬موشحاً‭ ‬جميلاً،‭ ‬قالت‭ ‬فيه‭:‬

هزوا‭ ‬الغصون‭ ‬لعله‭ ‬نائم

سكران‭ ‬في‭ ‬عش‭ ‬الهوى‭ ‬حالمْ‭...‬

فالخلدُ‭ ‬فوق‭ ‬رياضه‭ ‬حائم

وقد‭ ‬أعجب‭ ‬الشاعر‭ ‬والأديب‭ ‬أمين‭ ‬نخلة‭ (‬1901‭ - ‬1976‭) ‬بقولها‭ ‬‮«‬هزوا‭ ‬الغصون‭ ‬لعله‭ ‬نائم‮»‬‭  ‬فهي‭ ‬تعتقد‭ ‬أن‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭ ‬لم‭ ‬يمت،‭ ‬إنه‭ ‬نائم،‭ ‬فكيف‭ ‬يموت‭ ‬أمير‭ ‬الشعراء؟‭ ‬ولما‭ ‬سمع‭ ‬أمين‭ ‬مطلع‭ ‬قصيدتها‭ ‬هذه‭ ‬انتشى‭ ‬بهذا‭ ‬المطلع،‭ ‬وقال‭ ‬لها‭: ‬‮«‬أعطني‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬وخذي‭ ‬من‭ ‬شعري‭ ‬ما‭ ‬شئتِ‮»‬‭ ‬وراح‭ ‬يردد‭:‬‭ ‬هزّوا‭ ‬الغصون‭ ‬لعله‭ ‬نائم‭! ‬وهو‭ ‬قد‭ ‬استعار‭ ‬قولها‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬أمير‭ ‬الشعراء‭ ‬في‭ ‬تأبينها‭ ‬في‭ ‬أربعينها،‭ ‬فاستهل‭ ‬كلمته‭: ‬‮«‬ما‭ ‬لهم‭ ‬لا‭ ‬يهزون‭ ‬الغصون،‭ ‬فعلها‭ ‬نائمة‮»‬‭!‬

هذه‭ ‬هي‭ ‬ماري‭ ‬عجمي،‭ ‬الشاعرة‭ ‬التي‭ ‬غنّت‭ ‬لواعج‭ ‬نفسها‭ ‬ووصفت‭ ‬الطبيعة،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬مُقلّة‭ ‬‮«‬فإن‭ ‬الزهر‭ ‬ببعض‭ ‬العطر‭ ‬يُختصرُ‮»‬‭.‬

وخير‭ ‬ما‭ ‬نختم‭ ‬به،‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬أمين‭ ‬نخلة‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬حفل‭ ‬تأبينها‭:‬

‮«‬أما‭ ‬الشعر‭ ‬فإن‭ ‬ماري‭ ‬عجمي‭ ‬لم‭ ‬تجنح‭ ‬إلى‭ ‬نظمه‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تتحرك‭ ‬له‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬الأحيان‭ ‬من‭ ‬حب‭ ‬للإيقاع‭ ‬وطرب‭ ‬للنغمة،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المخايل‭ ‬السامية‭ ‬يلوح‭ ‬فيها‭ ‬لطائفة‭ ‬من‭ ‬عيون‭ ‬البشر‭ ‬النادر‭ ‬العزيز‭ ‬من‭ ‬ملامح‭ ‬الاتصال‭ ‬بين‭ ‬الأرض‭ ‬والسماء‭.‬

وهي‭ ‬في‭ ‬النظم‭ ‬ما‭ ‬عرفت‭ ‬احتفالاً‭ ‬ولا‭ ‬تعملاً،‭ ‬فإنما‭ ‬شعرها‭ ‬أشبه‭ ‬شيء‭ ‬بالزهر‭ ‬الزكي‭ ‬في‭ ‬جبالنا‭ ‬اللبنانية‭ ‬أيام‭ ‬الربيع،‭ ‬يخرج‭ ‬إذ‭ ‬يخرج،‭ ‬فلا‭ ‬يدري‭ ‬أحد‭ ‬كيف‭ ‬طلع‭ ‬من‭ ‬قلب‭ ‬الأرض‭.‬

وليس‭ ‬عجباً‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬العلاقة‭ ‬شديدة‭ ‬بين‭ ‬القليل‭ ‬الذي‭ ‬نظمته‭ ‬والكثير‭ ‬الذي‭ ‬كتبته،‭ ‬فإنهما‭ ‬سُقيا‭ ‬من‭ ‬غمام‭ ‬واحد،‭ ‬هو‭ ‬الطبع‭ ‬وهو‭ ‬الذوق،‭ ‬وهو‭ ‬رونق‭ ‬الفصاحة‮»‬‭.‬

هذه‭ ‬هي‭ ‬الأديبة‭ ‬والشاعرة‭ ‬والصحفية‭ ‬ماري‭ ‬عجمي،‭ ‬التي‭ ‬عاشت‭ ‬حياة‭ ‬مليئة‭ ‬بالأحداث،‭ ‬وكانت‭ ‬لها‭ ‬مساهمة‭ ‬فاعلة‭ ‬في‭ ‬مجتمعها،‭ ‬وخاصة‭ ‬المجتمع‭ ‬النسائي‭.‬

توفيت‭ ‬في‭ ‬دمشق‭ ‬في‭ ‬20‭ ‬ديسمبر‭ ‬1965‭ ‬عن‭ ‬77‭ ‬عاماً،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬عاشت‭ ‬نهاية‭ ‬عمرها‭ ‬في‭ ‬عزلة‭ ‬وبؤس‭ ‬بسبب‭ ‬المرض،‭ ‬ولم‭ ‬يشارك‭ ‬في‭ ‬جنازتها‭ ‬سوى‭ ‬نفر‭ ‬من‭ ‬المخلصين‭ ‬لها،‭ ‬مشوا‭ ‬وراءها‭ ‬إلى‭ ‬مثواها‭ ‬الأخير‭ ‬في‭ ‬مقبرة‭ ‬الباب‭ ‬الشرقي‭ ‬للروم‭ ‬الأرثوذكس‭ ‬في‭ ‬دمشق‭.‬

ماتت‭ ‬ماري‭ ‬عجمي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ضجيج‭ ‬أو‭ ‬جلبة،‭ ‬حتى‭ ‬إنه‭ ‬لم‭ ‬يرافقها‭ ‬إلى‭ ‬المقبرة‭ ‬سوى‭ ‬16‭ ‬شخصاً‭ ‬من‭ ‬أقربائها،‭ ‬وليس‭ ‬بينهم‭ ‬أديب‭ ‬إلا‭ ‬فؤاد‭ ‬الشايب‭ ‬