ماري عجمي ومجلتها «العروس»

ماري عجمي (1888 - 1965) رائدة من الرائدات البارزات في العالم العربي منذ مطلع القرن العشرين، عملت في حقل الصحافة والأدب والشعر والتعليم والعمل الوطني والإصلاح الاجتماعي، وسعت في سبيل النهوض بالمرأة العربية. أنشأت سنة 1910 أول مجلة نسائية في سورية، هي مجلة «العروس».
وُلدت ماري عجمي في دمشق في الرابع عشر من شهر مايو سنة 1888، وعاشت في حي قديم من أحياء دمشق يسمى «الحارة الجوانية» من باب توما.
درست في دمشق في المدرسة الأرلندية وهي ابنة خمس سنوات، ثم في المدرسة الروسية إلى سن الخامسة عشرة، كما بدأت دراسة التمريض في الجامعة الأمريكية في بيروت سنة 1906، ولكنها، لأسباب صحية، لم تكمل تخصصها... مارست التعليم في زحلة (1903 - 1904) وفي بورسعيد في مصر (1908) والإسكندرية (1909)، وعلّمت في المدرسة الروسية وفي معهد الفرنسيسكان في دمشق، ودرّست كذلك في فلسطين والعراق.
عاشت ماري عجمي في فترة عصيبة من تاريخ الأمة العربية ... عهد الاستعمار العثماني وما خلّفه من ظلم وطغيان، يوم كانت الأمة العربية تواجه دعوات التتريك، وعصر الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان، فكانت رائدة بارزة من النساء الرائدات في النصف الأول من القرن العشرين.
ولم ينحصر نشاطها في التعليم والصحافة والكتابة ونظم الشعر، بل دأبت على غرس الحسّ الوطني الصحيح في صدور الطالبات وتوجيههنّ إلى الخط القويم، كما غرست في نفوسهن اليافعة بذور مناهضة الحكم العثماني، وعملت كذلك في المجال الاجتماعي، وأسست نوادي وجمعيات نسائية، كالنادي الأدبي النسائي سنة 1920 في دمشق، وجمعية نور الفيحاء وناديها، ومدرسة لبنات الشهداء في السنة ذاتها.
وفي مسيرتها النضالية التقت بالمناضل بترو باولي، الذي كانت تسميه «الباتر» وأحبته وتواعدا على الزواج، وقد جمعت بينهما روح النضال والكفاح ومحاربة الظلم والاستبداد العثماني.
ولكن حظها كان سيئاً، لأن خطيبها قبض عليه الأتراك وسُجن، ثم أُعدم مع من أعدم من الشهداء الأبرار الذين قضى عليهم السفاح جمال باشا سنة 1916، وهي كانت تتحدى الجنود الأتراك وتذهب إلى زيارته في سجنه في دمشق، وتنقل إليه الرسائل وتشجعه وتشد من أزره. وكان باولي وكيل مجلتها «العروس» في بيروت، وقد سبّب شنق حبيبها بترو باولي لها حزناً شديداً، وزاد في ثورتها ونقمتها على الأتراك، وأخذت تعبّر عن ذلك بقلمها الدامي، فكتبت كثيراً من المقالات في ذكرى 6 مايو، ذكرى شهداء 1916... ولم تتزوج.
تابعت ماري خط نضالها على جبهاتها الثلاث: الكتابة، الخطابة، التعليم، وكانت تلجأ إلى الشعر في المواقف الحماسية، إذ إنه يعبّر بشكل أقوى وأغنى عما يجيش في صدرها من براكين الغضب.
وهي لم تنسَ حبيبها الذي ذهب ضحية الغدر والظلم والاستبداد، وكان الحزن يتشظّى في قلبها ويدفعها إلى متابعة النضال ضد الأتراك وضد الظلم وضد الاستبداد، ويزيدها دفاعاً عن وطنها وعزته واستقلاله، فتناشد أبناء وطنها أن يلتفتوا إلى ثروات أرضهم واستثمارها، ويقفوا في وجه المستعمر الذي يسلبهم خيرات بلادهم ولقمة عيشهم.
ماري عجمي الصحفية... مجلة «العروس»
أنشأت ماري عجمي مجلة «العروس» سنة 1910 في دمشق، واستمرت إلى سنة 1914، حين توقفت بسبب الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، وبعد انتهاء الحرب أعادت إصدارها حتى 1926 حين توقفت نهائياً، وكانت «العروس» مجلة نسائية علمية أدبية صحية فكاهية، جعلت شعارها «إن الإكرام قد أعطي للنساء لتزيّن الأرض بأزهار السماء».
تقول في تقديم مجلتها: «إليك العروس»، فرحبي بها غير مأمورة، ليذهب عنها شيء من حيائها، فتُسِر إليكِ بمكنونات قلبها وشعائر موقفها.
عروسة لا عريس لها سوى الشعب الجاثي على أقدام حريته، يطلب بركة الوطنية تحت سماء العِلم والعَلَم، مسجلاً عقد قرانه عليها بمداد الفكر والقلب، مكللاً رأسيهما ببراعم الآمال وأزهار الحب».
إلى أن تقول: «إلى الذين يؤمنون بأن في نفس المرأة قوة تميت جراثيم الفساد، وأن في يدها سلاحاً يمزق غياهب الاستبداد، وأن في فمها العزاء يخفف وطأة الشقاء البشري، إلى الذين بهم الغيرة والحميّة، إلى الذين يمدّون أيديهم لإنقاذ بنات جنسهم من مهاوي هذا الوسط المشوّه بانتشار الأوهام... أقدّم مجلتي، لا كضريبة تثقل بها عواتقهم، بل كتقدمة إلى من يليق بهم الإكرام، وتناط بهم الآمال».
ولو استعرضنا أسماء الأدباء والكتّاب والشعراء الذين شاركوا في تحريرها، لوجدنا أنها ضمّت كبار الأدباء والشعراء الذين عاصروها، أمثال: جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، إيليا أبوماضي، جميل صدقي الزهاوي، إسماعيل صبري، أحمد شوقي، حافظ إبراهيم، شبلي الملاط، الشاعر القروي (رشيد سليم الخوري)، الأخطل الصغير (بشارة عبدالله الخوري)، إلياس أبوشبكة، بدوي الجبل، أمين ناصر الدين، وليّ الدين يَكَن، خليل مطران، عيسى إسكندر المعلوف، شفيق جبري، صلاح اللبابيدي، فؤاد صروف، فيلكس فارس، سليم سركيس، محمود عباس العقاد، إبراهيم المازني، فارس الخوري ... وسواهم، وإلى جانب هؤلاء نجد أسماء بعض النساء، أمثال روز شحفة، والدكتورة أنس بركات - زوجة نصير المرأة جرجي نقولا باز - وسلمى كساب، ونازك العابد... وسواهنّ.
وفي الوقت نفسه، برزت ماري عجمي خطيبة بليغة تدعوها الجمعيات والأندية لتلقي على منابرها خطباً بليغة كانت تنشرها في ما بعد في مجلتها، حيث نجد في العدد تلو العدد عنواناً لخطبة من خطبها واسم النادي أو الجمعية التي ألقتها على منبرها، ولم يقتصر عمل هذه الخطيبة البليغة والأديبة اللامعة على ميدان البيان، بل أضافت إلى هذه المآثر خدمات اجتماعية جلّة، كانت قضية ما يدعى بتحرير المرأة في عهدها أدق القضايا المطروحة على بساط الإصلاح الاجتماعي، فخصصت مجلتها «العروس» لمعالجة هذه القضية، والعمل على رفع مستوى المرأة الاجتماعي، كما كانت أغلب خطبها تدور حول هذا الموضوع، داعية إلى مكارم الأخلاق والفضيلة والترقي.
ماري عجمي الشاعرة
رُزقت ماري عجمي موهبة شعرية قلما نرى مثلها عند شاعرات اليوم، ولو أنها تفرّغت لنظم الشعر ولم تصرف جل وقتها في التدريس والترجمة وتحرير مجلتها «العروس» والدفاع عن حقوق الشعب والمرأة خاصة، لتركت لنا ديواناً ضخماً. ولكن مع الأسف ضاع بعض شعرها وبعضه سُرق وبعضه مازال مطوياً ينتظر من ينفض عنه الغبار وينشره.
أكثر شعرها فـــــــي وصف الطبيعة، وخاصة في وصف طبيعة دمشق وغوطتها وبســــــــاتينها الخلابة، وجمال طبيعة لبنان، وكذلك في وصف ـفصل الربيع.
إن شعر الطبيعة يوشك أن يكون القاسم المشترك لشعر ماري عجمي، فدمشق التي ألهمت طبيعتها الفنانة أكثر من شاعر زارها أو عاش في أحضانها، من البدهي أن تمد شاعرتنا الذوّاقة بألف خاطرة وألف معنى، وإذا هي لم تخرج إلى الغوطة فدارها الفسيحة الشجراء غوطة في قلب غوطة، تزدهي بالورد والريحان، يعبق شذاهما بما يملأ الصدر انشراحاً وارتياحاً، ومن هنا كان للربيع في شعرها أكثر من قصيدة تذكر فيها الشام التي ترتبط - في ذهنها - بالزهر والعبير والشجر والظلال والثمار:
«خلّ اللواعجَ والفِكَر
فلقد أضرّ بك السهرْ
وامرح بجــــناتِ الـــــشآ
مِ مـــع العـــبيرِ المنتشر
حيث الربيع مخيّم
والمــوج يــــعبث بـــالدرر
سالَ اللجينُ بمائه
يجلي الخميلةَ والزَّهَر
أنا أعشقُ الأزهار ما
احتجب الربيعُ وما سَفَر
أهوى الخُزامَ وما روت
عنه نسيماتُ السَّحَر
وأُحب ثرثرة الشوا
دي في ظليل المنحدَر
مــــــن لا تشـــرفه المـــنى
ويذوب من وجد وحر
جهل الحياة وفتنة السحـ
رِ الحلال وما غمر
وغدا كغصنٍ قد ذوى
لا زهرَ يرجى أو ثمر».
وهي كانت تحب دمشق بالغ الحب وتؤثرها بالغ الإيثار، وهي في إيثارها لها تخصُّها بقصيدة أو موشح بديع، كأنه نجوى المحب للمحبوب، تقول وهي بعيدة عن جلّق مشتاقة لرياضها وغوطتها ومحاسنها:
«دمشق إذا غبتِ عن ناظري
فرسمك في حسنه الزاهرِ
مقيمٌ على الدهر في خاطري»
كما أننا نجد في شعرها بوحاً بالحب وتحسُّراً على ما فات من الصبا وما تعانيه من الوحدة والوحشة:
«فلا ظلٌ ولا ورقٌ يقيني
هزيمَ الرعدِ في حلكِ السماء
ولا أنسٌ يطيب ولا حبيب
يرد بجنحه عصفَ الشقاء
ولا قلبٌ يجيب صدى حنيني
ولا عينٌ تتوق إلى لقائي
كأني للنوائب صرت أهلاً
أداوي داءها فيعز دائي
على روض الشباب نثرتُ دمعي
عسى تخضرّ أعوادُ الرجاء».
ولما توفي أمير الشعراء أحمد شوقي (1868 - 1932) نظمت موشحاً جميلاً، قالت فيه:
هزوا الغصون لعله نائم
سكران في عش الهوى حالمْ...
فالخلدُ فوق رياضه حائم
وقد أعجب الشاعر والأديب أمين نخلة (1901 - 1976) بقولها «هزوا الغصون لعله نائم» فهي تعتقد أن أحمد شوقي لم يمت، إنه نائم، فكيف يموت أمير الشعراء؟ ولما سمع أمين مطلع قصيدتها هذه انتشى بهذا المطلع، وقال لها: «أعطني هذه القصيدة وخذي من شعري ما شئتِ» وراح يردد: هزّوا الغصون لعله نائم! وهو قد استعار قولها هذا في أمير الشعراء في تأبينها في أربعينها، فاستهل كلمته: «ما لهم لا يهزون الغصون، فعلها نائمة»!
هذه هي ماري عجمي، الشاعرة التي غنّت لواعج نفسها ووصفت الطبيعة، وإن كانت مُقلّة «فإن الزهر ببعض العطر يُختصرُ».
وخير ما نختم به، ما قاله أمين نخلة عنها في حفل تأبينها:
«أما الشعر فإن ماري عجمي لم تجنح إلى نظمه إلا في بعض ما كانت تتحرك له نفسها في الأحيان من حب للإيقاع وطرب للنغمة، أو في بعض المخايل السامية يلوح فيها لطائفة من عيون البشر النادر العزيز من ملامح الاتصال بين الأرض والسماء.
وهي في النظم ما عرفت احتفالاً ولا تعملاً، فإنما شعرها أشبه شيء بالزهر الزكي في جبالنا اللبنانية أيام الربيع، يخرج إذ يخرج، فلا يدري أحد كيف طلع من قلب الأرض.
وليس عجباً أن تكون العلاقة شديدة بين القليل الذي نظمته والكثير الذي كتبته، فإنهما سُقيا من غمام واحد، هو الطبع وهو الذوق، وهو رونق الفصاحة».
هذه هي الأديبة والشاعرة والصحفية ماري عجمي، التي عاشت حياة مليئة بالأحداث، وكانت لها مساهمة فاعلة في مجتمعها، وخاصة المجتمع النسائي.
توفيت في دمشق في 20 ديسمبر 1965 عن 77 عاماً، بعد أن عاشت نهاية عمرها في عزلة وبؤس بسبب المرض، ولم يشارك في جنازتها سوى نفر من المخلصين لها، مشوا وراءها إلى مثواها الأخير في مقبرة الباب الشرقي للروم الأرثوذكس في دمشق.
ماتت ماري عجمي من دون ضجيج أو جلبة، حتى إنه لم يرافقها إلى المقبرة سوى 16 شخصاً من أقربائها، وليس بينهم أديب إلا فؤاد الشايب ■