التطهير الثقافي... مقاربة جديدة للمواجهة

التطهير الثقافي...  مقاربة جديدة للمواجهة

لم تكن مصادفة أن يتطور الهجوم على المنطقة العربية إلى أن يصل إلى العدوان على التراث الإنساني والحضارة الإنسانية اللذين تمتلئ بهما ربوع المنطقة ودولها، بما يؤكد أن أهمية هذه المنطقة ليست فقط جيواستراتيجية أو سياسية أو اقتصادية فحسب، بل ذات أهمية حضارية وثقافية رفيعة المستوى بما تحويه من كنوز وآثار دالة على حقائق لايزال الكشف عن جوهرها ومدلولاتها ضارباً في أعماق تاريخ تليد يؤكد أن منبع الحضارة الإنسانية وأساسها تمحور حول هذه المنطقة وعلى شواطئ أنهارها وفي ربوع صحاريها وبين تلالها وأوديتها، بل تؤكد هذه الاكتشافات حقائق أبعد من النشاط البشري، حينما تقدم الحفريات النباتية والحيوانية التي تتجاوز أعمارها ملايين السنين، صفحات عن حقيقة وجودها في هذه المنطقة حتى قبل وجود الإنسان ذاته، وكل يوم تُضاف إلى القائمة اكتشافات جديدة تُثري التاريخ وتثقل ملفاته. 

 

كانت المنطقة ولا تزال حلماً يراود الطامعين في ثرواتها الاقتصادية، وموقعها الجغرافي ومكانتها التاريخية والحضارية، ما جعلها من أكثر المناطق في العالم تعرضاً للنهب والسرقة، إما بفعل احتلال مباشر أو عبر عمليات تخريب وإرهاب، وُظفت فيها كل الأدوات والاستراتيجيات، وطُبقت فيها كل المخططات والسياسات لنهب ثرواتها والاستحواذ عليها، بهدف تفريغها من عمقها التاريخي بتدمير تراثها وآثارها، وذلك كما سبق أن نجحت هذه القوى الطامعة في تفريغها من قوتها السياسية والاقتصادية. 
ما يثير الاهتمام بهذا الأمر يعود في الواقع إلى ما تعرضت له دول المنطقة أخيراً وتحديداً منذ بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، أو منذ أحداث ما عُرف بالربيع العربي، ذلك المسمى الخادع الذي التبس على كثير من أبناء هذه المنطقة، معتقدين أن هبوب نسائم هذا الربيع سوف تنقذهم من رياح عاصفة عاشت المنطقة تحتها مدى زمنيّاً لم تُفلح خلاله في أن تنجز أي نجاحات تنموية أو تحولات ديمقراطية.
ومن دون الدخول في تقييم هذه الموجة العاتية التي هدمت بلداناً عربية وفككت أواصرها وأدخلت بعضها في عداد الدول الفاشلة أو جعلتها على وشك الفشل كما الحال في ليبيا وسورية واليمن، ومن قبل كل ذلك ومنذ أكثر من نصف قرن ضاعت فلسطين تحت الاحتلال الصهيوني. أضحى من الضروري اليوم التحرك لمواجهة ما تتعرض له المنطقة اليوم على يد تنظيم داعش الإرهابي من تدمير همجي للتراث الإنساني المادي المتمثل في الآثار أو ما وصفته منظمة اليونسكو بـ«التطهير الثقافي» على غرار جريمة التطهير العرقي وهي جريمة تُرتكب بحق أفراد أو جماعة يُراد التخلص منهم لانتمائهم إلى عرق مختلف عن المجموعة التي تمارس مثل هذه الجريمة، على غرار ما حدث في البوسنة والهرسك في تسعينيات القرن المنصرم، وما يحدث يومياً في فلسطين على يد الاحتلال الصهيوني. وعليه، فإن جريمة التطهير الثقافي هي جريمة تُرتكب بحق التراث الإنساني تستهدف تدميره والقضاء عليه، بحجة مخالفته للدين الإسلامي والعقيدة الصحيحة، وهذا هو مربط الفرس أو نقطة الانطلاقة المهمة إذا أردنا أن نبحث عن استراتيجية أو مقاربة حقيقة وفاعلة لمواجهة هذه الجريمة ومرتكبيها. 
ومن الجدير بالإشارة أن هذا التنظيم دمر عديداً من المواقع والممتلكات الأثرية تدميراً كاملاً في بعض المدن السورية والعراقية، كما حدث في مدينة تدمر الأثرية بريف حمص السورية، وآثار منطقة النمرود في مدينة الموصل العراقية، وقد وصل الأمر مبلغه حينما تم تدمير مدينة «الحضر» العراقية التي تعد عاصمة أول مملكة عربية حملت جذور المدن العربية الإسلامية، حيث مثل الاعتداء عليها، كما وصفه البيان المشترك الصادر عن منظمتي «اليونسكو والإيسيسكو»، «نقطة تحول في استراتيجية التطهير الثقافي المروعة الراهنة في العراق». كما دمر التنظيم أيضاً بعض المواقع الأثرية بصورة أقل بما يفسح المجال أمام سرعة العمل لإنقاذها قبل فنائها بشكل كامل، وهو ما أشار إليه تقرير للأمم المتحدة عن أن 290 موقعاً أثرياً في سورية تعرضت للتدمير أو النهب أو التضرر منذ عام 2011، وأن أكثر المواقع تضرراً محافظات حلب ودمشق وحمص والرقة، وذلك وفقاً لبحث استقصائي شمل 18 موقعاً اعتمد على الصور المأخوذة عبر الأقمار الاصطناعية.

استراتيجية مواجهة دولية
وفي خضم هذا الواقع المؤلم، تثار حزمة من التساؤلات، أبرزها: ما الاستراتيجية الواجب انتهاجها دولياً وإقليمياً لمواجهة هذا العدوان الهمجي على التراث والحضارة الإنسانية وليست العربية فحسب؟ هل لاتزال القوة العسكرية كما الحال في التحالف الدولي لمحاربة التنظيم هي الأداة الأكثر فعالية وقدرة على وقف مثل هذه الاعتداءات؟ أم هناك مقاربة أخرى يمكن أن تشمل إلى جانب القوة العسكرية أدوات عديدة قادرة على وقف هذا العدوان؟ وإذا كانت هناك حاجة إلى أدوات أخرى فما هذه الأدوات؟ وكيف يمكن تفعيلها؟ وما الجهات أو الأجهزة المنوط بها توظيفها وتوجيهها؟ فإذا كان معلوماً أن الأجهزة العسكرية والأمنية هي المسؤولة عن الأداة العسكرية، فما الأجهزة المعنية عن الأدوات الأخرى؟ وهل هذه الأجهزة لديها الإرادة والقدرة أيضاً على القيام بهذه المهمة الخطيرة؟ 
في إطار البحث عن إجابات لهذه التساؤلات يمكن تسجيل نقاط محددة تقدم أطروحة مبدئية بشأن قضية التطهير الثقافي الذي تشهده المنطقة العربية، وتحديداًالعراق وسورية، كخطوة أولية يمكن البناء عليها في إطار أوسع، تمهيداً لوضع استراتيجية متكاملة تشمل محاور عدة وخطوات تنفيذية بهدف مواجهة عملية التطهير الثقافي. صحيح أن البيان الصادر عن منظمتي اليونسكو والإيسيسكو السابقة الإشارة إليه أكد أن المنظمتين على أتم الاستعداد لمواجهة هذه الجريمة ومساعدة الدولتين في ما يتعرضان له، إلا أنه من الصحيح أيضاً أن المنظمتين المعنيتين لم تحددا بشكل واضح ودقيق الخطوات أو الإجراءات التي يمكن الإقدام عليها في سبيل وقف هذه الهجمة التترية على التراث الإنساني. ومن ثم، يمكن وضع رؤية أولية في سبيل النهوض بجهد حقيقي لمواجهة هذه الجريمة، بشرط أن تكون هناك خطوات سريعة وعاجلة لمواجهتها خوفاً من تفاقمها واتساع نطاقها وتشعب مستوياتها بما تصبح معه المواجهة أكثر تكلفة وصعوبة، وأقل كفاءة وفعالية، ومن أهم النقاط التي تتضمنها هذه الرؤية ما يلي: 
أولاً: الإسراع بوضع جريمة التطهير الثقافي ضمن جرائم الحرب في القانون الدولي، بحيث يتسع تصنيف هذه الجرائم ليشمل ضمن أنواعها «جريمة التطهير الثقافي» وما يتطلبه ذلك من وضع تعريف دقيق للجريمة وأركانها، ونؤيد في هذا الشأن ما ذهبت إليه إيرينا بوكوفا، مديرة منظمة اليونسكو، من أنها اعتبرت أن «التدمير المتعمَّد للتراث الثقافي... جريمة حرب يجب تفعيل كل القوانين الدولية للتصدي لها ومعاقبة مرتكبيها... اليونسكو تعمل مع المحكمة الدولية لتشكيل ملفات من هذا النوع وفقاً لاتفاقية لاهاي لعام 1954 التي تتعلق بتوثيق التراث وحمايته في الحروب». 
ثانياً: ضرورة تطوير التحالف الدولي لمحاربة «داعش» من استراتيجيته وتحركاته بما يضمن تفعيل حقيقي للأداة العسكرية في مواجهة هذا التنظيم الذي يزداد تمدداً يوماً بعد يوم، فمن غير المقبول أن يظل التحالف الدولي عاجزاً عن مواجهته تحت مزاعم حجج واهية ومبررات غير مقبولة، لأنه من الصعوبة بمكان وقف التدمير الهمجي لتراثنا على يد هذا التنظيم الإرهابي وهو لايزال يحقق نجاحات على الأرض أمام تراجع التحالف الدولي في محاربته، فالأداة العسكرية لا تزال أداة فاعلة في حماية التراث الإنساني من هذه الاعتداءات، بشرط تفعيلها بصورة أكثر كفاءة. 
ثالثاً: إذا كانت المؤسسة العسكرية والأمنية في البلدان التي تشهد جريمة «التطهير الثقافي» عاجزة عن القيام بمسؤوليتها أمام هذا التنظيم، فإن ثمة خطوات ضرورية على المجتمعين الدولي والإقليمي القيام بها، مثل منع خروج هذه الآثار التي يحصل عليها التنظيم عبر الحفر والاكتشاف من عبور الحدود الدولية، بمعنى أكثر وضوحاً إخضاع الحدود الدولية لهذه الدول إلى مراقبة شديدة عبر الأقمار الاصطناعية لمنع تسرب هذه الآثار والممتلكات عبر الحدود. ويرتبط بهذا الأمر أيضاً، ضرورة إصدار مجلس الأمن قراراً دولياً يُجرم عملية الاتجار غير المشروع في هذه الممتلكات، حيث قدرت منظمة اليونسكو حجم صناعة الاتجار غير المشروع في الآثار العراقية والسورية بما يتراوح بين 7 و15 مليون دولار. 
رابعاً: تأكيد دور وأهمية «القوة الناعمة» أي الثقافة والإعلام والتعليم في محاربة هذه الأفكار والرؤى التي تستهدف القضاء على التاريخ والحضارة الإنسانية تحت مزاعم واهية واعتقادات خاطئة وأفكار بالية لم يعد لها مكان في عالم اليوم. فليس صحيحاً ما يدعيه هذا التنظيم وغيره من التنظيمات التي سبقته وتبنت فكره ومنهجه أن تدمير هذه الممتلكات يحمي العقيدة الإيمانية، بل الأكثر خطورة أن هذه الجماعات لم تخترع هدم الآثار، والتطهير الثقافي، وإنما استندت إلى بعض الفتاوى والآراء التي تملأ كثيراً من الكتب الدينية التي يصدرها بعض من ينتمون إلى مدارس العلم الديني، وهذه هي الطامة الكبرى التي تجب محاربتها وكشف زيفها وتصحيح خطئها، خاصة أن السواد الأعظم من علماء الأمة الإسلامية وفقهائها ومفكريها ممن يعلمون حقيقة الدين الإسلامي وجوهره  يرفضون مثل هذه الجرائم، إدراكاً منهم أنه لا منطق ولا دليل شرعياً ولا ممارسة في التاريخ الإسلامي في البدايات الحقيقية للدولة الإسلامية لدعم هذا الرأي أو تأكيده، بل إن سجلات التاريخ مليئة بالحقائق التي تؤكد أن المسلمين الأوائل لم يتعرضوا للآثار في الشام والعراق ومصر وأفغانستان والهند... إلخ. إلا أن ضعف هذا الخطاب أفسح مجالاً لبروز خطاب إسلامي آخر فاقد للدليل الشرعي اعتبر هدم هذه الآثار حماية للتوحيد، وقد سيطر هذا الخطاب على وجدان الشباب وأفكارهم، مستنداً في رأيه إلى ما جرى عند فتح مكة من التخلص من الأصنام التي كانت موجودة في جوف الكعبة. والحقيقة أن هذا الأمر فُهم على غير جوهره، وتم إدراج بعض هذه المواقع على قائمة التراث العالمي التي تحددها اليونسكو، حيث تم أخيراً إدراج الرسوم الصخرية في منطقة حائل في قائمة التراث العالمي؛ لتصبح الموقع الرابع في المملكة المُسجل في القائمة بعد مدائن صالح والدرعية وجدة التاريخية. ماذا يعني ذلك؟ يعني أننا في حاجة إلى خطاب يعيد التأكيد على صحيح الدين وجوهره، ويدحض الآراء المتشددة، وذلك عبر توظيف الأدوات الثقافية والإعلامية والتربوية التي تتكفل بتوضيح صحيح الدين الإسلامي وجوهره من قضية التراث الإنساني، وأن المسلمين الأوائل لم يمارسوا مثل هذه الأعمال الهمجية والاعتداءات الوحشية على التراث الحضاري الذي حمل كثيراً من الوقائع والحقائق التي جرت في الأزمنة البعيدة كي يستفيد منها إنسان اليوم ويعلم ما جرى في ذلك الزمان ويتخذ منه العبرة والعظة، امتثالاً لقوله تعالى: 
{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}. 
(سورة يوسف - آية 111).
صفوة القول أن قضية التطهير الثقافي التي حظيت باهتمام كبير مع عدوان تنظيم داعش الإرهابي على الممتلكات الثقافية في سورية والعراق لم تكن الأولى في التاريخ الإسلامي ولن تكون الأخيرة إذاً ما لم تكن هناك استراتيجية متعددة المستويات ومتضمنة للخطوات التنفيذية والعملية القادرة على مواجهة هذا التنظيم ودحره، وهو ما يؤكد أنه إذا كانت المواجهة العسكرية مطلوبة، فإن المواجهة الثقافية والفكرية أكثر إلحاحاً، بما يوجب الإسراع بتنظيم مؤتمر عالمي تحت رعاية منظمة اليونسكو وبمشاركة كل المنظمات الدولية والإقليمية المعنية، فضلاً عن المؤسسات الوطنية، وتحديداً الوزارات والأجهزة المعنية بالثقافة والإعلام والتعليم والشباب لوضع هذه الاستراتيجية، بحيث يكون هناك تكامل أمني - عسكري/ ثقافي - فكري لحماية ليس فقط التراث والأثر، وإنما أيضاً حماية البشر وحقهم في الحياة ■