في أدب العلايلي وفكره

في أدب العلايلي وفكره

في‭ ‬الناس‭ ‬أشخاص‭ ‬يطربونك‭ ‬بحديثهم‭ ‬ومحاضرتهم‭ ‬وخطاباتهم‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يقنعونك‭ ‬بكتابتهم،‭ ‬وهم‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬سريعو‭ ‬الهزة‭ ‬لما‭ ‬يسمعون‭ ‬من‭ ‬جميل‭ ‬الكلام،‭ ‬ومن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالله‭ ‬العلايلي‭. ‬كنت‭ ‬أسمع‭ ‬به‭ ‬سماعاً‭ ‬وأنا‭ ‬بعد‭ ‬طالب،‭ ‬وأول‭ ‬مرة‭ ‬رأيته‭ ‬فيها‭ ‬كانت‭ ‬سنة‭ ‬1967،‭ ‬وذلك‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬عضواً‭ ‬في‭ ‬اللجنة‭ ‬المحكِّمة‭ ‬لمباراة‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬اللبنانية‭ ‬التي‭ ‬أقيمت‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬الأونيسكو‭ ‬ببيروت،‭ ‬والتي‭ ‬شاركت‭ ‬فيها‭. ‬ومن‭ ‬عجب‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يتسمّع‭ ‬شاعراً‭ ‬يلقي‭ ‬قصيدة‭ ‬بالعامية،‭ ‬فأعجبته‭ ‬كثيراً،‭ ‬فهبّ‭ ‬واقفاً‭ ‬يصفق‭ ‬ويضحك‭ ‬ويهتف،‭ ‬وقد‭ ‬وضع‭ ‬عمامته‭ ‬على‭ ‬مقعده،‭ ‬فلما‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬الجلوس‭ ‬قعد‭ ‬عليها،‭ ‬ثم‭ ‬نهض‭ ‬عنها‭ ‬ليسويها‭ ‬ويعتمرها‭.‬

ومضى‭ ‬زمن‭ ‬أنهيت‭ ‬فيه‭ ‬الدكتوراه‭ ‬ودخلت‭ ‬في‭ ‬الهيئة‭ ‬التعليمية‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬اللبنانية،‭ ‬وطلبت‭ ‬يوماً‭ ‬موعداً‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬بيروت،‭ ‬أنا‭ ‬وأحد‭ ‬زملائي‭ ‬في‭ ‬الجامعة،‭ ‬وهناك‭ ‬طرحت‭ ‬عليه‭ ‬سؤالاً‭ ‬لغوياً،‭ ‬فمضى‭ ‬يحدثني‭ ‬ويطيل‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬علم‭ ‬الاجتماع،‭ ‬ومن‭ ‬الفلسفة،‭ ‬ومن‭ ‬التاريخ،‭ ‬وأنا‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬زميلي‭ ‬مستغرباً‭ ‬خروج‭ ‬الشيخ‭ ‬عن‭ ‬الموضوع،‭ ‬وزميلي‭ ‬ينظر‭ ‬إليّ‭ ‬بالاستغراب‭ ‬نفسه،‭ ‬وفجأة‭ ‬ربط‭ ‬الشيخ‭ ‬بين‭ ‬تلك‭ ‬الأمور‭ ‬جميعاً،‭ ‬ليصل‭ ‬إلى‭ ‬تأويل‭ ‬جميل‭ ‬لتلك‭ ‬المسألة،‭ ‬ولولا‭ ‬هيبة‭ ‬المجلس‭ ‬لصفّقنا‭ ‬له‭.‬

 

ملامح‭ ‬من‭ ‬شخصيته

وكان‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬ولاسيما‭ ‬أهل‭ ‬المساجد،‭ ‬يطربون‭ ‬لخطبه‭ - ‬وكان‭ ‬يرتجلها‭ - ‬ويقبلون‭ ‬عليها‭ ‬إقبالاً‭ ‬عزّ‭ ‬نظيره،‭ ‬وكانوا‭ ‬يلقبونه‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬بلبل‮»‬‭ ‬المنابر‭. ‬ومما‭ ‬ذكره‭ ‬لي‭ ‬ولبعض‭ ‬أصدقائي‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬زياراتنا‭ ‬له،‭ ‬أن‭ ‬كميل‭ ‬شمعون‭ ‬كان،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يُنتخب‭ ‬رئيساً‭ ‬للجمهورية‭ ‬اللبنانية،‭ ‬يحمله‭ ‬على‭ ‬كتفيه‭ ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬خطبه‭ ‬في‭ ‬مهرجانات‭ ‬المعارضة‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬لكنه‭ ‬صار‭ ‬خصماً‭ ‬له‭ ‬حين‭ ‬اعتلى‭ ‬سدة‭ ‬الحكم‭. ‬أما‭ ‬حين‭ ‬عرفتُ‭ ‬العلايلي‭ ‬عن‭ ‬قرب‭ ‬سنة‭ ‬1984‭ ‬أو‭ ‬نحوها،‭ ‬أي‭ ‬حين‭ ‬ناهز‭ ‬السبعين‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬انقطع‭ ‬عن‭ ‬الخطابة،‭ ‬لعل‭ ‬ذلك‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يسارياً،‭ ‬ولأن‭ ‬المتشددين‭ ‬كانوا‭ ‬ينسبونه‭ ‬إلى‭ ‬الشيوعية،‭ ‬فنشأ‭ ‬نفور‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬المسجديين،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬سئم‭ ‬السياسة‭ ‬بسبب‭ ‬الظروف‭ ‬التي‭ ‬أحاطت‭ ‬بلبنان‭ ‬منذ‭ ‬سنة‭ ‬1975،‭ ‬ولأنه‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬عند‭ ‬الساسة‭ ‬استجابة‭ ‬لأفكاره،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬سنّه‭ ‬كانت‭ ‬متقدمة‭ ‬نسبياً،‭ ‬لا‭ ‬تساعده‭ ‬كثيراً‭ ‬على‭ ‬التنقل‭ ‬وصعود‭ ‬المنابر،‭ ‬ولذلك‭ ‬اتخذ‭ ‬من‭ ‬مكتبته‭ ‬مقاماً‭ ‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬يبارحه،‭ ‬وقد‭ ‬وضع‭ ‬فيه‭ ‬منضدة‭ ‬صغيرة‭ ‬خفيضة‭ ‬كتلك‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يستعملها‭ ‬الشيوخ،‭ ‬فيجعلون‭ ‬عليها‭ ‬كتبهم‭ ‬التي‭ ‬يقرأون،‭ ‬أو‭ ‬دفاترهم‭ ‬التي‭ ‬يكتبون‭ ‬عليها،‭ ‬وهم‭ ‬جالسون‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬متربعين،‭ ‬أو‭ ‬مادين‭ ‬أرجلهم‭ ‬على‭ ‬البساط،‭ ‬لاسيما‭ ‬حين‭ ‬يرهقهم‭ ‬طول‭ ‬الجلوس‭.‬

فالعلايلي‭ ‬يجمع،‭ ‬إذن،‭ ‬إلى‭ ‬الذكاء‭ ‬المتوقد‭ ‬وسعة‭ ‬المعرفة‭ ‬وعمق‭ ‬التحليل‭ ‬ذاتية‭ ‬عاطفية،‭ ‬فإذا‭ ‬أعجب‭ ‬بشخص‭ ‬عظّمه،‭ ‬وإذا‭ ‬غضب‭ ‬على‭ ‬آخر‭ ‬استخف‭ ‬به،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬اللغوي‭ ‬الكبير‭ ‬الشيخ‭ ‬مصطفى‭ ‬الغلاييني‭: ‬‮«‬من‭ ‬هو‭ ‬هذا؟‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬يسألني‭ ‬في‭ ‬اللغة‭!‬‮»‬،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬أربعين‭ ‬عاماً،‭ ‬وصفه‭ ‬في‭ ‬كتابه‭: ‬‮«‬مقدمة‭ ‬لدرس‭ ‬لغة‭ ‬العرب‮»‬‭ (‬القاهرة‭ ‬1938‭) ‬بأنه‭ ‬أحد‭ ‬لغويَّين‭ ‬حقيقيَّين‭ ‬في‭ ‬بيروت،‭ ‬ومدح‭ ‬اجتهاداته‭ ‬وقبوله‭ ‬المحدث‭ ‬من‭ ‬اللغة‭. ‬هذا‭ ‬على‭ ‬حين‭ ‬وصف‭ ‬لبعض‭ ‬زواره‭ ‬أحد‭ ‬زملائنا‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬باللغوي‭ ‬الكبير،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬سبيل‭ ‬إلى‭ ‬مقارنة‭ ‬ذلك‭ ‬الزميل‭ ‬بالغلاييني‭. ‬

وكان‭ ‬معجباً‭ ‬بالشاعر‭ ‬سعيد‭ ‬عقل،‭ ‬حتى‭ ‬وصفه‭ ‬برئيس‭ ‬جمهورية‭ ‬عبقر،‭ ‬ومعروف‭ ‬أن‭ ‬سعيد‭ ‬عقل‭ ‬كان‭ ‬يتصيّد‭ ‬الأساليب‭ ‬الغريبة،‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬الرمزيين،‭ ‬والشيخ‭ ‬العلايلي‭ ‬متصيّد‭ ‬لتلك‭ ‬الأساليب‭ ‬في‭ ‬إنشائه‭ ‬المكتوب،‭ ‬ميّال‭ ‬إلى‭ ‬الرمزية‭ ‬في‭ ‬بعضها،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬معجباً‭ ‬بمصطفى‭ ‬صادق‭ ‬الرافعي‭ ‬للسبب‭ ‬نفسه،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬إحدى‭ ‬المجلات‭ ‬نشرت‭ ‬باسمه‭ ‬مقالة‭ ‬لهذا‭ ‬الأديب‭ ‬المصري‭ ‬ذي‭ ‬الجذور‭ ‬اللبنانية‭ - ‬ربما‭ ‬التبس‭ ‬عليها‭ ‬الأمر‭ - ‬فقام‭ ‬المعجبون‭ ‬بالرافعي،‭ ‬والباحثون‭ ‬عن‭ ‬سقطة‭ ‬للعلايلي،‭ ‬يتهمون‭ ‬الشيخ‭ ‬بالانتحال‭. ‬وأثناء‭ ‬تأليفي‭ ‬لكتاب‭: ‬‮«‬مصطفى‭ ‬صادق‭ ‬الرافعي‭ ‬رائد‭ ‬الرمزية‭ ‬العربية‭ ‬المطلة‭ ‬على‭ ‬السوريالية‮»‬،‭ ‬سنة‭ ‬1984،‭ ‬سألت‭ ‬الشيخ‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬تأثره‭ ‬بأسلوب‭ ‬الرافعي،‭ ‬فأجابني‭ ‬بأنه‭ ‬لم‭ ‬ير‭ ‬ديباجة‭ ‬تؤدي‭ ‬المؤدى‭ ‬الذي‭ ‬يبغي‭ ‬سوى‭ ‬ديباجة‭ ‬أبي‭ ‬حيان‭ ‬التوحيدي‭ ‬وأمثاله،‭ ‬فكان‭ ‬أن‭ ‬اختار‭ ‬أسلوب‭ ‬الرافعي‭ ‬الذي‭ ‬كان،‭ ‬وفق‭ ‬تعبيره،‭ ‬تقفية‭ ‬شرعية‭ ‬للتوحيدي،‭ ‬وبدا‭ ‬من‭ ‬الأقلام‭ ‬ذات‭ ‬الشكل‭ ‬الفريد،‭ ‬واحتل‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬ما‭ ‬احتله‭ ‬الدينوري‭ ‬والجاحظ‭ ‬والتوحيدي‭ ‬في‭ ‬القديم‭. ‬وقد‭ ‬أثبتُّ‭ ‬قوله‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬كتابي‭ ‬ذلك‭.‬

والكلام‭ ‬على‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالله‭ ‬العلايلي‭ ‬يطول،‭ ‬وقد‭ ‬كتب‭ ‬فيه‭ ‬الكثير‭ ‬الكثير،‭ ‬وسنكتفي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬العجالة،‭ ‬بتناول‭ ‬أدبه‭ ‬وفكره‭ ‬في‭ ‬مواضيع‭ ‬جديدة‭ ‬لم‭ ‬يتطرّق‭ ‬إليها‭ ‬الباحثون،‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬نعلم،‭ ‬تاركين‭ ‬كتاباته‭ ‬اللغوية‭ ‬الصرفة،‭ ‬مكتفين‭ ‬بكتابين‭ ‬له،‭ ‬هما‭: ‬‮«‬من‭ ‬أيام‭ ‬النبوة‭... ‬مشاهد‭ ‬وقصص‮»‬،‭ ‬و«أين‭ ‬الخطأ؟‭... ‬تصحيح‭ ‬مفاهيم‭ ‬ونظرة‭ ‬تجديد‮»‬‭.‬

 

من‭ ‬أيام‭ ‬النبوة

فأما‭ ‬الكتاب‭ ‬الأول،‭ ‬فقصص‭ ‬تاريخي،‭ ‬وإن‭ ‬أدخل‭ ‬فيه‭ ‬النص‭ ‬التاريخي‭ ‬الحرفي‭ ‬أحياناً‭ ‬قليلة‭. ‬وأول‭ ‬أقسامه‭ ‬غير‭ ‬معنون،‭ ‬وفيه‭ ‬حديث‭ ‬عن‭ ‬مدينة‭ ‬النبي‭ ‬‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬بلد‭ ‬الدولة‭ ‬الإسلامية‭ ‬منذ‭ ‬انتصار‭ ‬المسلمين‭ ‬على‭ ‬قريش‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬بدر،‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬الثانية‭ ‬للهجرة،‭ ‬وأحاديث‭ ‬عن‭ ‬زواج‭ ‬الإمام‭ ‬علي‭ ‬وفاطمة‭ ‬الزهراء‭ ‬بنت‭ ‬النبي،‭ ‬وعن‭ ‬يوم‭ ‬أُحد‭ ‬الذي‭ ‬فازت‭ ‬فيه‭ ‬قريش‭ ‬على‭ ‬المسلمين،‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬الثالثة‭ ‬للهجرة،‭ ‬وعن‭ ‬مولد‭ ‬الإمام‭ ‬الحسين،‭ ‬وعما‭ ‬أوحى‭ ‬العلايلي‭ ‬بأنه‭ ‬إعلان‭ ‬للدولة‭ ‬الإسلامية‭ ‬سنة‭ ‬سبعة‭ ‬للهجرة،‭ ‬وعن‭ ‬وفاة‭ ‬النبي‭ ‬الكريم‭. ‬لكن‭ ‬الشيخ‭ ‬يجعل‭ ‬للقسم‭ ‬الثاني‭ ‬عنواناً‭ ‬هو‭ ‬‮«‬من‭ ‬أيام‭ ‬العهد‭ ‬الراشدي‮»‬،‭ ‬وفيه‭ ‬يتكلم‭ ‬على‭ ‬إعجاب‭ ‬الخليفة‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ ‬بالحسين‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنهما،‭ ‬وعلى‭ ‬مساهمة‭ ‬أبناء‭ ‬الصحابة،‭ ‬ولاسيما‭ ‬الحسن‭ ‬والحسين‭ ‬وابن‭ ‬عباس،‭ ‬في‭ ‬الجهاد،‭ ‬وعن‭ ‬مقتل‭ ‬الخليفة‭ ‬عثمان‭ ‬بن‭ ‬عفان‭ ‬‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬عده‭ ‬العلايلي‭ ‬ثورة،‭ ‬وعن‭ ‬قصة‭ ‬التحكيم‭ ‬بين‭ ‬الإمام‭ ‬عليّ‭ ‬ومعاوية‭ ‬وظهور‭ ‬الخوارج،‭ ‬وعن‭ ‬مقتل‭ ‬الإمام‭ ‬علي‭. ‬يبقى‭ ‬القسم‭ ‬الثالث‭ ‬وعنوانه‭:‬‭ ‬من‭ ‬أيام‭ ‬الحسين‭ ‬السبط،‭ ‬وفيه‭ ‬فصول‭ ‬عن‭ ‬مكانة‭ ‬الحسين‭ ‬ومكارم‭ ‬أخلاقه‭ ‬ومحبة‭ ‬الناس‭ ‬له،‭ ‬وعن‭ ‬مقتل‭ ‬الصحابي‭ ‬حجر‭ ‬بن‭ ‬عدي‭ ‬وأثره‭ ‬في‭ ‬الحسين‭ ‬وأهل‭ ‬المدينة،‭ ‬وعن‭ ‬عشق‭ ‬يزيد‭ ‬لزوجة‭ ‬أحد‭ ‬عمال‭ ‬أبيه،‭ ‬وعن‭ ‬إرغام‭ ‬معاوية‭ ‬لأبناء‭ ‬الصحابة،‭ ‬ومنهم‭ ‬الحسين‭ ‬على‭ ‬مبايعة‭ ‬يزيد،‭ ‬ثم‭ ‬عن‭ ‬ثورة‭ ‬الحسين‭ ‬ومقتله‭.‬

إن‭ ‬فضل‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬أنه‭ ‬محاولة‭ ‬لإزاحة‭ ‬الضباب‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬المغالطات‭ ‬المتصلة‭ ‬بالتاريخ‭ ‬الإسلامي،‭ ‬ولاسيما‭ ‬تاريخ‭ ‬الطالبيين‭ ‬وعلاقتهم‭ ‬بالخلفاء‭ ‬الراشدين،‭ ‬فهو‭ ‬بصورة‭ ‬من‭ ‬الصور‭ ‬تقريب‭ ‬بين‭ ‬السنة‭ ‬والشيعة‭ ‬بطريقة‭ ‬غير‭ ‬مباشرة،‭ ‬وأهميته‭ ‬أنه‭ ‬صادر‭ ‬عن‭ ‬أحد‭ ‬علماء‭ ‬السنّة‭ ‬الكبار‭ ‬في‭ ‬شأن‭ ‬أهل‭ ‬البيت،‭ ‬ولاسيما‭ ‬عليّ‭ ‬والحسين‭. ‬ومعروف‭ ‬أن‭ ‬كتابات‭ ‬العلايلي‭ ‬في‭ ‬الحسين،‭ ‬وبخاصة‭ ‬كتابه‭: ‬‮«‬سمو‭ ‬المعنى‭ ‬في‭ ‬سمو‭ ‬الذات‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬أشعة‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬الحسين‮»‬‭ (‬القاهرة‭ ‬1939‭) ‬لقيت‭ ‬أصداء‭ ‬حسنة‭ ‬عند‭ ‬الشيعة،‭ ‬وإن‭ ‬أثارت‭ ‬معارك‭ ‬بين‭ ‬العلايلي‭ ‬وبعض‭ ‬علماء‭ ‬السنة‭ ‬كالشيخ‭ ‬علي‭ ‬الطنطاوي،‭ ‬والأستاذين‭ ‬محمد‭ ‬كرد‭ ‬علي‭ ‬وأحمد‭ ‬حسن‭ ‬الزيات‭.‬

وأسلوب‭ ‬العلايلي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬أسلوب‭ ‬الرافعي‭ ‬نفسه،‭ ‬لكن‭ ‬مع‭ ‬طلب‭ ‬للقديم‭ ‬والغريب‭ ‬والغموض‭ ‬أكبر،‭ ‬فهو‭ ‬تلميذ‭ ‬الرافعي،‭ ‬لكنه‭ ‬يختلف‭ ‬عنه‭ ‬بارتدائه‭ ‬دوماً‭ ‬ثوب‭ ‬اللغوي‭ ‬المعجمي‭ ‬الذي‭ ‬يحلو‭ ‬له‭ ‬إشعارك‭ ‬أنه‭ ‬يعرف‭ ‬أغوار‭ ‬اللغة،‭ ‬ويدرك‭ ‬دقائقها‭ ‬ولطائفها‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تدرك،‭ ‬ويحسن‭ ‬التصرف‭ ‬بنحوها‭ ‬وصرفها‭ ‬أيما‭ ‬إحسان،‭ ‬وأن‭ ‬له‭ ‬خصوصية‭ ‬لغوية‭ ‬مميزة،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يذهب‭ ‬مذهب‭ ‬الرافعي‭ ‬في‭ ‬الإنشاء‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬يفوقه‭ ‬شغفاً‭ ‬بالصناعة‭ ‬اللغوية،‭ ‬فكل‭ ‬المؤلفين‭ ‬يستعملون‭ ‬كلمة‭ ‬تنبيه،‭ ‬مثلاً،‭ ‬إذا‭ ‬أرادوا‭ ‬لفت‭ ‬القارئ‭ ‬إلى‭ ‬أمر‭ ‬مهم‭ ‬قد‭ ‬تفوته‭ ‬معرفته،‭ ‬لكن‭ ‬العلايلي‭ ‬يبتدع‭ ‬في‭ ‬الطبعة‭ ‬الثانية‭ ‬لكتابه‭ ‬هذا‭ ‬لفظة‭ ‬جديدة‭ ‬هي‭ ‬‮«‬منبهة‮»‬،‭ ‬ويستعمل‭ ‬للتمهيد‭ ‬لفظة‭ ‬الفاتحة،‭ ‬ربما‭ ‬اقتباساً‭ ‬للمصطلح‭ ‬القرآني،‭ ‬وكل‭ ‬الناس‭ ‬تستعمل‭ ‬كلمة‭ ‬أنانية،‭ ‬لكنه‭ ‬يستعمل‭ ‬معها‭ ‬كلمة‭ ‬زنانية،‭ ‬مشيراً‭ ‬إلى‭ ‬ترادف‭ ‬الكلمتين‭... ‬إلخ،‭ ‬ويدلّك‭ ‬على‭ ‬طلبه‭ ‬للغريب‭ ‬توكيده‭ ‬لي‭ ‬ولبعض‭ ‬أصدقائي‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يحفظ‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬نصوص‭ ‬الرافعي،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬عبارة‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬أوراق‭ ‬الورد‭: ‬‮«‬الحب‭ ‬هو‭ ‬قدرة‭ ‬إنسان‭ ‬على‭ ‬قلب‭ ‬إنسان‭ ‬آخر‮»‬،‭ ‬وأنه،‭ ‬أي‭ ‬العلايلي‭ ‬يفضل‭ ‬استعمال‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬استيحاذ‮»‬‭ ‬على‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬قدرة‮»‬‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬العبارة،‭ ‬ولم‭ ‬يبين‭ ‬لنا‭ ‬وجه‭ ‬اشتقاق‭ ‬هذا‭ ‬المصدر‭ ‬من‭ ‬فعل‭ ‬استحوذ‭ ‬أو‭ ‬استحاذ،‭ ‬وليس‭ ‬هنا‭ ‬موضع‭ ‬مناقشة‭ ‬هذا‭ ‬الاشتقاق‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬حال،‭ ‬وربما‭ ‬أسأنا‭ ‬السمع،‭ ‬وكانت‭ ‬الكلمة‭ ‬التي‭ ‬اقترحها‭ ‬الشيخ‭ ‬هي‭ ‬استحواذ‭.‬

لكن‭ ‬الشيخ‭ ‬ليس‭ ‬رافعياً‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬إنشائه،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬بعضه‭ ‬قريب‭ ‬من‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬في‭ ‬ديباجته‭ ‬الأنيقة،‭ ‬وفي‭ ‬طريقته‭ ‬الإيحائية،‭ ‬وقريب‭ ‬في‭ ‬استطراداته‭ ‬الكثيرة‭ ‬غير‭ ‬المريحة‭ ‬من‭ ‬القصّاص‭ ‬الفرنسي‭ ‬دوروفيلي‭ ‬صاحب‭ ‬مجموعة‭ ‬الشيطانيات‭. ‬واللافت‭ ‬أن‭ ‬للشيخ‭ ‬لمحات‭ ‬نظرية‭ ‬فلسفية‭ ‬واجتماعية‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬ينسبها‭ ‬بمصطلحاتها‭ ‬الحديثة‭ ‬وتعقيداتها‭ ‬إلى‭ ‬القدماء،‭ ‬وهو‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬يقتبس،‭ ‬أحياناً،‭ ‬نصوصاً‭ ‬بحرفها‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ،‭ ‬ويقحم‭ ‬أشعاره‭ ‬على‭ ‬النص‭ ‬فيحيّر‭ ‬القارئ‭: ‬هل‭ ‬ما‭ ‬يقرأه‭ ‬هو‭ ‬لصاحب‭ ‬الكتاب‭ ‬أو‭ ‬هو‭ ‬لبعض‭ ‬أولئك‭ ‬القدماء،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬الحواشي‭ ‬التوضيحية‭. ‬وذلك‭ ‬الشعر‭ ‬إما‭ ‬تقليدي،‭ ‬ويسميه‭ ‬شعراً،‭ ‬وهو‭ ‬قليل،‭ ‬أو‭ ‬هو‭ ‬حديث‭ ‬يمكن‭ ‬نسبته‭ ‬إلى‭ ‬الشعر‭ ‬المنثور‭ ‬أو‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر،‭ ‬وهو‭ ‬كثير،‭ ‬ولا‭ ‬يضيفه‭ ‬إلى‭ ‬الشعر،‭ ‬لكنك‭ ‬تستنتج‭ ‬أنه‭ ‬أراده‭ ‬شعراً،‭ ‬بصرف‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬قيمته‭.‬

وقد‭ ‬يجيء‭ ‬شعر‭ ‬العلايلي‭ ‬مفعماً‭ ‬بروح‭ ‬خطابية،‭ ‬مسجوعاً‭ ‬غير‭ ‬موزون،‭ ‬جعلت‭ ‬كل‭ ‬سجعة‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬السطر‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬الشعر‭ ‬الحر،‭ ‬وعبّر‭ ‬عن‭ ‬عاطفة‭ ‬من‭ ‬العواطف،‭ ‬بأسلوب‭ ‬حماسي‭ ‬أحياناً،‭ ‬كحماسة‭ ‬الخطابة‭. ‬فيذكرنا‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬ذلك‭ ‬بقصائد‭ ‬أمين‭ ‬الريحاني‭ ‬النثرية‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬هتاف‭ ‬الأودية‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬نشره‭ ‬في‭ ‬بدايات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وصدّره‭ ‬بكلمة‭ ‬قصيرة‭ ‬عن‭ ‬الشعر‭ ‬المنثور‭. ‬ومثال‭ ‬ذلك‭ ‬قول‭ ‬العلايلي‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬من‭ ‬أيام‭ ‬النبوة،‭ ‬ضمن‭ ‬مقالة‭ ‬بعنوان‭: ‬في‭ ‬الزوبعة،‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الأشتر‭ (‬ابن‭ ‬النفس‭ ‬الزكية‭)‬،‭ ‬متحدثا‭ ‬عن‭ ‬الخليفة‭ ‬العباسي‭ ‬المنصور‭:‬

ألا‭ ‬سحقاً‭ ‬لبطانة‭ ‬الخليفة‭ ‬الأشرار،

وويل‭ ‬للظالمين‭ ‬من‭ ‬أتون‭ ‬الشعب‭ ‬الفوار،

فيد‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬الغيب‭ ‬تعتصر‭ ‬المستبدين‭ ‬الفجار

ولا‭ ‬بد‭ ‬للظلم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يلتهمه‭ ‬في‭ ‬ضمير‭ ‬الكون‭ ‬أُفعوان‭ ‬جبار‭...‬

إلى‭ ‬آخر‭ ‬نص‭ ‬مؤلف‭ ‬من‭ ‬أربعة‭ ‬عشر‭ ‬سطراً‭ ‬كلها‭ ‬ينتهي‭ ‬برويّ‭ ‬الراء‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يحركه‭ ‬العلايلي،‭ ‬وقبله‭ ‬ألف‭ ‬التأسيس‭. ‬وشبه‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬يثير‭ ‬حماسة‭ ‬الناس‭ ‬لو‭ ‬ألقي‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬منبر‭ ‬في‭ ‬مسجد‭ ‬أو‭ ‬مهرجان،‭ ‬لكنه‭ ‬قلما‭ ‬يحرِّك‭ ‬نفس‭ ‬قارئ‭ ‬لكتاب،‭ ‬لا‭ ‬يدخله‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬شعري‭.‬

وقد‭ ‬يأتي‭ ‬ذلك‭ ‬الشعر‭ ‬بأسلوب‭ ‬فلسفي‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬الرافعي،‭ ‬الذي‭ ‬نعرف‭ ‬أنه‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬شاعراً‭ ‬فيلسوفاً،‭ ‬غير‭ ‬بعيد‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬الريحاني‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬الأساليب،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬قوله‭:‬

في‭ ‬طبيعة‭ ‬البحر‭ ‬رشاقة‭ ‬الحركة،‭ ‬وفي‭ ‬طبيعة‭ ‬الصخر‭ ‬سكون‭ ‬بليد،‭ ‬وأيضا‭ ‬قاسٍ‭ ‬متجهم‭...‬

وبينهما‭ ‬وقف‭ ‬إنسان‭ ‬فيه‭ ‬وعي‭ ‬السكون،‭ ‬وقصد‭ ‬الحركة،‭ ‬يصل‭ ‬أسباب‭ ‬أحدهما‭ ‬بالآخر‭...‬

وكانت‭ ‬كبرياء‭ ‬الصخر‭ ‬عمياء‭ ‬فلم‭ ‬تقنع‭ ‬بغير‭ ‬وجودها،‭ ‬فانطلقت‭ ‬أعاصير‭ ‬البحر‭ ‬تزأر‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬الفحيح‭...‬

ووقف‭ ‬هذا‭ ‬الإنسان‭ ‬عند‭ ‬الشاطئ‭ ‬ينظر‭ ‬متفجّعاً،‭ ‬وإذا‭ ‬الوجود‭ ‬المخدوع‭ - ‬الذي‭ ‬أضحى‭ ‬غوراً‭ ‬ترقص‭ ‬فوقه‭ ‬موجة‭ ‬مارحة‭ - ‬في‭ ‬نغمة‭ ‬تخبره‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬هنا‭ ‬شيء‭ ‬فيما‭ ‬زعموا‭...‬

إن‭ ‬هذا‭ ‬الشعر‭ ‬المتداخل‭ ‬مع‭ ‬النثر‭ ‬العادي،‭ ‬لو‭ ‬جاء‭ ‬مستقلاً،‭ ‬وأكثر‭ ‬عفوية،‭ ‬وبعيداً‭ ‬من‭ ‬نظم‭ ‬العلماء،‭ ‬فربما‭ ‬جعل‭ ‬للعلايلي‭ ‬مقاماً‭ ‬مهماً‭ ‬بين‭ ‬الشعراء‭ ‬الحديثين،‭ ‬ولاسيما‭ ‬أصحاب‭ ‬الشعر‭ ‬المنثور‭.‬

 

‮«‬أين‭ ‬الخطأ؟‮»‬

أما‭ ‬الكتاب‭ ‬الثاني،‭ ‬نعني‭: ‬‮«‬أين‭ ‬الخطأ‮»‬،‭ ‬فليس‭ ‬كتاباً‭ ‬في‭ ‬الأخطاء‭ ‬اللغوية،‭ ‬بل‭ ‬مؤلَّف‭ ‬فكري‭ ‬يرمي‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬تصحيح‭ ‬مفاهيم‭ ‬ونظرة‭ ‬تجديد‮»‬،‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬العنوان‭ ‬التكميلي‭ ‬للكتاب،‭ ‬ويتناول‭ ‬أحداثاً‭ ‬جرت‭ ‬في‭ ‬صدر‭ ‬الإسلام‭ ‬والعصر‭ ‬الأموي‭ ‬برؤية‭ ‬خاصة،‭ ‬ويتسم‭ ‬بالجرأة‭ ‬الفكرية‭ ‬والسعي‭ ‬إلى‭ ‬التجديد،‭ ‬ومقاومة‭ ‬التقليد،‭ ‬وقد‭ ‬جعل‭ ‬العلايلي‭ ‬شعاره‭ ‬فيه‭ ‬عبارة‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬تصدير‭ ‬كتابه‭ ‬الآنف‭ ‬الذكر‭ ‬‮«‬مقدمة‭ ‬لدرس‭ ‬لغة‭ ‬العرب‮»‬،‭ ‬وهي‭: ‬‮«‬ليس‭ ‬محافظةً‭ ‬التقليدُ‭ ‬مع‭ ‬الخطأ،‭ ‬وليس‭ ‬خروجاً‭ ‬التصحيحُ‭ ‬الذي‭ ‬يحقق‭ ‬المعرفة‮»‬‭.‬

ويتألف‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬مدخل‭ ‬وعشرة‭ ‬فصول،‭ ‬وقد‭ ‬وُصف‭ ‬المدخل‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬خاطرة‭ ‬لمدخل‮»‬،‭ ‬وفيه‭ ‬تلخيص‭ ‬لفكرة‭ ‬الكتاب‭ ‬العامة‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬الإسلام‭ ‬أيديولوجية‭ ‬متكاملة‭ ‬مستقلة،‭ ‬من‭ ‬الخطأ‭ ‬تشبيهها‭ ‬ببعض‭ ‬المذاهب‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬الحديثة،‭ ‬وأن‭ ‬فيه‭ ‬دعوة‭ ‬ضمنية‭ ‬إلى‭ ‬التجديد‭ ‬الديني‭ ‬الدائم،‭ ‬وأنه‭ ‬يؤمن‭ ‬بالإنسان‭ ‬الشامل‭. ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬الفصول‭ ‬مناقشة‭ ‬لشؤون‭ ‬شتّى‭ ‬كالمنهج‭ ‬الاقتصادي‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬الأنانية‭ ‬في‭ ‬استحواذ‭ ‬المال،‭ ‬ووجوب‭ ‬القرض‭ ‬غير‭ ‬الربوي،‭ ‬والرفق‭ ‬في‭ ‬استيفاء‭ ‬الدين،‭ ‬وتحريم‭ ‬كنز‭ ‬المال،‭ ‬وجبرية‭ ‬تداوله،‭ ‬ونظام‭ ‬الكفّارات،‭ ‬والتكافلية،‭ ‬والسماح‭ ‬لصاحب‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬الزكاة‭ ‬باستخلاصها‭ ‬إذا‭ ‬عجزت‭ ‬السلطة‭ ‬عن‭ ‬ذلك،‭ ‬والحض‭ ‬على‭ ‬إشراك‭ ‬المجتمع‭ ‬في‭ ‬إرث‭ ‬المتوفين،‭ ‬وكالنفط‭ ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬العلايلي‭ ‬وجوب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬شراكة‭ ‬بين‭ ‬المسلمين،‭ ‬وكأضاحي‭ ‬الحج‭ ‬التي‭ ‬يقترح‭ ‬تصنيعها‭ ‬وتعليبها‭ ‬وبيعها‭ ‬لمساعدة‭ ‬الدول‭ ‬والشعوب‭ ‬الفقيرة‭ ‬بأثمانها،‭ ‬وكالفائدة‭ ‬المصرفية‭ ‬التي‭ ‬يحللها‭ ‬بوصفها‭ ‬ضرباً‭ ‬من‭ ‬المقارضة‭ ‬والمشاركة‭ ‬في‭ ‬الربح،‭ ‬وكالحدود‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يُلجأ‭ ‬إليها،‭ ‬في‭ ‬رأيه،‭ ‬إلا‭ ‬عند‭ ‬اليأس‭ ‬مما‭ ‬عداها،‭ ‬ولاسيما‭ ‬التعزير،‭ ‬وكموضوع‭ ‬التماس‭ ‬الهلال‭ ‬كل‭ ‬شهر‭ ‬باعتماد‭ ‬الرؤية‭ ‬العقلية‭ ‬لا‭ ‬البصرية،‭ ‬أي‭ ‬بالتعويل‭ ‬على‭ ‬الحساب،‭ ‬وكالطلب‭ ‬إلى‭ ‬مجمع‭ ‬البحوث‭ ‬الفقهية‭ ‬الأخذ‭ ‬بالرأي‭ ‬العملي‭ ‬على‭ ‬مبادئ‭ ‬التأصيل‭ ‬والتفريع‭ ‬في‭ ‬الفقه،‭ ‬وكالقول‭ ‬بإباحة‭ ‬الزواج‭ ‬بين‭ ‬كتابيّ‭ ‬ومسلمة،‭ ‬والقول‭ ‬بإباحة‭ ‬الأفلام‭ ‬السينماوية‭ ‬المتصلة‭ ‬بصدر‭ ‬الإسلام،‭ ‬وبخاصة‭ ‬بعد‭ ‬العهد‭ ‬النبوي‭. ‬وكل‭ ‬هذه‭ ‬قضايا‭ ‬جدلية‭ ‬شائكة،‭ ‬طرحت‭ ‬بطريقة‭ ‬ثورية‭ ‬تنمّ‭ ‬عن‭ ‬فرادة‭ ‬وشجاعة،‭ ‬وكانت‭ ‬الغاية‭ ‬منها‭ ‬تجديد‭ ‬الإسلام‭ ‬وجعله‭ ‬موافقاً‭ ‬للعصر‭ ‬الحديث،‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬الحركة‭ ‬الدينية‭ ‬الحداثية‭ ‬التي‭ ‬نشأت‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬في‭ ‬العقد‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬والتي‭ ‬سعت‭ ‬إلى‭ ‬تأويل‭ ‬جديد‭ ‬للمعتقدات‭ ‬والنظريات‭ ‬الدينية‭ ‬التقليدية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تفسيرات‭ ‬حديثة‭. ‬لكن‭ ‬معارضي‭ ‬العلايلي‭ ‬من‭ ‬العلماء‭ ‬المسلمين‭ ‬كانوا‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مؤيديه،‭ ‬وبدا‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬أدلته‭ ‬غير‭ ‬مقنع،‭ ‬مثل‭ ‬جمهرة‭ ‬من‭ ‬المصطلحات‭ ‬التي‭ ‬استحدث‭ ‬ترجمات‭ ‬لها،‭ ‬أو‭ ‬ابتكرها‭ ‬ولم‭ ‬يكد‭ ‬أحد‭ ‬يستعملها‭.‬

والأسلوب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬أقل‭ ‬تكلفاً‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬الأول،‭ ‬وأقل‭ ‬غموضاً،‭ ‬ويكاد‭ ‬ينحو‭ ‬نحواً‭ ‬علمياً‭ ‬بتحاليله،‭ ‬واعتماده‭ ‬على‭ ‬مصادر‭ ‬تُذكر‭ ‬في‭ ‬الحواشي،‭ ‬لكنه‭ ‬ليس‭ ‬قريب‭ ‬المتناول،‭ ‬بل‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬جهد‭ ‬لفهمه،‭ ‬ليس‭ ‬لأنه‭ ‬لخاصة‭ ‬العلماء،‭ ‬بل‭ ‬لميل‭ ‬صاحبه‭ ‬إلى‭ ‬الغموض‭ ‬وغرابة‭ ‬التعبير،‭ ‬كدأبه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬كتاباته،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬الفكرة‭ ‬لتستغلق‭ ‬على‭ ‬القارئ‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المواضع‭. ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬الشيخ‭ ‬قلما‭ ‬يتحرر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬كونه‭ ‬معجمياً،‭ ‬بل‭ ‬يستمر‭ ‬على‭ ‬معجميته،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬عمله‭ ‬فكريّ‭ ‬يستدعي‭ ‬عناية‭ ‬بالرأي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬العناية‭ ‬باللفظة‭ ‬المفردة‭ ‬والعبارة،‭ ‬وتجده‭ ‬يكثر‭ ‬في‭ ‬فصوله‭ ‬من‭ ‬استنباط‭ ‬المصطلحات،‭ ‬ومن‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬تعليل‭ ‬استنباطه‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬الحاشية،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬لا‭ ‬نجده‭ ‬إلا‭ ‬نادراً‭ ‬عند‭ ‬الآخرين‭. ‬فهو‭ ‬يستعمل،‭ ‬مثلاً،‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬‮«‬خاطرة‭ ‬لمدخل‮»‬‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬الاجتماعية‭ ‬العلمية‮»‬‭ ‬ويوضح‭ ‬في‭ ‬الحاشية‭ ‬أنها‭ ‬بديل‭ ‬لعبارة‭ ‬مغلوطة،‭ ‬في‭ ‬رأيه،‭ ‬هي‭ ‬‮«‬الاشتراكية‭ ‬الماركسية‮»‬،‭ ‬ويستعمل‭ ‬مصطلحه‭ ‬الخاص‭: ‬فِكْرَويّة،‭ ‬وبجانبه‭ ‬في‭ ‬المتن‭ ‬تفسير‭ ‬له‭ ‬بمصطلح‭: ‬أيديولوجية،‭ ‬وفي‭ ‬الحاشية‭ ‬توضيح‭ ‬لاختياره‭ ‬هذا،‭ ‬وهو‭ ‬النسبة‭ ‬إلى‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬فِكرَى‮»‬‭ (‬بالألف‭ ‬المقصورة‭) ‬المثبتة‭ ‬في‭ ‬معجم‭ ‬لسان‭ ‬العرب‭ - ‬لا‭ ‬إلى‭ ‬فكرة‭ ‬كما‭ ‬يتوهم‭ ‬الكثيرون‭ ‬ويبنون‭ ‬على‭ ‬وهمهم‭ ‬اشتقاقات‭ ‬مغلوطة،‭ ‬وفكرى‭ ‬هذه‭ ‬كلمة‭ ‬قليلة‭ ‬الاستعمال،‭ ‬كما‭ ‬يذكر‭ ‬ابن‭ ‬منظور،‭ ‬ولم‭ ‬نظفر‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬قراءاتنا‭ ‬للقديم‭ ‬والحديث،‭ ‬ويفعل‭ ‬العكس‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬علم‭ ‬الحياة،‭ ‬إذ‭ ‬يذكر‭ ‬الكلمة‭ ‬المعرّبة‭: ‬بيولوجية،‭ ‬ويشرحها‭ ‬في‭ ‬المتن‭ ‬بمصطلحه‭ ‬الخاص،‭ ‬‮«‬حِياوة‮»‬،‭ ‬ويفسرها‭ ‬في‭ ‬الحاشية‭ ‬بالكلمة‭ ‬الأجنبية‭ ‬مكتوبة‭ ‬بأحرف‭ ‬لاتينية،‭ ‬ومقابلة‭ ‬بمصطلح‭ ‬علم‭ ‬الحياة‭. ‬ومثل‭ ‬هذا‭ ‬كثير،‭ ‬منذ‭ ‬بدء‭ ‬العلايلي‭ ‬التأليف‭ ‬في‭ ‬العقد‭ ‬الرابع‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬كتاباته،‭ ‬ولا‭ ‬يخفى‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬يربك‭ ‬النص‭ ‬ويثقله،‭ ‬ولن‭ ‬نتكلم‭ ‬على‭ ‬صحته‭ ‬أو‭ ‬خطئه،‭ ‬ومقدار‭ ‬تقبّل‭ ‬الناس‭ ‬أو‭ ‬استعمالهم‭ ‬له‭. ‬وربما‭ ‬أراد‭ ‬العلايلي‭ ‬بذلك‭ ‬نشر‭ ‬مصطلحاته‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كتاباته‭ ‬الأدبية‭ ‬والفكرية،‭ ‬لأن‭ ‬الناس‭ ‬أكثر‭ ‬قراءة‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬قراءتهم‭ ‬للمعاجم،‭ ‬لكنه‭ ‬سلك‭ ‬طريقاً‭ ‬استطرادية‭ ‬لا‭ ‬تساعد‭ ‬في‭ ‬تماسك‭ ‬النص‭.‬

 

نقد‭ ‬لا‭ ‬تنقّص

هذه‭ ‬لمحات‭ ‬من‭ ‬شخصية‭ ‬العلايلي‭ ‬وأدبه،‭ ‬لا‭ ‬يتسع‭ ‬المقام‭ ‬لأكثر‭ ‬منها،‭ ‬وبعض‭ ‬الملحوظات‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬سياقها‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬اعتدادها‭ ‬تنقصاً‭ ‬لعبقرية‭ ‬الرجل،‭ ‬فحسبه‭ ‬أنه‭ ‬ألّف‭ ‬كتابه‭: ‬‮«‬مقدمة‭ ‬لدرس‭ ‬لغة‭ ‬العرب،‭ ‬وهو‭ ‬لايزال‭ ‬في‭ ‬الرابعة‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬عارضاً‭ ‬نظرية‭ ‬لافتة‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬وتأليف‭ ‬المعاجم‭ ‬العربية،‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يرقى‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬ابن‭ ‬جنّي،‭ ‬خلافاً‭ ‬لرأي‭ ‬بعض‭ ‬زملائنا‭.‬

إلا‭ ‬أنه،‭ ‬في‭ ‬المـــقابل،‭ ‬فتن‭ ‬العامة‭ ‬والخاصة‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬بخطبه‭ ‬ومحاضراته،‭ ‬وأنك‭ ‬إذا‭ ‬قلت‭ ‬في‭ ‬اللغة‭: ‬قال‭ ‬العلايلي،‭ ‬فإن‭ ‬قولك‭ ‬يسلّم‭ ‬به،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬نظر،‭ ‬وأنك‭ ‬إذا‭ ‬خالفته‭ ‬لم‭ ‬يكد‭ ‬يأبه‭ ‬لرأيك‭ ‬أحد،‭ ‬ولو‭ ‬كنت‭ ‬على‭ ‬صواب‭. ‬وأذكر‭ ‬أن‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬اللبنانية‭ ‬طفقت‭ ‬تستعمل‭ ‬صفة‭ ‬النائب‭ ‬للمذكر‭ ‬والمؤنث،‭ ‬فاعترض‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬اللغويين‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬ومنهم‭ ‬صاحب‭ ‬هذه‭ ‬المقالة،‭ ‬الذي‭ ‬كتب‭ ‬بحثاً‭ ‬بيّن‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬استعمل‭ ‬تلك‭ ‬الصفة‭ ‬للجنسين‭ ‬استند‭ ‬إلى‭ ‬رأي‭ ‬لابن‭ ‬سيده‭ ‬تنقضه‭ ‬شواهده‭ ‬نفسها،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬استمر‭ ‬استعمال‭ ‬صفة‭ ‬النائب‭ ‬للمؤنث‭ ‬بغير‭ ‬تاء‭ ‬التأنيث،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬الجريدة‭ ‬التي‭ ‬نشرت‭ ‬البحث،‭ ‬ولما‭ ‬سئل‭ ‬بعض‭ ‬مسؤوليها‭ ‬عن‭ ‬السبب،‭ ‬قالوا‭: ‬إنه‭ ‬رأي‭ ‬العلايلي‭! ‬