في أدب العلايلي وفكره
في الناس أشخاص يطربونك بحديثهم ومحاضرتهم وخطاباتهم أكثر مما يقنعونك بكتابتهم، وهم في الوقت نفسه سريعو الهزة لما يسمعون من جميل الكلام، ومن هؤلاء الشيخ عبدالله العلايلي. كنت أسمع به سماعاً وأنا بعد طالب، وأول مرة رأيته فيها كانت سنة 1967، وذلك أنه كان عضواً في اللجنة المحكِّمة لمباراة الشعر في الجامعة اللبنانية التي أقيمت في قصر الأونيسكو ببيروت، والتي شاركت فيها. ومن عجب أنه كان يتسمّع شاعراً يلقي قصيدة بالعامية، فأعجبته كثيراً، فهبّ واقفاً يصفق ويضحك ويهتف، وقد وضع عمامته على مقعده، فلما عاد إلى الجلوس قعد عليها، ثم نهض عنها ليسويها ويعتمرها.
ومضى زمن أنهيت فيه الدكتوراه ودخلت في الهيئة التعليمية في الجامعة اللبنانية، وطلبت يوماً موعداً منه في بيروت، أنا وأحد زملائي في الجامعة، وهناك طرحت عليه سؤالاً لغوياً، فمضى يحدثني ويطيل الحديث في شيء من علم الاجتماع، ومن الفلسفة، ومن التاريخ، وأنا أنظر إلى زميلي مستغرباً خروج الشيخ عن الموضوع، وزميلي ينظر إليّ بالاستغراب نفسه، وفجأة ربط الشيخ بين تلك الأمور جميعاً، ليصل إلى تأويل جميل لتلك المسألة، ولولا هيبة المجلس لصفّقنا له.
ملامح من شخصيته
وكان الناس في لبنان، ولاسيما أهل المساجد، يطربون لخطبه - وكان يرتجلها - ويقبلون عليها إقبالاً عزّ نظيره، وكانوا يلقبونه بـ «بلبل» المنابر. ومما ذكره لي ولبعض أصدقائي في بعض زياراتنا له، أن كميل شمعون كان، قبل أن يُنتخب رئيساً للجمهورية اللبنانية، يحمله على كتفيه بعد انتهاء خطبه في مهرجانات المعارضة في لبنان، لكنه صار خصماً له حين اعتلى سدة الحكم. أما حين عرفتُ العلايلي عن قرب سنة 1984 أو نحوها، أي حين ناهز السبعين من عمره، فقد كان قد انقطع عن الخطابة، لعل ذلك لأنه كان يسارياً، ولأن المتشددين كانوا ينسبونه إلى الشيوعية، فنشأ نفور بينه وبين المسجديين، كما أنه سئم السياسة بسبب الظروف التي أحاطت بلبنان منذ سنة 1975، ولأنه لم يجد عند الساسة استجابة لأفكاره، فضلاً عن أن سنّه كانت متقدمة نسبياً، لا تساعده كثيراً على التنقل وصعود المنابر، ولذلك اتخذ من مكتبته مقاماً لا يكاد يبارحه، وقد وضع فيه منضدة صغيرة خفيضة كتلك التي كان يستعملها الشيوخ، فيجعلون عليها كتبهم التي يقرأون، أو دفاترهم التي يكتبون عليها، وهم جالسون على الأرض متربعين، أو مادين أرجلهم على البساط، لاسيما حين يرهقهم طول الجلوس.
فالعلايلي يجمع، إذن، إلى الذكاء المتوقد وسعة المعرفة وعمق التحليل ذاتية عاطفية، فإذا أعجب بشخص عظّمه، وإذا غضب على آخر استخف به، ومن ذلك أنه قال لي مرة في العالم اللغوي الكبير الشيخ مصطفى الغلاييني: «من هو هذا؟ لقد كان يسألني في اللغة!»، مع أنه قبل ذلك بأكثر من أربعين عاماً، وصفه في كتابه: «مقدمة لدرس لغة العرب» (القاهرة 1938) بأنه أحد لغويَّين حقيقيَّين في بيروت، ومدح اجتهاداته وقبوله المحدث من اللغة. هذا على حين وصف لبعض زواره أحد زملائنا في الجامعة باللغوي الكبير، مع أنه لا سبيل إلى مقارنة ذلك الزميل بالغلاييني.
وكان معجباً بالشاعر سعيد عقل، حتى وصفه برئيس جمهورية عبقر، ومعروف أن سعيد عقل كان يتصيّد الأساليب الغريبة، على طريقة الرمزيين، والشيخ العلايلي متصيّد لتلك الأساليب في إنشائه المكتوب، ميّال إلى الرمزية في بعضها، كما كان معجباً بمصطفى صادق الرافعي للسبب نفسه، حتى إن إحدى المجلات نشرت باسمه مقالة لهذا الأديب المصري ذي الجذور اللبنانية - ربما التبس عليها الأمر - فقام المعجبون بالرافعي، والباحثون عن سقطة للعلايلي، يتهمون الشيخ بالانتحال. وأثناء تأليفي لكتاب: «مصطفى صادق الرافعي رائد الرمزية العربية المطلة على السوريالية»، سنة 1984، سألت الشيخ عن سبب تأثره بأسلوب الرافعي، فأجابني بأنه لم ير ديباجة تؤدي المؤدى الذي يبغي سوى ديباجة أبي حيان التوحيدي وأمثاله، فكان أن اختار أسلوب الرافعي الذي كان، وفق تعبيره، تقفية شرعية للتوحيدي، وبدا من الأقلام ذات الشكل الفريد، واحتل في العصر الحديث ما احتله الدينوري والجاحظ والتوحيدي في القديم. وقد أثبتُّ قوله في مقدمة كتابي ذلك.
والكلام على الشيخ عبدالله العلايلي يطول، وقد كتب فيه الكثير الكثير، وسنكتفي في هذه العجالة، بتناول أدبه وفكره في مواضيع جديدة لم يتطرّق إليها الباحثون، في ما نعلم، تاركين كتاباته اللغوية الصرفة، مكتفين بكتابين له، هما: «من أيام النبوة... مشاهد وقصص»، و«أين الخطأ؟... تصحيح مفاهيم ونظرة تجديد».
من أيام النبوة
فأما الكتاب الأول، فقصص تاريخي، وإن أدخل فيه النص التاريخي الحرفي أحياناً قليلة. وأول أقسامه غير معنون، وفيه حديث عن مدينة النبي على أنها بلد الدولة الإسلامية منذ انتصار المسلمين على قريش في يوم بدر، في السنة الثانية للهجرة، وأحاديث عن زواج الإمام علي وفاطمة الزهراء بنت النبي، وعن يوم أُحد الذي فازت فيه قريش على المسلمين، في السنة الثالثة للهجرة، وعن مولد الإمام الحسين، وعما أوحى العلايلي بأنه إعلان للدولة الإسلامية سنة سبعة للهجرة، وعن وفاة النبي الكريم. لكن الشيخ يجعل للقسم الثاني عنواناً هو «من أيام العهد الراشدي»، وفيه يتكلم على إعجاب الخليفة عمر بن الخطاب بالحسين بن علي رضي الله عنهما، وعلى مساهمة أبناء الصحابة، ولاسيما الحسن والحسين وابن عباس، في الجهاد، وعن مقتل الخليفة عثمان بن عفان في ما عده العلايلي ثورة، وعن قصة التحكيم بين الإمام عليّ ومعاوية وظهور الخوارج، وعن مقتل الإمام علي. يبقى القسم الثالث وعنوانه: من أيام الحسين السبط، وفيه فصول عن مكانة الحسين ومكارم أخلاقه ومحبة الناس له، وعن مقتل الصحابي حجر بن عدي وأثره في الحسين وأهل المدينة، وعن عشق يزيد لزوجة أحد عمال أبيه، وعن إرغام معاوية لأبناء الصحابة، ومنهم الحسين على مبايعة يزيد، ثم عن ثورة الحسين ومقتله.
إن فضل هذا الكتاب أنه محاولة لإزاحة الضباب عن بعض المغالطات المتصلة بالتاريخ الإسلامي، ولاسيما تاريخ الطالبيين وعلاقتهم بالخلفاء الراشدين، فهو بصورة من الصور تقريب بين السنة والشيعة بطريقة غير مباشرة، وأهميته أنه صادر عن أحد علماء السنّة الكبار في شأن أهل البيت، ولاسيما عليّ والحسين. ومعروف أن كتابات العلايلي في الحسين، وبخاصة كتابه: «سمو المعنى في سمو الذات» أو «أشعة من حياة الحسين» (القاهرة 1939) لقيت أصداء حسنة عند الشيعة، وإن أثارت معارك بين العلايلي وبعض علماء السنة كالشيخ علي الطنطاوي، والأستاذين محمد كرد علي وأحمد حسن الزيات.
وأسلوب العلايلي في هذا الكتاب يكاد يكون أسلوب الرافعي نفسه، لكن مع طلب للقديم والغريب والغموض أكبر، فهو تلميذ الرافعي، لكنه يختلف عنه بارتدائه دوماً ثوب اللغوي المعجمي الذي يحلو له إشعارك أنه يعرف أغوار اللغة، ويدرك دقائقها ولطائفها التي لا تدرك، ويحسن التصرف بنحوها وصرفها أيما إحسان، وأن له خصوصية لغوية مميزة، فهو لا يذهب مذهب الرافعي في الإنشاء فحسب، بل يفوقه شغفاً بالصناعة اللغوية، فكل المؤلفين يستعملون كلمة تنبيه، مثلاً، إذا أرادوا لفت القارئ إلى أمر مهم قد تفوته معرفته، لكن العلايلي يبتدع في الطبعة الثانية لكتابه هذا لفظة جديدة هي «منبهة»، ويستعمل للتمهيد لفظة الفاتحة، ربما اقتباساً للمصطلح القرآني، وكل الناس تستعمل كلمة أنانية، لكنه يستعمل معها كلمة زنانية، مشيراً إلى ترادف الكلمتين... إلخ، ويدلّك على طلبه للغريب توكيده لي ولبعض أصدقائي أنه كان يحفظ كثيراً من نصوص الرافعي، ومن ذلك عبارة وردت في كتاب أوراق الورد: «الحب هو قدرة إنسان على قلب إنسان آخر»، وأنه، أي العلايلي يفضل استعمال كلمة «استيحاذ» على كلمة «قدرة» في تلك العبارة، ولم يبين لنا وجه اشتقاق هذا المصدر من فعل استحوذ أو استحاذ، وليس هنا موضع مناقشة هذا الاشتقاق على كل حال، وربما أسأنا السمع، وكانت الكلمة التي اقترحها الشيخ هي استحواذ.
لكن الشيخ ليس رافعياً في كل إنشائه، بل هو في بعضه قريب من طه حسين في ديباجته الأنيقة، وفي طريقته الإيحائية، وقريب في استطراداته الكثيرة غير المريحة من القصّاص الفرنسي دوروفيلي صاحب مجموعة الشيطانيات. واللافت أن للشيخ لمحات نظرية فلسفية واجتماعية حاول أن ينسبها بمصطلحاتها الحديثة وتعقيداتها إلى القدماء، وهو مع ذلك يقتبس، أحياناً، نصوصاً بحرفها من كتب التاريخ، ويقحم أشعاره على النص فيحيّر القارئ: هل ما يقرأه هو لصاحب الكتاب أو هو لبعض أولئك القدماء، على الرغم من بعض الحواشي التوضيحية. وذلك الشعر إما تقليدي، ويسميه شعراً، وهو قليل، أو هو حديث يمكن نسبته إلى الشعر المنثور أو قصيدة النثر، وهو كثير، ولا يضيفه إلى الشعر، لكنك تستنتج أنه أراده شعراً، بصرف النظر عن قيمته.
وقد يجيء شعر العلايلي مفعماً بروح خطابية، مسجوعاً غير موزون، جعلت كل سجعة منه في آخر السطر على طريقة الشعر الحر، وعبّر عن عاطفة من العواطف، بأسلوب حماسي أحياناً، كحماسة الخطابة. فيذكرنا في بعض ذلك بقصائد أمين الريحاني النثرية في كتاب «هتاف الأودية»، الذي نشره في بدايات القرن الماضي، وصدّره بكلمة قصيرة عن الشعر المنثور. ومثال ذلك قول العلايلي في كتاب من أيام النبوة، ضمن مقالة بعنوان: في الزوبعة، على لسان الأشتر (ابن النفس الزكية)، متحدثا عن الخليفة العباسي المنصور:
ألا سحقاً لبطانة الخليفة الأشرار،
وويل للظالمين من أتون الشعب الفوار،
فيد الله من وراء الغيب تعتصر المستبدين الفجار
ولا بد للظلم من أن يلتهمه في ضمير الكون أُفعوان جبار...
إلى آخر نص مؤلف من أربعة عشر سطراً كلها ينتهي برويّ الراء الذي لا يحركه العلايلي، وقبله ألف التأسيس. وشبه المؤكد أن مثل هذا النص يثير حماسة الناس لو ألقي من فوق منبر في مسجد أو مهرجان، لكنه قلما يحرِّك نفس قارئ لكتاب، لا يدخله في عالم شعري.
وقد يأتي ذلك الشعر بأسلوب فلسفي على طريقة الرافعي، الذي نعرف أنه أراد أن يكون شاعراً فيلسوفاً، غير بعيد في ذلك من الريحاني نفسه على اختلاف الأساليب، ومن ذلك قوله:
في طبيعة البحر رشاقة الحركة، وفي طبيعة الصخر سكون بليد، وأيضا قاسٍ متجهم...
وبينهما وقف إنسان فيه وعي السكون، وقصد الحركة، يصل أسباب أحدهما بالآخر...
وكانت كبرياء الصخر عمياء فلم تقنع بغير وجودها، فانطلقت أعاصير البحر تزأر في مثل الفحيح...
ووقف هذا الإنسان عند الشاطئ ينظر متفجّعاً، وإذا الوجود المخدوع - الذي أضحى غوراً ترقص فوقه موجة مارحة - في نغمة تخبره أنه كان هنا شيء فيما زعموا...
إن هذا الشعر المتداخل مع النثر العادي، لو جاء مستقلاً، وأكثر عفوية، وبعيداً من نظم العلماء، فربما جعل للعلايلي مقاماً مهماً بين الشعراء الحديثين، ولاسيما أصحاب الشعر المنثور.
«أين الخطأ؟»
أما الكتاب الثاني، نعني: «أين الخطأ»، فليس كتاباً في الأخطاء اللغوية، بل مؤلَّف فكري يرمي إلى «تصحيح مفاهيم ونظرة تجديد»، وفق ما جاء في العنوان التكميلي للكتاب، ويتناول أحداثاً جرت في صدر الإسلام والعصر الأموي برؤية خاصة، ويتسم بالجرأة الفكرية والسعي إلى التجديد، ومقاومة التقليد، وقد جعل العلايلي شعاره فيه عبارة وردت في تصدير كتابه الآنف الذكر «مقدمة لدرس لغة العرب»، وهي: «ليس محافظةً التقليدُ مع الخطأ، وليس خروجاً التصحيحُ الذي يحقق المعرفة».
ويتألف الكتاب من مدخل وعشرة فصول، وقد وُصف المدخل بأنه «خاطرة لمدخل»، وفيه تلخيص لفكرة الكتاب العامة وهي أن الإسلام أيديولوجية متكاملة مستقلة، من الخطأ تشبيهها ببعض المذاهب الأيديولوجية الحديثة، وأن فيه دعوة ضمنية إلى التجديد الديني الدائم، وأنه يؤمن بالإنسان الشامل. وفي كل الفصول مناقشة لشؤون شتّى كالمنهج الاقتصادي في الإسلام القائم على عدم الأنانية في استحواذ المال، ووجوب القرض غير الربوي، والرفق في استيفاء الدين، وتحريم كنز المال، وجبرية تداوله، ونظام الكفّارات، والتكافلية، والسماح لصاحب الحق في الزكاة باستخلاصها إذا عجزت السلطة عن ذلك، والحض على إشراك المجتمع في إرث المتوفين، وكالنفط الذي يرى العلايلي وجوب أن يكون شراكة بين المسلمين، وكأضاحي الحج التي يقترح تصنيعها وتعليبها وبيعها لمساعدة الدول والشعوب الفقيرة بأثمانها، وكالفائدة المصرفية التي يحللها بوصفها ضرباً من المقارضة والمشاركة في الربح، وكالحدود التي لا يُلجأ إليها، في رأيه، إلا عند اليأس مما عداها، ولاسيما التعزير، وكموضوع التماس الهلال كل شهر باعتماد الرؤية العقلية لا البصرية، أي بالتعويل على الحساب، وكالطلب إلى مجمع البحوث الفقهية الأخذ بالرأي العملي على مبادئ التأصيل والتفريع في الفقه، وكالقول بإباحة الزواج بين كتابيّ ومسلمة، والقول بإباحة الأفلام السينماوية المتصلة بصدر الإسلام، وبخاصة بعد العهد النبوي. وكل هذه قضايا جدلية شائكة، طرحت بطريقة ثورية تنمّ عن فرادة وشجاعة، وكانت الغاية منها تجديد الإسلام وجعله موافقاً للعصر الحديث، على طريقة الحركة الدينية الحداثية التي نشأت في أوربا في العقد الأول من القرن العشرين، والتي سعت إلى تأويل جديد للمعتقدات والنظريات الدينية التقليدية من خلال تفسيرات حديثة. لكن معارضي العلايلي من العلماء المسلمين كانوا أكثر من مؤيديه، وبدا كثير من أدلته غير مقنع، مثل جمهرة من المصطلحات التي استحدث ترجمات لها، أو ابتكرها ولم يكد أحد يستعملها.
والأسلوب في هذا الكتاب أقل تكلفاً منه في الكتاب الأول، وأقل غموضاً، ويكاد ينحو نحواً علمياً بتحاليله، واعتماده على مصادر تُذكر في الحواشي، لكنه ليس قريب المتناول، بل يحتاج إلى جهد لفهمه، ليس لأنه لخاصة العلماء، بل لميل صاحبه إلى الغموض وغرابة التعبير، كدأبه في كل كتاباته، حتى إن الفكرة لتستغلق على القارئ في كثير من المواضع. فضلاً عن أن الشيخ قلما يتحرر في هذا الكتاب من كونه معجمياً، بل يستمر على معجميته، مع أن عمله فكريّ يستدعي عناية بالرأي أكثر من العناية باللفظة المفردة والعبارة، وتجده يكثر في فصوله من استنباط المصطلحات، ومن اللجوء إلى تعليل استنباطه لها في الحاشية، وهو أمر لا نجده إلا نادراً عند الآخرين. فهو يستعمل، مثلاً، في ما يسميه «خاطرة لمدخل» عبارة «الاجتماعية العلمية» ويوضح في الحاشية أنها بديل لعبارة مغلوطة، في رأيه، هي «الاشتراكية الماركسية»، ويستعمل مصطلحه الخاص: فِكْرَويّة، وبجانبه في المتن تفسير له بمصطلح: أيديولوجية، وفي الحاشية توضيح لاختياره هذا، وهو النسبة إلى كلمة «فِكرَى» (بالألف المقصورة) المثبتة في معجم لسان العرب - لا إلى فكرة كما يتوهم الكثيرون ويبنون على وهمهم اشتقاقات مغلوطة، وفكرى هذه كلمة قليلة الاستعمال، كما يذكر ابن منظور، ولم نظفر بها في أي من قراءاتنا للقديم والحديث، ويفعل العكس في موضوع علم الحياة، إذ يذكر الكلمة المعرّبة: بيولوجية، ويشرحها في المتن بمصطلحه الخاص، «حِياوة»، ويفسرها في الحاشية بالكلمة الأجنبية مكتوبة بأحرف لاتينية، ومقابلة بمصطلح علم الحياة. ومثل هذا كثير، منذ بدء العلايلي التأليف في العقد الرابع من القرن العشرين حتى آخر كتاباته، ولا يخفى أن ذلك يربك النص ويثقله، ولن نتكلم على صحته أو خطئه، ومقدار تقبّل الناس أو استعمالهم له. وربما أراد العلايلي بذلك نشر مصطلحاته من خلال كتاباته الأدبية والفكرية، لأن الناس أكثر قراءة لها من قراءتهم للمعاجم، لكنه سلك طريقاً استطرادية لا تساعد في تماسك النص.
نقد لا تنقّص
هذه لمحات من شخصية العلايلي وأدبه، لا يتسع المقام لأكثر منها، وبعض الملحوظات النقدية التي وردت في سياقها لا ينبغي اعتدادها تنقصاً لعبقرية الرجل، فحسبه أنه ألّف كتابه: «مقدمة لدرس لغة العرب، وهو لايزال في الرابعة والعشرين من عمره، عارضاً نظرية لافتة في اللغة وتأليف المعاجم العربية، من غير أن يرقى إلى مستوى ابن جنّي، خلافاً لرأي بعض زملائنا.
إلا أنه، في المـــقابل، فتن العامة والخاصة في لبنان بخطبه ومحاضراته، وأنك إذا قلت في اللغة: قال العلايلي، فإن قولك يسلّم به، ولو كان فيه نظر، وأنك إذا خالفته لم يكد يأبه لرأيك أحد، ولو كنت على صواب. وأذكر أن وسائل الإعلام اللبنانية طفقت تستعمل صفة النائب للمذكر والمؤنث، فاعترض عدد من اللغويين على ذلك، ومنهم صاحب هذه المقالة، الذي كتب بحثاً بيّن فيه أن من استعمل تلك الصفة للجنسين استند إلى رأي لابن سيده تنقضه شواهده نفسها، ومع ذلك استمر استعمال صفة النائب للمؤنث بغير تاء التأنيث، حتى في الجريدة التي نشرت البحث، ولما سئل بعض مسؤوليها عن السبب، قالوا: إنه رأي العلايلي! ■