المحنة الكبرى

المحنة الكبرى

عرف المجتمع الإسلامي فتناً متعددة، ونَعَتَ مؤرخو الإسلام الفتنة الأولى بالفتنة الكبرى (حرب صفين عام 37 هــ)، وقد مثلت نقطة تحول في تاريخ المجتمع الإسلامي، وعرف فتناً أخرى، شأنه في ذلك شأن بقية المجتمعات. 

 

إن المتأمل في هذه الأحداث يقف على الحقائق التالية:
أولاً: كان الصراع سياسياً... ولم يسجل التاريخ تياراً ادَّعى أنه الوحيد الممثل للإسلام، وصنف الآخرين كفاراً تحل دماؤهم وأرزاقهم، وتُسبى نساؤهم، بل سجل لنا تعايشاً سلمياً بين مختلف الملل والنحل نادراً في ما عرفته مجتمعات أخرى في العصر الوسيط، وحتى الفرق المذهبية التي اشتهرت بمغالاتها مثل فرقة «الأزارقة» كان صراعها مع السلطة، ولم يكن مع المسلمين، ولا مع أقليات من أصحاب الديانات الأخرى، وبعضها لا ينتسب إلى أهل التوحيد، مثل المجوس، وتذكر الروايات التاريخية أنه كان لهم قاضٍ في العصر العباسي.
ولم تذكر مصادر التاريخ الإسلامي أن «الأزارقة» كفّرت أهل المذاهب الأخرى.
ثانياً: إن الاقتتال في الفتنة الكبرى (موقعة الجمل وصفين)  كان بين جيشين متقابلين، ولم يمس الأبرياء، ولم يُتهم أحد بأنه أصبح خارج الأمة الإسلامية.
حرصت على هذه الإشارة التاريخية السريعة للإصداع بالحقيقة التالية: إن المحنة الكبرى التي يعيشها العالم الإسلامي اليوم، هي محنة انتشار الظاهرة التكفيرية الإرهابية، التي لا علاقة لها بالإسلام، وإنما وظِّف فيها الإسلام لتشويهه عالمياً، ولتبرير مخطط تقسيم العالم الإسلامي، والسيطرة عليه. 
بدأت محاولات تشويه الإسلام والمسلمين منذ العصر الوسيط، ولكن لأول مرة يتم تشويهه بأيدي أبنائه.
لماذا تتكرر محاولات تشويه الإسلام منذ قرون؟
تضافرت الأيديولوجية اليمينية مع الأصولية المسيحية في التخطيط لتشويه صورة الإسلام في العالم، تضافرت بالأمس، وتتحالف اليوم.
ليس من المبالغة القول: إن جذور هذه المخططات تمتد إلى مرحلة مبكرة، إلى مرحلة الفتوحات الإسلامية الكبرى، ثم عرفت مراحل تاريخية أخرى، فالكهنوت الكنيسي لم ينس أبداً انتصار المسلمين على الإمبراطورية البيزنطية في بلاد الشام، وفي مقدمتها مهد المسيحية الأولى، وقد فتح هذا الانتصار الباب أمام السيطرة على الحوضين الشرقي والغربي للبحر الأبيض المتوسط، والوصول إلى أوربا بعد فتح الأندلس، والجزر المتوسطية، ثم جاءت الطامة الكبرى بالنسبة للغلاة، عندما فتح المسلمون عاصمة الكنيسة الشرقية: القسطنطينية عام 1453، ونذكِّر في هذا الصدد بأن تيارات مسيحية متعددة تنظر إليها باعتبارها تمثل عاصمة المسيحية النقية، قبل أن توظفها سياسياً الإمبراطورية الرومانية.

عصر الأنوار
من المعروف أن تعبئة الحملات الصليبية قد تمت تحت عنوان «تحرير بيت المقدس»، و«طرد المسلمين من مهد المسيحية الأولى».
ثم جاءت مرحلة جديدة من مراحل تشويه صورة الإسلام، بعدما لاحت في العصر الحديث بوادر الرأسمالية الإمبريالية، ومخططاتها الاستعمارية، وكان الفضاء الإسلامي في طليعتها، وفرض عصر الحداثة لإنجاز المخطط تحت عنوان حضاري في ظاهره «رسالة التمدين»، أي إنقاذ هذه المستعمرات من «جاهليتها»، وإلحاقها بركب المدنية الغربية، ولكن العامل الديني التبشيري كان من الأهداف البارزة، فمن المعروف أن الاستعمار الفرنسي للجزائر اعتمد على الثالوث: الجندي، والمعمر، والمبشر.
إنني حريص في هذا الصدد على الإشارة إلى حقيقة تاريخية تؤكد وقوف مفكري عصر الأنوار ضد موجة تشويه الإسلام، مدركين أن هدفها هو خدمة السياسة الاستعمارية، وهو الموقف الذي وقفه في ما بعد التيار اليساري من الحروب الاستعمارية، وتأييده حركات التحرر الوطني، وهو ما نلمسه بوضوح في تصدي كثير من السياسيين والمثقفين الفرنسيين للحرب الاستعمارية ضد الشعب الجزائري في مطلع خمسينيات القرن الماضي.

المحنة الأكبر
برزت غداة الحرب العالمية الثانية ثلاثة عوامل كان لها أثر بعيد المدى في علاقة الغرب ببلدان العالم الثالث، وفي مقدمها البلدان العربية والإسلامية:
< اقتناع الغرب بأن مرحلة الاستعمار المباشر قد انتهت، وكان لثورة الشعب الجزائري دور حاسم في هذا الصدد، فلا ننسى أن فرنسا، والغرب كله، كانا ينظران إلى الجزائر باعتبارها مقاطعة من التراب الفرنسي.
< بروز كتلة دولية جديدة، هي كتلة عدم الانحياز بعد مؤتمر باندونج 1955. 
< - اشتداد الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، وقد حاولا كسب شعوب المجتمعات النامية، وصرَّح سياسيون غربيون يومئذٍ بأن الجهد الاقتصادي والمالي الذي يبذله الغرب للانتصار في الحرب الباردة سيوجه غداً لمساعدة بلدان الجنوب.
من المعروف في تاريخ الرأسمالية الإمبريالية الساعية دائماً إلى السيطرة على الأسواق العالمية، وبخاصة على المناطق الغنية بثرواتها الطبيعية، مثل منطقة الشرق الأوسط، فضلاً عن موقعها الاستراتيجي، أنها تبحث دائماً عن عدو، وتنظر له ولو كان وهمياً، وهكذا بدأ البحث عن عدو جديد بعد سقوط جدار برلين، وانهيار دول المعسكر الشرقي، وسمعنا من يقول: إن العدو الجديد بدأ يطل برأسه من الجنوب، ومن العالم الإسلامي بالدرجة الأولى، وهو صراع حضاري أيديولوجي سياسي، كما كان الأمر مع النظم الشيوعية، ولم تمر سوى أعوام قليلة على سقوط الجدار حتى بدأت النصوص المنظرة لصدام الحضارات تنتشر، ويأتي الصدام مع الحضارة الإسلامية أولاً وبالتحديد.
أُسِّس الحلف الأطلسي لمواجهة حلف فرصوفيا، وظن الناس أنه سيحمل بعد انتهاء الحرب الباردة إلى مثواه الأخير، فإذا بالرأي العام العالمي يكتشف بسرعة الاستراتيجية الجديدة، وعنوانها الأبرز التدخل عسكرياً كلما هُددت مصلحة الغرب في بلدان الجنوب، فكان تدخله الأول في البلدان الإسلامية.
فشلت تجربة التدخل العسكري المباشر عسكرياً وسياسياً، وشوهت السياسة الغربية في الأوساط الشعبية، وأحرجت النظم الإسلامية المتحالفة لتلصق بها في بعض الحالات تهمة «التبعية»، وقد أفادت من ذلك الحركات المتطرفة.
من المعروف أن المخططات الغربية في بلدان العالم الثالث تتسم باستغلال الفرص، والأحداث الطارئة، وهكذا فرض الوضع الجديد الذي تعيشه منطقة الشرق الأوسط منذ ما يقرب من عقدين من الزمن، التفكير في وضع استراتيجية جديدة تهدف أساساً إلى بلقنة المنطقة، وتقسيم دولها إلى دويلات حليفة ستكون دائماً في حاجة ملحة إلى حماية القوى الغربية.
من هنا لابد من إشعال فتيل الفتنة والاقتتال بين المسلمين أنفسهم، بين الشعوب، والطوائف، والمذاهب، وتحقق هذه الخطة هدفين في الوقت ذاته: 
< الاستنجاد بالغرب ليطفئ الحريق هنا وهناك، وتشويه الإسلام أمام الرأي العام العالمي.
<  نشر الرعب من الإسلام تعويضاً عن نشر الرعب من الشيوعية أيام الحرب الباردة.
عاش المسلمون محناً متعددة: محنة الفتنة الكبرى في صفين عام 37 هـ، ومحنة هجوم المغول، وتحطيم معقل الحضارة العربية الإسلامية يومئذ بغداد، ثم زحف التتار، والصليبيين، ولكن سيسجل تاريخ الإسلام أن أكبر محنة مرت بالمجتمع الإسلامي هي التي نعيشها اليوم ■