سؤال الابتسامة بين الضّحِك والمُضْحِك..؟

في تعريف الضّحك
يفيد الضحك في معناه اللغوي، أن «التبسم أولى مراتبه، ثم الإهلاس وهو إخفاؤه (عن الأموي)، ثم الافترار والانكلال وهما الضحك الحسن، ثم الكتكتة أشد منهما، ثم القهقهة والقرقرة والكركرة، ثم الاستغراب، ثم الطخطخة (وهي أن تقول: طيخ طيخ)، ثم الإهزاق والزهزقة، وهي أن يذهب الضحك به كل مذهب».
وأُتي به في القرآن الكريم، بصيغة الحال، في إشارة إلى فهم سيدنا سليمان لما خاطبت به تلك النملة أمّتها من رأي سديد، وقول حكيم، وهي تأمر وتحذّر وتعتذر عن سليمان وجنوده بعدم الشعور، وذلك في قوله تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} (سورة النمل: 19). أي: «تبسّم من ذلك على وجه الاستبشار والفرح والسرور بما أطلعه الله عليه من علم دون غيره».
هكذا إذن، تثبت لنا الآية الكريمة فِعليْ: التبسّم والضحك، منسوبان إلى النبي سليمان، ، وتولّدا عنده بفعل عُجْبه الشديد من قول النملة، باعتباره أمراً مفاجئاً صدر منها بلا توقع منه، ما أوقعه في وضع المتعجّب المدهوش، الذي افترّ له الثّغرُ وانْكلّ؛ وهذه الحالة الجميلة، المستحسنة للضحك، تنطبق عموماً على ضحك الناس، وظاهرة، على وجه التحديد، في تفاعلهم المباشر، في إطار علاقتهم الإيجابية بالموضوع المُضحك، أيًّا كان مصدره.
لكن، إذا كان الضحك بوصفه معطى جمالياً، يعتبر من أعظم السمات الحسنة المميزة للإنسان عما سواه من المخلوقات، فإنه كذلك، يعدّ من العلامات البارزة التي لا يرقى إليها عقل ولا يتصوّرها خيال، لاسيما حين يحبّ الضحك أن يأخذ في ملمحه مظهراً- غير مرئي طبعاً - سامياً، لتجلّي بعض آيات الرضا والبِشر والجمال والنور الإلهي، والظهور كشيء مختصّ بجليل ما يُحمد من صفاته وكمالاته، ومن كرم أفعاله وآثاره الدالة على رأفته ورحمته بخلقه. ونلمس دلالة هذا المعنى، في حديث النبيّ محمد مرفوعاً عن أبي هريرة: «وإذا ضحك ربّك إلى عبدٍ في الدنيا فلا حساب عليه».
منزلة الابتسامة من الضّحك
وبالرجوع إلى ما تقدّم في الحديث أعلاه، يتّضح لنا كذلك، كيف تبدّدت حيرة السائل، واطمأن قلبه، لمّا دقّ في أذنيه صوت الرّد على تساؤله، الذي لا ينفي الضحك عن البارئ تعالى، بإثبات صريح من طرف الرسول الكريم المصطفى الذي ترسّخت صورته في الأذهان، باعتباره إنساناً ودوداً، وصاحب طلعة بهية ووجه مبشور مؤتلق بالنور، وكان بدوره، يضحك حتى تبدو نواجذه وتظهر ضواحكه، وكان لا يُرى إلاّ والابتسامة مطبوعة على محياه، هذه «الابتسامة» التي عظّم من شأنها وقيمتها أيّما تعظيم، لدرجة عدّها من الأفعال الإنسانية الكريمة، والصدقة التي تحسب لصاحبها في ميزان حسناته، رغم إمكانية المرء أن يأتيها دون أيّ تمَحُّلٍ، وأن يصدرها بطلاقة بلا أقل جهد مُحتمل، لأنها كسلوك لطيف، وحركة نفسية وجسدية اجتماعية، تحمِل تجلياً جميلاً لما في الباطن، وتفصح عن حالة مميزة تعتمل في النفس والخاطر الإنسانيين، كما تمثل ضرباً من الإحسان أيضاً، في اضطلاعها بقدرة هائلة على إحداث وقع إيجابي على الأفئدة، وتأثير جليل في النفوس البشرية، المجبولة بفطرتها، على الإحساس بالطمأنينة والراحة تجاه من يركنون بالسلام إلى جانبهم، وكذلك جُبلت قلوب الناس على حب من أحسن إليها، وعلى الانجذاب صوب أصحاب الوجوه الخيرة، ذوي الابتسامات الهادئة البريئة، الصافية والحقيقية، النابعة بصدق من قلوبهم الطيبة.
وبهذه المزايا الحسنة، وغيرها من الأدوار الفعالة التي تتمتع بها الابتسامة، استطاعت أن تنال من اهتمام النبي وعناية بها، لذلك فلا غرابة أن نجده يحُث النّاس عليها ويدعوهم إلى ملازمتها، وهو يقول عنها مثلاً، في حديثه المشهور: «تبسُّمك في وجه أخيك صدقة».
ماذا سيضيع؟
يدك في يدي، امنحني ثقتك، وكن متأكداً أنك لن تخسر شيئاً ما لم تكسب الكثير حين تطلق سراح ابتسامتك. لنبتسم بمحبّة في وجوه القهر والظروف والآلام والمصادفات المستعصية عن الإمساك، وعن العوارض وأحوال الطوارئ المنفلتة من إرادة الإنسان عندما تنعدم قدرته على التحكم، في نفسه ومعيشه اليومي وواقعه ومصيره والعالم من حوله، لنبتسم في وجه شروق أوضاع الحياة وفي تقلبات صروف الدهر فيها، لنبتسم في وجوه المرضى والثكالى والحزانى المفجوعين.. لنبتسم بمودّة ورأفة أختي وأخي، فهناك من يحتاج إليها، مِمّن أعيته الوصفات والأدوية، ولا يخفف عنه ويرضيه ويسرّه إلا الابتسامة، كما لا يعالجه ويريحه في الأخير، إلا إيّاها؛ وثمة أيضاً من الناس، من يتموقع في هذا الركن، أو في تلك الزاوية، منطوياً ومنزوياً داخل حالة معيّنة لا ينتظر فيها شيئاً، غير أن تهبّ عليه رياح الضّحك، ونسْمَة ابتسامة جميلة لكي تخرجه منها، إنها رسالة المواساة والتعزية والمشاطرة، لنسيان همٍّ ودرء غمٍّ ونزع غلٍّ، وهي شارة قَبولٍ وخِطابُ اندماجٍ ومشاركة وتشجيع، لزرع الطموح في الطاقات الخلاقة والمواهب الواعدة، ولاستنهاض هِمَم الأمَم سيراً نحو الأفضل، ولبعث السّكينة والأمل في الأرواح، وكذلك هي الدواء السِّحري الشّافي، الذي يُبرئ العليل ويكتفى به عن غيره، وبإمكانك تقديمه للآخر عن طريقها، بلا تكلفة وبلا أي ثمن، لأنها بالمجان فقط تتيح لك نفسها.
ابتسموا جميعاً أعزّائي، واضحكوا ضحكاً خفيفاً ينبعث من قلب المأساة، وينطلق من مخابئ الفكاهة ومَفاوِز اليوم، حتى يرفرف حراً بأجنحته، ثم يتفجّر عميقاً في الملامح، لكن بِلا مكر ولا خديعة ولا تحريضٍ، وألا يكون احتقاراً ولا استفزازاً ولا تشفّياً، يهدم ولا يبني، نكاية عن ثأر متغلغل وحقد دفين يغلي أو شحنة عداء ما كامن في النفس، بل يكون ضحِكاً شفّافاً خالصاً وصافياً صادقاً فحسب، لا أقلّ ولا أكثر؛ ابتسموا ضاحكين، حتى يُقتل العبوس ويُدفن التشاؤم معه، فالضحك علامة خير، والابتسامة جواز سفرنا ومرورنا معاً، إلى قلوب الآخرين لنجد فيها ثوباً أبيض يستر وحشتنا، حين نركب صهوتها (الابتسامة) ونتخذها طوق نجاتنا، في عبورنا إليها (القلوب) ونحن نعاني التعب الأكول، لنعثر فيها على مكان ما يحضننا ونستوطن فيه.
المُضْحِكُ في الضّحِك
أما في «لسان العرب»، فقد ورد الضحك بمعانٍ مختلفة، منها قولهم: «الضَّحِك: معروف، ضَحِكَ يَضْحَكُ ضَحْكًا وضِحْكًا وضِحِكًا وضَحِكًا أربع لغات. وفي الحديث: يبعث الله السحابَ فيَضْحَكُ أحْسَنَ الضَّحِكِ؛ جعل انجلاءه عن البرق ضَحِكًا اسْتعارة ومَجَازاً كما يَفْتَرُّ الضَّاحِكُ عن الثَّغْرِ، وكقولهم (ضَحِكَتِ) الأرضُ إذا أخْرَجت نَباتَها وزهْرَتها. وتضَحَّك وتضَاحك، فهو ضَاحِكٌ وضَحَّاكٌ وضَحُوكٌ وضُحَكة: كثير الضحك. (عند الليث): الضُّحْكة: الشيء الذي يُضْحَكُ مِنه. والضُّحَكة: الرَّجُل الكثير الضَّحِك يُعَابُ عليه. ورَجُلٌ ضَحَّاك: نعت على وزن فعَّال. وضَحِكْتُ به ومنه بمعنىً. وأضْحَكَهُ الله عزّ وجلّ. والأُضْحوكة: ما يُضْحَكُ به. وامرأة مِضْحَاك: كثيرة الضَّحِك. والضَّحَّاكُ مَدْح، والضُّحَكَة ذَمٌّ، والضُّحْكَة أَذَمُّ، وقد أضْحَكني الأمْرُ وهم يتضَاحكون (يتبادلون الضحك). والضَّاحِكة: كل سِنٍّ من مُقَدَّمِ الأضراس مما يَنْدُرُ عند الضحك. والضاحكة: السِّنُّ التي بين الأنياب والأضراس، وهي أربع ضَواحِكَ. وفي الحديث: «ما أوْضَحُوا بِضَاحِكة»، أي ما تبَسَّموا. والضَّواحِكُ: الأسنان التي تظهر عند التبَسُّم».
بينما نجد تسمية «المُضْحِك» المرادفة لمقابليها: Comic (بالإنجليزية) / Comique (بالفرنسية)، كما جاءت في معجم «أكسفورد» الإنجليزي، حاملة لمعنيين إيجابيين؛ يربطها أحدهما بالضحك Laugh/ Le Rire، لما يغدو عملية متصلة بالفعل والصوت والطريقة التي يمارس بها الضحك في أصله على منوال متداول ومستعمل. في حين، تفسّر تسمية مُضْحِك، بمعناها الثاني، عندما يطلق اسم الضحك في المعجم نفسه، على كل حدث عابر وعلى كل شخص، أو أي شيء يصدر منه فعل مثير للضحك، في سياق اجتماعي ما يحضن اللقطة المنبعثة فيه، ما يجسد الضحك أو يثيره، فيصبح وفق ذلك، نعتاً لكل ما يسبب الضحك ويتسبب فيه، ثم يتحول تبعاً لهذا المعنى، إلى مصدر للضحك، وموضوعه أيضاً.
وقد يتحول شيء ما، أو أي شخص إلى موضوع للسخرية، في الحالة التي يبدو فيها مُضْحِكاً بطريقة سلبية مثيرة للاستهزاء، فينظر إليه بنوع من الازدراء والاحتقار بهدف التقليل من قدره والحط من قيمته وشأنه، ثم لا يلبث أن تطلق عليه بسبب هذا الوضع، أوصاف قدحية من قبيل: «ضُحَكَة ومَضْحَكَة ومَسْخَرَة»، Laughable/Ridiculous (بالإنجليزية) /Ridicule (بالفرنسية).
وعلى العكس مِمّن يُسْخرُ منه، نجد في «قاموس لغوي إنجليزي» مغاير، نعتاً آخر يوصف به الشخص اللطيف الجميل، الذي يلمحه الناس طريفاً ومرناً خفيف ظل، نظراً لما يميزه من قدرة على إتيان فعل الضحك بسهولة، سواء أمارسه من تلقاء نفسه وأبداه كتجلٍّ له حين ترتسم ملامح الانشراح والسعادة على وجهه، أو مارسه حين يتضاحك مع الآخرين، في نوع من التبادل، قصد إضحاكهم بتوليده للضحك في نفوسهم. وهذا الشخص هو الجدير - في نظرنا- استناداً إلى هذا المعنى، بوصف «الآخر الضاحك» The other Laugher.
أما من الناحية الاصطلاحية، فيقصد بالضحك تلك «الخاصية المميزة للإنسان، ويندرج ضمن ظاهرة عامة، ألا وهي الفكاهة، والضحك أحد المظاهر الدالة عليها، وهي رسالة اجتماعية مقصود منها إنتاج الضحك أو الابتسام».
هكذا إذن، تمت الإشارة إلى دلالة الضحك في اللغة والاصطلاح، ولمنزلة الابتسامة وطبيعة المُضحك ضمنه، إلى جانب ذكر صفة الضاحك فيه، التي تلتصق بالإنسان الذي يداوم الضحك ويكثر منه، ما يجعله، والحالة هذه، متميزاً بالضحك عن غيره. وهي إشارة لا نتوخى منها تقديم تعريف محدد ودقيق لماهية الضحك، لأنه أوسع من أن يعرف، إذ هناك أكثر من مائة نظرية ودراسات عدة أقيمت حوله، وهي متداخلة في ما بينها، يعتمد بعضها على بعضها الآخر بدرجة واضحة، وترتكز في مجملها على عوامل معينة تربط نفسها بالضحك، منها مثلاً: التفوق والسيطرة، والتناقض في المعنى، والتنفيس عن الطاقة الزائدة، والإحساس بالمفاجأة، والدهشة، والبهجة... وغيرها).
وفي كل تلك النظريات نجد أن هناك «أنا» تضحك، وهناك «آخرون» تضحك معهم هذه «الأنا» أو تضحك عليهم ■