مشروع بناء الإنسان... ومسؤولية جيل الشباب

مشروع بناء الإنسان... ومسؤولية جيل الشباب

ربع قرن من الزمان مضى، ولايزال الحديث عن غزو الكويت ذا شجون، فقلم التاريخ سجّل الحوادث كلمات وعبارات على الصفحات، فصار بعضها حكايات وذكريات، وبعضها أصبح تاريخاً وسجلات، تألم منها جيل فات، ويتعلم منها جيل آتٍ.  

كانت أجمل عبارة قرأتها في تاريخ الصُلح بعد عدوان ذوي القربى على أهليهم:
Forgiven But Not Forgotten، أي «سامَحْنا ولكن لن ننسى»، وكان ذلك عقب المعارك الدامية بين الأسكتلنديين والتاج البريطاني. لم يكن اليوم الثاني من شهر أغسطس عام 1990م بداية لغزو، أو مشروعاً لاحتلال الكويت فقط، بل كان هجمة سافرة لطغيان ديكتاتور، وتعدّي الظلم والظلام على العدل والسلام. واليوم، تتصالح وتتسامح الكويت وشقيقتها العراق، لكنها لن تنسى ذاك الغزو الغاشم الذي قامت به عصابة موتورة ألحقت الخراب بروح الأمة العربية وحكمت على كيان الشعب العربي بالتفرقة والشتات. خمسة وعشرون عاماً هي عُمْر من وُلدوا أثناء الغزو الآثم على الكويت، صاروا رجالا ونساء، وربما آباء وأمهات، هم اليوم قوة الوطن ويده في البناء، وبعزيمتهم وإصرارهم يحافظون على إنجازات البناة من الرعيل الأول لهذا الوطن. إنّ الكويت جزء لا يتجزأ من الأمة العربية والكيان العربي، الذي ما إن يشتكي منه عضو حتى تتداعى سائر أعضائه بالوهن والألم، لذلك تراها سبَّاقة في النجدة والمساعدة على جميع الأصعدة، كعضو من أعضاء مجلس التعاون الخليجي، أو جامعة الدول العربية، أو منظمة الأمم المتحدة، وقوفاً مع حق الشعوب والدول، ومعارضة للفساد والدمار والطغيان. وعندما تتصفح – ولو على عجالة - دستور دولة الكويت، ترى مواده الأولى والأساسية تدعو إلى ما ذكرناه. وبهذا ثبتت الكويت على مبادئها، وصارت مركزاً إشعاعياً للعمل الإنساني، وصار قائدها، صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح – حفظه الله ورعاه – قائداً للعمل الإنساني. وعندما نتصفح سِفْر إنجازات العمل الإنساني للشعب الكويتي وقياداته، لا نرى فيه إلا دعماً للإنسان، حيث تأتي الشعوب فيه كأولوية، إعانة ومساعدة ورفقاً وحياة. وفي لقاء شخصي وخاص، حدثني أحد الأصدقاء القدامى، من الدبلوماسيين الكويتيين عن حيثيات التفاوض مع فريق عمل دولي عالي المستوى زار الكويت للتحقيق بأمرين: الأول، تبرعات الأفراد ومصارفها خارج الكويت عبر لجان الصدقات والزكوات المحلية، والثاني، مراقبة شبهات غسل الأموال وتمويل الإرهاب. في تلك الفترة، وهي منتصف التسعينيات من القرن الماضي، لم تكن في دولة الكويت جهة واحدة معنية بمراقبة الشأن المطلوب، وحسب قوله: كانت مثل هذه التبرعات تُدفع من طِيب نفس المتبرع، وتُوزَّع بحسن النوايا على المحتاجين. لذلك بدأت الحاجة لإنشاء لجنة عالية المستوى تكون عضويتها من جهات رسمية عدة: وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وهي الجهة المعنية بإصدار تراخيص اللجان الخيرية، وبيت الزكاة الكويتي، وهي الجهة الرسمية الحكومية لتلقي وتوزيع أموال الصدقات والزكوات على المحتاجين، ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، التي تُعنى بتقديم بعض المساعدات الخارجية لبعض المؤسسات في بعض الدول الإسلامية، ووزارة التجارة، ويترأس تلك الأطراف عضو ترشحه وزارة الخارجية، ليكون حلقة الوصل بين اللجنة وفريق العمل الدولي. وبعد فترة من البحث والتحري، والاستقصاء والتحقيق، خلصت اللجنة الدولية إلى أن التبرعات الفردية التي تعمل عليها اللجان الخيرية الكويتية لم تتعد حدود التشريعات العالمية في دعم الحاجات الإنسانية للشعوب، فقد كانت وسائل إنقاذ للمنكوبين والمحتاجين والمصابين والمشردين عن أوطانهم واللاجئين إلى دول أخرى خشية الموت والإملاق والذلّ. لم تأبه تلك اللجان بجنسية أو طائفة أو دين، إنما كان هدفها إنقاذ الإنسان أينما كان. 
إنّ ما تمر به الأمة العربية من قلق سياسي هو نتيجة لغياب المنظومة الفكرية، أو للتحزب الذي عاث بها تحت شعارات وهمية توحي بالديمقراطية، ولا تراها حين تختبرها سوى نزغ من غوغائية، هَوَتْ بالفرد والأسرة والمجتمع والوطن إلى مراتب متدنية بعيدة عن الذرى التي تنشدها المجتمعات الراقية في الدول المتقدمة. إن المتتبع للتاريخ الفكري لمسيرة الشعوب العربية يلاحظ، منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، تغير الخطاب الديني، فبعد أن كان متوازناً ومتوازياً مع خطاب القومية العربية، نحى منحى ضداً، فاتخذ من القومية عدواً نداً! وبدأت الدعوة إلى دولة الخلافة، يعززها فرض قراءة كتب ومقالات الداعين لهذه الفكـرة. ولجأت الجماعات الإسلامية إلى تشكيل تنظيم سياسي لتنشر من خلاله الفكر الذي ظنّت أنه منقذ الأمة من الضلال. وما أزال أذكر تلك المقالات الحادة التي كانت تُنشر على صفحات مجلة «الحوادث» كحوار بين أنصار دولة الخلافة وأنصار القومية العربية، وأُخرج فيها المسيحيون العرب من مواطنين إلى أهل ذمة في الدولة الإسلامية، على الرغم من تغير مفهوم الدولة الحديثة، وكَسَب الأعاجم مفهوم المواطنة من أجل الدين. كانت حرباً فكرية شرسة، عندما تبحث فيها عن رأي عاقل ينادي بالوحدة الوطنية، لا تجد فيها إلا نداء إلى الرجعية. هنالك، انتشرت في عروق أكثر أبناء الأمة جراثيم التطرف، إما باسم رفض الدخيل الذي يسعى لتفتيت الوطن بعد وحدته، وإما باسم الورع والدين. إنّ نكوص المجتمعات يأتي من خواء حقائب العلماء والأدباء والمفكرين، أولئك الذين أطّروا عقولهم بإطار علوم الأولين، فوقفوا هناك حائرين، ووضعوا حدوداً للفكر والأدب والثقافة والدين، وتمادوا بالنفخ في زبر الحديد لتغليظ القيود على معاصم المبدعين، ونشروا بين مريديهم وأتباعهم باسم الدين، بهتاناً وزوراً، أنّ كل جديد حادث، وأنّ كل إبداع بدعة. فها نحن العرب والمسلمين منذ أكثر من خمسمائة عام لم نصنع حتى إبرة، ولم نقدم للإنسانية من العلم شيئاً، رغم كل ما نمتلك من الثروات والموارد الطبيعية. نحن أمة لا تفقد الأمل وإن علت موجات الجهل، ومن آمالنا الكبار القادم من الأجيال، جيل التسامح والسلام، وحُسن الأدب في الحوار والكلام، والبذل والعطاء بفعل الكرام، لا يريدون جزاء من ذلك أو شكوراً. هذا الجيل القادم الذي سوف نرى فيه تقديراً للعلم والعلماء، وامتهان الحرف والعمل بالصناعة والزراعة والإنتاج البنَّاء، والأخذ بعلوم العصر لمحاربة الجهل والفقر والجوع والمرض والوباء... جيل يستخدم المال رفاهية ورخاء، ولا يستعبده المال من بيع وشراء. إننا لا نراهن على تقدُّم الأمة على يد الشباب، بل نحن على يقين بأنّ الحياة ستكون أجمل بهم وبتحقيق طموحاتهم وأعمالهم البناءة. تلك هي الفكرة، أن نُغيّر ونتغير، من استنساخ نفس النموذج الإنساني المُقيَد بالعادات والتقاليد، التي صار أكثرها تراثاً جامداً، إلى تشجيع نماذج مبدعة خلاقة بنّاءة، تعمل وتسعى إلى الجديد لا يحدّها حدود إلا حدود فضائل الأخلاق، تلك الفضائل التي لا تتأتى سوى بتربية تلك الأجيال. إنّ الهدف الأساس من التربية هو صُنع جيل فاضل، أما التعليم فأساسه تمرين العقل على الإبداع. وعندما ترعى الدولة نشأها وشبابها تعطي دائرة الاستمرار أولوية، فمن ترعاه اليوم يرعاك غداً، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم. إنّ الالتفات لهيئات ومؤسسات رعاية الشباب ووجوه نشاطهم المختلفة، لهي بداية في بناء مجتمع فاضل معطاء، لذا سعت الدول المتقدمة إلى وضع خطط لمشاريع بناء الإنسان، والشباب خاصة، يقينا منها بأنّ ذلك هو الاستثمار الأعظم. ويبقى السؤال الأكثر إلحاحاً: هل تُوضع الخطط وتُبنى المشاريع لما يريده الشباب من حاجات، أم ما يريده المجتمع من طاقات الشباب؟ .